الأولاد المهمّشون داخل المدرسة في لبنان - إنذار ملحّ

د. سوزان عبد الرضا أبو رجيلي جامعة الروح القدس-الكسليك جامعة القديس يوسفالتهميش ... داخل المدرسة؟!

في الربع الأخير من القرن العشرين، درجت الدراسات السوسيولوجية-التربوية على مقاربة الجمهور المدرسي بالنظر إلى مواصفاته المتعددة كسن الالتحاق ومعدلات البقاء والتأخر والنجاح ومستويات التحصيل، مع اللجوء إلى مقارنات دولية وإلى توقعات مستقبلية. ويكاد يقوم هذا المنظور على مسلّمة بحثية يمكن إيجازها كالآتي: "إن المدرسة ملجأ آمن للأولاد باعتبارها تضفي عليهم صفات مشتركة وتجمعهم ضمن إطار مؤسساتي محبّذ إجتماعياً، فيكفي أن يلتحق بها الأبناء كي يكتسبوا شرعيةً تربوية إضافية وضرورية".

أما في الواقع، فتفيدنا الأبحاث المتكاثرة حول "أثر" المدرسة وفعاليتها- وتنضوي ضمن هذا الإطار عوامل رئيسية منها توقعات المعلمين والمسؤولين وطرائق تنظيم التعلم وإدارة العلاقات- تفيدنا حول هشاشة هذه المسلّمة، وحول العزلة الاجتماعية والنفسية التي يعيشها قسم من التلاميذ، في مختلف المراحل، ضمن المدرسة. وتؤدي هذه المعاناة إلى أضرار متنوعة، أقلّها تلك المرتبطة بمستوى التحصيل، بحيث يمكنها أن تطول التوازن السيكولوجي والاندماج الاجتماعي للولد. من هنا، تهدف هذه الورقة إلى إبراز خطر التهميش الذي يعيشه بعض التلاميذ ضمن حياتهم المدرسية اليومية، ولبنان ليس بمنأى عن هذا الخطر، مع الحرص على تفنيد العوامل المؤدية إلى هذا الوضع وتحليل مظاهره المتنوعة وعواقبه، وصولاً إلى اقتراح خطوات عملية بسيطة لمعالجة أو تفادي هذه الظاهرة.

العوامل المؤدية إلى تهميش الولد داخل المدرسة

 يمكن تقسيم العوامل التي من شأنها المساهمة- دون أن تشكل بحد ذاتها سبباً حتمياً- في تهميش الولد داخل المدرسة إلى فئات ثلاث بارزة:

  1. العوامل ذات المصدر التعليمي-التعلمي، وتندرج ضمنها الصعوبات التعلمية المتأتية من عوامل فيزيولوجية، مثل: تعسر في القراءة والكتابة (Dyslexie)، وتعسر في الحساب (Dyscalculie)، الحركة الزائدة، التأخر والبطء الدراسيين، التفوق؛ والإعاقات العقلية والجسدية؛ أو من عوامل تعليمية مثل طرائق التدريس والتعامل مع التلاميذ، "بروفيل" المعلم التربوي والنفسي، تصورات التلميذ حول المادة...
  2. العوامل ذات المصدر النفسي-العلائقي، وتشمل الاضطرابات النفسية: الاكتئاب، الانفعالية، القلق، الرهاب  (Phobie)، الانطوائية...؛ والسلوكية: الكذب، الغش، الانحراف، العدوانية، التلامس الجسدي...
  3. العوامل ذات المصدر الثقافي-الاجتماعي، وتضم العوامل الاقتصادية: الوضع المادي، مهنة الأهل، الثقافية، الجنسية، العرق، الإتنية، المستوى التعليمي للأهل، والطائفية، والأسرية، الدلال المفرط، الإهمال، إقصاء الولد إلى مؤسسة خارج الأسرة، التسلّط، العنف، الاستغلال الجنسي، اليتم، الطلاق، النزاعات، الزواج الثاني...

مظاهر التهميش وعواقبه

يمكن أن تساهم العوامل المتنوعة المذكورة أعلاه في تعرّض الولد إلى ممارسات تهميشية من قبل معلميه و/أو رفاقه و/أو المسؤولين ضمن الصف خصوصاً، والمدرسة عموماً، وحتى من قبل أسرته وأهله. وتتجسد معالم التهميش في وضعيات عدة منها:

  1. إهمال المعلم للولد إلى حدٍ ما، وذلك نتيجة الإحباط الذي يتوصل إليه بعد محاولاته الفاشلة في مساعدته، أو نتيجة جهله بواقع المشكلة نظراً لتدريبه المتواضع في هذا المجال، أو حتى نتيجة عدم رغبته أصلاً في إجهاد  نفسه من منطلق أن ذلك العمل لا يندرج ضمن وظيفته (أو معاشه).
  2. إهمال المسؤولين للولد باعتبار أنهم قاموا بكل ما يلزم وما يمكنهم تأديته تجاهه، أو أن "مستوى ذكائه الطبيعي" محدود، وهذه الحجة تعتمدها المدرسة، وفقاً لعالم  الاجتماع بورديو  (Bourdieu) لتبرر فشلها التربوي، ولتوفر على نفسها مشقة تكييف طرائقها مع احتياجات الولد الخاصة. وتتفاقم الأزمة بشكل لافت حين يستمر هذا الإهمال على مدى سنين، فيصل الجميع إلى حائطٍ مسدود، ولا يبقى أمامهم أحياناً سوى خيار إقصاء الولد عن النظام التعليمي ككل. 
  3. إهمال الرفاق للولد، ولعلها من أقسى مظاهر التهميش، بحيث يُنبذ من مجموعة الأتراب، والتي تعتبر كسر عزلة التلميذ، واجب على المدرسة والاهل.الممر الضروري للإنخراط والتنشئة الاجتماعية، وأحد مصادر الأمان العاطفي في محيط بعيد عن جوه الأسري.
  4. تعرض الولد للعنف بمختلف أشكاله، إن من قبل البالغين أو الرفاق أو الأهل، بحيث يتحمل التأنيب والسخرية والإذلال بالكلام أو بالإيماء أو بالضرب، بغية "تصويب" وضعه غير المنسجم مع معايير المدرسة أو الرفاق أو المعلم (وهي ذاتية إجمالاً)، أو معاقبته على "سوء نواياه" تجاه العمل المدرسي، أو ما يدرج تسميته بـ"الكسل" أو "المشاغبة"، فيتم إلقاء كامل التبعة عليه و"يرتاح ضمير الجميع". كما يعمد بعض الرفاق إلى استغلال الولد مادياً من خلال التهديد والضغط النفسي، بحيث "يشتري" هذا الأخير تقبلهم المشروط له. ويمكن أن تبدأ دوامة العنف هذه نتيجة عنف يمارسه الولد المعني ضد زملائه، فيدخل الجميع في حلقة مفرغة من الفعل وردة الفعل يصعب كسرها إلا بوسائل أكثر إنسانية.
  5. التساهل والدلال المفرط، وهي ممارسات يتم تبريرها بـ"ضعف" الولد الجسدي أو النفسي أو التعلمي، أو بحرمانه من أحد أو كِلي الوالدين، فيُفترض أن إعفاء الولد من المتطلبات والقواعد الاجتماعية يمكن أن يعوضّ نسبياً عن هذه النواقص. أما في الواقع، فإن التسيّب هذا من شأنه أن يؤدي لدى الولد إلى اضطرابات ملفتة في الاندماج ضمن الصف وفي احترام القواعد الاجتماعية تارةً، أو إلى انغلاق على الذات خوفاً من الأذى الذي يمكن أن يلحقه بها ''الغرباء'' من خارج عالمه الوردي تارةً أخرى. وفي الحالتين، يصبح الشخص المعني محط الأنظار والانتقادات، ويصعب تقبله ضمن الجماعة. 

غالباً ما يجهل الفرقاء التربويون واقع المعاناة التي يعيشها الولد المهمش من جراء هذه الأوضاع، فيكتم هذا الأخر ألمه الداخلي يوماً بعد يوم، ويتقبل موقع الضحية أو "كبش المحرقة" الذي صمّم على قياسه، لا بل يمكن أن يؤول به الأمر إلى الاستمتاع بموقعه والدفاع عنه أحياناً، نظراً للتمايز الذي يكتسبه منه تجاه محيطه، بحيث يصبح جزءاً من هويته الاجتماعية.

يلجأ الولد المهمّش إلى تصرفات وممارسات خاصة بغية التعامل مع صورته المستجدة يمكن وصفها على الشكل الآتي، علماً أنها لا تتواجد بالضرورة مجتمعةً عند نفس الولد، بل تختلف وفقاً للأوضاع:

  1. عزلة وانطوائية وخجل مفرط، تترافق مع قدرة محدودة على الدفاع عن وجهة النظر أو عن الحقوق الشخصية، ومع استسلام للوضع القائم. كما يمعن بعض الأولاد في البكاء لدى وجودهم منفردين، ويتلافون الخروج إلى الملعب ليرتاحوا مع أنفسهم، ولأن بوتقة أصدقائهم تبقى ضيقة.
  2. تدني مستوى الثقة بالذات لجهة القيمة الشخصية والمهارات والكفايات والتحصيل الدراسي، إذ يقتنع بأنه، مهما تغيّر أو بذل جهداً، فإنها ستبقى محدودة أو عديمة الجدوى. من هنا، فإن بعض الأولاد يسوّغون لانفسهم الرسوب أو التأخر في الدراسة عموماً، أو في المادة التي يتعرضون ضمنها للتهميش خصوصاً، نظراً "للعجز المكتسب" الذي يتوصلون إليه من خلال ظروفهم المدرسية (المعلم الذي ''يكرههم'' أو التلاميذ الذين ''ينبذونهم''...).
  3. تفاقم الصعوبات التعلمية أو المشاكل النفسية التي ساهمت في خلق حالة التهميش لكونها بقيت مجهولة أو خارج نطاق المتابعة والمعالجة، ما يساهم في تردي التحصيل الدراسي وفي التسرب المدرسي المبكر أحياناً.
  4. نقص في الانضباط و/أو في احترام القواعد المدرسية والصفية الموضوعة إستجداءً للاهتمام من قبل البالغين، وإثباتاً لقدرته على "التحكم بالوضع" وعلى المشاكسة، عسى أن يساهم ذلك في إثارة إعجاب الرفاق وفي تجميل صورته في أعينهم، فيدخلونه ضمن عالمهم.
  5. عنف و/أو استغلال إزاء الرفاق ضمن منطق "داوِها بالتي كانت هي الداء"، فيعرّضهم بطريقة أو بأخرى لما يقاسيه شخصياً ويعبّر عن رفضه لما يعيشه بأن يجعل الآخرين يشاطرونه إياه. عند هذه النقطة، تبدأ الأزمات السلوكية  والعلائقية بالتعاظم لتصل أحياناً إلى حدود الطرد المؤقت أو الدائم من المدرسة، ما يجعل من الصعب قبول الولد في مدارس أخرى.


 ورشة العمل(1)

"الاولاد المهمشون داخل المدرسة" هو عنوان ورشة العمل التي سعت إلى تحقيق عدة أهداف، أبرزها:

  1. توعية الفرقاء التربويين حول ظاهرة تهميش الأولاد داخل المدرسة في لبنان، ونشر المعلومات حولها، وصولاً إلى إبراز خطورتها لجهة نمو الشخصية في كافة أبعادها.
  2. معالجة تحليلية لأبعاد التهميش المدرسي: هوية الأولاد المهمشين، أنواع التهميش الذي يتعرضون له، عواقبه على مسارهم الدراسي، المعالجات المتوفرة والمستقبلية.
  3. خلق شبكة تواصل حول هذا الموضوع بين الإداريين والمعلمين والهيئات المدنية المعنية بهدف تبادل الخبرات وتثميرها في العمل داخل الصفوف وفي إحداث تغيير على صعيد مواقف واتجاهات الفرقاء التربويين.

وقد تحققت هذه الأهداف جزئياً في المرحلة الأولى، وتم اقتراح خطوات مستقبلية للمتابعة.


خطوات المتابعة الممكنة

يتبين من الطرح السابق أن تهميش الولد ضمن المدرسة ليس شأناً مرتبطاً بالولد فقط، بل إنه مسألة إجتماعية-تربوية متشعبة الأبعاد والمصادر. وعليه، فإن المعالجة لن تقتصر على منظور واحدٍ أو على طرف خاص، بل أنها تستدعي تسليط الأضواء على مختلف العوامل والاحتمالات. وهذا النوع من المهام يستدعي تعاوناً ملتزماً بين المعلم والإدارة والأهل من جهة، وفريق الأختصاصيين (الاجتماعيين، النفسيين، أختصاصيي النطق والحركة...) من جهة أخرى، سواءً وجِدَ هذا الفريق ضمن المدرسة أم خارجها.

ويبدأ دور المعلم بالتعرف إلى الحالات المقلقة وتشخيصها بشكل عام، بمعنى تمييز مصادرها المحتملة. من هنا، نلفتالزي واحد، لكن مشكلات كل منهم مختلفة عن الآخر إلى أولوية إعلام وتدريب المعلمين حول عوامل التهميش، مظاهره وعواقبه، ثم تأمين متابعة لهم ضمن الصف من خلال رصد الحالات ومناقشتها مع فريق المعلمين والأختصاصيين. ومن الضروري أن يقف المعلم في هذا الإطار عند حدود مهاراته وقدراته، فيوَجّهَ الولد إلى الأختصاصي المعني ويتعاون معه، دون أن يحل مكان فريق بأكمله، مهما حسنت نواياه. وينسحب هذا الأمر على المسؤولين الإداريين، والذين يحاول بعضهم مساعدة الولد من خلال "الوعظ" والإرشاد، أو "تأنيب" الأهل على أسلوبهم التربوي، دون أن تساهم هذه الجهود الصادقة في تحسين الوضع، كونها تأتي في معظم الأحيان غير متناسبة مع واقع الحال.

أما دور شبكات التواصل بين المدارس والجمعيات الأهلية فيقوم بشكل أساسي على دعم المدرسة ذات الموارد البشرية والمادية المحدودة، أي أنها تستطيع تنظيم ورش عمل وتدريب لبعضها البعض ومع بعضها البعض لعرض التجارب والتدابير المتخذة وتقييمها، وتأمين بعض المساعدة من قبل الأختصاصيين في معالجة حالات صعبة. وعلى حد علمنا، إن الجامعات الخاصة والرسمية مثل جامعة القديس يوسف (أقسام تقويم النطق والمعالجة الحركية والنفسية)، والجامعة اللبنانية (كلية الصحة العامة) من شأنها تأمين خدمات معينة، مقابل رسوم مالية طفيفة، لمتابعة أولاد يعانون من صعوبات تعلمية ونفسية واجتماعية ضمن مراكزها في بيروت. كما يمكن أحياناً إرسال بعض الطلاب في السنوات الأخيرة من الاختصاص لإجراء تدريبهم الميداني في المدراس بناءً على اتفاق مسبق وضمن الإمكانيات المتاحة.

يبقى أن ننوّه بدور مراكز البحث العلمي، مثل المركز التربوي للبحوث والإنماء، ووسائل الإعلام في تحسيس وتوعية الجمهور حول هذه الظاهرة، وفي إبرازها كإنذار ملح ينبغي التعامل معه بأدق الأساليب.


هامش:

  1. ورشة عمل بعنوان "الأولاد المهمشون داخل المدرسة"، إنعقدت في ٣ و ٤ كانون الأول ٢٠٠٤ في قصر الأونسكو، من تنظيم الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية. وقد شارك فيها حوالى ٣٥٠ شخصاً يأتون من ميادين تربوية متنوعة: خبراء، مدراء مدارس في القطاعين العام والخاص، أفراد الهيئة التعليمية، أختصاصيون وطلاب في مجالات التعليم وعلم النفس والإرشاد والتربية المختصة والخدمة الاجتماعية، ناشطون في جمعيات حكومية وغير حكومية. وتوزعت مضامينها بين محاضرات نظرية ودراسة حالات ضمن جلسات ثلاث تتناول كل منها نوعاً من أنواع التهميش. 

الأولاد المهمّشون داخل المدرسة في لبنان - إنذار ملحّ

د. سوزان عبد الرضا أبو رجيلي جامعة الروح القدس-الكسليك جامعة القديس يوسفالتهميش ... داخل المدرسة؟!

في الربع الأخير من القرن العشرين، درجت الدراسات السوسيولوجية-التربوية على مقاربة الجمهور المدرسي بالنظر إلى مواصفاته المتعددة كسن الالتحاق ومعدلات البقاء والتأخر والنجاح ومستويات التحصيل، مع اللجوء إلى مقارنات دولية وإلى توقعات مستقبلية. ويكاد يقوم هذا المنظور على مسلّمة بحثية يمكن إيجازها كالآتي: "إن المدرسة ملجأ آمن للأولاد باعتبارها تضفي عليهم صفات مشتركة وتجمعهم ضمن إطار مؤسساتي محبّذ إجتماعياً، فيكفي أن يلتحق بها الأبناء كي يكتسبوا شرعيةً تربوية إضافية وضرورية".

أما في الواقع، فتفيدنا الأبحاث المتكاثرة حول "أثر" المدرسة وفعاليتها- وتنضوي ضمن هذا الإطار عوامل رئيسية منها توقعات المعلمين والمسؤولين وطرائق تنظيم التعلم وإدارة العلاقات- تفيدنا حول هشاشة هذه المسلّمة، وحول العزلة الاجتماعية والنفسية التي يعيشها قسم من التلاميذ، في مختلف المراحل، ضمن المدرسة. وتؤدي هذه المعاناة إلى أضرار متنوعة، أقلّها تلك المرتبطة بمستوى التحصيل، بحيث يمكنها أن تطول التوازن السيكولوجي والاندماج الاجتماعي للولد. من هنا، تهدف هذه الورقة إلى إبراز خطر التهميش الذي يعيشه بعض التلاميذ ضمن حياتهم المدرسية اليومية، ولبنان ليس بمنأى عن هذا الخطر، مع الحرص على تفنيد العوامل المؤدية إلى هذا الوضع وتحليل مظاهره المتنوعة وعواقبه، وصولاً إلى اقتراح خطوات عملية بسيطة لمعالجة أو تفادي هذه الظاهرة.

العوامل المؤدية إلى تهميش الولد داخل المدرسة

 يمكن تقسيم العوامل التي من شأنها المساهمة- دون أن تشكل بحد ذاتها سبباً حتمياً- في تهميش الولد داخل المدرسة إلى فئات ثلاث بارزة:

  1. العوامل ذات المصدر التعليمي-التعلمي، وتندرج ضمنها الصعوبات التعلمية المتأتية من عوامل فيزيولوجية، مثل: تعسر في القراءة والكتابة (Dyslexie)، وتعسر في الحساب (Dyscalculie)، الحركة الزائدة، التأخر والبطء الدراسيين، التفوق؛ والإعاقات العقلية والجسدية؛ أو من عوامل تعليمية مثل طرائق التدريس والتعامل مع التلاميذ، "بروفيل" المعلم التربوي والنفسي، تصورات التلميذ حول المادة...
  2. العوامل ذات المصدر النفسي-العلائقي، وتشمل الاضطرابات النفسية: الاكتئاب، الانفعالية، القلق، الرهاب  (Phobie)، الانطوائية...؛ والسلوكية: الكذب، الغش، الانحراف، العدوانية، التلامس الجسدي...
  3. العوامل ذات المصدر الثقافي-الاجتماعي، وتضم العوامل الاقتصادية: الوضع المادي، مهنة الأهل، الثقافية، الجنسية، العرق، الإتنية، المستوى التعليمي للأهل، والطائفية، والأسرية، الدلال المفرط، الإهمال، إقصاء الولد إلى مؤسسة خارج الأسرة، التسلّط، العنف، الاستغلال الجنسي، اليتم، الطلاق، النزاعات، الزواج الثاني...

مظاهر التهميش وعواقبه

يمكن أن تساهم العوامل المتنوعة المذكورة أعلاه في تعرّض الولد إلى ممارسات تهميشية من قبل معلميه و/أو رفاقه و/أو المسؤولين ضمن الصف خصوصاً، والمدرسة عموماً، وحتى من قبل أسرته وأهله. وتتجسد معالم التهميش في وضعيات عدة منها:

  1. إهمال المعلم للولد إلى حدٍ ما، وذلك نتيجة الإحباط الذي يتوصل إليه بعد محاولاته الفاشلة في مساعدته، أو نتيجة جهله بواقع المشكلة نظراً لتدريبه المتواضع في هذا المجال، أو حتى نتيجة عدم رغبته أصلاً في إجهاد  نفسه من منطلق أن ذلك العمل لا يندرج ضمن وظيفته (أو معاشه).
  2. إهمال المسؤولين للولد باعتبار أنهم قاموا بكل ما يلزم وما يمكنهم تأديته تجاهه، أو أن "مستوى ذكائه الطبيعي" محدود، وهذه الحجة تعتمدها المدرسة، وفقاً لعالم  الاجتماع بورديو  (Bourdieu) لتبرر فشلها التربوي، ولتوفر على نفسها مشقة تكييف طرائقها مع احتياجات الولد الخاصة. وتتفاقم الأزمة بشكل لافت حين يستمر هذا الإهمال على مدى سنين، فيصل الجميع إلى حائطٍ مسدود، ولا يبقى أمامهم أحياناً سوى خيار إقصاء الولد عن النظام التعليمي ككل. 
  3. إهمال الرفاق للولد، ولعلها من أقسى مظاهر التهميش، بحيث يُنبذ من مجموعة الأتراب، والتي تعتبر كسر عزلة التلميذ، واجب على المدرسة والاهل.الممر الضروري للإنخراط والتنشئة الاجتماعية، وأحد مصادر الأمان العاطفي في محيط بعيد عن جوه الأسري.
  4. تعرض الولد للعنف بمختلف أشكاله، إن من قبل البالغين أو الرفاق أو الأهل، بحيث يتحمل التأنيب والسخرية والإذلال بالكلام أو بالإيماء أو بالضرب، بغية "تصويب" وضعه غير المنسجم مع معايير المدرسة أو الرفاق أو المعلم (وهي ذاتية إجمالاً)، أو معاقبته على "سوء نواياه" تجاه العمل المدرسي، أو ما يدرج تسميته بـ"الكسل" أو "المشاغبة"، فيتم إلقاء كامل التبعة عليه و"يرتاح ضمير الجميع". كما يعمد بعض الرفاق إلى استغلال الولد مادياً من خلال التهديد والضغط النفسي، بحيث "يشتري" هذا الأخير تقبلهم المشروط له. ويمكن أن تبدأ دوامة العنف هذه نتيجة عنف يمارسه الولد المعني ضد زملائه، فيدخل الجميع في حلقة مفرغة من الفعل وردة الفعل يصعب كسرها إلا بوسائل أكثر إنسانية.
  5. التساهل والدلال المفرط، وهي ممارسات يتم تبريرها بـ"ضعف" الولد الجسدي أو النفسي أو التعلمي، أو بحرمانه من أحد أو كِلي الوالدين، فيُفترض أن إعفاء الولد من المتطلبات والقواعد الاجتماعية يمكن أن يعوضّ نسبياً عن هذه النواقص. أما في الواقع، فإن التسيّب هذا من شأنه أن يؤدي لدى الولد إلى اضطرابات ملفتة في الاندماج ضمن الصف وفي احترام القواعد الاجتماعية تارةً، أو إلى انغلاق على الذات خوفاً من الأذى الذي يمكن أن يلحقه بها ''الغرباء'' من خارج عالمه الوردي تارةً أخرى. وفي الحالتين، يصبح الشخص المعني محط الأنظار والانتقادات، ويصعب تقبله ضمن الجماعة. 

غالباً ما يجهل الفرقاء التربويون واقع المعاناة التي يعيشها الولد المهمش من جراء هذه الأوضاع، فيكتم هذا الأخر ألمه الداخلي يوماً بعد يوم، ويتقبل موقع الضحية أو "كبش المحرقة" الذي صمّم على قياسه، لا بل يمكن أن يؤول به الأمر إلى الاستمتاع بموقعه والدفاع عنه أحياناً، نظراً للتمايز الذي يكتسبه منه تجاه محيطه، بحيث يصبح جزءاً من هويته الاجتماعية.

يلجأ الولد المهمّش إلى تصرفات وممارسات خاصة بغية التعامل مع صورته المستجدة يمكن وصفها على الشكل الآتي، علماً أنها لا تتواجد بالضرورة مجتمعةً عند نفس الولد، بل تختلف وفقاً للأوضاع:

  1. عزلة وانطوائية وخجل مفرط، تترافق مع قدرة محدودة على الدفاع عن وجهة النظر أو عن الحقوق الشخصية، ومع استسلام للوضع القائم. كما يمعن بعض الأولاد في البكاء لدى وجودهم منفردين، ويتلافون الخروج إلى الملعب ليرتاحوا مع أنفسهم، ولأن بوتقة أصدقائهم تبقى ضيقة.
  2. تدني مستوى الثقة بالذات لجهة القيمة الشخصية والمهارات والكفايات والتحصيل الدراسي، إذ يقتنع بأنه، مهما تغيّر أو بذل جهداً، فإنها ستبقى محدودة أو عديمة الجدوى. من هنا، فإن بعض الأولاد يسوّغون لانفسهم الرسوب أو التأخر في الدراسة عموماً، أو في المادة التي يتعرضون ضمنها للتهميش خصوصاً، نظراً "للعجز المكتسب" الذي يتوصلون إليه من خلال ظروفهم المدرسية (المعلم الذي ''يكرههم'' أو التلاميذ الذين ''ينبذونهم''...).
  3. تفاقم الصعوبات التعلمية أو المشاكل النفسية التي ساهمت في خلق حالة التهميش لكونها بقيت مجهولة أو خارج نطاق المتابعة والمعالجة، ما يساهم في تردي التحصيل الدراسي وفي التسرب المدرسي المبكر أحياناً.
  4. نقص في الانضباط و/أو في احترام القواعد المدرسية والصفية الموضوعة إستجداءً للاهتمام من قبل البالغين، وإثباتاً لقدرته على "التحكم بالوضع" وعلى المشاكسة، عسى أن يساهم ذلك في إثارة إعجاب الرفاق وفي تجميل صورته في أعينهم، فيدخلونه ضمن عالمهم.
  5. عنف و/أو استغلال إزاء الرفاق ضمن منطق "داوِها بالتي كانت هي الداء"، فيعرّضهم بطريقة أو بأخرى لما يقاسيه شخصياً ويعبّر عن رفضه لما يعيشه بأن يجعل الآخرين يشاطرونه إياه. عند هذه النقطة، تبدأ الأزمات السلوكية  والعلائقية بالتعاظم لتصل أحياناً إلى حدود الطرد المؤقت أو الدائم من المدرسة، ما يجعل من الصعب قبول الولد في مدارس أخرى.


 ورشة العمل(1)

"الاولاد المهمشون داخل المدرسة" هو عنوان ورشة العمل التي سعت إلى تحقيق عدة أهداف، أبرزها:

  1. توعية الفرقاء التربويين حول ظاهرة تهميش الأولاد داخل المدرسة في لبنان، ونشر المعلومات حولها، وصولاً إلى إبراز خطورتها لجهة نمو الشخصية في كافة أبعادها.
  2. معالجة تحليلية لأبعاد التهميش المدرسي: هوية الأولاد المهمشين، أنواع التهميش الذي يتعرضون له، عواقبه على مسارهم الدراسي، المعالجات المتوفرة والمستقبلية.
  3. خلق شبكة تواصل حول هذا الموضوع بين الإداريين والمعلمين والهيئات المدنية المعنية بهدف تبادل الخبرات وتثميرها في العمل داخل الصفوف وفي إحداث تغيير على صعيد مواقف واتجاهات الفرقاء التربويين.

وقد تحققت هذه الأهداف جزئياً في المرحلة الأولى، وتم اقتراح خطوات مستقبلية للمتابعة.


خطوات المتابعة الممكنة

يتبين من الطرح السابق أن تهميش الولد ضمن المدرسة ليس شأناً مرتبطاً بالولد فقط، بل إنه مسألة إجتماعية-تربوية متشعبة الأبعاد والمصادر. وعليه، فإن المعالجة لن تقتصر على منظور واحدٍ أو على طرف خاص، بل أنها تستدعي تسليط الأضواء على مختلف العوامل والاحتمالات. وهذا النوع من المهام يستدعي تعاوناً ملتزماً بين المعلم والإدارة والأهل من جهة، وفريق الأختصاصيين (الاجتماعيين، النفسيين، أختصاصيي النطق والحركة...) من جهة أخرى، سواءً وجِدَ هذا الفريق ضمن المدرسة أم خارجها.

ويبدأ دور المعلم بالتعرف إلى الحالات المقلقة وتشخيصها بشكل عام، بمعنى تمييز مصادرها المحتملة. من هنا، نلفتالزي واحد، لكن مشكلات كل منهم مختلفة عن الآخر إلى أولوية إعلام وتدريب المعلمين حول عوامل التهميش، مظاهره وعواقبه، ثم تأمين متابعة لهم ضمن الصف من خلال رصد الحالات ومناقشتها مع فريق المعلمين والأختصاصيين. ومن الضروري أن يقف المعلم في هذا الإطار عند حدود مهاراته وقدراته، فيوَجّهَ الولد إلى الأختصاصي المعني ويتعاون معه، دون أن يحل مكان فريق بأكمله، مهما حسنت نواياه. وينسحب هذا الأمر على المسؤولين الإداريين، والذين يحاول بعضهم مساعدة الولد من خلال "الوعظ" والإرشاد، أو "تأنيب" الأهل على أسلوبهم التربوي، دون أن تساهم هذه الجهود الصادقة في تحسين الوضع، كونها تأتي في معظم الأحيان غير متناسبة مع واقع الحال.

أما دور شبكات التواصل بين المدارس والجمعيات الأهلية فيقوم بشكل أساسي على دعم المدرسة ذات الموارد البشرية والمادية المحدودة، أي أنها تستطيع تنظيم ورش عمل وتدريب لبعضها البعض ومع بعضها البعض لعرض التجارب والتدابير المتخذة وتقييمها، وتأمين بعض المساعدة من قبل الأختصاصيين في معالجة حالات صعبة. وعلى حد علمنا، إن الجامعات الخاصة والرسمية مثل جامعة القديس يوسف (أقسام تقويم النطق والمعالجة الحركية والنفسية)، والجامعة اللبنانية (كلية الصحة العامة) من شأنها تأمين خدمات معينة، مقابل رسوم مالية طفيفة، لمتابعة أولاد يعانون من صعوبات تعلمية ونفسية واجتماعية ضمن مراكزها في بيروت. كما يمكن أحياناً إرسال بعض الطلاب في السنوات الأخيرة من الاختصاص لإجراء تدريبهم الميداني في المدراس بناءً على اتفاق مسبق وضمن الإمكانيات المتاحة.

يبقى أن ننوّه بدور مراكز البحث العلمي، مثل المركز التربوي للبحوث والإنماء، ووسائل الإعلام في تحسيس وتوعية الجمهور حول هذه الظاهرة، وفي إبرازها كإنذار ملح ينبغي التعامل معه بأدق الأساليب.


هامش:

  1. ورشة عمل بعنوان "الأولاد المهمشون داخل المدرسة"، إنعقدت في ٣ و ٤ كانون الأول ٢٠٠٤ في قصر الأونسكو، من تنظيم الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية. وقد شارك فيها حوالى ٣٥٠ شخصاً يأتون من ميادين تربوية متنوعة: خبراء، مدراء مدارس في القطاعين العام والخاص، أفراد الهيئة التعليمية، أختصاصيون وطلاب في مجالات التعليم وعلم النفس والإرشاد والتربية المختصة والخدمة الاجتماعية، ناشطون في جمعيات حكومية وغير حكومية. وتوزعت مضامينها بين محاضرات نظرية ودراسة حالات ضمن جلسات ثلاث تتناول كل منها نوعاً من أنواع التهميش. 

الأولاد المهمّشون داخل المدرسة في لبنان - إنذار ملحّ

د. سوزان عبد الرضا أبو رجيلي جامعة الروح القدس-الكسليك جامعة القديس يوسفالتهميش ... داخل المدرسة؟!

في الربع الأخير من القرن العشرين، درجت الدراسات السوسيولوجية-التربوية على مقاربة الجمهور المدرسي بالنظر إلى مواصفاته المتعددة كسن الالتحاق ومعدلات البقاء والتأخر والنجاح ومستويات التحصيل، مع اللجوء إلى مقارنات دولية وإلى توقعات مستقبلية. ويكاد يقوم هذا المنظور على مسلّمة بحثية يمكن إيجازها كالآتي: "إن المدرسة ملجأ آمن للأولاد باعتبارها تضفي عليهم صفات مشتركة وتجمعهم ضمن إطار مؤسساتي محبّذ إجتماعياً، فيكفي أن يلتحق بها الأبناء كي يكتسبوا شرعيةً تربوية إضافية وضرورية".

أما في الواقع، فتفيدنا الأبحاث المتكاثرة حول "أثر" المدرسة وفعاليتها- وتنضوي ضمن هذا الإطار عوامل رئيسية منها توقعات المعلمين والمسؤولين وطرائق تنظيم التعلم وإدارة العلاقات- تفيدنا حول هشاشة هذه المسلّمة، وحول العزلة الاجتماعية والنفسية التي يعيشها قسم من التلاميذ، في مختلف المراحل، ضمن المدرسة. وتؤدي هذه المعاناة إلى أضرار متنوعة، أقلّها تلك المرتبطة بمستوى التحصيل، بحيث يمكنها أن تطول التوازن السيكولوجي والاندماج الاجتماعي للولد. من هنا، تهدف هذه الورقة إلى إبراز خطر التهميش الذي يعيشه بعض التلاميذ ضمن حياتهم المدرسية اليومية، ولبنان ليس بمنأى عن هذا الخطر، مع الحرص على تفنيد العوامل المؤدية إلى هذا الوضع وتحليل مظاهره المتنوعة وعواقبه، وصولاً إلى اقتراح خطوات عملية بسيطة لمعالجة أو تفادي هذه الظاهرة.

العوامل المؤدية إلى تهميش الولد داخل المدرسة

 يمكن تقسيم العوامل التي من شأنها المساهمة- دون أن تشكل بحد ذاتها سبباً حتمياً- في تهميش الولد داخل المدرسة إلى فئات ثلاث بارزة:

  1. العوامل ذات المصدر التعليمي-التعلمي، وتندرج ضمنها الصعوبات التعلمية المتأتية من عوامل فيزيولوجية، مثل: تعسر في القراءة والكتابة (Dyslexie)، وتعسر في الحساب (Dyscalculie)، الحركة الزائدة، التأخر والبطء الدراسيين، التفوق؛ والإعاقات العقلية والجسدية؛ أو من عوامل تعليمية مثل طرائق التدريس والتعامل مع التلاميذ، "بروفيل" المعلم التربوي والنفسي، تصورات التلميذ حول المادة...
  2. العوامل ذات المصدر النفسي-العلائقي، وتشمل الاضطرابات النفسية: الاكتئاب، الانفعالية، القلق، الرهاب  (Phobie)، الانطوائية...؛ والسلوكية: الكذب، الغش، الانحراف، العدوانية، التلامس الجسدي...
  3. العوامل ذات المصدر الثقافي-الاجتماعي، وتضم العوامل الاقتصادية: الوضع المادي، مهنة الأهل، الثقافية، الجنسية، العرق، الإتنية، المستوى التعليمي للأهل، والطائفية، والأسرية، الدلال المفرط، الإهمال، إقصاء الولد إلى مؤسسة خارج الأسرة، التسلّط، العنف، الاستغلال الجنسي، اليتم، الطلاق، النزاعات، الزواج الثاني...

مظاهر التهميش وعواقبه

يمكن أن تساهم العوامل المتنوعة المذكورة أعلاه في تعرّض الولد إلى ممارسات تهميشية من قبل معلميه و/أو رفاقه و/أو المسؤولين ضمن الصف خصوصاً، والمدرسة عموماً، وحتى من قبل أسرته وأهله. وتتجسد معالم التهميش في وضعيات عدة منها:

  1. إهمال المعلم للولد إلى حدٍ ما، وذلك نتيجة الإحباط الذي يتوصل إليه بعد محاولاته الفاشلة في مساعدته، أو نتيجة جهله بواقع المشكلة نظراً لتدريبه المتواضع في هذا المجال، أو حتى نتيجة عدم رغبته أصلاً في إجهاد  نفسه من منطلق أن ذلك العمل لا يندرج ضمن وظيفته (أو معاشه).
  2. إهمال المسؤولين للولد باعتبار أنهم قاموا بكل ما يلزم وما يمكنهم تأديته تجاهه، أو أن "مستوى ذكائه الطبيعي" محدود، وهذه الحجة تعتمدها المدرسة، وفقاً لعالم  الاجتماع بورديو  (Bourdieu) لتبرر فشلها التربوي، ولتوفر على نفسها مشقة تكييف طرائقها مع احتياجات الولد الخاصة. وتتفاقم الأزمة بشكل لافت حين يستمر هذا الإهمال على مدى سنين، فيصل الجميع إلى حائطٍ مسدود، ولا يبقى أمامهم أحياناً سوى خيار إقصاء الولد عن النظام التعليمي ككل. 
  3. إهمال الرفاق للولد، ولعلها من أقسى مظاهر التهميش، بحيث يُنبذ من مجموعة الأتراب، والتي تعتبر كسر عزلة التلميذ، واجب على المدرسة والاهل.الممر الضروري للإنخراط والتنشئة الاجتماعية، وأحد مصادر الأمان العاطفي في محيط بعيد عن جوه الأسري.
  4. تعرض الولد للعنف بمختلف أشكاله، إن من قبل البالغين أو الرفاق أو الأهل، بحيث يتحمل التأنيب والسخرية والإذلال بالكلام أو بالإيماء أو بالضرب، بغية "تصويب" وضعه غير المنسجم مع معايير المدرسة أو الرفاق أو المعلم (وهي ذاتية إجمالاً)، أو معاقبته على "سوء نواياه" تجاه العمل المدرسي، أو ما يدرج تسميته بـ"الكسل" أو "المشاغبة"، فيتم إلقاء كامل التبعة عليه و"يرتاح ضمير الجميع". كما يعمد بعض الرفاق إلى استغلال الولد مادياً من خلال التهديد والضغط النفسي، بحيث "يشتري" هذا الأخير تقبلهم المشروط له. ويمكن أن تبدأ دوامة العنف هذه نتيجة عنف يمارسه الولد المعني ضد زملائه، فيدخل الجميع في حلقة مفرغة من الفعل وردة الفعل يصعب كسرها إلا بوسائل أكثر إنسانية.
  5. التساهل والدلال المفرط، وهي ممارسات يتم تبريرها بـ"ضعف" الولد الجسدي أو النفسي أو التعلمي، أو بحرمانه من أحد أو كِلي الوالدين، فيُفترض أن إعفاء الولد من المتطلبات والقواعد الاجتماعية يمكن أن يعوضّ نسبياً عن هذه النواقص. أما في الواقع، فإن التسيّب هذا من شأنه أن يؤدي لدى الولد إلى اضطرابات ملفتة في الاندماج ضمن الصف وفي احترام القواعد الاجتماعية تارةً، أو إلى انغلاق على الذات خوفاً من الأذى الذي يمكن أن يلحقه بها ''الغرباء'' من خارج عالمه الوردي تارةً أخرى. وفي الحالتين، يصبح الشخص المعني محط الأنظار والانتقادات، ويصعب تقبله ضمن الجماعة. 

غالباً ما يجهل الفرقاء التربويون واقع المعاناة التي يعيشها الولد المهمش من جراء هذه الأوضاع، فيكتم هذا الأخر ألمه الداخلي يوماً بعد يوم، ويتقبل موقع الضحية أو "كبش المحرقة" الذي صمّم على قياسه، لا بل يمكن أن يؤول به الأمر إلى الاستمتاع بموقعه والدفاع عنه أحياناً، نظراً للتمايز الذي يكتسبه منه تجاه محيطه، بحيث يصبح جزءاً من هويته الاجتماعية.

يلجأ الولد المهمّش إلى تصرفات وممارسات خاصة بغية التعامل مع صورته المستجدة يمكن وصفها على الشكل الآتي، علماً أنها لا تتواجد بالضرورة مجتمعةً عند نفس الولد، بل تختلف وفقاً للأوضاع:

  1. عزلة وانطوائية وخجل مفرط، تترافق مع قدرة محدودة على الدفاع عن وجهة النظر أو عن الحقوق الشخصية، ومع استسلام للوضع القائم. كما يمعن بعض الأولاد في البكاء لدى وجودهم منفردين، ويتلافون الخروج إلى الملعب ليرتاحوا مع أنفسهم، ولأن بوتقة أصدقائهم تبقى ضيقة.
  2. تدني مستوى الثقة بالذات لجهة القيمة الشخصية والمهارات والكفايات والتحصيل الدراسي، إذ يقتنع بأنه، مهما تغيّر أو بذل جهداً، فإنها ستبقى محدودة أو عديمة الجدوى. من هنا، فإن بعض الأولاد يسوّغون لانفسهم الرسوب أو التأخر في الدراسة عموماً، أو في المادة التي يتعرضون ضمنها للتهميش خصوصاً، نظراً "للعجز المكتسب" الذي يتوصلون إليه من خلال ظروفهم المدرسية (المعلم الذي ''يكرههم'' أو التلاميذ الذين ''ينبذونهم''...).
  3. تفاقم الصعوبات التعلمية أو المشاكل النفسية التي ساهمت في خلق حالة التهميش لكونها بقيت مجهولة أو خارج نطاق المتابعة والمعالجة، ما يساهم في تردي التحصيل الدراسي وفي التسرب المدرسي المبكر أحياناً.
  4. نقص في الانضباط و/أو في احترام القواعد المدرسية والصفية الموضوعة إستجداءً للاهتمام من قبل البالغين، وإثباتاً لقدرته على "التحكم بالوضع" وعلى المشاكسة، عسى أن يساهم ذلك في إثارة إعجاب الرفاق وفي تجميل صورته في أعينهم، فيدخلونه ضمن عالمهم.
  5. عنف و/أو استغلال إزاء الرفاق ضمن منطق "داوِها بالتي كانت هي الداء"، فيعرّضهم بطريقة أو بأخرى لما يقاسيه شخصياً ويعبّر عن رفضه لما يعيشه بأن يجعل الآخرين يشاطرونه إياه. عند هذه النقطة، تبدأ الأزمات السلوكية  والعلائقية بالتعاظم لتصل أحياناً إلى حدود الطرد المؤقت أو الدائم من المدرسة، ما يجعل من الصعب قبول الولد في مدارس أخرى.


 ورشة العمل(1)

"الاولاد المهمشون داخل المدرسة" هو عنوان ورشة العمل التي سعت إلى تحقيق عدة أهداف، أبرزها:

  1. توعية الفرقاء التربويين حول ظاهرة تهميش الأولاد داخل المدرسة في لبنان، ونشر المعلومات حولها، وصولاً إلى إبراز خطورتها لجهة نمو الشخصية في كافة أبعادها.
  2. معالجة تحليلية لأبعاد التهميش المدرسي: هوية الأولاد المهمشين، أنواع التهميش الذي يتعرضون له، عواقبه على مسارهم الدراسي، المعالجات المتوفرة والمستقبلية.
  3. خلق شبكة تواصل حول هذا الموضوع بين الإداريين والمعلمين والهيئات المدنية المعنية بهدف تبادل الخبرات وتثميرها في العمل داخل الصفوف وفي إحداث تغيير على صعيد مواقف واتجاهات الفرقاء التربويين.

وقد تحققت هذه الأهداف جزئياً في المرحلة الأولى، وتم اقتراح خطوات مستقبلية للمتابعة.


خطوات المتابعة الممكنة

يتبين من الطرح السابق أن تهميش الولد ضمن المدرسة ليس شأناً مرتبطاً بالولد فقط، بل إنه مسألة إجتماعية-تربوية متشعبة الأبعاد والمصادر. وعليه، فإن المعالجة لن تقتصر على منظور واحدٍ أو على طرف خاص، بل أنها تستدعي تسليط الأضواء على مختلف العوامل والاحتمالات. وهذا النوع من المهام يستدعي تعاوناً ملتزماً بين المعلم والإدارة والأهل من جهة، وفريق الأختصاصيين (الاجتماعيين، النفسيين، أختصاصيي النطق والحركة...) من جهة أخرى، سواءً وجِدَ هذا الفريق ضمن المدرسة أم خارجها.

ويبدأ دور المعلم بالتعرف إلى الحالات المقلقة وتشخيصها بشكل عام، بمعنى تمييز مصادرها المحتملة. من هنا، نلفتالزي واحد، لكن مشكلات كل منهم مختلفة عن الآخر إلى أولوية إعلام وتدريب المعلمين حول عوامل التهميش، مظاهره وعواقبه، ثم تأمين متابعة لهم ضمن الصف من خلال رصد الحالات ومناقشتها مع فريق المعلمين والأختصاصيين. ومن الضروري أن يقف المعلم في هذا الإطار عند حدود مهاراته وقدراته، فيوَجّهَ الولد إلى الأختصاصي المعني ويتعاون معه، دون أن يحل مكان فريق بأكمله، مهما حسنت نواياه. وينسحب هذا الأمر على المسؤولين الإداريين، والذين يحاول بعضهم مساعدة الولد من خلال "الوعظ" والإرشاد، أو "تأنيب" الأهل على أسلوبهم التربوي، دون أن تساهم هذه الجهود الصادقة في تحسين الوضع، كونها تأتي في معظم الأحيان غير متناسبة مع واقع الحال.

أما دور شبكات التواصل بين المدارس والجمعيات الأهلية فيقوم بشكل أساسي على دعم المدرسة ذات الموارد البشرية والمادية المحدودة، أي أنها تستطيع تنظيم ورش عمل وتدريب لبعضها البعض ومع بعضها البعض لعرض التجارب والتدابير المتخذة وتقييمها، وتأمين بعض المساعدة من قبل الأختصاصيين في معالجة حالات صعبة. وعلى حد علمنا، إن الجامعات الخاصة والرسمية مثل جامعة القديس يوسف (أقسام تقويم النطق والمعالجة الحركية والنفسية)، والجامعة اللبنانية (كلية الصحة العامة) من شأنها تأمين خدمات معينة، مقابل رسوم مالية طفيفة، لمتابعة أولاد يعانون من صعوبات تعلمية ونفسية واجتماعية ضمن مراكزها في بيروت. كما يمكن أحياناً إرسال بعض الطلاب في السنوات الأخيرة من الاختصاص لإجراء تدريبهم الميداني في المدراس بناءً على اتفاق مسبق وضمن الإمكانيات المتاحة.

يبقى أن ننوّه بدور مراكز البحث العلمي، مثل المركز التربوي للبحوث والإنماء، ووسائل الإعلام في تحسيس وتوعية الجمهور حول هذه الظاهرة، وفي إبرازها كإنذار ملح ينبغي التعامل معه بأدق الأساليب.


هامش:

  1. ورشة عمل بعنوان "الأولاد المهمشون داخل المدرسة"، إنعقدت في ٣ و ٤ كانون الأول ٢٠٠٤ في قصر الأونسكو، من تنظيم الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية. وقد شارك فيها حوالى ٣٥٠ شخصاً يأتون من ميادين تربوية متنوعة: خبراء، مدراء مدارس في القطاعين العام والخاص، أفراد الهيئة التعليمية، أختصاصيون وطلاب في مجالات التعليم وعلم النفس والإرشاد والتربية المختصة والخدمة الاجتماعية، ناشطون في جمعيات حكومية وغير حكومية. وتوزعت مضامينها بين محاضرات نظرية ودراسة حالات ضمن جلسات ثلاث تتناول كل منها نوعاً من أنواع التهميش.