المواطنيّة بين المفهوم والممارسة

      ميشال بدر مقرر عام مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية المركز التربوي للبحوث والإنماء  تتناول مادة التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة مفهوم المواطنيّة كواحد من جملة المفاهيم التي يتم إعداد المتعلّم وتوعيته على فهمها وممارستها. والسؤال، كيف يمكن فهم المواطنيّة وتعميمها من خلال التربية المدرسيّة ليتلاءم كل من الفهم والممارسة مع ما نصّت عليه الأهداف العامة للمادّة لجهة "اعتبار الإنسان قيمة وغاية في حد ذاته، وكائنا اجتماعيّا في جوهره، ولا تتحقّق شخصيته إلا ضمن إطار الجماعة؟" ولا سيما ان هذا المفهوم في تطوّر مستمر ويخلق ضغطًا والتباسًا في فهمنا السابق للمواطنيّة  والمواطن على السّواء.  

 

 

   "المواطنيّة" تعبير يعود  إلى التداول بشكل لافت هذه الأيام، بتعريفات مختلفة وطموحة في غالب الأحيان. فيحدده البعض انتماء إلى وطن، وآخرون لا يرون هذا  التعريف واقعيا  بعد اليوم، في عالم بات " قرية كونيّة " تحكمها وتتحكم بها حركة مواصلات واتّصالات ومصالح مشتركة  فاقت التوقعات و أسقطت الحدود  وتجاوزت خصوصيات المجتمعات على اختلافها. هذا الواقع المستجد حمل البعض على المناداة بمواطنيّة  تشمل مواطني اكثر من دولة على أسس يتم التوافق عليها (كالمواطنيّة الأوروبيّة مثلا). بينما يقترح آخرون "مواطنيّة إقامة" تمنح للأجانب المقيمين في بلد معيّن، على أن تكون محدّدة نصوصًا ومفاعيل. هذه  التعريفات والاقتراحات، إضافة إلى غيرها، تطرح بإلحاح مسألة "المواطنيّة" على مستوى الفهم كما على مستوى المفاعيل والممارسة. فما المواطنّيّة تحديدا؟

المديرية العامة للاحوال الشخصية     مواطنة تنتخب

تعريف المواطنيّة

         عرفت "المواطنيّة" على مرّ التاريخ  تغييرات في المعنى كما في الاستخدام ، وذلك بتغيّر الأزمنة والمجتمعات والأنظمة السياسيّة السائدة وتأثيراتها. علم الاجتماع  يعرّفها بأنها وضعيّة قانونيّة يتمتّع بها الفرد داخل الوطن ويحصل عليها بالمواطنة أو بالتجنّس، وهي تستبطن حقوقاً وواجبات. هذا الاستبطان جعل  المواطنيّة على ارتباط وثيق  بالديمقراطيّة،  تتراجع بتراجعها، ويتعذّر فهمها أو تحليلها إلاّ في إطار الديموقراطيّة، كمـا يقول الإعلامي والسياسي الإنكليزي Thomas   Paine،  كونها تشكّل المرتكز والأساس للمطالبة بحقوق الأفراد/ المواطنين وتحديد واجباتهم. ففي النظام الديموقراطي ترتبط المواطنية بأبعادها التي يحددها عالم الاجتماع الإنكليزي (T. H. MARSHALL (1893- 1981 بثلاثة: السياسية، المدنية الاجتماعية - والاقتصادية ارتباطًا وثيقًا بمدى تمتع المواطنين بحقوقهم المدنية  وممارسة حقوقهم السياسية، خصوصاً في مجال الانتخابات واختيار ممثليهم. وعليهم في المقابل القيام بواجبات المواطنية كمثل التقيد بالقوانين وتأدية الضرائب المتوجبة عليهم. وذلك انسجاما مع ما جاء في المادة (21) من شرعة حقوق الإنسان الصادرة في العام 1948 بان المواطن هو، وقبل كل شيء، مشارك في الحياة السياسية لبلده، ومشارك أيضا في القرارات السياسية.

     بناء على ما تقدم، يمكن القول إن  المواطنيّة هي في المبدأ، وحتى إشعار آخر، انتماء إلى دولة، وعلاقة بين المواطن والدولة ترتكز على وعي المواطن لماهيّتها من خلال تحسّسه قضايا الشأن العام، وتشتمل على علاقة المواطن كفرد بالمؤسّسات العامّة مدنيّة كانت أم اجتماعيّة، بما يسهّل عليه الانخراط الصحيح في المجتمع الذي يعيش فيه. أما الترجمة العملية لهذه العلاقة  فتتجّسد في احترام القوانين والتقيّد  بها لأنّها أساس استقرار المجتمع، والمنظّمة للعلاقات بين الأفراد والمجموعات المكوّنة له. وذلك يتم من خلال انخراط صحيح للمواطنين يجعل دورهم أساسيا في تشكّل الدولة ومؤسّساتها، إذ من غير الجائز أن يعيش المواطن وحيداً منعزلاً. فعلى خلفية هذا الانتماء  يتحدّد الدور المباشر وغير المباشر للمواطن في إدارة القضايا والمواضيع الشخصيّة والعامّة، بما يحقّق سعادة المجتمع. فالمواطنية هي اتصال بالآخرين الذين يتشكل منهم المجتمع والوطن.

ولكن هل يصح القول إن مواطنيّة  اليوم هي نفسها بالأمس؟

تظاهرة

التطوّر التاريخي

     المواطنيّة ليست تعبيرا جديدا كما أنها ليست مفهوما مستحدثا، فقد عرفتها وطبّقتها كل من روما وأثينا في العصور القديمة. لكن معناها وتطبيقاتها  آنذاك كانت مغايرة لما هي عليه اليوم. ففي أثينا اقتصرت المواطنيّة اليونانيّة على متجانسين يمكنهم التواجد معًا بشكل دائم، موحّدين ضمن المجتمع الواحد. أما النساء والعبيد والغرباء فقد حُرموا من مفاعيل هذه المواطنيّة ببعدها المدني المتعارف عليه آنذاك، فتمتّعوا فقط  بالمواطنيّة الاجتماعيّة من دون سواها. وكان المواطن اليوناني، في ذلك العصر، لا يخضع لرجل، أيّا كان، بل للقانون الذي أجاز له حق التمتّع بحقوق والتقيّد بواجبات حدّدتها مجموعة مختارة من المواطنين اليونانيين، من ذوي الشأن.

        أما في روما، فقد اقتصرت المواطنيّة الرومانيّة الحقيقيّة على قلّة كانت الوحيدة المؤهّلة لتبوّء المناصب الرسميّة المهمّة. وتميّزت عن مثيلتها في اليونان بتساهلها في إطلاق صفـة المواطنيّة على سكان المستعمرات. إلا أن هذا التساهل  ارتبط  بمدى التـزام هؤلاء "المواطنين" بواجباتهم وليس بحكم كونهم أعضاء في المدينة، غير ان تمتّعهم بهذه الصفة لم يخولهم من تبوّء المناصب الرومانيّة المهمّة التي اقتصرت على مجموعات صغيرة تمسك بالسلطة تحت إشراف الإمبراطور وتعمل بتوجيه منه. 

القرون الوسطى

      لم تعمّر " المواطنيّة " التي عرفتها ومارستها كل من روما وأثينا طويلاً. ففي القرون الوسطى حلّت الإقطاعيّة محلّ المواطنيّة في أوروبا بوجه عام. فكان بنتيجتها أن  تحددّت مواطنيّة الفرد على أساس انتمائه وولائه للإقطاعيّين كما للملك، أسياده وحماته، فجسّدت سلطة الملك آنذاك إرادة الله ومشيئته على الأرض، قراراته لا ترد، مالك كل شيء، البشر والحجر.

      هذه العبوديّة المقنّعة عمّرت طويلاً في أوروبا، وبات خلالها الإنسان - الفرد أسير القدر المكتوب له منذ الولادة، أي الخضوع لسيّده الإقطاعي أو للملك الذي يدير مملكته بما ومن فيها باسم الدين مصدر شرعيّته وقوّته. وقد عانى الناس هذه العبوديّة قرونا عدّة،ً أمضوها في خدمة أسيادهم، محرومين من أيّة حريّة أو كرامة إنسانيّة، يتمتّعون بفضيلة واحدة: الطّاعة والخضوع التي هي فضيلة العبد، كما يقول أفلاطون.

عصر النهضة في اوروبا

           شهد عصر النهضة  انبعاثا "للمواطنيّة"  بعد طول سبات، ساهمت في تحقيقه ظروف ومعطيات عدّة، من أبرزها:

  •  الديانة المسيحيّة التي أكّدت سواسيّة الناس أمام الله، فلا عبد بعد ولا سيّد.
  • المعاناة التي عاشها الناس، على مدى قرون، نتيجة الاضطهاد والاحتقار وعدم احترام ذاتهم الإنسانيّة، وهو ما أسهم في دعم التوجّهات التحرّريّة وتعزيزها.

   هذا الواقع المستجد أوجد مناخا من الاستقلاليّة الاجتماعيّة اتّسمت  بقدر من الحريّة أسهم في بروز شكل من أشكال المواطنيّة  يستبطن "حقوقا وواجبات". وقد شكّلت حقوق الإنسان وواجباته في هذه الحقبة، محور اهتمام عدد من المفكرين الذين أكدوا أن الخير العام يقوم على الخير الذي يصيب المواطن ويحفِّزّه على ارتضاء العبور من شخصا نيّته وفرديّته إلى رحاب الانتماء الاجتماعي. لكن هذا العبور مشروط بان يكفل له هذا الانتماء حقوقه ويحدّد واجباته كمواطن، إذ إن كلمة مواطن تعني العلاقة مع سائر المواطنين، وهذه العلاقة تستبطن واجبات، كما يقول المركيز دي كلارمونت ـ لوديف.

  وقد عزّزت هذا التوجّه الديموقراطي ممارسـات مستوحاة مـن أفكار عدد من المتنوّرين والأدباء في أوروبا أمثال "مونتيسكيو" الذي نادى بالفصـل بين "السلطات الثلاث" منعاً للتسلّط، و"جان جاك روسّو" الذي رأى أن سعادة الفرد هي هدف كل جماعة، وبأنّ الجماعة السياسيّة هي محصّلة عقد جماعي. كما شكّلت هذه التصوّرات والمساهمات أحد المرتكزات التي قامت عليها المواطنيّة المعاصرة  بتجليّاتها الديموقراطيّة في مراحل لاحقة، والتي رمت إلى كفالة الشخصيّة الفرديّة. فكان أن سقطت بنتيجتها شرعيّة الملك كأساس لضمان سعادة الفرد.

 فما هو الفهم المعاصر للمواطنيّة؟

القصر الجمهوري      مقر مجلس الوزراء

 قصر العدل            مجلس النواب

 

المواطنية المعاصرة

   إن الفهم المعاصر للمواطنيّة يتجاوز الحالة القانونيّة البحت، ليعني انخراط المواطن في مجتمع معيّن، بحيث يسهّل له هذا  الانتماء التمتّع بفوائد الحياة المجتمعيّة، على خلفيّة المشاركة الناشطة في مجالات التقيّد بالقوانين والأنظمة والانتخاب، والتمتّع بالحقوق الشخصيّة تجاه الدولة كما تجاه غيره من المواطنين، فضلا عن إشغال الوظائف العامّة. وبالتالي لم تعد  المواطنيّة اليوم كما كانت عليه بالأمس، لذلك من غير الجائز اعتبارها مفهوما مجردا أو وضعيّة جامدة ونهائيّة، محدّدة التفسيرات والمفاعيل، بل أصبحت وضعيّة منفتحة ومتحرّكة تجد أقصى كمالها وترجمتها في:  

  1. مشاركتنا كمواطنين، أفرادا وجماعات، في مختلف الأنشطة المتعلّقة بمصيرنا، مع ما تفرض هذه المشاركة من حقّ  لنا في الاطّلاع على المواضيع المطروحة والمتداولة في المجتمع الذي نعيش فيه أو ننتمي إليه، حيث يتقرّر مصيرنا. عندها يكون انخراطنا واعياً ومؤثّراً، فالانتماء إلى جماعة هو انتماء إلى الوطن هويّة ومشاركة .
  2. الوعي بان الانتماء السياسي هو الرابط الجامع بين المواطنين وكفيل حرياتهم. وبأن المواطنيّة  بمعناها الصحيح لا تقوم إلا على أساس الانتماء إلى مجموعات ونظم سياسيّة حيث الناس متساوون في الكرامة كما في التمتع بحقوقهم والقيام بواجباتهم، وتتوطّد علاقاتهم بعضهم ببعض على أساس المصلحة العامّة لا المصلحة الشخصيّة.
  3. الإدراك بأن الفهم الصحيح للمواطنيّة يقوم على وعي ماهيّة الجماعة بما هي توحّد حول مشروع شامل يقبل الآخر كما هو، ويتقبّل الحق في الاختلاف بالرأي كحق طبيعي من حقوق هذا الآخر، ويحوّل بالتالي إلى مواطنين أفراد المجتمعات المنغلقة أو المنكفئة ليسهموا في المواطنيّة بأبعادها الاجتماعيّة  والسياسيّة والإنسانيّة.
  4. فهم المواطنيّة بأنها لا يمكن أن تقتصر فقط على الأفراد الذين ينتمون إلى الوطن الواحد والدولة الواحدة، فذلك يفقدها معناها وبعدها الإنسانيّين. فمواطنيّة اليوم ليست منعزلة عما يجري في "القرية الكونية". بل هي على تماس وتواصل مع "مواطنيّة" أوسع واشمل، منفتحة على انتماء إنساني يأخذ في الاعتبار هويتنا الوطنية وينمّي وعينا وفهمنا لإنسانيّتنا ولقرابتنا مع الإنسان الآخر، بعيدا عن الفئويّة والعصبيّة والانغلاق.

ولكي يجد هذا الفهم للمواطنيّة المجال الملائم ليثمر وليعطي النتائج المرجوّة، فعلى الدولة القيام بما عليها من واجبات الرعاية والحماية، لجهة الاهتمام بالإنسان/المواطن والمحافظة على كرامته كونه قيمة في ذاته . فتعمد إلى توفيّر أمنه بمختلف عناوينه، وحريّته بمختلف معانيها وتجلياتها، وحاجاته الحياتيّة بمختلف أنواعها وأوجهها  بما يكفل كرامته كانسان وقيمته كفرد والتي عرّفها "جان جاك  روسّو" بأنّها أساس التعاقد الاجتماعي. لذلك يمكن القول وباختصار، إن مواطنيّة اليوم لم تعد تبعيّة لاقطاعيّ أو لملك. كما أنها ليست هبة أو عطيّة يخلعها  "والٍ "  أو "نافذ" على من والاه أو بايعه. بل هي انتماء إلى وطن ودولة يعيش فيها المواطن فعل الانتماء والمشاركة. شرط أن يكفل له هذا الانتماء حقوقه ويحدد واجباته، وذلك في إطار قوانين يخضع لها ويتقيد بها لأنه مشارك في وضعها.

        و لكن، هل إن المواطنيّة اليوم بمعناها ومفاعيلها، وفي ضوء تحديداتها وتجلياتها المعاصرة والمسؤوليات المترتبة بنتيجتها على الفرد والمجتمع والدولة تجسد أقصى أمانينا وطموحاتنا ؟ الجواب الطبيعي والمنطقي هو كلا. فالمواطنيّة  تختصر حاضرنا ومستقبلنا فهما وممارسة. فبقدر ما يكون التطور والانفتاح داخل الدولة والمجتمع  أو في ما بين الدول والشعوب أسرع واشمل، كلما تشعّبت الحقوق وتفرعّت الواجبات واصبح من الضروريّ والملحّ تطوير فهمنا للمواطنيّة  ليتناسب الفهم مع الواقع والممارسة. وحيث أنّ  التطوّر والتقدّم هما سنّة الحياة  فإن أيّ تعريف للمواطنيّة يبقى في إطار المؤقت. لذلك وجب علينا السعي، دولاً وأفرادًا، إلى  تطوير مفهوم المواطنية وترجماته العمليّة لتتلاءم مع سنّة التطوّر وحتميتها، كما مع  حاجات الناس وطموحاتهم وأمانيهم، شرط أن يظل  الإنسان هو الهدف والغاية. عندها تبلغ المواطنيّة كمال معناها حقيقة وواقعًا، وتصبح استحقاقًا لا هبة. فكمال إنسانيّتنا يتحقّق من خلال مشاركتنا الواعية والتزامنا الأكيد بصنع مستقبلنا، وبالتالي مستقبل البشرية جمعاء.

* المصادر والمراجع :

  • أنسيكلوبيديا أنكرتا - 2002 .
  • دومينيك شنابر وب. كريستيان - ما هي المواطنيّة ؟ منشورات دار غاليمار- باريس 2000.
  • كونستانت فريد - المواطنية - منشورات مون كريتيان - باريس 1998.
  • جريدة السفير - العدد 9184 - الجمعة 26/4/2002.
  • المرسوم 10227/97 تاريخ 8 ايار1997 (مناهج التعليم الهام واهدافها).
  • التربية الوطنية في العالم العربي- قضايا وإشكاليات- منشورات الشبكة العربية للتربية المدنية.

المواطنيّة بين المفهوم والممارسة

      ميشال بدر مقرر عام مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية المركز التربوي للبحوث والإنماء  تتناول مادة التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة مفهوم المواطنيّة كواحد من جملة المفاهيم التي يتم إعداد المتعلّم وتوعيته على فهمها وممارستها. والسؤال، كيف يمكن فهم المواطنيّة وتعميمها من خلال التربية المدرسيّة ليتلاءم كل من الفهم والممارسة مع ما نصّت عليه الأهداف العامة للمادّة لجهة "اعتبار الإنسان قيمة وغاية في حد ذاته، وكائنا اجتماعيّا في جوهره، ولا تتحقّق شخصيته إلا ضمن إطار الجماعة؟" ولا سيما ان هذا المفهوم في تطوّر مستمر ويخلق ضغطًا والتباسًا في فهمنا السابق للمواطنيّة  والمواطن على السّواء.  

 

 

   "المواطنيّة" تعبير يعود  إلى التداول بشكل لافت هذه الأيام، بتعريفات مختلفة وطموحة في غالب الأحيان. فيحدده البعض انتماء إلى وطن، وآخرون لا يرون هذا  التعريف واقعيا  بعد اليوم، في عالم بات " قرية كونيّة " تحكمها وتتحكم بها حركة مواصلات واتّصالات ومصالح مشتركة  فاقت التوقعات و أسقطت الحدود  وتجاوزت خصوصيات المجتمعات على اختلافها. هذا الواقع المستجد حمل البعض على المناداة بمواطنيّة  تشمل مواطني اكثر من دولة على أسس يتم التوافق عليها (كالمواطنيّة الأوروبيّة مثلا). بينما يقترح آخرون "مواطنيّة إقامة" تمنح للأجانب المقيمين في بلد معيّن، على أن تكون محدّدة نصوصًا ومفاعيل. هذه  التعريفات والاقتراحات، إضافة إلى غيرها، تطرح بإلحاح مسألة "المواطنيّة" على مستوى الفهم كما على مستوى المفاعيل والممارسة. فما المواطنّيّة تحديدا؟

المديرية العامة للاحوال الشخصية     مواطنة تنتخب

تعريف المواطنيّة

         عرفت "المواطنيّة" على مرّ التاريخ  تغييرات في المعنى كما في الاستخدام ، وذلك بتغيّر الأزمنة والمجتمعات والأنظمة السياسيّة السائدة وتأثيراتها. علم الاجتماع  يعرّفها بأنها وضعيّة قانونيّة يتمتّع بها الفرد داخل الوطن ويحصل عليها بالمواطنة أو بالتجنّس، وهي تستبطن حقوقاً وواجبات. هذا الاستبطان جعل  المواطنيّة على ارتباط وثيق  بالديمقراطيّة،  تتراجع بتراجعها، ويتعذّر فهمها أو تحليلها إلاّ في إطار الديموقراطيّة، كمـا يقول الإعلامي والسياسي الإنكليزي Thomas   Paine،  كونها تشكّل المرتكز والأساس للمطالبة بحقوق الأفراد/ المواطنين وتحديد واجباتهم. ففي النظام الديموقراطي ترتبط المواطنية بأبعادها التي يحددها عالم الاجتماع الإنكليزي (T. H. MARSHALL (1893- 1981 بثلاثة: السياسية، المدنية الاجتماعية - والاقتصادية ارتباطًا وثيقًا بمدى تمتع المواطنين بحقوقهم المدنية  وممارسة حقوقهم السياسية، خصوصاً في مجال الانتخابات واختيار ممثليهم. وعليهم في المقابل القيام بواجبات المواطنية كمثل التقيد بالقوانين وتأدية الضرائب المتوجبة عليهم. وذلك انسجاما مع ما جاء في المادة (21) من شرعة حقوق الإنسان الصادرة في العام 1948 بان المواطن هو، وقبل كل شيء، مشارك في الحياة السياسية لبلده، ومشارك أيضا في القرارات السياسية.

     بناء على ما تقدم، يمكن القول إن  المواطنيّة هي في المبدأ، وحتى إشعار آخر، انتماء إلى دولة، وعلاقة بين المواطن والدولة ترتكز على وعي المواطن لماهيّتها من خلال تحسّسه قضايا الشأن العام، وتشتمل على علاقة المواطن كفرد بالمؤسّسات العامّة مدنيّة كانت أم اجتماعيّة، بما يسهّل عليه الانخراط الصحيح في المجتمع الذي يعيش فيه. أما الترجمة العملية لهذه العلاقة  فتتجّسد في احترام القوانين والتقيّد  بها لأنّها أساس استقرار المجتمع، والمنظّمة للعلاقات بين الأفراد والمجموعات المكوّنة له. وذلك يتم من خلال انخراط صحيح للمواطنين يجعل دورهم أساسيا في تشكّل الدولة ومؤسّساتها، إذ من غير الجائز أن يعيش المواطن وحيداً منعزلاً. فعلى خلفية هذا الانتماء  يتحدّد الدور المباشر وغير المباشر للمواطن في إدارة القضايا والمواضيع الشخصيّة والعامّة، بما يحقّق سعادة المجتمع. فالمواطنية هي اتصال بالآخرين الذين يتشكل منهم المجتمع والوطن.

ولكن هل يصح القول إن مواطنيّة  اليوم هي نفسها بالأمس؟

تظاهرة

التطوّر التاريخي

     المواطنيّة ليست تعبيرا جديدا كما أنها ليست مفهوما مستحدثا، فقد عرفتها وطبّقتها كل من روما وأثينا في العصور القديمة. لكن معناها وتطبيقاتها  آنذاك كانت مغايرة لما هي عليه اليوم. ففي أثينا اقتصرت المواطنيّة اليونانيّة على متجانسين يمكنهم التواجد معًا بشكل دائم، موحّدين ضمن المجتمع الواحد. أما النساء والعبيد والغرباء فقد حُرموا من مفاعيل هذه المواطنيّة ببعدها المدني المتعارف عليه آنذاك، فتمتّعوا فقط  بالمواطنيّة الاجتماعيّة من دون سواها. وكان المواطن اليوناني، في ذلك العصر، لا يخضع لرجل، أيّا كان، بل للقانون الذي أجاز له حق التمتّع بحقوق والتقيّد بواجبات حدّدتها مجموعة مختارة من المواطنين اليونانيين، من ذوي الشأن.

        أما في روما، فقد اقتصرت المواطنيّة الرومانيّة الحقيقيّة على قلّة كانت الوحيدة المؤهّلة لتبوّء المناصب الرسميّة المهمّة. وتميّزت عن مثيلتها في اليونان بتساهلها في إطلاق صفـة المواطنيّة على سكان المستعمرات. إلا أن هذا التساهل  ارتبط  بمدى التـزام هؤلاء "المواطنين" بواجباتهم وليس بحكم كونهم أعضاء في المدينة، غير ان تمتّعهم بهذه الصفة لم يخولهم من تبوّء المناصب الرومانيّة المهمّة التي اقتصرت على مجموعات صغيرة تمسك بالسلطة تحت إشراف الإمبراطور وتعمل بتوجيه منه. 

القرون الوسطى

      لم تعمّر " المواطنيّة " التي عرفتها ومارستها كل من روما وأثينا طويلاً. ففي القرون الوسطى حلّت الإقطاعيّة محلّ المواطنيّة في أوروبا بوجه عام. فكان بنتيجتها أن  تحددّت مواطنيّة الفرد على أساس انتمائه وولائه للإقطاعيّين كما للملك، أسياده وحماته، فجسّدت سلطة الملك آنذاك إرادة الله ومشيئته على الأرض، قراراته لا ترد، مالك كل شيء، البشر والحجر.

      هذه العبوديّة المقنّعة عمّرت طويلاً في أوروبا، وبات خلالها الإنسان - الفرد أسير القدر المكتوب له منذ الولادة، أي الخضوع لسيّده الإقطاعي أو للملك الذي يدير مملكته بما ومن فيها باسم الدين مصدر شرعيّته وقوّته. وقد عانى الناس هذه العبوديّة قرونا عدّة،ً أمضوها في خدمة أسيادهم، محرومين من أيّة حريّة أو كرامة إنسانيّة، يتمتّعون بفضيلة واحدة: الطّاعة والخضوع التي هي فضيلة العبد، كما يقول أفلاطون.

عصر النهضة في اوروبا

           شهد عصر النهضة  انبعاثا "للمواطنيّة"  بعد طول سبات، ساهمت في تحقيقه ظروف ومعطيات عدّة، من أبرزها:

  •  الديانة المسيحيّة التي أكّدت سواسيّة الناس أمام الله، فلا عبد بعد ولا سيّد.
  • المعاناة التي عاشها الناس، على مدى قرون، نتيجة الاضطهاد والاحتقار وعدم احترام ذاتهم الإنسانيّة، وهو ما أسهم في دعم التوجّهات التحرّريّة وتعزيزها.

   هذا الواقع المستجد أوجد مناخا من الاستقلاليّة الاجتماعيّة اتّسمت  بقدر من الحريّة أسهم في بروز شكل من أشكال المواطنيّة  يستبطن "حقوقا وواجبات". وقد شكّلت حقوق الإنسان وواجباته في هذه الحقبة، محور اهتمام عدد من المفكرين الذين أكدوا أن الخير العام يقوم على الخير الذي يصيب المواطن ويحفِّزّه على ارتضاء العبور من شخصا نيّته وفرديّته إلى رحاب الانتماء الاجتماعي. لكن هذا العبور مشروط بان يكفل له هذا الانتماء حقوقه ويحدّد واجباته كمواطن، إذ إن كلمة مواطن تعني العلاقة مع سائر المواطنين، وهذه العلاقة تستبطن واجبات، كما يقول المركيز دي كلارمونت ـ لوديف.

  وقد عزّزت هذا التوجّه الديموقراطي ممارسـات مستوحاة مـن أفكار عدد من المتنوّرين والأدباء في أوروبا أمثال "مونتيسكيو" الذي نادى بالفصـل بين "السلطات الثلاث" منعاً للتسلّط، و"جان جاك روسّو" الذي رأى أن سعادة الفرد هي هدف كل جماعة، وبأنّ الجماعة السياسيّة هي محصّلة عقد جماعي. كما شكّلت هذه التصوّرات والمساهمات أحد المرتكزات التي قامت عليها المواطنيّة المعاصرة  بتجليّاتها الديموقراطيّة في مراحل لاحقة، والتي رمت إلى كفالة الشخصيّة الفرديّة. فكان أن سقطت بنتيجتها شرعيّة الملك كأساس لضمان سعادة الفرد.

 فما هو الفهم المعاصر للمواطنيّة؟

القصر الجمهوري      مقر مجلس الوزراء

 قصر العدل            مجلس النواب

 

المواطنية المعاصرة

   إن الفهم المعاصر للمواطنيّة يتجاوز الحالة القانونيّة البحت، ليعني انخراط المواطن في مجتمع معيّن، بحيث يسهّل له هذا  الانتماء التمتّع بفوائد الحياة المجتمعيّة، على خلفيّة المشاركة الناشطة في مجالات التقيّد بالقوانين والأنظمة والانتخاب، والتمتّع بالحقوق الشخصيّة تجاه الدولة كما تجاه غيره من المواطنين، فضلا عن إشغال الوظائف العامّة. وبالتالي لم تعد  المواطنيّة اليوم كما كانت عليه بالأمس، لذلك من غير الجائز اعتبارها مفهوما مجردا أو وضعيّة جامدة ونهائيّة، محدّدة التفسيرات والمفاعيل، بل أصبحت وضعيّة منفتحة ومتحرّكة تجد أقصى كمالها وترجمتها في:  

  1. مشاركتنا كمواطنين، أفرادا وجماعات، في مختلف الأنشطة المتعلّقة بمصيرنا، مع ما تفرض هذه المشاركة من حقّ  لنا في الاطّلاع على المواضيع المطروحة والمتداولة في المجتمع الذي نعيش فيه أو ننتمي إليه، حيث يتقرّر مصيرنا. عندها يكون انخراطنا واعياً ومؤثّراً، فالانتماء إلى جماعة هو انتماء إلى الوطن هويّة ومشاركة .
  2. الوعي بان الانتماء السياسي هو الرابط الجامع بين المواطنين وكفيل حرياتهم. وبأن المواطنيّة  بمعناها الصحيح لا تقوم إلا على أساس الانتماء إلى مجموعات ونظم سياسيّة حيث الناس متساوون في الكرامة كما في التمتع بحقوقهم والقيام بواجباتهم، وتتوطّد علاقاتهم بعضهم ببعض على أساس المصلحة العامّة لا المصلحة الشخصيّة.
  3. الإدراك بأن الفهم الصحيح للمواطنيّة يقوم على وعي ماهيّة الجماعة بما هي توحّد حول مشروع شامل يقبل الآخر كما هو، ويتقبّل الحق في الاختلاف بالرأي كحق طبيعي من حقوق هذا الآخر، ويحوّل بالتالي إلى مواطنين أفراد المجتمعات المنغلقة أو المنكفئة ليسهموا في المواطنيّة بأبعادها الاجتماعيّة  والسياسيّة والإنسانيّة.
  4. فهم المواطنيّة بأنها لا يمكن أن تقتصر فقط على الأفراد الذين ينتمون إلى الوطن الواحد والدولة الواحدة، فذلك يفقدها معناها وبعدها الإنسانيّين. فمواطنيّة اليوم ليست منعزلة عما يجري في "القرية الكونية". بل هي على تماس وتواصل مع "مواطنيّة" أوسع واشمل، منفتحة على انتماء إنساني يأخذ في الاعتبار هويتنا الوطنية وينمّي وعينا وفهمنا لإنسانيّتنا ولقرابتنا مع الإنسان الآخر، بعيدا عن الفئويّة والعصبيّة والانغلاق.

ولكي يجد هذا الفهم للمواطنيّة المجال الملائم ليثمر وليعطي النتائج المرجوّة، فعلى الدولة القيام بما عليها من واجبات الرعاية والحماية، لجهة الاهتمام بالإنسان/المواطن والمحافظة على كرامته كونه قيمة في ذاته . فتعمد إلى توفيّر أمنه بمختلف عناوينه، وحريّته بمختلف معانيها وتجلياتها، وحاجاته الحياتيّة بمختلف أنواعها وأوجهها  بما يكفل كرامته كانسان وقيمته كفرد والتي عرّفها "جان جاك  روسّو" بأنّها أساس التعاقد الاجتماعي. لذلك يمكن القول وباختصار، إن مواطنيّة اليوم لم تعد تبعيّة لاقطاعيّ أو لملك. كما أنها ليست هبة أو عطيّة يخلعها  "والٍ "  أو "نافذ" على من والاه أو بايعه. بل هي انتماء إلى وطن ودولة يعيش فيها المواطن فعل الانتماء والمشاركة. شرط أن يكفل له هذا الانتماء حقوقه ويحدد واجباته، وذلك في إطار قوانين يخضع لها ويتقيد بها لأنه مشارك في وضعها.

        و لكن، هل إن المواطنيّة اليوم بمعناها ومفاعيلها، وفي ضوء تحديداتها وتجلياتها المعاصرة والمسؤوليات المترتبة بنتيجتها على الفرد والمجتمع والدولة تجسد أقصى أمانينا وطموحاتنا ؟ الجواب الطبيعي والمنطقي هو كلا. فالمواطنيّة  تختصر حاضرنا ومستقبلنا فهما وممارسة. فبقدر ما يكون التطور والانفتاح داخل الدولة والمجتمع  أو في ما بين الدول والشعوب أسرع واشمل، كلما تشعّبت الحقوق وتفرعّت الواجبات واصبح من الضروريّ والملحّ تطوير فهمنا للمواطنيّة  ليتناسب الفهم مع الواقع والممارسة. وحيث أنّ  التطوّر والتقدّم هما سنّة الحياة  فإن أيّ تعريف للمواطنيّة يبقى في إطار المؤقت. لذلك وجب علينا السعي، دولاً وأفرادًا، إلى  تطوير مفهوم المواطنية وترجماته العمليّة لتتلاءم مع سنّة التطوّر وحتميتها، كما مع  حاجات الناس وطموحاتهم وأمانيهم، شرط أن يظل  الإنسان هو الهدف والغاية. عندها تبلغ المواطنيّة كمال معناها حقيقة وواقعًا، وتصبح استحقاقًا لا هبة. فكمال إنسانيّتنا يتحقّق من خلال مشاركتنا الواعية والتزامنا الأكيد بصنع مستقبلنا، وبالتالي مستقبل البشرية جمعاء.

* المصادر والمراجع :

  • أنسيكلوبيديا أنكرتا - 2002 .
  • دومينيك شنابر وب. كريستيان - ما هي المواطنيّة ؟ منشورات دار غاليمار- باريس 2000.
  • كونستانت فريد - المواطنية - منشورات مون كريتيان - باريس 1998.
  • جريدة السفير - العدد 9184 - الجمعة 26/4/2002.
  • المرسوم 10227/97 تاريخ 8 ايار1997 (مناهج التعليم الهام واهدافها).
  • التربية الوطنية في العالم العربي- قضايا وإشكاليات- منشورات الشبكة العربية للتربية المدنية.

المواطنيّة بين المفهوم والممارسة

      ميشال بدر مقرر عام مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية المركز التربوي للبحوث والإنماء  تتناول مادة التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة مفهوم المواطنيّة كواحد من جملة المفاهيم التي يتم إعداد المتعلّم وتوعيته على فهمها وممارستها. والسؤال، كيف يمكن فهم المواطنيّة وتعميمها من خلال التربية المدرسيّة ليتلاءم كل من الفهم والممارسة مع ما نصّت عليه الأهداف العامة للمادّة لجهة "اعتبار الإنسان قيمة وغاية في حد ذاته، وكائنا اجتماعيّا في جوهره، ولا تتحقّق شخصيته إلا ضمن إطار الجماعة؟" ولا سيما ان هذا المفهوم في تطوّر مستمر ويخلق ضغطًا والتباسًا في فهمنا السابق للمواطنيّة  والمواطن على السّواء.  

 

 

   "المواطنيّة" تعبير يعود  إلى التداول بشكل لافت هذه الأيام، بتعريفات مختلفة وطموحة في غالب الأحيان. فيحدده البعض انتماء إلى وطن، وآخرون لا يرون هذا  التعريف واقعيا  بعد اليوم، في عالم بات " قرية كونيّة " تحكمها وتتحكم بها حركة مواصلات واتّصالات ومصالح مشتركة  فاقت التوقعات و أسقطت الحدود  وتجاوزت خصوصيات المجتمعات على اختلافها. هذا الواقع المستجد حمل البعض على المناداة بمواطنيّة  تشمل مواطني اكثر من دولة على أسس يتم التوافق عليها (كالمواطنيّة الأوروبيّة مثلا). بينما يقترح آخرون "مواطنيّة إقامة" تمنح للأجانب المقيمين في بلد معيّن، على أن تكون محدّدة نصوصًا ومفاعيل. هذه  التعريفات والاقتراحات، إضافة إلى غيرها، تطرح بإلحاح مسألة "المواطنيّة" على مستوى الفهم كما على مستوى المفاعيل والممارسة. فما المواطنّيّة تحديدا؟

المديرية العامة للاحوال الشخصية     مواطنة تنتخب

تعريف المواطنيّة

         عرفت "المواطنيّة" على مرّ التاريخ  تغييرات في المعنى كما في الاستخدام ، وذلك بتغيّر الأزمنة والمجتمعات والأنظمة السياسيّة السائدة وتأثيراتها. علم الاجتماع  يعرّفها بأنها وضعيّة قانونيّة يتمتّع بها الفرد داخل الوطن ويحصل عليها بالمواطنة أو بالتجنّس، وهي تستبطن حقوقاً وواجبات. هذا الاستبطان جعل  المواطنيّة على ارتباط وثيق  بالديمقراطيّة،  تتراجع بتراجعها، ويتعذّر فهمها أو تحليلها إلاّ في إطار الديموقراطيّة، كمـا يقول الإعلامي والسياسي الإنكليزي Thomas   Paine،  كونها تشكّل المرتكز والأساس للمطالبة بحقوق الأفراد/ المواطنين وتحديد واجباتهم. ففي النظام الديموقراطي ترتبط المواطنية بأبعادها التي يحددها عالم الاجتماع الإنكليزي (T. H. MARSHALL (1893- 1981 بثلاثة: السياسية، المدنية الاجتماعية - والاقتصادية ارتباطًا وثيقًا بمدى تمتع المواطنين بحقوقهم المدنية  وممارسة حقوقهم السياسية، خصوصاً في مجال الانتخابات واختيار ممثليهم. وعليهم في المقابل القيام بواجبات المواطنية كمثل التقيد بالقوانين وتأدية الضرائب المتوجبة عليهم. وذلك انسجاما مع ما جاء في المادة (21) من شرعة حقوق الإنسان الصادرة في العام 1948 بان المواطن هو، وقبل كل شيء، مشارك في الحياة السياسية لبلده، ومشارك أيضا في القرارات السياسية.

     بناء على ما تقدم، يمكن القول إن  المواطنيّة هي في المبدأ، وحتى إشعار آخر، انتماء إلى دولة، وعلاقة بين المواطن والدولة ترتكز على وعي المواطن لماهيّتها من خلال تحسّسه قضايا الشأن العام، وتشتمل على علاقة المواطن كفرد بالمؤسّسات العامّة مدنيّة كانت أم اجتماعيّة، بما يسهّل عليه الانخراط الصحيح في المجتمع الذي يعيش فيه. أما الترجمة العملية لهذه العلاقة  فتتجّسد في احترام القوانين والتقيّد  بها لأنّها أساس استقرار المجتمع، والمنظّمة للعلاقات بين الأفراد والمجموعات المكوّنة له. وذلك يتم من خلال انخراط صحيح للمواطنين يجعل دورهم أساسيا في تشكّل الدولة ومؤسّساتها، إذ من غير الجائز أن يعيش المواطن وحيداً منعزلاً. فعلى خلفية هذا الانتماء  يتحدّد الدور المباشر وغير المباشر للمواطن في إدارة القضايا والمواضيع الشخصيّة والعامّة، بما يحقّق سعادة المجتمع. فالمواطنية هي اتصال بالآخرين الذين يتشكل منهم المجتمع والوطن.

ولكن هل يصح القول إن مواطنيّة  اليوم هي نفسها بالأمس؟

تظاهرة

التطوّر التاريخي

     المواطنيّة ليست تعبيرا جديدا كما أنها ليست مفهوما مستحدثا، فقد عرفتها وطبّقتها كل من روما وأثينا في العصور القديمة. لكن معناها وتطبيقاتها  آنذاك كانت مغايرة لما هي عليه اليوم. ففي أثينا اقتصرت المواطنيّة اليونانيّة على متجانسين يمكنهم التواجد معًا بشكل دائم، موحّدين ضمن المجتمع الواحد. أما النساء والعبيد والغرباء فقد حُرموا من مفاعيل هذه المواطنيّة ببعدها المدني المتعارف عليه آنذاك، فتمتّعوا فقط  بالمواطنيّة الاجتماعيّة من دون سواها. وكان المواطن اليوناني، في ذلك العصر، لا يخضع لرجل، أيّا كان، بل للقانون الذي أجاز له حق التمتّع بحقوق والتقيّد بواجبات حدّدتها مجموعة مختارة من المواطنين اليونانيين، من ذوي الشأن.

        أما في روما، فقد اقتصرت المواطنيّة الرومانيّة الحقيقيّة على قلّة كانت الوحيدة المؤهّلة لتبوّء المناصب الرسميّة المهمّة. وتميّزت عن مثيلتها في اليونان بتساهلها في إطلاق صفـة المواطنيّة على سكان المستعمرات. إلا أن هذا التساهل  ارتبط  بمدى التـزام هؤلاء "المواطنين" بواجباتهم وليس بحكم كونهم أعضاء في المدينة، غير ان تمتّعهم بهذه الصفة لم يخولهم من تبوّء المناصب الرومانيّة المهمّة التي اقتصرت على مجموعات صغيرة تمسك بالسلطة تحت إشراف الإمبراطور وتعمل بتوجيه منه. 

القرون الوسطى

      لم تعمّر " المواطنيّة " التي عرفتها ومارستها كل من روما وأثينا طويلاً. ففي القرون الوسطى حلّت الإقطاعيّة محلّ المواطنيّة في أوروبا بوجه عام. فكان بنتيجتها أن  تحددّت مواطنيّة الفرد على أساس انتمائه وولائه للإقطاعيّين كما للملك، أسياده وحماته، فجسّدت سلطة الملك آنذاك إرادة الله ومشيئته على الأرض، قراراته لا ترد، مالك كل شيء، البشر والحجر.

      هذه العبوديّة المقنّعة عمّرت طويلاً في أوروبا، وبات خلالها الإنسان - الفرد أسير القدر المكتوب له منذ الولادة، أي الخضوع لسيّده الإقطاعي أو للملك الذي يدير مملكته بما ومن فيها باسم الدين مصدر شرعيّته وقوّته. وقد عانى الناس هذه العبوديّة قرونا عدّة،ً أمضوها في خدمة أسيادهم، محرومين من أيّة حريّة أو كرامة إنسانيّة، يتمتّعون بفضيلة واحدة: الطّاعة والخضوع التي هي فضيلة العبد، كما يقول أفلاطون.

عصر النهضة في اوروبا

           شهد عصر النهضة  انبعاثا "للمواطنيّة"  بعد طول سبات، ساهمت في تحقيقه ظروف ومعطيات عدّة، من أبرزها:

  •  الديانة المسيحيّة التي أكّدت سواسيّة الناس أمام الله، فلا عبد بعد ولا سيّد.
  • المعاناة التي عاشها الناس، على مدى قرون، نتيجة الاضطهاد والاحتقار وعدم احترام ذاتهم الإنسانيّة، وهو ما أسهم في دعم التوجّهات التحرّريّة وتعزيزها.

   هذا الواقع المستجد أوجد مناخا من الاستقلاليّة الاجتماعيّة اتّسمت  بقدر من الحريّة أسهم في بروز شكل من أشكال المواطنيّة  يستبطن "حقوقا وواجبات". وقد شكّلت حقوق الإنسان وواجباته في هذه الحقبة، محور اهتمام عدد من المفكرين الذين أكدوا أن الخير العام يقوم على الخير الذي يصيب المواطن ويحفِّزّه على ارتضاء العبور من شخصا نيّته وفرديّته إلى رحاب الانتماء الاجتماعي. لكن هذا العبور مشروط بان يكفل له هذا الانتماء حقوقه ويحدّد واجباته كمواطن، إذ إن كلمة مواطن تعني العلاقة مع سائر المواطنين، وهذه العلاقة تستبطن واجبات، كما يقول المركيز دي كلارمونت ـ لوديف.

  وقد عزّزت هذا التوجّه الديموقراطي ممارسـات مستوحاة مـن أفكار عدد من المتنوّرين والأدباء في أوروبا أمثال "مونتيسكيو" الذي نادى بالفصـل بين "السلطات الثلاث" منعاً للتسلّط، و"جان جاك روسّو" الذي رأى أن سعادة الفرد هي هدف كل جماعة، وبأنّ الجماعة السياسيّة هي محصّلة عقد جماعي. كما شكّلت هذه التصوّرات والمساهمات أحد المرتكزات التي قامت عليها المواطنيّة المعاصرة  بتجليّاتها الديموقراطيّة في مراحل لاحقة، والتي رمت إلى كفالة الشخصيّة الفرديّة. فكان أن سقطت بنتيجتها شرعيّة الملك كأساس لضمان سعادة الفرد.

 فما هو الفهم المعاصر للمواطنيّة؟

القصر الجمهوري      مقر مجلس الوزراء

 قصر العدل            مجلس النواب

 

المواطنية المعاصرة

   إن الفهم المعاصر للمواطنيّة يتجاوز الحالة القانونيّة البحت، ليعني انخراط المواطن في مجتمع معيّن، بحيث يسهّل له هذا  الانتماء التمتّع بفوائد الحياة المجتمعيّة، على خلفيّة المشاركة الناشطة في مجالات التقيّد بالقوانين والأنظمة والانتخاب، والتمتّع بالحقوق الشخصيّة تجاه الدولة كما تجاه غيره من المواطنين، فضلا عن إشغال الوظائف العامّة. وبالتالي لم تعد  المواطنيّة اليوم كما كانت عليه بالأمس، لذلك من غير الجائز اعتبارها مفهوما مجردا أو وضعيّة جامدة ونهائيّة، محدّدة التفسيرات والمفاعيل، بل أصبحت وضعيّة منفتحة ومتحرّكة تجد أقصى كمالها وترجمتها في:  

  1. مشاركتنا كمواطنين، أفرادا وجماعات، في مختلف الأنشطة المتعلّقة بمصيرنا، مع ما تفرض هذه المشاركة من حقّ  لنا في الاطّلاع على المواضيع المطروحة والمتداولة في المجتمع الذي نعيش فيه أو ننتمي إليه، حيث يتقرّر مصيرنا. عندها يكون انخراطنا واعياً ومؤثّراً، فالانتماء إلى جماعة هو انتماء إلى الوطن هويّة ومشاركة .
  2. الوعي بان الانتماء السياسي هو الرابط الجامع بين المواطنين وكفيل حرياتهم. وبأن المواطنيّة  بمعناها الصحيح لا تقوم إلا على أساس الانتماء إلى مجموعات ونظم سياسيّة حيث الناس متساوون في الكرامة كما في التمتع بحقوقهم والقيام بواجباتهم، وتتوطّد علاقاتهم بعضهم ببعض على أساس المصلحة العامّة لا المصلحة الشخصيّة.
  3. الإدراك بأن الفهم الصحيح للمواطنيّة يقوم على وعي ماهيّة الجماعة بما هي توحّد حول مشروع شامل يقبل الآخر كما هو، ويتقبّل الحق في الاختلاف بالرأي كحق طبيعي من حقوق هذا الآخر، ويحوّل بالتالي إلى مواطنين أفراد المجتمعات المنغلقة أو المنكفئة ليسهموا في المواطنيّة بأبعادها الاجتماعيّة  والسياسيّة والإنسانيّة.
  4. فهم المواطنيّة بأنها لا يمكن أن تقتصر فقط على الأفراد الذين ينتمون إلى الوطن الواحد والدولة الواحدة، فذلك يفقدها معناها وبعدها الإنسانيّين. فمواطنيّة اليوم ليست منعزلة عما يجري في "القرية الكونية". بل هي على تماس وتواصل مع "مواطنيّة" أوسع واشمل، منفتحة على انتماء إنساني يأخذ في الاعتبار هويتنا الوطنية وينمّي وعينا وفهمنا لإنسانيّتنا ولقرابتنا مع الإنسان الآخر، بعيدا عن الفئويّة والعصبيّة والانغلاق.

ولكي يجد هذا الفهم للمواطنيّة المجال الملائم ليثمر وليعطي النتائج المرجوّة، فعلى الدولة القيام بما عليها من واجبات الرعاية والحماية، لجهة الاهتمام بالإنسان/المواطن والمحافظة على كرامته كونه قيمة في ذاته . فتعمد إلى توفيّر أمنه بمختلف عناوينه، وحريّته بمختلف معانيها وتجلياتها، وحاجاته الحياتيّة بمختلف أنواعها وأوجهها  بما يكفل كرامته كانسان وقيمته كفرد والتي عرّفها "جان جاك  روسّو" بأنّها أساس التعاقد الاجتماعي. لذلك يمكن القول وباختصار، إن مواطنيّة اليوم لم تعد تبعيّة لاقطاعيّ أو لملك. كما أنها ليست هبة أو عطيّة يخلعها  "والٍ "  أو "نافذ" على من والاه أو بايعه. بل هي انتماء إلى وطن ودولة يعيش فيها المواطن فعل الانتماء والمشاركة. شرط أن يكفل له هذا الانتماء حقوقه ويحدد واجباته، وذلك في إطار قوانين يخضع لها ويتقيد بها لأنه مشارك في وضعها.

        و لكن، هل إن المواطنيّة اليوم بمعناها ومفاعيلها، وفي ضوء تحديداتها وتجلياتها المعاصرة والمسؤوليات المترتبة بنتيجتها على الفرد والمجتمع والدولة تجسد أقصى أمانينا وطموحاتنا ؟ الجواب الطبيعي والمنطقي هو كلا. فالمواطنيّة  تختصر حاضرنا ومستقبلنا فهما وممارسة. فبقدر ما يكون التطور والانفتاح داخل الدولة والمجتمع  أو في ما بين الدول والشعوب أسرع واشمل، كلما تشعّبت الحقوق وتفرعّت الواجبات واصبح من الضروريّ والملحّ تطوير فهمنا للمواطنيّة  ليتناسب الفهم مع الواقع والممارسة. وحيث أنّ  التطوّر والتقدّم هما سنّة الحياة  فإن أيّ تعريف للمواطنيّة يبقى في إطار المؤقت. لذلك وجب علينا السعي، دولاً وأفرادًا، إلى  تطوير مفهوم المواطنية وترجماته العمليّة لتتلاءم مع سنّة التطوّر وحتميتها، كما مع  حاجات الناس وطموحاتهم وأمانيهم، شرط أن يظل  الإنسان هو الهدف والغاية. عندها تبلغ المواطنيّة كمال معناها حقيقة وواقعًا، وتصبح استحقاقًا لا هبة. فكمال إنسانيّتنا يتحقّق من خلال مشاركتنا الواعية والتزامنا الأكيد بصنع مستقبلنا، وبالتالي مستقبل البشرية جمعاء.

* المصادر والمراجع :

  • أنسيكلوبيديا أنكرتا - 2002 .
  • دومينيك شنابر وب. كريستيان - ما هي المواطنيّة ؟ منشورات دار غاليمار- باريس 2000.
  • كونستانت فريد - المواطنية - منشورات مون كريتيان - باريس 1998.
  • جريدة السفير - العدد 9184 - الجمعة 26/4/2002.
  • المرسوم 10227/97 تاريخ 8 ايار1997 (مناهج التعليم الهام واهدافها).
  • التربية الوطنية في العالم العربي- قضايا وإشكاليات- منشورات الشبكة العربية للتربية المدنية.