تأثير الإعلام وقيم الاستهلاك على المراهقين اللبنانيين
تأثير الإعلام و قيم الاستهلاك على المراهقين اللبنانيين
في سياق سيرورات العولمة ومع تطور تقنيا ت الإعلام وظهور انماط جديدة من الاستهلاك في المجتمع اللبناني عموما ولدى المراهقين خصوصاً، برزت الحاجة لدراسة أثر الإعلام في ظهور هذه الأنماط. وإذا كانت المدرسة بحسب "بورديو'' تعيد إنتاج القيم المجتمعية السائدة، فهل يقوم الإعلام بانتاج قيم جديدة؟ لذلك لا بد من معرفة نوعية الإعلام الذي يستحوذ على اهتمام المراهق اللبناني، ومدى تأثره بهذا الإعلام، وانعكاسه على سلوكه الاستهلاكي وعلى منظومة القيم وراء هذا السلوك.
تنتشر ظاهرة تقليد المغنيات (شكيرة) من قبل الفتيات وتقليد الرياضيين والمغنيين (آشر، رونالدو، مايكل شوماخرر) من قبل الفتيان، كما وتظهر أنماط عدة من الاستهلاك لم تكن مألوفة من قبل، ما يحتّم دراسة أثر الإعلام في إحداث هذه التغيرات في مجتمعنا بالرغم من انتقاد الراشدين لهذه الأنماط وعدم رضاهم عنها واتهامهم للمراهقين بالسطحية والاهتمام بالقشور وخروجهم عن نظام القيم السائدة في المجتمع.
كيف يؤثر الإعلام في قيم الاستهلا ك لدى المراهقين اللبنانيين؟
يتضمن موضوع البحث ثلاثة مفاهيم: الإعلام، قيم الاستهلاك والمراهق اللبناني.
الإعلام
يُعرّف الإعلام بأنه عملية نشر وتقديم المعلومات الصحيحة والحقائق الواضحة والأخبار الصادقة والموضوعات الدقيقة والوقائع المحددة والأفكار المنطقية والآراء الراجحة للجماهير مع ذكر مصادرها، وذلك عبر وسائل متعددة تدعى وسائل الإعلام. وتضم هذه الوسائل التي من خلالها يحصل المرء على المعلومات: التلفزيون، الإذاعات، الصحف، المجلات والإنترنت. ويبرز الإعلام في وقتنا الحاضر كأحد أهم عمليات عرض العناصر الثقافية الجديدة على المجتمعات والتي تسهم في انتشار الثقافات وبالتالي في عملية التغيير الثقافي. وسنعالج في هذا البحث مدى انتقال نماذج السلوك الاجتماعي وكيفية انتقاله وكذلك مدى انتقال الارتباطات التي تزود هذه النماذج بإمكاناتها الحقيقية لأداء وظائفها (لنتون) أي مدى النجاح في تقليد الأشكال الخارجية ونقل جوهرها الحقيقي.
قيم الاستهلا ك
يسترشد السلوك من دون أن يعي صاحبه بقواعد ومعايير تكون نموذجاً أو دليلاً مرشداً تقود وتوجه الفعل الاجتماعي (غي روشيه). وبما أن الاستهلا ك هو فعل اجتماعي فإن مجموعة القواعد أو المعايير التي تحكمه وتقوده هي التي تعطيه معنى، وهذه القواعد جمعية أي أنها مشتركة من قبل أعضاء أي جماعة ويخضع لها فعل الأشخاص وتكوّنِ قيم الجماعة التي ينتمي اليها الإنسان أو الفاعل الاجتماعي.
أمّا بالنسبة للقيم الاستهلاكية التقليدية السائدة فأبرزها: المحافظة والعلاقات القرابية القوية، وذلك على أساس أن الجماعة المرجعية الأولية للفرد هي العائلة التي يستمد منها قيمه ومعاييره. أما القيم الاستهلاكية التي تقوم وسائل الإعلام المختلفة بنشرها فهي قيم مختلفة جداً عن القيم التقليدية وأبرزها: التحرر والعلاقات التي لا تعتمد القرابة أساساً لها، وبذلك تصبح وسائل الإعلام هي الجماعة المرجعية الأولية للفرد يستمد منها قيمه ومعاييره.
المراهق اللبناني
تختلف فترة المراهقة من مجتمع الى آخر، وذلك تبعًا للمعايير التي يُصنّفَ على أساسها الفرد بأنه مراهق. فاذا أخذنا المعيار القانوني مثالاً، نرى أن قانون الخدمة العسكرية في لبنان يعتبر الفرد الذي أتمّ الثامنة عشرة هو فرد راشد وكذلك قانون السير الذي يسمح لمن أتمّ الثامنة عشرة بالحصول على رخصة قيادة، لكن قانون الانتخاب لا يسمح الا لمن أتمّ الواحدة والعشرين بالانتخاب أو الترشح لعضوية المجلس النيابي أو البلدي. أما بالنسبة لقانون الضمان الاجتماعي فيعتبر الفرد من مسؤولية والديه حتى سن الحادية و العشرين أو الخامسة والعشرين اذا ما كان يتابع دراسته.
وعلى هذا الأساس، تمّ اختيار الفترة العمرية الممتدة من سن الثالثة عشرة الى الثامنة عشرة باعتبار أنه في سن الثامنة عشرة ينتهي الطالب من دراسته الثانوية ليدخل مرحلة تعليمية جديدة.
الإشكالية
بينما يحرص المجتمع على إعادة إنتاج قيمه من خلال مؤسساته، (العائلة والمدرسة...) تظهر الرسالات الإعلامية المختلفة بأفكارها ومفاهيمها واتجاهاتها مخترقة فضاء المجتمع وتبث فيه ثقافات قد تكون بعيدة عن ثقافتنا المحلية. من هذا المنطلق برزت اشكالية البحث المتمثلة بما يأتي:
هل يتم انتاج قيم استهلاكية جديدة لدى المراهقين اللبنانيين بسبب ما تقدمه وسائل الاعلام؟ ما هي هذه القيم؟ وهل تشكل نموذجا جديدا بالقياس مع النموذج التقليدي؟ هل يتم تأثيرها من دون حواجز أو ممانعة؟ و إذا كان هنالك حواجز ما هي هذه الحواجز؟ هل يستطيع المجتمع أن يوفّقِ بين القيم الاستهلاكية الجديدة وبين قيمه التقليدية؟ وهل ينتج لدينا، نتيجة هذا التوفيق نموذجاً مهجناً متولداً من تكييف النموذج الغربي لمتطلبات المجتمع؟
الفرضيات
١- يتبنى المراهق اللبناني نموذجاً جديداً من الملبس وتصفيف الشعر وتزيين الجلد وهو نموذج مشابه الى حد كبير لذلك النموذج الذي يقدمه مذيعو ومذيعات التلفزيون ومغنو ومغنيات ''الفيديو كليب" وصور النجوم (الرياضة وسباق السيارات...) والفنانون والفنانات في الاعلانات بمختلف أنواعها والصحف والمجلات.
٢- يتخذ المراهق نموذجاً جديداً من أسلوب قضاء وقت الفراغ لم يكن مألوفاً من قبل، كتدخين النارجيلة في المقاهي أو قيادة السيارة بسرعة فائقة (التشفيط) أو الانتساب الى النوادي (كمال الاجسام، التنحيف...) أو استخدام الانترنت (chat) أو التحدث بالهاتف الخلوي مع الأصدقاء، أوالذهاب الى السينما برفقة الاصدقاء.
٣- هذا النموذج مختلف عن النموذج التقليدي السائد في مجتمعنا، وهو يُعتبر نموذجاً مهجناً متولداً عن تكييف النموذج الغربي لمتطلبات المجتمع وتبنّي هذا النموذج يتم بوجود ممانعة من قبل الأهل تؤدي الى قيام أزمة بين المراهق وأهله. وهو نموذج يبتعد تدريجياً عن قيم المحافظة والعلاقات القرابية القوية باتجاه قيم ''التحرر" وإقامة العلاقات خارج إطار القرابة.
٤- إن الرغبة في التمتع بالقبول الاجتماعي بين الأقران هي أحد أهم الدوافع لدى المراهق لاتخاذ هذا النموذج ألجديد.
٥- لم تعد الأسرة (العائلة) الجماعة المرجعية الأولى والوحيدة بالنسبة للمراهق، بل أصبحت وسائل الإعلام الشريك الأقوى في هذه المرجعية.
المناهج و التقنيات
١- المنهج: هو منهج تعددي قوامه: الاستقراء والتحليل والإحصاء. فقد تم تقسيم الموضوع الى قسمين، يضم القسم الاول الإطار النظري، الذي يعرض أهم النظريات السوسيولوجية في الإعلام والقيم والفعل الاجتماعي والمراهقة. أما القسم الثاني، فيضم الإطار الميداني الذي يعرض نتائج العمل الميداني عبر عرض الكيفية التي تنتشر فيها أنماط السلوك المعممة من خلال الإعلام وأنماط التجاوب وحدوده بين الشباب مع أنماط السلوك المعمّمة، وكذلك النموذج الجديد وقيمه.
وقد أنجز هذا العمل بالاعتماد على منهج تعددي، أي باستخدام الاستقراء والتحليل والإحصاء وذلك عبر مجموعة من العمليات الذهنية والعملية المرتبطة لكشف وجه من وجوه المعرفة الاجتماعية، الا وهو مدى تأثير الإعلام على قيم الاستهلاك لدى المراهق.
٢- التقنيات: وقوامها الملاحظة، المقابلة، المسح بالعيّنة، الاستمارة، تحليل المضمون والتحليل الإحصائي.
- الملاحظة: هي النشاط الأساسي الذي اعتمد عليه البحث، بدءاً من مرحلة التعرف إلى الموضوع وصولاً إلى مرحلة التعمّق فيه. فكانت في البدء ملاحظة عفوية ثم أصبحت معمّقة ونعني بذلك الانتباه المقصود المنظم للظواهر بغية جمع المعطيات التي نحتاجها للتعمّق في موضوع البحث.
- المقابلة: استخدمت تقنية المقابلة خلال مرحلة التعرّف إلى الموضوع وفي مرحلة جمع المعطيات، وذلك لأنها وسيلة فعّالة في جمع المعلومات المتعلقة بآراء الأفراد ومقاصدهم واتجاهاتهم ومواقفهم.
- المسح بالعيّنة: لقد تم استخدام تقنية المسح بالعيّنة ، وذلك من أجل جمع المعلومات والبيانات ميدانيّاً من عينة من الفئة العمرية الممتدة من ١٣ سنة الى ١٨ سنة، من تلاميذ الصفين الثامن والتاسع (مرحلة التعليم الأساسي) وصفوف الأول والثاني والثالث (مرحلة التعليم الثانوي) من جميع ثانويات المنطقة (إقليم الخروب) التي يبلغ عددها عشرون ثانوية. وبما أن متوسط عدد التلاميذ في كل صف من هذه الصفوف الخمسة هو ٢٠ تلميذاً (العدد الأدنى١٠ والأقصى٣٠)، فقد قدرت عدد تلاميذ الثانويات في هذه المرحلة بـ٢٠٠٠ تلميذ (٢٠×٥ = ١٠٠ ١٠٠ ×٢٠=٢٠٠٠). وأخذت عيّنة تشكّل ١٠٪ من مجموع التلاميذ، باعتبارها عينة مقبولة وممثّلِة، بالطريقة الطبقية والعشوائية. فاخترت أنثى وذكراً بشكل عشوائي من كل صف من الصفوف في كل ثانوية، بحيث أصبح لدي ١٠ تلاميذ من كل ثانوية. أي أن العدد النهائي أصبح ٢٠٠ طالبٍ (١٠٠إناث و ١٠٠ ذكور).
- الاستمارة: تضمّنَت الاستمارة ثلاثة محاور: محور البطاقة الشخصية، محور الاعلام، محور الاستهلاك. وقد تضّمن محور البطاقة الشخصية أسئلة حول العمر والجنس والمدخول الخاص. وتضمن محور الإعلام أسئلة حول قراءة الصحف والمجلات وانواع المواضيع التي تتمّ قراءتها، وحول مشاهدة التلفزيون وأنواع البرامج التي تتمّ مشاهدتها، وحول الاستماع إلى إلاذاعة وأنواع البرامج الإذاعية التي يتمّ الاستماع اليها، وحول الدخول الى الإنترنت وأنواع المواقع التي يتم الدخول إليها. أما محور الاستهلاك فقد تضمن أسئلة حول مدى استخدام الخلوي والغرض من استخدامه، الانتساب إلى النوادي والهدف من ذلك، تدخين النرجيلة ومكان تدخينها، مدى الخروج الى السينما وبرفقة من، ومصدر استيحاء موديل الشعر، ومصدر استيحاء موضة الثياب، رسم الـ Tattoo ومصدر استيحائه، مدى الذهاب إلى المقاهي وبرفقة من، وقيادة السيارة والغرض من ذلك، ومدى معارضة الأهل لكل هذه النماذج الاستهلاكية لدى المراهق.
- تحليل المضمون والتحليل الإحصائي، هي تقنية استُخدمت في تحليل البيانات التي تم جمعها بعد إجراء المقابلات التي استخدمت فيها الاستمارة، والتي من خلالها توصلنا إلى النتائج التي وُضِعت في الفصل الثالث من الباب الثاني من الدراسة، ''النموذج الجديد وقيمه".
الحيّز الجغرافي
- إقليم الخروب: وهو منطقة في قضاء الشوف من محافظة جبل لبنان، واقعة بين الشوف الأعلى والجبل وبيروت من ناحية، وبين محافظة الجنوب وصيدا من الناحية الاخرى. تبلغ مساحته ١٦٧٠٠ هكتار، أي ما يعادل ثلث مساحة قضاء الشوف و ١,٦ ٪ من مساحة لبنان. يبلغ عدد القرى فيه بحسب المراسيم الاشتراعية ٥١ قرية، إلاّ أن القرى المأهولة فعلاً هي ٣٩ قرية وبلدة. يبلغ عدد سكان الإقليم حوالى ٩٥٧٣٧ نسمة، إلاّ أن قسمًا كبيراً منهم يسكنون العاصمة خصوصًا في فصل الشتاء، وذلك إما بسبب العمل أو الدراسة. ويطغى على مجتمع هذه المنطقة الطابع القروي، التقليدي. وسنبيّن من خلال هذه الدراسة مدى مساهمة الإعلام في تغيير هذا الطابع، وخصوصًا لدى المراهقين في إلاقليم.
الحيّز الزماني: أواخر العام ٢٠٠٤- أواخر العام ٢٠٠٥.
النموذج الجديد و قيمه
يتّضح لنا من خلال هذه النتائج الميدانية أن ملامح أساسية لنماذج سلوكيات جديدة قد بدأت بالتكوّن لدى المراهق، تمّ انتقالها من ثقافات أخرى عبر وسائل الإعلام من صحف وتلفزيون وإذاعات ومواقع الإنترنت. لكن هذه النماذج لم تنتقل كما هي، بل أصابتها بعض التعديلات (رسم الـ ''Tattoo'' بالحنّة وليس بالإبرة)، وذلك تكيّفاً مع تشدّد الأهل وممانعتهم لهذه النماذج التي تعتبر غريبة وخارجة عن المألوف. وكذلك فإن انتقال هذه النماذج لم يكن مرتبطاً بإمكاناتها الحقيقية لأداء وظائفها، أي أنه كان هناك نجاح في تقليد الأشكال الخارجية من دون نقل دقيق لجوهرها الحقيقي (حيازة الفتاة لأصدقاء عبر الإنترنت من الجنسين، إلاّ انها تلقى معارضة من الأهل لاستخدام الخلوي أو لخروجها إلى السينما مع أصدقاء من الجنس الآخر).
إنها نماذج جديدة بالقياس مع النموذج التقليدي، ويقوم الأهل بممانعة الأشكال التي يرون أنها تتخطى حدود المحافظة بشكلها التقليدي والمتوارث. إلاّ أن المراهق، بشكل عام، يفصل بين الأشكال الخارجية وجوهرها أو معناها، ويحاول أن يُصبغ على الأشكال معانٍ أخرى تلائم تكيفه مع المحيط أو بالأحرى مع الأهل، مقنعاً في ذلك نفسه في الدرجة الأولى وأهله في الدرجة الثانية. وهوأيضاً يطرح التساؤلات حول مدى جدوى النماذج التقليدية، فلا يفقه وظائف هذه الأشكال أو يشكك في حسن قيامها بهذه الوظائف. لهذا فهو يقبل ببدائل تطرحها مؤسسات أخرى كمؤسسات الإعلام، التي هي بنظره أكثر ابهاراً وتلبية لرغباته وغرائزه المكنونة بعكس المؤسسات الأخرى المسؤولة عن تنشئته الاجتماعية (الأسرة والمدرسة).
فالنموذج التقليدي لسلوك الفرد في مجتمعاتنا الشرقية تحكمه قيم ومعايير مختلفة عن تلك التي تحكم النموذج الذي يُنشر في وسائل الإعلام المختلفة، وخصوصاً تلك التي تلقى رواجاً بنسبة كبيرة بين المراهقين (الفيديو كليبات، وأفلام ال''Action''). فالقيم التقليدية السائدة والمتوارثة هي: المحافظة والعلاقات القرابية القوية. أما القيم التي تروّجِ لها وسائل الاعلام فهي: التحرر والعلاقات التي لا تعتمد القرابة أساساً لها، وهو ما يتلاءم مع القيمة الأساسية التي تعتمدها وهي قيمة الترويج لسلع استهلاكية محددة، نظراً لما رأيناه من ارتباط وثيق بين مؤسسات الإعلام ومؤسسات الإعلان في العالم أجمع.
فاذا كانت القيم التقليدية تحفظ تماسك المجتمع واستمرار وجوده وتحافظ على أمنه واستقراره، شأنها في ذلك شأن القوانين التي تحفظ أمن واستقرار الوطن. فإن القيم التي يروّجِ لها الإعلام تحفظ أمن واستقرار شركات الإعلان. لهذا رأينا أن المراهق الذي يتعرض إلى وابل من الإعلانات والاستعراضات ممّاَ تنتجه شركات الإعلان، قد تبنى نموذجًا جديدًا من الملبس وتصفيف الشعر وتزيين الجلد (Tattoo)، وهو نموذج مشابه، اذا لم يكن مطابقاً، لذلك الذي يقدمه مغنو ومغنيات ''الفيديوكليب" ونجوم الرياضة وأبطال الأفلام.
وكذلك فإن أسلوب قضاء وقت الفراغ لم يعد شكلاً تقليديّاً أو حتى مألوفاً من قبل، فالمراهق أصبح يدخن النرجيلة في البيت أو في المقهى، في السر أو في العلن، بالرغم من معارضة الأهل الشديدة. وهذا أمر لم يكن مألوفاً منذ فترة ليست ببعيدة. وأيضا بالنسبة للانتساب إلى النوادي، بالرغم من أن هذا الامر يلقى معارضة من الأهل بالنسبة للإناث فقط، وكذلك الأمر قضاء الوقت بالتحادث مع الأصدقاء على الخلوي أو قيادة السيارة بهدف التسلية أو زيارة مواقع ال ''تشات" على الإنترنت. هذا كله يؤدي الى اتساع دائرة الصداقة خصوصًا لدى الفتيات، وهو ما يتعارض مع قيمتي المحافظة (بمفهومها التقليدي) وإقامة العلاقات ضمن دائرة القرابة (خصوصًا بين الفتيات من جهة والذكور من جهة أخرى).
وعلى ما يبدو فإن اتباع المراهق لهذا النموذج الذي تروّجِ له وسائل الإعلام، ليس نابعاً من انبهاره بها فقط، بل أيضاً بالشخصيات التي تقدمها وبكل أنواع سلوكياتها الاستهلاكية وما تحمله من قيم، ولرغبته في الحصول على الاعتراف أو القبول الاجتماعي بين اقرانه المبهورين.
نستنتج إذاً أن الأسرة لم تعد الجماعة المرجعية الأولى التي يستقي منها المراهق قيمه ومثله، والأهم من ذلك مثاله الأعلى الذي يقتدي به في تكوين شخصيته، بل أصبحت الفنانة أوالفنان أو الرياضي، بكل ما يمثّل وما يقدم من قيم ومعايير وآراء المثل الأعلى الذي يحتذى في مختلف أنواع السلوكيات الاستهلاكية. وعسى أن يبقى هذا الامر على صعيد الاستهلاك فقط ولا يدنو من المجال الانتاجي، عندها سيصبح جميع شباننا وفتياتنا فنانين وفنانات، وربما هذا ما بدأ يحصل فعليًا في مجتمعنا.
يشير كل ذلك الى أن هنالك أزمة متفاقمة لدى المراهق. فهو، وفي ظل الظروف الطبيعية، يعيش أزمة التكيف مع المحيط بانتقاله من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة وما يتطلّبه منه المجتمع في هذه المرحلة كونه أصبح على عتبة النضوج، فكيف به في ظل ظروف غير طبيعية ومؤثرات خارجية تضاف إلى مشاكله الطبيعية. فهو باختصار حائر، ضائع بين نموذجين، تقليدي محافظ، وآخر جديد متحرر.
فهل لدينا كأهل ومربّين، في البيت أو في المدرسة، الإمكانات اللازمة لمعالجة هذه الأزمة الثقافية والنفسية التي يرزح تحتها جيلنا الصاعد، تحسبًا لما قد يحمله المستقبل لنا ولأولادنا. فمرحلة المراهقة هي فترة انتقالية يتوق المراهق خلالها إلى الاستقلال عن أسرته والى أن يصبح شخصًا مستقلاً يكفي ذاته بذاته. ومن أهم مشاكل المراهقة هي حاجة المراهق للتحرر من قيود الأسرة والشعور بالاستقلال الذاتي. وهذه المشكلة هى السبب الرئيسي في معظم الصراعات التي تحدث بين المراهق وأسرته، ومن أمثلة تلك الصراعات، الصراع على حرية اختيار الأصدقاء، وطريقة صرف النقود أو المصروف، ومواعيد الرجوع إلى المنزل في المساء، وطريقة اختيار الملابس وقص الشعر، واستعمال سيارة الأسرة فى سن مبكرة من دون الحصول على رخصة القيادة، وأمور أخرى. وتدل الكثير من الدراسات والابحاث التي أجريت حول مشكلات المراهقة ومعاناة الشباب أن أكثرهم يعانون من فجوة الأجيال التي تتسع تدريجياً والتي يزداد اتساعها يوماً بعد يوم خصوصًا مع تأثير وسائل الإعلام، بين ما يقومون به من أعمال وبين توقعات آبائهم في ما يجب أن يمارسوه بما يتفق مع معاييرهم الأسرية.
إن فترة المراهقة هى من أصعب المراحل التي يمر فيها الفرد لأنه قد يتخبط بين محنة وأخرى أثناء محاولته تحديد هويته وتأكيد ذاته بين المحيطين به والمخالطين له، ولا سيما أعضاء أسرته الذين قد يخطئون في تفسير خصائص نموه العضوي والانفعالي والاجتماعي، وقد يلجأ أفراد الأسرة إلى أساليب غير تربوية في رعاية المراهق الذي ينشأ بينهم حيث يعمدون إلى النقد واللوم أو التوبيخ، أو التهديد والوعيد بسبب السلوكيات التي تبدر منه ولا ترضيهم، من دون أن يحاول أي منهم مساعدته على تعديلها أو تبديلها بما هو أفضل منها، ما يتسبب في النيل من كرامته وجرح مشاعره وطمس معالم هويته، لذلك يجد المراهق سلوكياته مرفوضة دائماً من الآباء، بينما يجد سلوكيات أقرانه المماثلة لها مقبولة في رؤية الرفاق، ما يجعله يميل إليهم من أجل اكتساب الاعتراف بذاته في إطار جماعتهم .
صورة المرأة
تصنّفَ صورة المرأة في الإعلانات تصنيفاً ينقسم إلى أربعة نماذج هي: المرأة التقليدية، والمرأة الجسد، والمرأة الشيء، والمرأة السطحية. هذه النماذج الأربعة تعمل على تشويه صورة المرأة وتنتقص من قيمتها كإنسان فاعل له دور في الحياة غير الدور الترويجي، كما تسهم في تعزيز النزعة الاستهلاكية لديها على حساب الروح الإنتاجية الواجب أن تسود عقل المرأة ووجدانها وتحكم سلوكياتها، وتقدم هذه النماذج قدوة سيئة للمراهقات في المجتمع وتكرس مفاهيم خاطئة عن الأعمال المميزة التي يمكن أن تمارسها المرأة وتكسب من ورائها المال الكثير خصوصاً أن العاملات في الإعلان يحققن ثروات طائلة من هذا العمل. وذلك بالرغم من كون المجتمعات العربية ما زالت مجتمعات ذكورية تمنع على المرأة ممارسة أعمال بعينها وتراها الطرف الضعيف الذي يحتاج إلى حماية ورعاية من الرجل الزوج أو الأب الذي يحدد مساحة مشاركة المرأة في الحياة العامة. فالمجتمعات الذكورية تنظر إلى مسألة أمن المرأة باعتباره مسؤولية الرجل رغم أن الواقع يؤكد أن أمن المجتمع كله مسؤولية الطرفين.
قيم المراهق والتغيير الاجتماعي
وكما نعلم فان قيم المراهق وجيل الشباب وتصرفاته ليست مجرد نتاج لملامح عضوية أو نفسية، ولكنها بالإضافة إلى ذلك محصلة لعمل قوى موضوعية عديدة أخرى. فالمجتمعات العربية لم تبدأ اتصالها بالعصر الحديث حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وحتى منتصف القرن العشرين. ثم إن عملية التحديث بدأت متأخرة لدى العديد من هذه المجتمعات، التي لم تتسنّ لها فرصة الإفادة من الثورة العلمية والتكنولوجية التي حققتها الدول المتقدمة من دون أن تعاني ما عانته هذه الدول. وبينما كانت معدلات التغيير الاجتماعي الهادئة أو المعتدلة حتى منتصف القرن العشرين تسمح بدرجة من الاستمرار بين الأجيال، يتلقى اللاحق منها عن السابق التراث من دون عناء كبير، ويتوصل إلى أساليب توافق وتكيف جديدة بشيء قليل من الألم، وينتهي إلى إعادة تنظيم من دون الكثير من المعاناة. أما الآن، فإن التغيير الاجتماعي بسرعته الفائقة وشموله وعمقه يأتي دائمًا بأوضاع ليست لها سوابق ما يجعل التكيف معها أو إعادة التنظيم في ما بينها أمرًا يكاد يكون مستحيلاً. وبعد أن فقدت الخبرة الماضية جزءاً كبيرًا من قيمتها وفعاليتها، أصبح الكثير من وسائط التنشئة الاجتماعية في غير اتساق مع العصر، بحيث أنها لا تستطيع ان تقدم تفسيرًا مقنعًا للواقع المتغير، ولا أن تفيد في التعامل معه. ومن هنا تفقد الكثير من قيمتها وهيبتها في نظر الشباب. فثورة العلم والتكنولوجيا وخصوصًا في مجالي المواصلات والاتصالات تهز الكثير من الافكار وأساليب السلوك التي ينشأ عليها الشباب، وخصوصًا في المجالات التي تبدو فيها الهوة واسعة وعميقة بين القيم والأفكار والتصرفات التقليدية من جهة وبين نبض العصر من جهة أخرى. فتوزيع الأدوار وتحديد القيمة الاجتماعية لم يعد يقوم على أساس السن أو القرابة، بل على معايير أخرى كالتعليم والمهارات المتخصصة. وبعد أن أصبح دور الانسان في العديد من العمليات الإنتاجية والخدماتية دور التحكم والضبط لأجهزة تعمل ذاتياً، فقد زالت الحواجز التي تمنع تخطي سن الشباب وبلوغ مرحلة الهرم، وتحمل المسؤوليات الاجتماعية المهمة، إذ لم تعد القوة العضلية أهم متطلبات الأداء الكفؤ للعمل المنتج.
وهكذا فان الشباب العربي، وبصفة خاصة المراهقين، يعيش في مناخ من "الأَنومي'' (Anomie)، حيث ضعف القيم التي استقرت طويلاً حتى لتمتلئ الحياة بالمتناقضات، وخصوصاً انساق القيم بين الاجيال المختلفة وتناقض الحياة اليومية مع نسق القيم والمعايير الى حد أن يتعذر الاتفاق على شيء مشترك يلتزم به الجميع. في مثل هذه الظروف، يواجه الشاب أزمة، لكون اهدافه وقيمه وتصرفاته التي يعتبرها صحيحة وأخلاقية ومشروعة، غير متفقة مع ما سار عليه المجتمع في الماضي. وتصبح الأزمة أكثر تعقيداً حين يواجه الشاب ضرورة الاختيار من بين بدائل عدة.
ومن ناحية ثانية لا يبقى للخبرة القديمة المتراكمة مع تقدّم السن الفائدة أو السُلطة أو المهابة التي كانت لها قديماً، ومن ثم يفقد الكبار (الآباء والمربون وغيرهم) الهيبة التي كانوا يكتسبونها بمجرد التقدم في السن. فتفقد وسائل التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمدرسة جزءاً كبيراً من فاعليتها وهيبتها نظرًا لتعرض ما تنادي به من قيَم، وما تقبل به من سلوك. إن أزمة جيل الشباب تضرب بجذورها بعيداً في أعماق بقية المجتمع: نسق القيم والعلاقات الاجتماعية ونظم ألأسرة والتعليم وغيرها من الأنظمة الاجتماعية الأخرى.
فبينما قامت الحركية المادية في الغرب بإنتاج الحركية الاجتماعية، كما يقول دانييل ليرنر، وحيث نمت بالتدريج مؤسسات مناسبة لهذه العملية، وبالتالي نظام للقيم يحتضن التغيير الاجتماعي باعتباره أمرًا طبيعيّاً، لم يحصل الأمر لدى مجتمعاتنا على هذا النحو. فالحركية المادية هي نتاج لشخصية حركية، تتميز بقدرة عالية على التقمّص الوجداني أي القدرة على رؤية الذات في وضع الشخص الآخر وهو مهارة لا غنىً عنها للأشخاص المتحركين خارج المحيط التقليدي.
ويشير"ليرن" إلى أن الإذاعة والسينما والتلفزيون قد أوصلت التطور الذي انطلق به غوتنبرغ إلى القمة، ومنحت وسائل الإعلام لجماهير هائلة من البشر الكون البديل اللامحدود. فبواسطة تبسيط الإدراك، كانت وسائل الإعلام معلمًا عظيمًا للمعالجات الداخلية. فقد قامت بتنظيم الرجل الغربي في تلك المهارات القائمة على التقمص الوجداني التي تنطق بالحداثة، وصورت له القوانين التي من الممكن ان يواجهها ومثلت له الآراء التي قد يحتاجها لتتضح له. واليوم يقوم انتشارها المستمر بدور مشابه على الصعيد العالمي، الاّ أن دور وسائل الإعلام بنشر''الحركية النفسية" يتم بفعالية أكبر بين الشعوب التي انجزت الشروط السابقة للحركية الاجتماعية والجغرافية(١). فما الذي يحدث لدى الشعوب التي لم تنجز ذلك؟.
المراجع:
١- Roberts, J.T. & Hite, A, From Modernization to Globalization: Perspectives on Development and Social Change, Blackwell Publishers, U.S.A.., 2000
٢- (.Chomsky, N. & Herman, E., La farique de l'opinion publique,ED. Le srpent a plume, Paris, 2003. (Translated to English by Guy Ducornet
٣- Mattel Art, A., Mass Media, Ideologies, and the Revolutionary Movement, Harvester, Sussex, 1980
٤- Schiller, Herert, I., Communication and Culture Domination, New york, Kelly, 1969
٥- تومبسون، ميشيل، واليس، ريتشارد، وفيلدافسكي، أرون: ''نظريّة الثّقافة''، ترجمة د. علي سيّد الصّاوي، عالم المعرفة، العدد ٢٢٣ يوليو ١٩٩٧.
٦- شاوول، ملحم: ''نشأة ودور هيبر ماركت للصورة التّلفزيونيّة في العالم العربي": في الفضاء العربي - مجموعة مؤلّفين بإشراف فرانك مرمييه، ترجمة د. فردريك معتوق، قدمس للنشر والتّوزيع، ٢٠٠٣.
٧- شيللر، هربرت: المتلاعبون بالعقول، ترجمة عبد السّلام رضوان، عالم المعرفة، العدد ٢٤٣ مارس ١٩٩٩.