مضمون المناهج التربوية الجديدة في جميع موادها وارتباطها بالواقع ٢
استعرضنا في العدد ٢٧ السابق استراتيجية تحقيق أهداف المناهج التعليمية وغاياتها في مراحل التعليم العام، وكيفية توليف مواد هذه المناهج وأطرها وطرائق تدريسها وتقنيّاَته ليكون القارئ، منذ بداية هذه الحلقات في "المجلة التربوية" على بيّنِة من أن المتعلم هو محور العملية التعليمية/التعلّمية، وأن تنوعّ المواد المنهجية وتوزّعها بشكل منسق ومترابط فيما بينها، على الحلقات التعليمية كافة، كل حلقة تعليمية من ثلاث سنوات، يكسبان المتعلّم، تدريجيًا، الكفايات والمهارات المحددة مسبقًا ويُعمقها وفق طاقاته الذهنية وقدراته على القيام بها فعليًا في محيطه وبيئته، كما استعرضنا مواد الاجتماع والاقتصاد والتكنولوجيا، المستحدثة في المناهج الجديدة، وما طرحته من موضوعات شديدة الصلة بالحياة ومن اشكاليات تلامس الواقع اليومي المعيوش. وفي هذا العدد، سنتعرض إلى نماذج من محتوى مواد اللغات (العربية، الفرنسية، الإنكليزية) وإلى نماذج من مادة العلوم (فيزياء، كيمياء وأحياء) ونتلمس مما حوته الكتب المدرسية العائدة لهذه المواد والمجسدة لمضمون مناهجها، مدى تنميتها للقدرات الفكرية والمعرفية لدى المتعلم، ولتكوينه الآراء واتخاذ المواقف والتعلّم الذاتي بالنشاط والمطالعة والبحث، ولتذوقه الجمال وإنماء الحس النقدي والقيم الإنسانية، إلى جانب الملاحظة والمقارنة في العلوم على وجه الخصوص والتمييز والتصنيف والاستنتاج، وإلى التجربة والاختبار والروح العلميّة، فضلاً عن كيفية المحافظة على السلامة الشخصية والصحية وعلى البيئة الطبيعية. |
اللغة وعاء الفكر وناقلته:
ففي مواد اللغات، واستطرادًا آدابها، سواء أكانت عربية أم فرنسية أم إنكليزية، فهي تنطلق من مبدأ أساسي وهو أن اللغة وعاء الفكر وناقلته. وعليه فإن تعلّمُها، قراءة ومحادثة وتحليلاً وتعبيرًا، يوظف قدرات المتعلم ومهاراته في علاقاته بالغير والتواصل معه والتمرُّس بها في نص أدبي أصيل أو نص نقدي من الأدب العربي أو الآداب العالمية، ينمي الحاسة الفنية عند المتعلم، ويغني استعداداته النقدية المعللة والواضحة. وإن احتاج المتعلم إليها في حياته كانت مالاً، وإن استغنى عنها كانت جمالاً، كما قال زياد ابن عبد الملك.
فالكتب المدرسية المعتمدة ودفاتر التمارين المجسدة للمناهج الجديدة العائدة لمواد اللغات وآدابها تتناول نصوصًا أدبية وتواصلية ضمن الأطر المذكورة أعلاه، سهلة وواضحة، بعيدة عن التعقيد الفكري والتقعّر اللغوي، مستمدة من محيط المتعلم وبيئته ومن الثقافة الأدبية العربية
والأجنبية. بحيث تنمي قدراته الفكرية والسلوكية، وتعزّز لديه القيم الروحية والأخلاقية والوطنية، وتعمل على انماء ذوقه الفني وحسه الجمالي وتوجه اطلالته على نماذج من روائع الأدب العالمي، وتزوده بحس نقدي بعيدًا عن الانحياز، فيغتني محصوله الثقافي ويتعزز ميله إلى المطالعة الهادئة.
أمّا من الناحية التقنية وأسسها المعتمدة لتنسيق الموضوعات وعرضها بشكل تدرجي وفي محاور متنوعة في كل مرحلة أو حلقة، فقد اكسب النصوص ثروة تغذى بها مكتسبات المتعلم اللغوية وتدرجه الفكري، من السهل إلى الأقل سهولة، مع مراعاة التوازن بين وظيفتي اللغة التواصلية الإبلاغية والإبداعية الفنية والالتفات إلى القواعدالوظيفية في النصوص والتعبير وعدم الاكتفاء بالموضوع الإنشائي وتجاوزه إلى التمرس بتقنيات التعبير الشفهي والكتابي. هذا وتتقاطع أو تتكامل موضوعات النصوص مع بعض الموضوعات في مواد أخرى كالاجتماعيات والعلوم والتكنولوجيا تأكيدًا لأهميتها في الحياة دون اصطناع أو تصنّع ومن أجل تكوين الرأي واتخاذ الموقف السليم منه.
وليس أدلّ على ذلك من قراءتنا لمحاور كتاب السنة الرابعة من التعليم الأساسي ونصوصه. إذ نجد معالجة لموضوعات في الرحلات والمغامرات والتكنولوجيا والمهن والحرف، وفي عالم الحيوان والصحة والبيئة، وموضوعات حول القرية والمدينة والوطن والأخلاق والقيم والمشاهير في الأدب والفنون الجميلة.
هذا إلى جانب قراءة اللوحات الفنية والصور والرسوم التي تلون صفحات الكتاب، كوثيقة من الوثائق وليس كأداة زينة، فضلاً عن كيفية استعمال المعجم رغبة في الكشف عن الكلمات الصعبة ومعرفة معناها الصحيح وإدراك مفهومها وهي خطوةٌ أساسيةٌ نحو البحث.
العلوم تفسير للواقع المعيوش
أما بالنسبة لمادة العلوم وارتباطها بالواقع، فإن هذه المادة، بطبيعتها الفيزيائية والكيميائية وعلوم الأحياء، هي الحياة المادية نفسها، هي كل كائن حي، وكل شيء يحيط بهذا الكائن، سواء أكان جمادًا أم ساكنًا أم متحركًا.
لا أظن أن هناك مادة تعليمية، بماهيتها وقوانينها المستمدة من الطبيعة، على صلة بالواقع والحياة أكثر من مادة العلوم، ولكن السؤال التقني يبقى مطروحًا وهو: هل جعلت المناهج الجديدة مادة العلوم أكثر التصاقًا بالواقع اليومي المعيوش وأكثر تمثيلاً للقضايا العلمية المعاصرة، أم أنها ما زالت في القالب التقليدي القديم تنقصها مواكبة التقدم العلمي وما انجزته دوريًا البحوث العلمية المتطورة؟
إن كل من يطلع على المناهج الجديدة لمادة العلوم وعلى محتوى الكتب المدرسية المجسّدة لها شكلاً ومضمونًا، وعلى التمارين والتطبيقات العملية للنظريات العلمية الواردة فيها، يلاحظ، بكل تأكيد، التجديد الحاصل في هذه المادة ويلمس لمس اليد مدى معالجتها إلى جانب الموضوعات التقليدية الأساسية، لموضوعات باتت اليوم شغل العالم الشاغل، وهمًّا من هموم الناس المستمرة كالتلوث وآثاره البيئية والصحية، الأمراض المزمنة والسيدا، عالم الجينات والجراثيم، قضية الغذاء المعلّب والمشروبات وانعكاسات ذلك صحيًا. المبيدات وتأثيرها البيئي والصحي، موضوع الطاقة والمياه، الاتصالات والأقمار الصناعية وسواها من الموضوعات والمواد التي شاع استعمالها في عصرنا الحاضر كالمستحضرات الطبية والتجميلية والعطورات، إلى جانب المساحيق وسوائل التنظيف والدهانات على أنواعها، والمسائل النووية والعلاجات الكيميائية ونحوها من الموضوعات التي بات لها الأهمية الحياتية وروجت لها وسائل الإعلام والإعلان المختلفة.
جميع هذه العلوم نجدها في المناهج الجديدة. وقد طورتها وسائل التكنولوجيا الحديثة وجعلتها أوسع انتشارًا وأكثر اهتمامًا من قبل المجتمعات المتقدمة منها والنامية أو في طور النمو على السواء. كما جعلتها مادة خصبة لفنون الإعلان، لتصل إلى أيّ فرد قبل أيّ منهج، وليستعملها أيّ مجتمع قبل أن يتعلمها في كتاب.
لا شك أن الموضوعات التي تتناولها مادة العلوم وتعالجها تكسب المتعلّم بحلتها الجديدة، فضلاً عن التقليدية (الكلاسيكية)، معرفة علمية عصرية، وتعطيه الأسس السليمة لترشيد سلوكه تجاهها وتجاه نفسه ومحيطه وبيئته، ولتجعله قادرًا على ترشيد غيره.
في العدد القادم، سنستكمل عرض مضامين المناهج التربوية الجديدة في المواد الإجرائية ومادة الرياضيات وارتباط هذه المواد بالواقع، ونستدرك ما فاتنا ذكره سابقاً عن صلة المواد المنهجية الأخرى بالحياة اليومية...
المركز التربوي للبحوث والإنماء
رئيس مكتب التجهيزات والوسائل التربوية سابقاً
د. أسعد يونس