مضمون المناهج التربوية الجديدة وارتباطها بالواقع ١
مضمون المناهج التربوية الجديدة
وارتباطها بالواقع (١)
شكّلت المناهج التعليميّة الجديدة المحطة الثالثة في عملية النهوض التربوي بعدما أقر مجلس الوزراء الخطة التربوية والهيكليّة الجديدة عامي ١٩٩٤ و ١٩٩٥.
كما شكّل المفهوم الحديث للمناهج التعليميّة (Curriculum) (هدف، محتوى، طريقة تدريس وأسلوب تقييم) أساساً لصياغة أهدافها وغاياتها، ومنهجيّة عمليّة لاستراتيجيّتها التعليميّة، الشاملة والمتكاملة المتمثّلة بالتربية التكوينية(١). ذلك من أجل فتح الآفاق أمام المتعلّم على عالم الحياة الزمنيّة ولإزالة الغربة التي كانت سائدة بين المدارس ومحيطها مع ما يؤثّر في كليهما من تطورات عصريّة وتكنولوجيّة، وبين المادة التعليميّة والنشاطات الإجتماعّية والإنمائية. فيغرس في نفوس المعلّمين والمتعلّمين مفهوم التعلّم بدل مفهوم التلقين والتلقّي، وتتنامى عند المتعلّمين الكفايات والمهارات ويصبحون قادرين على التحرّر من أزمة الحصول على الشهادة الرسميّة، ومستوعبين لميزة الحصول على المعرفة والمهارة وممارسة القيم وأخذ المواقف، فيغدون أكثر استعداداً للتعامل مع مستجدّات العصر ومواجهة تحدّياته.
مراحل التعليم العام الجديدة
حدّد المرسوم ١٠٢٢٧/ ٩٧ مراحل التعليم العام ما قبل الجامعي بأربع وهي:
١. مرحلة الروضة، ومدّتها سنتان:
٢. المرحلة الابتدائية، وتتألّف من حلقتين: حلقة أولى وحلقة ثانية، مدّة كلّ حلقة ثلاث سنوات.
٣. المرحلة المتوسّطة، وتتكوّن من حلقة واحدة مدّتها ثلاث سنوات.
تشكّل المرحلتان الابتدائية والمتوسّطة، مجتمعتين، التعليم الأساسي.
٤. المرحلة الثانوية، ومدّتها ثلاث سنوات، وهي تتفرّع في اتجاهات أربعة هي:
- الآداب والإنسانيّات،
- الاجتماع والاقتصاد،
- العلوم العامّة،
- علوم الحياة.
على اعتبار أنّ هذه الاتجاهات هي المسالك الأساسية لإعداد المتعلّم وتحضيره لتقرير مشروع حياته المهنيّة ومتابعة دراسته في حقول التخصّص الجامعي فضلاً عن كونها تمثّل الاسقاطات الطبيعيّة لمجالات العمل في الحياة العامّة والتصنيفات المهنيّة في الأسواق المحليّة والعالميّة.
الأهداف الأساسية للمناهج التعليميّة الجديدة
توخّت المناهج الجديدة تحقيق الهدفين الأساسيّين الآتيين:
١. بناء شخصيّة الفرد، حيث تراعى في تكوين الشخصيّة الفرديّة، القدرة على تحقيق الذّات و تحمّل المسؤوليّة والالتزام الأخلاقي والتعامل مع الآخرين في روح المواطنيّة المسؤولة والمشاركة الإنسانيّة وذلك عبر الميادين الآتية: الذهني المعرفي، العاطفي الوجداني والحركي.
٢. تكوين المواطن، توخياً لبناء مجتمع لبناني موحّد، متماسك، منتج وقادر على ممارسة دوره الحضاري في المجتمع العربي خصوصاً.
مضمون المناهج التعليميّة الجديدة
يسهل على أيّ باحث في محتوى المناهج التعليميّة الجديدة أن يلاحظ الهدفين المذكورين أعلاه مجسّدين، كليّاً أو جزئيّاً، في مضامين تتكوّن موادها من مجموعات متنوّعة من المعارف والخبرات والوسائط التعليميّة الناشطة في إطار مترابط ومتكامل، على مختلف المراحل التعليميّة ما قبل الجامعيّة ، وبانسجام مع القدرات الذهنيّة والجسديّة والعاطفيّة للمتعلّم.
ففي مرحلة الروضة، يجد الباحث في مضمون مناهج هذه المرحلة تركيزاً على تعويد الطفل الانتقال التدريجي من مناخ البيت إلى مناخ المدرسة، وعلى العيش ضمن الجماعة في إطار نشاطات تساعده في تحقيق نفسه بنفسه وفي تنمية قدراته الجسديّة ومهارته اللّغويّة التلقائيّة، وعلى الاتصال بسواه والتعبير عن نفسه.
أمّا في مرحلة التعليم الأساسي، الحلقتان الأولى والثانية، فلا يصعب أيضاً على الباحث أن يجد في مضمون مناهجها التعليميّة الجديدة ، القدر الأساسي من المعارف والمهارات والقيم اللازمة لاندماج الطفل في مجتمع متمدّن، والمتناسبة مع سمات النمو في هذا العمر. فمن موادّ العلوم والتكنولوجيا والرياضيّات يكتسب الطفل المعرفة والمهارة العلميّة والتقنيّة والرياضيّة الأساسيّة، وفي موادّ الفنون (رسم، موسيقى ورياضة) تنمية لقدراته الفنيّة والحركيّة وإيقاظاً لاهتماماته بها ولذوقه الفنّي وحسّه الجمالي، ومن موادّ القراءة والمحادثة والإملاء، باللّغات العربيّة والأجنبيّة، والاجتماعيّات يكتسب الطفل التعبير وأساليب الاتّصال اللّغوي الأساسيّة، كما يكتسب مجموعة من المعارف والمهارات والقيم المتعلّقة بمجتمعه والبيئة والصحّة والأخلاق وبالعلم والعمل الآخر، أكان هذا الآخر فرداً أو جماعة أو شعباً.
وبالإنتقال إلى الحلقة الثالثة من التعليم الأساسي، فإنّ مضمون مناهج هذه الحلقة يركّز على استكمال ما اكتسبه المتعلّم من معارف ومهارات وقيم من أجل أن يكون مواطناً لبنانيّاً، مثقّفاً ومتمدّناً، ملتزماً قيم المواطنيّة. واستكمال ثقافته الصحيّة والاجتماعيّة والبيئيّة والحضاريّة وإتاحة فرص مناقشة بعض القضايا المعاصرة لمساعدته في تفتّح الوعي الموضوعي العقلاني لديه وتنميّته. هذا إلى جانب تعزيز اتّصاله الّلغوي بأكثر من لغة (اللّغة الثانية) والارتقاء باللّغة الأساسيّة إلى مستوى التذوّق اللّغوي والأدبيّ والتعبير الإبداعي، إضافةً إلى استكمال المتعلّم للمهارات الحياتيّة والتآلف معها لاسيّما الكمبيوتر والتكنولوجيا (التعرّف المهني) من أجل تكوين اتّجاهات إيجابيّة نحوها من جهة، وتدريبه على نشاطات بعضها لتنمية قدراته واستعداداته تمهيداً لاختيار مهنة المستقبل من جهة ثانية.
أمّا بالنسبة إلى المرحلة الثانويّة، فهي مرحلة تقريريّة في عمليّة تكوين شخصيّة المتعلّم وإنمائها، وجعله مواطناً صالحاً، واحداً في الهويّة والإنتماء والمصير، والمنتج أينما وُجد جغرافيّاً على أرض الوطن(٢). لذلك حظيت مناهجها باهتمام كبير في النظام الجديد في لبنان، على اعتبار أنّ هذه المرحلة، باتّجاهاتها الأربعة: آداب وإنسانيّات، اجتماع واقتصاد، علوم الحياة وعلوم عامّة، تعزّز التكامل مع التعليم المهني والتقنيّ (تكنولوجي)، وتوثق الروابط بين المدرسة والحياة، وبين التعليم العام ما قبل الجامعي والتعليم الجامعي، وتحضّر المتعلّم لحسن اختيار مجال تخصّصه العالي أو دخول سوق العمل، مزوّداً بالمفاهيم المناسبة وبالمعلومات النظريّة والتطبيقيّة المتعلّقة بالمادة التعليميّة (علوم وتكنولوجيا، رياضيّات، آداب وفلسفة، اجتماع واقتصاد) وبالثقافات المدنيّة والوطنيّة والروحيّة: كفهم جوهر الأديان ودورها في تعامل شخصيّة الفرد روحيّاً وأخلاقيّاً وإنسانيّاً وممارستها، واحترام الغير وترسيخ أسس العيش المشترك، كذلك إدراك معنى الحقوق والواجبات والأنظمة وإدراك دور لبنان في المنظّمات العربيّة والدوليّة وتفهّم موقعه الحضاري واحترام العمل المنتج...
لعلّ أبرز ما جاء في مضامين المناهج الجديدة للمرحلة الثانويّة ما أدخل على تلك المرحلة من مواد جديدة وعناوين لموضوعات معاصرة: كالمعلوماتيّة والتكنولوجيا، الاجتماع والاقتصاد وأنشطة نوادي المدرسة... فضلاً عمّا طرأ من تجديد واستحداث في المواد الأخرى التقليديّة.
ونظراً لضيق المساحة المُتاحة لي للكتابة حول مضمون المناهج الجديدة وارتباط موادّها بالواقع، سأقتصر على عرض ما جاء في موادّ التكنولوجيا والاجتماع والاقتصاد فقط، على أمل تناول المواد الأخرى في مقال لاحق.
فالتكنولوجيا المقصودة هنا ليست إعداداً مهنيّاً وتقنيّاً بقدر ما هي أسلوب تفكير خاص (Systematic) يقرن العلم بالعمل والمعرفة بالمهارة. والتكنولوجيا هي إحدى الأدوات الفعّالة للتعرّف على عالم المهن من خلال قيام المتعلّم بتنفيذ مشروعات تقنيّة مفيدة تُكسبه المهارة وميزة الاتقان في العمل، وتدريبه على تقدير العمل المنتج واحترامه.
أمّا مادّة الاقتصاد فهي تبدأ بتعريف علم الاقتصاد بشكلٍ عام وبالمنشآت الاقتصادية المختلفة والعمليّات الأساسيّة الّتي تدور فيها من إنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك، والدّخل الأسري واستعمالاته وأوجه الاستهلاك والإنفاق وتأثير مستوى الدّخل على تركيب الإنفاق في ميزانيّة الأسرة، ودراسة العمل بالرأسمال وأنواعه، والمداخيل وأنواعها، والتنظيم النقابي، والتشريعات الاجتماعيّة، وقانون الضمان الاجتماعي، والادّخار والغاية منه...
وفي مادّة الاجتماع، كما في الاقتصاد، فهي تبدأ بتعريف علم الاجتماع والمجتمع، وتطوّر المجتمعات وتغيّرها، والجماعات الاجتماعيّة وبنيتها، والتواصل في المجتمع وأشكاله (العائلة والأسرة، والجماعات السياسيّة والشبابيّة والنسائيّة والكشفيّة، والمؤسسّات الاجتماعيّة المدنيّة من جمعيّات وروابط وأندية وأحزاب ونقابات)، والتواصل عبر وسائل الإعلام المختلفة وعبر شبكات المعلوماتيّة، وعن البعد العالمي للثقافة وعولمتها...
استراتيجيّة تحقيق أهداف المناهج الجديدة وغاياتها
في ضوء ما ورد سابقاً في المقدمة حول استراتيجية التربية التكوينيّة، تتجسّد الاستراتيجية المعتمدة في تحقيق غايات المناهج الجديدة وأهدافها في مجالات أربعة:
١. مواد المناهج وأطرها.
٢. طرائق التدريس ووسائلها.
٣. الإعداد والتأهيل المستمر.
٤. أساليب التقييم.
١. مواد المناهج التعليميّة وأطرها:
توفّر للمتعلّم ما يأتي:
- المعارف المتعلّقة بالمادّة التعليميّة .
- الثقافات المدنيّة، الوطنيّة والعالميّة.
- المعارف والمهارات المهنيّة والتكنولوجيّة.
- تنمّي فيه النزعة الإنسانيّة.
- الذّوق الفنّي والحسّ الجمالي.
- روح المبادرة والإبداع.
٢. طرائق التدريس ووسائلها:
تعتمد ما يلي:
- التنوّع في طرائق التدريس واختيار الحديثة منها: الطريقة الناشطة ومحورها المتعلّم، وطريقة البحث العلمي وممارستها إفراديّاً أو ضمن فريق عمل. وذلك في ضوء أوضاع المعلّمين وإمكانات المدرسة وطبيعة المادّة.
- الكتاب المدرسي، الذي يؤمّن نصوصاً ويطرح مشكلات للدراسة والتحليل، تخاطب عقل المتعلّم وتتّصل بحياته اليوميّة وبهمومه وبالحوادث الجارية في محيطه، وتعمّق حسّه بالمسؤوليّة فضلاً عن تناولها التطوّرات العلميّة والمستجدّات التكنولوجيّة.
٣. الإعداد والتأهيل المستمرّان للمديرين والمعلّمين والمرشدين:
في هذا الإطار، تمّ التركيز على:
- أساليب الإدارة الحديثة الآيلة إلى توفير الفاعليّة وإلى رفع مستوى الإنتاجيّة وإلى تعزيز الروابط الإنسانيّة.
- أساليب التعليم الحديثة الّتي تتمحور حول استثارة إمكانات المتعلّم وتتمركز على تنويع الطرائق للحصول على المعارف والمعلومات المستجدّة وعلى التواصل الاجتماعي.
- مواكبة التطوّرات الحاصلة في نطاق العلوم والتكنولوجيا والمعارف والوسائل والأساليب التربويّة بما يخدم تعميق التأهيل المستمر.
- أساليب الإرشاد والتوجيه للمساعدة في حلّ المشكلات الّتي تعترض المتعلّمين وفي اختيارهم الأفضل لمهن المستقبل.
٤. أساليب التقييم:
يتناول التقييم المتعلّم من جهة والعمليّة التعليميّة من جهة ثانية. بالنسبة إلى المتعلّم، فقد وضع نظام تقييم جديد جرى تطبيقه في الإمتحانات الرسميّة الأخيرة. وهذا النظام يهتم باكتشاف مدى النجاح الذي يحرزه المتعلّم في بلوغ الأهداف المحدّدة في المنهاج، كذلك تبيان أوجه القصور التعلّمي أو الفشل تحضيراً لوضع الحلول الملائمة.
أمّا بالنسبة إلى العمليّة التعليميّة، فإنّ التقييم يهتم بعناصرها من المنهاج: إدارة ، ومعلّماً وطريقة أدائه، فضلاً عن أوضاع أساسيّة تحيط بالعملية ووسائلها المستعملة. وقد تجمّعت إلى الآن، عدّة دراسات حول موضوع التقييم وهي اليوم قيد تنفيذ توصياتها الّتي تخدم تحقيق الأهداف المقرّرة.
انطباعات أوليّة
ذهبت المناهج الجديدة إلى المدارس تدريجيّاً مع مطلع العام الدّراسي ٩٧ - ٩٨ عبر الكتب المدرسيّة الجديدة المرتبطة بها. وذهب معها كلّ من عمل في صياغة أهدافها ومضمونها وكلّ من شارك في إخراجها وصناعة وسائطها ليبدأوا اختبارها شكلاً ومضموناً، وليتعلّموا من تجربتهم هذه ما فاتهم تعلّمه. عاد هؤلاء وأنا واحد منهم، بأبرز الانطباعات الآتية:
١. صحيح أنّ التنوّع في المواد التعليميّة والتعدّد في عناوين موضوعاتها وأنشطتها يكسب المتعلّم تنوّعاً أكثر في المعارف والمهارات واستيعاباً أشمل للقيم والمواقف، غير أنّ استقلاليّة المواد والموضوعات وتقديمها في كتب منفصلة قد أظهر قبولاً في المراحل التعليميّة المتقدّمة ولكنّه أوجد إشكاليّة في المراحل التعليميّة الأولى وخصوصاً في الحلقة الأولى وبشكلٍ محدّد في الحلقة الثانية من التعليم الأساسي. ذلك لأنّ الطفل في سنواته المدرسيّة الأولى ما زال غير قادر على فصل القضايا عن بعضها كما يفعل الأكبر سنّاً. لذلك نقترح دمج المواد المتقاربة مع بعضها ضمن مفهوم "التعلّم الشامل" وفي إطار الطريقة البنّاءة في التعامل مع الطفل كمحور العمليّة التربويّة وهدفها.
٢. الحاجة الملحّة إلى معلّم متحضّر، يستوعب العلوم والمعارف الحديثة، إذ لا يعقل أن يدرّس أساتذة الماضي تلاميذ اليوم ليعيشوا في المستقبل. فإعداد المعلّمين للمواد الجديدة ضروري، كذلك التدريب المستمر، ولفترات زمنيّة كافية من الضرورات الرئيسة.
٣. مواءمة الأبنية المدرسية، وتجهيزها بالمستلزمات الأساسية، لاستقبال المواد الجديدة وبالتخصيص الإجرائية التي تنمّي المهارات الحياتي.
رئيس مكتب التجهيزات والوسائل التربوية سابقاً
في المركز التربوي للبحوث والإنماء
د. أسعد يونس
هوامش (٢) الإستراتيجية العامة لخطة النهوض بالتعليم المهني والتقني في لبنان خلال عقد التسعينات، ص ١٣. |