درس في مادة اللغة العربية
درس في مادة اللغة العربية
قراءة منهجية لقصيدة ''الدمعة الخرساء''
للشاعر إيليا أبي ماضي(1)
الدمعة الخرساء
1- سمعت عويل النائحات عشيةً في الحيّ يبتعث الأسى ويثير
2- يبكين في جنح الظلام صبيةً إن البكاء على الشباب مرير
3- فتجهمت وتلفتت مرتاعةً كـالظبي أيقن أنه مـأسور
4- وتحيّرت في مقلتيها دمعة خرساء لا تهمي وليس تغور
5- فـكأنها بطل تكنّفه العدى بسيوفهم وحسـامه مكسور
6- وجمت، فأمسى كلّ شيءٍ واجماً النور، والأظلال، والديجور
7- الكون أجمع ذاهل لذهولها حتى كأنّ الأرض ليس تدور
8- لا شيء مما حولنا وامامنا جسنٌ لـديها والجمال كثير
9- سكت الغدير كأنما التحف الثرى وسها النسيم كأنـه مذعور
10- وكـأنما الفلك المنوّر بلقع والأنجم الزهراء فيه قبور
11- كانت تمازحني وتضحك فانتهى دور المزاح فضحكها تفكير
12- قالت وقد سلخ ابتسامتها الأسى: صدق الذي قال – الحياة غرور!
13- أكذا نموت وتنقضي أحـلامنا في لحظةٍ، والى التّراب نصير؟
14- وتموج ديدان الثرى في أكبدٍ كانت تموج بها المنى وتمور
15- خير اذن منّا الألى لم يولدوا ومن الأنام جلامد وصخور
16- ومن العيون مكاحل ومرواد ومن الشفاه مساحق وذرور
17- وتوقّفت فشعرت بعد حديثها أن الوجود مشوّش مبتور
18- الصيف بنفث حرّه من حولنا وأنا أحسّ كأنني مقرور
19- ساقت الى قلبي الشكوك فنغّصت ليلي، وليس مع الشكوك سرور
20- وخشيت أن يغدو مع الرّيب الهوى كالرسم لا عطر وفيه زهور
21- وكدمية المثال حسن رائع ملء العيون وليس ثمّ شعور
22- فأجبتها: لتكن لديدان الثرى أجسامنـا إنّ الجسوم قشور
23- لا تجزعي فالموت ليس يضيرنا فلنـا إيـاب بعـده ونشور
24- إنّا سنبقى بعد ان يمضي الورى ويزول هذا العالم المنظور
25- فالحبّ نور خالد متجدد لا ينطوي الا ليسطع نور
26- وبنو الهوى أحلامهم ورؤاهم لا أعين ومراشف ونحور
27- فاذا طوتنا الارض عن أزهارها وخلا الدّجى منّا وفيه بدور
28- فسترجعين خميلةً معطارةً أنا في ذراها بلبل مسحور
29-يشدو لها ويطير في جنباتها فتهشّ اذ يشدو وحين يطير
30- أو جدولاً مترقرقاً مترنمّاً أنا فيه موج ضاحك وخرير
31- أو ترجعين فراشةً خطّارةً أنا في جناحيها الضحى الموشور
32- أو نسمةً أنا همسها وحفيفها أبداً تطوّف في الربى وتدور
33- تغشى الخمائل في الصباح بليلة وتؤوب حين تؤوب وهي عبير
34- أو نلتقي عند الكثيب، على رضىً وقنـاعةٍ، صفصـافة وغدير
35- تمتد فيـه وفي ثراه عروقهـا ويسيـل تحت فروعهـا ويسير
36- ويغـوص فيـه خيالها فيلفّه ويشفّ فهـو المنطوي المنشور
37- يأوي اذا اشتدّ الهجير اليهما الناسكان : الظبي والعصفور
38- لهما سكينتها ووارف ظلّها والماء إن عطشـا لديه وفير
39- أعجوبتان – زبرجد متهدّل نـامٍ تدفّق تحتـه البـلّور
40- لا الصبح بيهما يحول ولا الدجى فكـلامهما بكليهما مغمور
41- تتعاقب الأيام وهي نضيرة مخضرّة الأوراق، وهو نمير
42- فالدهر أجمعه لديها غبطة والـدهر أجمعه لـديه حبور
43- فتبسمت وبدا الرضى في وجهها إذ راقها التمثيل والتصوير
44- عالجتها بـالوهم فهي قريرة ولكم أفاد الموجع التخدير
45- ثمّ افترقنا ضاحكين الى غدٍ والشهب تهمس فوقنا وتشير
46- هي كالمسافر آب بعد مشقّة وأنا كأني قائد منصور
47– لكنني لمّا أويت لمضجعي خشن الفراش عليّ وهو وثير
48- واذا سراجي قد وهت وتلجلجت أنفـاسه فكـأنه المـصدور
49- وأجلت طرفي في الكتاب فلاح لي كالرسم مطموساً وفيه سطور
50- وشربت بنت الكرم أحسب راحتي فيها، فطاش الظنّ والتقدير
51- فكأنني فلك وهت أمراسها والبحر يطغى حولها ويثور
52- سلب الفؤاد رؤاه والجفن الكرى همّ عرا، فكلاهما موتور
53- حامت على روحي الشكوك كأنها وكأنهنّ فريسةٌ وصقور
54- ولقد لجأت الى الرجاء فعقّني أما الرجاء فخائب مدحور
55- يا ليل أين النور؟ إني تائه مر ينبثق، أم ليس عندك نور؟
56- «أكذا نموت وتنقضي أحلامنا في لحظةٍ والى التراب نصير؟»
57- «خير اذن منّا الألى لم يولدوا ومن الأنام جلامد وصخور»
I- قراءات وملاحظات (حصة أولى 50 دقيقة)
وفيها المراحل الآتية:
- قراءة صامتة ثم حوار مختصر لمعرفة درجة فهم الطالب للنص، يلي ذلك تدوين أفكار ونقاط متفرقة على اللوح. تحديد وضعية القول، ملاحظة النسق الطباعي في بناء القصيدة.
- قراءة جهريّة: يقرأ المعلم النص قراءة معبّرة تثير إهتمام الطالب وتدفعه الى المتابعة. يعيد التلاميذ القراءة (يقرأ كل طالب أربعة أبيات – ينتقى الطلاب عشوائياً) لتحفيزهم على المتابعة والمشاركة.
- طرح أسئلة تحضيرية: ما الرابط بين لفظتي العنوان؟ كيف تكون الدمعة خرساء؟ ما الأجواء التي يشيعها العنوان؟ ما الحدث الدافع، وما أثره على الحبيبة؟ على الطبيعة ؟ على الشاعر؟ ما النتائج المترتبة عن وقوعه؟
- قسمة النص تبعاً لتطور السياق الى خمسة أقسام (1-11) (12-17) (18-22) (23-47) (48-57) وقسمة التلاميذ بالتوزاي الى خمس مجموعات ترصد كل مجموعة قسماً، في دلالاته وحقوله المعجمية.
- يقسم اللوح الى خمسة أقسام، وينتدب تلميذ عن كل مجموعة لكتابة ما رصده على اللوح، ثم تتمّ مقابلة بين الأقسام يستنتج منها بصورة واضحة ، تطور القصيدة وطبيعة التحوّلات النفسية والفكرية عند الشاعر : كما يلاحظ التداخل المعجمي والتكرار في الأقسام (حقل الشكوك مثلاً) ودلالات ذلك.
II- دراسة وصفية تحليلية شاملة (حصة ثانية 50 دقيقة)
أ- نوع النص ووظائف الكلام
الدمعة الخرساء قصيدة مستلّة من ديوان ايليا أبي ماضي (1) الصادر عن دار العودة، بيروت 1982 ، وكانت قبلاً قد نشرت في ديوان الجدوال ، وهو أحد أهم دواوينه.
انطلقت هذه القصيدة من صورة قاتمة، موت صبيّة. تناهى الخبر الى حبيبة الشاعر يفعل في الوجدان فعله، فارتاعت لهذا الحدث وساورتها شكوك المصير ورهبة الموت، وتعمّقت حالة الأسى في الذات فإذا الأجواء النفسية ضبابية مشوّشة. وحاول الشاعر انقاذها من اضطرابها، فرسم في القصيدة لوحة لحياة خالدة تجمعهما في عالم الطبيعة الرحب. إلا انه ما لبث أن فشل وتراجع بفعل الشك نفسه الذي أصاب الحبيبة.
فالنص إذاً ، وجداني تأملي قوامه: الشاعر والحبيبة والطبيعة يدور حول فكرة الحياة والموت في إطار الحب.
ويتخذ الكلام فيه وظيفتين أساسيتين، تعبيرية إنفعالية: تستوجبها الوجدانية التي تسيطر على النص بكليته. وشعرية جمالية: يمليها الانفعال الوجداني من جهة وطبيعة الشعر وموسيقاه من جهة ثانية.
ب: وحدة القصيدة:
لقد تشكلّت هذه القصيدة في وحدة متماسكة تربط في ما بينها أواصر عدة على المستويين الشكلي والمعنوي.
1- مستوى البناء الشعري
القصيدة كلاسيكية، على وزن "الكامل" يجمع أبياتها نص واحد يتجلى في وحدة البيت بذاته، وبمساواته وسائر الأبيات ، وفي تكرار القافية والروي، وفي الايقاعات الموسيقية المختلفة، وهي جميعاً روابط واضحة تمسك بأجزاء القصيدة.
2- المستوى الصرفي النحوي:
ثمة ترابط على المستويين الصرفي والنحوي. فقد غلب الماضي على أفعالها السردية بدلالته المعهودة، أو بصورة المضارع المتضمّن معنى الماضي. يقطعه المضارع الدال على المستقبل (بين 25-43) مشفوعاً أحياناً بسين الاستقبال مشيراً الى تبدّل الحالة النفسية باتجاه الامل المشرق لينقذ القصيدة من دلالات الماضي الرتيب، ويسقط عنوان الموت الآسر.
3- المستوى الأسلوبي:(الأفعال، الخبر والانشاء)
فالقصيدة خبرية، ولم يرد الإنشاء سوى في الأبيات (13-23 -56-57 ...) . ويقتصر دوره على التمهيد للأسلوب الخبري. هذا والجمل، في الغالب فعلية حركية تدفع السياق في مساره الزماني سوى في خمسة عشر بيتاً حيث يترك السياق للجمل الإسمية تؤدي حصيلة ما أوحته الأفعال.
4- النعوت والاحوال:
وهي تحدد الأوصاف وتبرز الحالات تتجلى النعوت في (ينبعث 1 – خرساء 4- المنور 9- خطارة 32- مترقرقاً، مترنّماً، ضاحكاً 31 الخ ...) والأحوال: (مرتاعة 3 – وقد سلخ ابتسامتها الأسى 12 – صبابة 17 – بليلة 34 إلخ ...). ولأدوات الربط وحروف المعاني دور في هذا التماسك وفي رفد المعاني بغية استكمال دلالاتها. فقد غلب حرف العطف "الواو" وثم و"الفاء" على قلة، وإنّ التوكيدية. واللافت تكرار حرف «الكاف» و«كأن» أكثر من ثلاث عشرة مرّة لاضطرار الشاعر الى ايضاح الحالة وتجسيدها بالشبيه.
5 – الأنماط النصية:
هذا، والقصيدة بنيت من أنماط أربعة حددت نصها ومسارها: السرد والوصف والحوار والتفسير. وقد فرضها التنوع في الحالة والتبدّل في الموافق النفسية. فقد شكل السرد سلكاً أساسياً رابطاً لبنائها وكانت مقدمته تحديد الزمان "عشية" (بيت 1) ، والمكان: الحي (بيت 1) ووضعيته الأولى: حادثة الموت تفاعلت في وضعية ثانية هي أثره في نفس الحبيبة، ثم امتدت لتشمل الطبيعة. وتوقف مسارها متأزماً في البيت (13) ليستأنف بانتقال الأثر الى ذات الشاعر فيتخذ وجوهاً ايجابية متشعبة في حقل الوجود الفسيح. وتستغرق الحركة الأبيات (من 18 الى 43) ، فتشهد حلاً مرحلياً وهمياً عابراً بين (44- 47) لتستقر على أزمة لا حل لها تصيب الشاعر في الأبيات من (48الى 57).
لكنّ السرد ليس رحلة في صحراء تضجر المسافرين برتابتها، بل تظهر في مسافتها واحات تشكلها الذات في انفعالها وتفاعل قواها، وفي علاقتها بالآخر وبالوجود. وتجلى الوصف في التشابيه (المذكورة آنف) وفي الاستعارات الواردة في الأبيات (4-6-7-9-31-49 الخ) وجميعها تصف الشخصيات والطبيعة والحياة والموت، في لوحة فنية رائعة جسدّت إمّا انبعاث الحبيبين في عناصر الطبيعة، أو استسلامهما للشكوك والموت.
والقصيدة لم تكن وجدانية فردية فحسب بل جاءت ثنائية: الشاعر والحبيبة لذا وردت فيها بعض ملامح الحوار الذي اقتصر على توضيح النص وتفسير القلق والشكوك بين الشاعر وحبيبته (الابيات 12-13-23) ثم انتهى الى تساؤل في (56-57-58).
وبنتيجة الأفكار الآسرة في النص: الحب، الحياة، الموت، وطبيعتها الرمزية العميقة، أصبح التفسير من المستلزمات الواجبة. فجاء النمط التفسيري يطرح النتائج ثم يشرح أسبابها (1-2) (3-11) (12) (12-17) (23-24 وما بعدها) وهكذا.
والى جانب الأنماط التي رسمت أطر النص ، ثمة معالم أخرى، هي الأساس والجوهر أكملت فحواه ودلّت على اتجاهات مضامينه للنص منها:
العنوان والكلمة - الموضوع والحقول المعجمية .
III- الحصة الثالثة: 50 دقيقة
عنوان النص: الدمعة الخرساء، فالدمعة كما يتضح لنا صورة حزن وكونها خرساء، تضفي الأسى والمهابة على الموقف وتلامس اللغز الغامض، فلم تعبر العين (لا تهمي وليس تغور) فتتحول عبرة لتوضح (تعبّر) بل تلعثمت من وقع الحدث «فتخرسنت»، وبذلك رسم العنوان الملامح الأولى، وإن ضبابية، بانتظار ما سيأتي.
أمّا الكلمة الموضوع فهي الموت بدليل طغيانه على فكر الشاعر والحبيبة معاً إذ لم يستطع احدهما أن يغلب عليه الأمل بالحياة. وتتوزّع النص حقول : الحزن- الموت- الحياة – الشك. استهل الشاعر قصيدته باجواء قاتمة توزعتها ألفاظ الحزن وتعابيره في الأبيات (من 1 الى 11) : عويل – نائحات – الأسى – يبكي – جنح الظلام – مرير – تجهمّت – مرتاعة – مأسور – دمعة خرساء – العدى – حسامه مكسور – وجمت – ذاهلة – لا شيء حسن – سكت الغدير – التحف الثرى – مذعور – بلقع.
ولم يقتصر الحزن على معناه الوضعي بل كانت له امتدادات تضمينية شملت عناصر الطبيعة واشياءها مولدة مزيداً من الصورة، ترسم أبعاداً نفسية، كالبكاء في جنح الظلام (الهمّ والحزن) والتلفت القلق المشابه فعل الظبي أدركه الاسر (الموت) والحيرة (القلق) والاعداء تكتنف بطلاً مجاهداً (الحياة الدنيا ومآسيها) وتشيع الصورة في النور والاظلال والديجور (شمولية الحالة) وسكوت الغدير (الحياة المتجمدة) والتحافه الثرى (شبه الموت) وسها النّسيم مذعوراً (قلق الحياة أمام فجأة الموت ) وبلقع، حديقة النجوم انطفأت نيراتها(العقم). وهكذا مهّد حقل الحزن لما هو أكثر اتساعاً وعمقاً إنه: الموت، فانتشر حقله في الأبيات (من 12 الى 17) متضمّناً الحياة غرور (التفاهة والوهم) تموت – تنقضي أحلامنا (انقطاع الرجاء) الى التراب نصير (الفناء) تموج ديدان الثرى في أكبد (الذل) خير منا الجلامد والصخور (عبثية الحياة) مكاحل ومرواد،
مساحق وذرور (اثبات الأشياء دون الانسان واحلامه. وتدفع هواجس الموت الى تراكم التساؤلات تتجلى في شكوك مقلقة في الابيات (من 18 الى 22 ...) ! الوجود مشوش مبتور (حياة متقطعة) – الصيف ينفث حره ... كأنني مقرور (تناقض الحالة) الشكوك نغصّت ليلي (القلق والاضطراب) – ليس مع الشكوك سرور (تدمير الفرح) خشيت (الخوف) الهوى المرتاب (الاضطراب) لا عطر ولا زهور (العقم واللاجدوى).
ونتشر، في سوداوية النص، صور الانبعاث والانطلاق الى حياة جديدة تمتد أبياتها (من 24 الى 44): سنبقى بعد الزوال المنظور (الاستمرار في حياة أخرى) لنا اياب ونشور (الانبعاث) – الحب نور خالد (الحب = الحياة) الاحلام والرؤى (جوهر الوجود وثمار الأمل) سترجعين خميلة - ليل مسحور – جدولاً – موج ضاحك – خرير - فراشة – الضحى – تطوّف – تدور - تغشى الخمائل – صفصافة (خضراء) غدير – في ثراه عروقها – يسيل – يسير – يشفّ – ينطوي – الظبّي والعصفور لا الصيح يحول بينهما ولا الدجى – نضيرة – نمير (جميعها تشير الى الاستمرار بسعادة وفرح بلا انفصال).
عناصر هذا الحقل المعجمي الزاخر بالحياة هي: الثرى – الأرض – الربى – الدجن – البدور– الجدول – الغدير – الموج – النسمة – تأتلف في ما بينها وبين أشياء الطبيعة لتشكل صوراً تضميتية رائعة.
يبدأ مشهد الغياب بفعل الموت (بدايات القصيدة) فالمنيّة تطوي الناس، والعاشقون منهم إلا أن الولادة لا تلبث أن تتمّ بفعل التمني. فباطن الأرض ليس مدفنا بل رحم يولد الحبيبين بعد ان يخضعهما لفعل تحوّل من الصورة الانسانية الى صور الطبيعة. كأن فعل الحب ينفي الموت ويعيد الحياة. وهكذا يظهر العاشقان بأشكال مختلفة، جميعها تنمّ عن الفرح والسعادة – كما شاهدنا في القاموس اللفظي – فالحبيبة تولد خميلة تبوح روحها بالعطر، والشاعر يخطر في أرجاء هذه الحبيبة – الخميلة بلبلاً مأسوراً لها، مسحوراً بالجمال، يتغنى ويغني إذ يشدو ويطير في رحابها، يخضع حنجاه أبداً لفعل جاذبيتها، وهي تهش لشدوه وطيرانه. والشكل الثاني تولد فيه الحبيبة جدولاً والثالث فراشة... والرابع نسمة وفيها جميعاً تلاصق وكيانية مستمرة واحدة. ثم يلتقيان: صفصافة وغدير، كلاهما يمتد بكليهما. الصفصافة - الحبيبة لها عروق تتجذر في الثرى... فهل أن التراب لحم كياني، والجذور عروق جسدية والماء السائل نجيع؟ إنه غوص في لحم الأشياء، وتجسيدها في كيانات فاعلة متفاعلة ، مؤثرة ومتأثرة. والصور بمجملها توحي بوصال خفي بين الكائنات، وبتفاعل الثابت والمتحرك وحوار السكون.
ويلفتنا في النص، عودة الشك ثانية في الأبيات (من 45 الى 58) متخذاً المعاني نفسها الواردة في القسم الأول من القصيدة، ماحياً بذلك صور الرجاء التي شكلها حقل الحياة فينهي الشاعر "الدمعة الخرساء" بالمعاني المأسوية ويختمها بما يشبه الدائرية إذ عاد الى حيثما انطلق في البداية.
آفاق القصيدة وأبعادها
تطرح هذه القصيدة أبعاداً معنوية مختلفة الوجوه. فهي تحمل بعداً وجودياً يتجلّى في وقفة الانسان أمام الموت، وفي حريته وشكّه بالمصير الذي سيؤول اليه بعد الانقضاء. لذلك يعتريه هاجس الزوال وسرعة الفوات في عمر هارب ، فيتشّبث بالوجود، ويسعى الى انتهاب الفرص ولذائذ العيش. بيد أنّها لا تغني ولا تفي، فالزمان عابر يستحيل الامساك به؛ لذا يطمح هذا الانسان الى بقاء لا فناء فيه، فيحاول ان يحدّد الايمان على هواه، والعالم الآخر تبعاً لمبتغاه. من هنا نشأت عند أبي ماضي، وفي هذه القصيدة بالذات فكرة التحوّل القائمة على تبدّل الأشكال من دون الجواهر، وفكرة الحلول حيث تتخذ اتخاذ الأرواح منازل مختلفة (التناسخ والتقمّص) وللطبيعة دور فاعل في هذين: التحول والحلول وكل ذلك في إطار وحدة الوجود ليضمن الانسان ، هنا في هذا العالم بقاء دائماً لكلية كيانه، وجملة أحاسيسه، فيربط بين الحاضر والآتي، بين العالمين المادي والروحي. وجعلت القصيدة الحب أساساً كفيلاً بتثبيت الديمومة فلا براح.
إلاّ انّ جسد التراب يلح دائماً على أبي ماضي ، ويحوّ ل حياته الشعرية الى علامة استفهام كبرى، لذا يظل الشك نهاية حتمية لجميع رحلاته الفكرية والشعرية.
وختاماً فالقصيدة تختصر بعض ملامح الفكر المهجري الشمالي في ما تناوله شعراء الرابطة القلمية بشأن الحياة والوجود، وهواجس القلق والغربة، والسعي الدائم الى الفرار من الموت كمصير مجهول.
هامش:
(1) شاعر لبناني ولد في المحيدثة بكفيا عام 1890 ، سافر الى مصر في مطلع عقده الثاني، ثم استقر في نيويورك في بداية عقده الثالث. كتب في الصحافة ونظم الشعر. كان أحد أدباء الرابطة القلمية التي تأسست في نيويورك عام 1920 وعميدها جبران . له أربعة دواوين: تذكار الماضي (نظم في مصر) والجداول والخمائل وتبر وتراب. وهذا الاخير طبع بعد وفاته عام 1957.