كيفية معالجة موضوع فلسفي موضوع ''الإرادة'' كمثال

كيفية معالجة موضوع فلسفي

موضوع ''الإرادة'' كمثال

نظراً لأهمية التمكّن من معالجة موضوع فلسفي بالنسبة للأستاذ والتلميذ على السواء، ولأن هذا الموضوع يعتبر جزءًا من المادة التي تفيد المرشحين للامتحانات الرسمية لشهادة الثانوية العامة  (مادة الفلسفة والحضارات)، نعالج في هذا المقال كيفية دراسة موضوع فلسفي وتحليله، ونأخذ موضوع ''الإرادة'' كنموذج من ''محور الإنسان '' الذي تتضمنه مناهج الفلسفة والحضارات للسنة الثانوية الثالثة.

يقول بلونديل (Blondel): "العقل والإرادة يضعهما المجتمع فينا منذ المهد"

 

في البداية وللدخول في معالجة هذا الموضوع لا بد من اللجوء إلى الخطوات التالية:

1.  طرح إشكالية الموضوع.
2.  تحليل المسألة المطروحة.
3.  مناقشة المسألة المطروحة (الموضوع المطروح).
4.  توليف الأفكار التي تمت مناقشتها.
5. خلاصة (خاتمة).

المعالجة

١- طرح الاشكالية:

كثرت آراء الفلاسفة في مسألة الإرادة فرأى بعضهم فيها ''فكرة''، والبعض الآخر ''رغبة مطلقة''، وأبرَزَ فلاسفة آخرون الجهد الجسدي والنفسي في الإرادة. أما ''بلونديل'' فرأى أن ''الإرادة هي هدية المجتمع لنا منذ ولادتنا''، فما هي الإرادة، أهي هدية من المجتمع، أم هي فكرة، أم رغبة مطلقة؟

٢- تحليل المسألة المطروحة:

يرى علماء الاجتماع أن الصراع الحقيقي هو بين النوازع الفردية والقواعد الأخلاقية الاجتماعية. فالإرادة لا تبرز إلا في جهد الإنسان للتصرف بحسب ''الواجب'' الاجتماعي الذي هو أقصى سطوة اجتماعية على الأفراد، والذي يبدو دائماً كقوة خارجية ضاغطة على الفرد الانساني ''دوركهايم" (Durkheim)

لقد أهمل علم النفس التقليدي الجانب الاجتماعي للشخصية الانسانية وللأفعال الانسانية. فالفلسفة القديمة اعتبرت أن الانسان هو الفكر والعقل، ويمكن دراسته كمقولة قائمة بنفسها. وقد أظهرت الوقائع والتجارب مدى قصور هذه الفلسفة في معرفة الانسان ومواقفه. ولكن العلوم الانسانية الحديثة، التي تُسمّى أيضاً علوماً اجتماعية، وفيها علم النفس، أوْلَتْ الجانب الاجتماعي شأناً أساسياً في السلوك الانساني، وفي مختلف المواقف النفسية الفردية. ''فالأنا الأعلى'' عند ''فرويد'' هو مجموع القواعد الأخلاقية الاجتماعية التي ''تنظم''  ميول الانسان: فتقمع بعضها، وتسمح ببعضها الآخر. واعتبر ''بيار جانيه" (P. Janet) الذاكرة وظيفة اجتماعية كما اعتبر '' بلونديل''  أن  ''الإرادة والعقل يضعهما المجتمع فينا منذ المهد...''. وهذا يعني أن المجتمع هو مصدر الإرادة بالنسبة إلى ''بلونديل'' وأن أفعالنا الإرادية متأثرة دائماً بعوامل اجتماعية. مهما يكن فإن الجانب الاجتماعي يظهر في كل أشكال سلوكنا. وبخاصة في مواقفنا وأفعالنا الإرادية التي تتطلّب منا جهداً. والأمثلة كثيرة: فالسهر في الدرس والعمل، أسبابه البعيدة هي أسباب اجتماعية؛ وكذلك بالنسبة إلى اللياقات والواجبات الاجتماعية التي نقوم بها... فلو كان المجتمع يحفظ لنا الموقع الذي نشتهيه ونرغبه لأنفسنا من غير أن نجتهد ونناضل للحصول عليه، لما جهدْنا وتعبنا وناضلنا وسهرْنا البتة، ولما كان للإرادة أي معنى.

فالفعل الإرادي غالباً ما يستقطبه مثال أعلى، أو قيمة أخلاقية، أو نموذج سياسي... وهذه كلها ذات مصدر اجتماعي.

والإرادة لا تُفهم إلا قياساً على سلّم من القيم الأخلاقية '' والاجتماعية، كما قال ''دوبيران" (De Biran)  إن الإرادة هي وظيفة تنظيمية وعلامة فارقة في الشخصية تجعل أفعالنا أكثر ثباتاً من مشاعرنا ونحن، بفضل هذه الوظيفة، نثابر في العمل رغم تعبنا.

وإذا كانت الأفعال الإرادية تستند إلى قيم فالسؤال الذي يطرح نفسه يكمن في التعرّف إلى مصدر هذه القيم. يرى ''بلونديل'' أن مصدرها اجتماعي، لذلك فإن أفعالنا الإرادية متأثرة دائماً بعوامل اجتماعية. فإننا نلتزم غالباً بقواعد سلوك اجتماعي تُعرف بآداب السلوك والالتزامات الاجتماعية.

لكننا نشير أيضاً إلى أن للقيم مصادر أخرى، فالإنسان الذي يملك الإرادة، هو إنسان يلتزم بمبادئ ويرمي إلى أن يكون سيّد نفسه.

 

٣- مناقشة هذه المسألة في ضوء نظريات فلسفية أخرى:

بالرغم من أهمية المجتمع وتأثيره في سلوكنا وأفعالنا الإرادية، لا نستطيع القول إن الإرادة هي نتاج المجتمع فقط. فهناك عوامل كثيرة تلعب دوراً هاماً في الإرادة وأولها الفكر والوعي. فكيف يكون لنا فعل إرادي من دون تفكير ووعي؟ والفعل الإرادي هو قبل كل شيء فعل إنسانٍ مفكّر وواعٍ لغايته وهدفه ويتحمّل مسؤولية عمله.

ركّز الفلاسفة العقلانيون على دور الفكر في الفعل الإرادي. فتصوَّروه مسرحية من أربعة فصول هي:تصوُّر الهدف، المذاكرة أو التروّي، القرار والتنفيذ. وأعطوا أهمية للمرحلتين الأوليَين وهما من ميزات الفكر والعقل.

إلا أن الفكر وحده لا يكوّن الفعل الإرادي وهذا ما أكده التجريبيون وخاصة ''كوندياك(Condillac) ''   عندما قال: " إن الإرادة والرغبة شيء واحد وبما أن في الانسان دائماً رغبات عديدة متناقضة في الغالب، فالإرادة تكون إذاً الرغبة التي انتصرت على كل الرغبات الأخرى، فالإرادة هي إذاً ''رغبة مطلقة''.

غير أن الإرادة لا يمكن أن تكون رغبة فقط لأن ''إنسان الإرادة'' هو الذي لا يستسلم لبعض رغباته بل يلجمها في حين أن ''إنسان الرغبات''، على العكس، هو كسول مستسلم لرغباته، غير متبنّ لمشاريع بعيدة الأمد تتطلب منه صبراً وجَلَداً وجهداً. فالرغبة هي أقرب إلى التمنّي منها إلى الإرادة. يمكننا أن نتمنى أي شيء ونرغب في أي شيء ولكن لا يمكننا أن نريد إلا ما نستطيع تحقيقه فعلاً. فالإرادة إذاً تستلزم عنصراً هاماً هو الجهد بوجهيه الجسدي، كما أشار ''دوبيران'' والنفساني،'' كما قال ''وليم جيمس  (William James).

 

٤- توليف الأفكار التي تمت مناقشتها:

لقد أظهرت المناقشة أهمية نظرية ''بلونديل'' الاجتماعية في الإرادة. إلا أن هذه النظرية غير كافية لتحديد هذه الأخيرة. فالإرادة ليست عنصراً واحداً من العناصر التي أشرنا إليها، إنها مجموع هذه العناصر. ففي الإرادة فكر ووعي وجهد وحرية ورغبة وجانب اجتماعي وأخلاقي وتستند إلى مُثل عليا. ويقترح علماء النفس المعاصرون تحديد الإرادة بكونها توليفة (Synthèse) كبرى لكل هذه العناصر. والتوليفة بمعناها الجدلي، تجمع الأضداد مع بعضها البعض وتؤآلف في ما بينها. فالإرادة هي بالضرورة توليفة واعية تنظّمِ ميولنا تنظيماً متراتباً بحسب أهمية كل منها وتقيم جسراً بين ميولنا اللاواعية ورغباتنا ومشاريعنا الواعية. بهذا المعنى يقول "ريكور"  :(Ricoeur) "إن الفعل الإرادي هو الفعل الذي يقوم به الانسان ليجعل من حاجة حيوانية فيه حاجة إنسانية خالصة؛ هو الفعل القادر أن يقف بمواجهة حوافزنا العضوية (مثل الاضراب عن الطعام، التضحية...)، وبمواجهة حوافزنا الاجتماعية (اعتراض، رفض موقف..) بحيث يكون فهم الموقف التوليفي بديلاً عن التفسير التحليلي الذي يقدّمه علم النفس التجريبي. بهذا المعنى يقول ''ريكور'': ''إن الإرادة هي الواحد الإرادي الذي يأمر التعدّد الإرادي''.

 

٥- خلاصة:

أخيراً، نستنتج أن كل النظريات التي وردت تشكّل أسساً سليمة لمفهوم الإرادة. فهي مجتمعة تؤلف الإرادة، ولكنها منفصلة لا تعبّر إلا عن رأي الفيلسوف. باختصار يمكن اعتبار الإرادة سيادة الذات التي تتحقّق بالوعي والمعرفة والجهد والشجاعة بغية تحقيق الغايات المنشودة.

ولكن، مع كل هذه الاحتياطات الواعية، فلا شيء يحمي أفعالنا في بعض الظروف من السقوط، ويحمي إرادتنا من الوهن، إلا إرادتنا الطيبة التي يزيدها قوّةً التفافُ الآخرين حولنا والتعاون فيما بيننا، وهذا هو الجانب الاجتماعي من الإرادة الذي يتكلّم عنه ''بلونديل''.

إعداد قسم الفلسفة

المركز التربوي للبحوث والإنماء

كيفية معالجة موضوع فلسفي موضوع ''الإرادة'' كمثال

كيفية معالجة موضوع فلسفي

موضوع ''الإرادة'' كمثال

نظراً لأهمية التمكّن من معالجة موضوع فلسفي بالنسبة للأستاذ والتلميذ على السواء، ولأن هذا الموضوع يعتبر جزءًا من المادة التي تفيد المرشحين للامتحانات الرسمية لشهادة الثانوية العامة  (مادة الفلسفة والحضارات)، نعالج في هذا المقال كيفية دراسة موضوع فلسفي وتحليله، ونأخذ موضوع ''الإرادة'' كنموذج من ''محور الإنسان '' الذي تتضمنه مناهج الفلسفة والحضارات للسنة الثانوية الثالثة.

يقول بلونديل (Blondel): "العقل والإرادة يضعهما المجتمع فينا منذ المهد"

 

في البداية وللدخول في معالجة هذا الموضوع لا بد من اللجوء إلى الخطوات التالية:

1.  طرح إشكالية الموضوع.
2.  تحليل المسألة المطروحة.
3.  مناقشة المسألة المطروحة (الموضوع المطروح).
4.  توليف الأفكار التي تمت مناقشتها.
5. خلاصة (خاتمة).

المعالجة

١- طرح الاشكالية:

كثرت آراء الفلاسفة في مسألة الإرادة فرأى بعضهم فيها ''فكرة''، والبعض الآخر ''رغبة مطلقة''، وأبرَزَ فلاسفة آخرون الجهد الجسدي والنفسي في الإرادة. أما ''بلونديل'' فرأى أن ''الإرادة هي هدية المجتمع لنا منذ ولادتنا''، فما هي الإرادة، أهي هدية من المجتمع، أم هي فكرة، أم رغبة مطلقة؟

٢- تحليل المسألة المطروحة:

يرى علماء الاجتماع أن الصراع الحقيقي هو بين النوازع الفردية والقواعد الأخلاقية الاجتماعية. فالإرادة لا تبرز إلا في جهد الإنسان للتصرف بحسب ''الواجب'' الاجتماعي الذي هو أقصى سطوة اجتماعية على الأفراد، والذي يبدو دائماً كقوة خارجية ضاغطة على الفرد الانساني ''دوركهايم" (Durkheim)

لقد أهمل علم النفس التقليدي الجانب الاجتماعي للشخصية الانسانية وللأفعال الانسانية. فالفلسفة القديمة اعتبرت أن الانسان هو الفكر والعقل، ويمكن دراسته كمقولة قائمة بنفسها. وقد أظهرت الوقائع والتجارب مدى قصور هذه الفلسفة في معرفة الانسان ومواقفه. ولكن العلوم الانسانية الحديثة، التي تُسمّى أيضاً علوماً اجتماعية، وفيها علم النفس، أوْلَتْ الجانب الاجتماعي شأناً أساسياً في السلوك الانساني، وفي مختلف المواقف النفسية الفردية. ''فالأنا الأعلى'' عند ''فرويد'' هو مجموع القواعد الأخلاقية الاجتماعية التي ''تنظم''  ميول الانسان: فتقمع بعضها، وتسمح ببعضها الآخر. واعتبر ''بيار جانيه" (P. Janet) الذاكرة وظيفة اجتماعية كما اعتبر '' بلونديل''  أن  ''الإرادة والعقل يضعهما المجتمع فينا منذ المهد...''. وهذا يعني أن المجتمع هو مصدر الإرادة بالنسبة إلى ''بلونديل'' وأن أفعالنا الإرادية متأثرة دائماً بعوامل اجتماعية. مهما يكن فإن الجانب الاجتماعي يظهر في كل أشكال سلوكنا. وبخاصة في مواقفنا وأفعالنا الإرادية التي تتطلّب منا جهداً. والأمثلة كثيرة: فالسهر في الدرس والعمل، أسبابه البعيدة هي أسباب اجتماعية؛ وكذلك بالنسبة إلى اللياقات والواجبات الاجتماعية التي نقوم بها... فلو كان المجتمع يحفظ لنا الموقع الذي نشتهيه ونرغبه لأنفسنا من غير أن نجتهد ونناضل للحصول عليه، لما جهدْنا وتعبنا وناضلنا وسهرْنا البتة، ولما كان للإرادة أي معنى.

فالفعل الإرادي غالباً ما يستقطبه مثال أعلى، أو قيمة أخلاقية، أو نموذج سياسي... وهذه كلها ذات مصدر اجتماعي.

والإرادة لا تُفهم إلا قياساً على سلّم من القيم الأخلاقية '' والاجتماعية، كما قال ''دوبيران" (De Biran)  إن الإرادة هي وظيفة تنظيمية وعلامة فارقة في الشخصية تجعل أفعالنا أكثر ثباتاً من مشاعرنا ونحن، بفضل هذه الوظيفة، نثابر في العمل رغم تعبنا.

وإذا كانت الأفعال الإرادية تستند إلى قيم فالسؤال الذي يطرح نفسه يكمن في التعرّف إلى مصدر هذه القيم. يرى ''بلونديل'' أن مصدرها اجتماعي، لذلك فإن أفعالنا الإرادية متأثرة دائماً بعوامل اجتماعية. فإننا نلتزم غالباً بقواعد سلوك اجتماعي تُعرف بآداب السلوك والالتزامات الاجتماعية.

لكننا نشير أيضاً إلى أن للقيم مصادر أخرى، فالإنسان الذي يملك الإرادة، هو إنسان يلتزم بمبادئ ويرمي إلى أن يكون سيّد نفسه.

 

٣- مناقشة هذه المسألة في ضوء نظريات فلسفية أخرى:

بالرغم من أهمية المجتمع وتأثيره في سلوكنا وأفعالنا الإرادية، لا نستطيع القول إن الإرادة هي نتاج المجتمع فقط. فهناك عوامل كثيرة تلعب دوراً هاماً في الإرادة وأولها الفكر والوعي. فكيف يكون لنا فعل إرادي من دون تفكير ووعي؟ والفعل الإرادي هو قبل كل شيء فعل إنسانٍ مفكّر وواعٍ لغايته وهدفه ويتحمّل مسؤولية عمله.

ركّز الفلاسفة العقلانيون على دور الفكر في الفعل الإرادي. فتصوَّروه مسرحية من أربعة فصول هي:تصوُّر الهدف، المذاكرة أو التروّي، القرار والتنفيذ. وأعطوا أهمية للمرحلتين الأوليَين وهما من ميزات الفكر والعقل.

إلا أن الفكر وحده لا يكوّن الفعل الإرادي وهذا ما أكده التجريبيون وخاصة ''كوندياك(Condillac) ''   عندما قال: " إن الإرادة والرغبة شيء واحد وبما أن في الانسان دائماً رغبات عديدة متناقضة في الغالب، فالإرادة تكون إذاً الرغبة التي انتصرت على كل الرغبات الأخرى، فالإرادة هي إذاً ''رغبة مطلقة''.

غير أن الإرادة لا يمكن أن تكون رغبة فقط لأن ''إنسان الإرادة'' هو الذي لا يستسلم لبعض رغباته بل يلجمها في حين أن ''إنسان الرغبات''، على العكس، هو كسول مستسلم لرغباته، غير متبنّ لمشاريع بعيدة الأمد تتطلب منه صبراً وجَلَداً وجهداً. فالرغبة هي أقرب إلى التمنّي منها إلى الإرادة. يمكننا أن نتمنى أي شيء ونرغب في أي شيء ولكن لا يمكننا أن نريد إلا ما نستطيع تحقيقه فعلاً. فالإرادة إذاً تستلزم عنصراً هاماً هو الجهد بوجهيه الجسدي، كما أشار ''دوبيران'' والنفساني،'' كما قال ''وليم جيمس  (William James).

 

٤- توليف الأفكار التي تمت مناقشتها:

لقد أظهرت المناقشة أهمية نظرية ''بلونديل'' الاجتماعية في الإرادة. إلا أن هذه النظرية غير كافية لتحديد هذه الأخيرة. فالإرادة ليست عنصراً واحداً من العناصر التي أشرنا إليها، إنها مجموع هذه العناصر. ففي الإرادة فكر ووعي وجهد وحرية ورغبة وجانب اجتماعي وأخلاقي وتستند إلى مُثل عليا. ويقترح علماء النفس المعاصرون تحديد الإرادة بكونها توليفة (Synthèse) كبرى لكل هذه العناصر. والتوليفة بمعناها الجدلي، تجمع الأضداد مع بعضها البعض وتؤآلف في ما بينها. فالإرادة هي بالضرورة توليفة واعية تنظّمِ ميولنا تنظيماً متراتباً بحسب أهمية كل منها وتقيم جسراً بين ميولنا اللاواعية ورغباتنا ومشاريعنا الواعية. بهذا المعنى يقول "ريكور"  :(Ricoeur) "إن الفعل الإرادي هو الفعل الذي يقوم به الانسان ليجعل من حاجة حيوانية فيه حاجة إنسانية خالصة؛ هو الفعل القادر أن يقف بمواجهة حوافزنا العضوية (مثل الاضراب عن الطعام، التضحية...)، وبمواجهة حوافزنا الاجتماعية (اعتراض، رفض موقف..) بحيث يكون فهم الموقف التوليفي بديلاً عن التفسير التحليلي الذي يقدّمه علم النفس التجريبي. بهذا المعنى يقول ''ريكور'': ''إن الإرادة هي الواحد الإرادي الذي يأمر التعدّد الإرادي''.

 

٥- خلاصة:

أخيراً، نستنتج أن كل النظريات التي وردت تشكّل أسساً سليمة لمفهوم الإرادة. فهي مجتمعة تؤلف الإرادة، ولكنها منفصلة لا تعبّر إلا عن رأي الفيلسوف. باختصار يمكن اعتبار الإرادة سيادة الذات التي تتحقّق بالوعي والمعرفة والجهد والشجاعة بغية تحقيق الغايات المنشودة.

ولكن، مع كل هذه الاحتياطات الواعية، فلا شيء يحمي أفعالنا في بعض الظروف من السقوط، ويحمي إرادتنا من الوهن، إلا إرادتنا الطيبة التي يزيدها قوّةً التفافُ الآخرين حولنا والتعاون فيما بيننا، وهذا هو الجانب الاجتماعي من الإرادة الذي يتكلّم عنه ''بلونديل''.

إعداد قسم الفلسفة

المركز التربوي للبحوث والإنماء

كيفية معالجة موضوع فلسفي موضوع ''الإرادة'' كمثال

كيفية معالجة موضوع فلسفي

موضوع ''الإرادة'' كمثال

نظراً لأهمية التمكّن من معالجة موضوع فلسفي بالنسبة للأستاذ والتلميذ على السواء، ولأن هذا الموضوع يعتبر جزءًا من المادة التي تفيد المرشحين للامتحانات الرسمية لشهادة الثانوية العامة  (مادة الفلسفة والحضارات)، نعالج في هذا المقال كيفية دراسة موضوع فلسفي وتحليله، ونأخذ موضوع ''الإرادة'' كنموذج من ''محور الإنسان '' الذي تتضمنه مناهج الفلسفة والحضارات للسنة الثانوية الثالثة.

يقول بلونديل (Blondel): "العقل والإرادة يضعهما المجتمع فينا منذ المهد"

 

في البداية وللدخول في معالجة هذا الموضوع لا بد من اللجوء إلى الخطوات التالية:

1.  طرح إشكالية الموضوع.
2.  تحليل المسألة المطروحة.
3.  مناقشة المسألة المطروحة (الموضوع المطروح).
4.  توليف الأفكار التي تمت مناقشتها.
5. خلاصة (خاتمة).

المعالجة

١- طرح الاشكالية:

كثرت آراء الفلاسفة في مسألة الإرادة فرأى بعضهم فيها ''فكرة''، والبعض الآخر ''رغبة مطلقة''، وأبرَزَ فلاسفة آخرون الجهد الجسدي والنفسي في الإرادة. أما ''بلونديل'' فرأى أن ''الإرادة هي هدية المجتمع لنا منذ ولادتنا''، فما هي الإرادة، أهي هدية من المجتمع، أم هي فكرة، أم رغبة مطلقة؟

٢- تحليل المسألة المطروحة:

يرى علماء الاجتماع أن الصراع الحقيقي هو بين النوازع الفردية والقواعد الأخلاقية الاجتماعية. فالإرادة لا تبرز إلا في جهد الإنسان للتصرف بحسب ''الواجب'' الاجتماعي الذي هو أقصى سطوة اجتماعية على الأفراد، والذي يبدو دائماً كقوة خارجية ضاغطة على الفرد الانساني ''دوركهايم" (Durkheim)

لقد أهمل علم النفس التقليدي الجانب الاجتماعي للشخصية الانسانية وللأفعال الانسانية. فالفلسفة القديمة اعتبرت أن الانسان هو الفكر والعقل، ويمكن دراسته كمقولة قائمة بنفسها. وقد أظهرت الوقائع والتجارب مدى قصور هذه الفلسفة في معرفة الانسان ومواقفه. ولكن العلوم الانسانية الحديثة، التي تُسمّى أيضاً علوماً اجتماعية، وفيها علم النفس، أوْلَتْ الجانب الاجتماعي شأناً أساسياً في السلوك الانساني، وفي مختلف المواقف النفسية الفردية. ''فالأنا الأعلى'' عند ''فرويد'' هو مجموع القواعد الأخلاقية الاجتماعية التي ''تنظم''  ميول الانسان: فتقمع بعضها، وتسمح ببعضها الآخر. واعتبر ''بيار جانيه" (P. Janet) الذاكرة وظيفة اجتماعية كما اعتبر '' بلونديل''  أن  ''الإرادة والعقل يضعهما المجتمع فينا منذ المهد...''. وهذا يعني أن المجتمع هو مصدر الإرادة بالنسبة إلى ''بلونديل'' وأن أفعالنا الإرادية متأثرة دائماً بعوامل اجتماعية. مهما يكن فإن الجانب الاجتماعي يظهر في كل أشكال سلوكنا. وبخاصة في مواقفنا وأفعالنا الإرادية التي تتطلّب منا جهداً. والأمثلة كثيرة: فالسهر في الدرس والعمل، أسبابه البعيدة هي أسباب اجتماعية؛ وكذلك بالنسبة إلى اللياقات والواجبات الاجتماعية التي نقوم بها... فلو كان المجتمع يحفظ لنا الموقع الذي نشتهيه ونرغبه لأنفسنا من غير أن نجتهد ونناضل للحصول عليه، لما جهدْنا وتعبنا وناضلنا وسهرْنا البتة، ولما كان للإرادة أي معنى.

فالفعل الإرادي غالباً ما يستقطبه مثال أعلى، أو قيمة أخلاقية، أو نموذج سياسي... وهذه كلها ذات مصدر اجتماعي.

والإرادة لا تُفهم إلا قياساً على سلّم من القيم الأخلاقية '' والاجتماعية، كما قال ''دوبيران" (De Biran)  إن الإرادة هي وظيفة تنظيمية وعلامة فارقة في الشخصية تجعل أفعالنا أكثر ثباتاً من مشاعرنا ونحن، بفضل هذه الوظيفة، نثابر في العمل رغم تعبنا.

وإذا كانت الأفعال الإرادية تستند إلى قيم فالسؤال الذي يطرح نفسه يكمن في التعرّف إلى مصدر هذه القيم. يرى ''بلونديل'' أن مصدرها اجتماعي، لذلك فإن أفعالنا الإرادية متأثرة دائماً بعوامل اجتماعية. فإننا نلتزم غالباً بقواعد سلوك اجتماعي تُعرف بآداب السلوك والالتزامات الاجتماعية.

لكننا نشير أيضاً إلى أن للقيم مصادر أخرى، فالإنسان الذي يملك الإرادة، هو إنسان يلتزم بمبادئ ويرمي إلى أن يكون سيّد نفسه.

 

٣- مناقشة هذه المسألة في ضوء نظريات فلسفية أخرى:

بالرغم من أهمية المجتمع وتأثيره في سلوكنا وأفعالنا الإرادية، لا نستطيع القول إن الإرادة هي نتاج المجتمع فقط. فهناك عوامل كثيرة تلعب دوراً هاماً في الإرادة وأولها الفكر والوعي. فكيف يكون لنا فعل إرادي من دون تفكير ووعي؟ والفعل الإرادي هو قبل كل شيء فعل إنسانٍ مفكّر وواعٍ لغايته وهدفه ويتحمّل مسؤولية عمله.

ركّز الفلاسفة العقلانيون على دور الفكر في الفعل الإرادي. فتصوَّروه مسرحية من أربعة فصول هي:تصوُّر الهدف، المذاكرة أو التروّي، القرار والتنفيذ. وأعطوا أهمية للمرحلتين الأوليَين وهما من ميزات الفكر والعقل.

إلا أن الفكر وحده لا يكوّن الفعل الإرادي وهذا ما أكده التجريبيون وخاصة ''كوندياك(Condillac) ''   عندما قال: " إن الإرادة والرغبة شيء واحد وبما أن في الانسان دائماً رغبات عديدة متناقضة في الغالب، فالإرادة تكون إذاً الرغبة التي انتصرت على كل الرغبات الأخرى، فالإرادة هي إذاً ''رغبة مطلقة''.

غير أن الإرادة لا يمكن أن تكون رغبة فقط لأن ''إنسان الإرادة'' هو الذي لا يستسلم لبعض رغباته بل يلجمها في حين أن ''إنسان الرغبات''، على العكس، هو كسول مستسلم لرغباته، غير متبنّ لمشاريع بعيدة الأمد تتطلب منه صبراً وجَلَداً وجهداً. فالرغبة هي أقرب إلى التمنّي منها إلى الإرادة. يمكننا أن نتمنى أي شيء ونرغب في أي شيء ولكن لا يمكننا أن نريد إلا ما نستطيع تحقيقه فعلاً. فالإرادة إذاً تستلزم عنصراً هاماً هو الجهد بوجهيه الجسدي، كما أشار ''دوبيران'' والنفساني،'' كما قال ''وليم جيمس  (William James).

 

٤- توليف الأفكار التي تمت مناقشتها:

لقد أظهرت المناقشة أهمية نظرية ''بلونديل'' الاجتماعية في الإرادة. إلا أن هذه النظرية غير كافية لتحديد هذه الأخيرة. فالإرادة ليست عنصراً واحداً من العناصر التي أشرنا إليها، إنها مجموع هذه العناصر. ففي الإرادة فكر ووعي وجهد وحرية ورغبة وجانب اجتماعي وأخلاقي وتستند إلى مُثل عليا. ويقترح علماء النفس المعاصرون تحديد الإرادة بكونها توليفة (Synthèse) كبرى لكل هذه العناصر. والتوليفة بمعناها الجدلي، تجمع الأضداد مع بعضها البعض وتؤآلف في ما بينها. فالإرادة هي بالضرورة توليفة واعية تنظّمِ ميولنا تنظيماً متراتباً بحسب أهمية كل منها وتقيم جسراً بين ميولنا اللاواعية ورغباتنا ومشاريعنا الواعية. بهذا المعنى يقول "ريكور"  :(Ricoeur) "إن الفعل الإرادي هو الفعل الذي يقوم به الانسان ليجعل من حاجة حيوانية فيه حاجة إنسانية خالصة؛ هو الفعل القادر أن يقف بمواجهة حوافزنا العضوية (مثل الاضراب عن الطعام، التضحية...)، وبمواجهة حوافزنا الاجتماعية (اعتراض، رفض موقف..) بحيث يكون فهم الموقف التوليفي بديلاً عن التفسير التحليلي الذي يقدّمه علم النفس التجريبي. بهذا المعنى يقول ''ريكور'': ''إن الإرادة هي الواحد الإرادي الذي يأمر التعدّد الإرادي''.

 

٥- خلاصة:

أخيراً، نستنتج أن كل النظريات التي وردت تشكّل أسساً سليمة لمفهوم الإرادة. فهي مجتمعة تؤلف الإرادة، ولكنها منفصلة لا تعبّر إلا عن رأي الفيلسوف. باختصار يمكن اعتبار الإرادة سيادة الذات التي تتحقّق بالوعي والمعرفة والجهد والشجاعة بغية تحقيق الغايات المنشودة.

ولكن، مع كل هذه الاحتياطات الواعية، فلا شيء يحمي أفعالنا في بعض الظروف من السقوط، ويحمي إرادتنا من الوهن، إلا إرادتنا الطيبة التي يزيدها قوّةً التفافُ الآخرين حولنا والتعاون فيما بيننا، وهذا هو الجانب الاجتماعي من الإرادة الذي يتكلّم عنه ''بلونديل''.

إعداد قسم الفلسفة

المركز التربوي للبحوث والإنماء