المدرسة الثانوية في لبنان ملتقى، أو مفترق الطرق إلى الوطن

المدرسة الثانوية في لبنان

ملتقى، أو مفترق الطرق إلى الوطن

 

د. رضا سعادة المفتش العام التربويعندما نعلم أن التعليم الثانوي في لبنان يرتبط لدى التلامذة بمرحلة عمرية متوقّدة، تصل المراهقة بالشباب، وتمتلىء بالاندفاع والتطلع إلى المستقبل، وإثبات الذات والالتزام بالقيم وعندما نعلم أن حيوية هذه المرحلة وتوقّدها، يتمظهران في أشكال مختلفة من التعبير السلوكي، الفردي والاجتماعي، وأنه في هذه المرحلة تتحدّد العلاقة مع الدين، وتتّخذ المواقف منه سلباً أو إيجاباً، كما تظهر التوجهات نحو سوق العمل، وتتبلور الإمكانات للمساهمة في التنمية على أشكالها، وأن هذه المرحلة من التعليم هي المعبر إلى التعليم العالي، الذي ترتسم معه الخطوط العريضة والنهائية لنمط العيش والحياة. وعندما نعلم أن هذه المرحلة بوجهيها، العلمي  التعلّمي والنفسي  الاجتماعي، هي المرحلة الأهّم لوعي موضوع الاندماج الاجتماعي والتوجهات الوحدوية الوطنية؛ عندما نعلم ذلك كلّه، ندرك أن التعليم الثانوي هو مفصل من أهّم مفاصل التعليم، خاصاً كان أم رسمياً، وأنه مفترق الطرق المؤدية إلى الضياع إذا لم نحسن ضبطه وتوجيهه، أو ملتقى الطرق المؤدية إلى الوطن، إذا حسن الضبط والتوجيه، وصدقت النوايا وسلمت التصرفات.

 

فالتعليم الثانوي حاضر بقوة في الهيكلية والمناهج الجديدة، سواء أكان ذلك في التوجهات والغايات والأهداف العامة للمناهج، أم في غايات وأهداف التعليم الثانوي على وجه الخصوص.

فإذا هدفت التوجهات العامة إلى تعزيز الربط بين التعليم ما قبل الجامعي والتعليم العالي، وإلى تحقيق التوازن بين التعليم العام والتعليم المهني والتقني؛ فمن غيرُ التعليم الثانوي معنيّ بذلك ؟ وإذا كانت التربية من أولويات الأعمال الوطنية، لأنها تدخل في إطار التخطيط للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، فإن شهادة ''الثانوية العامة'' تكتسب أهمّيتها في الدخول إلى سوق العمل، أو في متابعة التخصّص الجامعي والدراسات العليا، أو في الصورة الجيدة التي تعطيها عن الوطن، عندما تشهد بمستواها المعاهد والجامعات الأجنبية لدى طلابنا الذين يتابعون دراساتهم في الخارج

وإذا كان من أهّم الغايات والأهداف العامة للمناهج، إلى جانب بناء الفرد، بناء المواطن والعضو الصالح المنتج في المجتمع، من خلال الأبعاد الفكرية والإنسانية، كالإيمان بالحرية والديموقراطية، وبالقيم والمبادىء، والالتزام بالثقافة الوطنية والتراث الروحي، والانفتاح على الثقافات العالمية والإنسانية والتفاعل معها؛ فإنّ هذه المفاهيم جميعها لا تدرك إلاّ على مستوى التعليم الثانوي وما فوق

أما البُعد الوطني، المتمثّل بالإيمان والالتزام بسيادة القانون واحترام الحريات الفردية والجماعية، ومنها حرية التعليم؛ فهما بُعدان لصيقان بالتعليم الثانوي إلى أبعد الحدود.

 ولو اخترنا من أهداف المناهج وغاياتها، بناء المواطن فقط، ليكون مواطناً معتزاً بوطنه وبالانتماء إليه، ملتزماً بقضاياه، ومعتزاً بهويته وانتمائه العربيين، ومتمثلاً التراث الروحي، ومتمسكاً بالأخلاق والقيم الانسانية، مبتعداً عن الفئوية الضيقة، ناشداً الوصول إلى مجتمع منفتح موحّد؛ لكانت هذه الولاءات والاعتزازات كلها غير مفهومة، ولا تتخذ بشأنها المواقف، ما لم يكن ذلك على مستوى التعليم الثانوي وما فوق، ففي الثانوي يكون المدماك الأساس.

إذاً، التعليم الثانوي أهّم مرحلة يُتابَع فيها إنماء المواطن، وتمكينه من تقرير خياره للمستقبل.

إنها المرحلة الأكثر التصاقاً بالحياة، يُتوخى فيها توثيق الروابط بين المدرسة والمجتمع، وجعل المتعلم يفهم جوهر الأديان، ويدرك أهمّية القيم والمبادىء الأخلاقية والانسانية، والأنظمة والقوانين، وحرية التعبير، واحترام الغير، وترسيخ أسس العيش المشترك.

وإذا كنا نريد لبنان وطناً للحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، فهذا التعليم يبدأ بالكشف عن دور المواطن المسؤول اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وعن إدراك أهمّية الانتاج، والخدمات وترشيد الاستهلاك والإنفاق؛ ناهيك بدور الأسرة وأهمّيتها، وبالتفاعل الثقافي والحضاري من خلال إتقان اللغات الأجنبية. والسؤال الآن : هل يؤدّي التعليم الثانوي دوره؟

إذا اخترنا من بين الأهداف العامة لهذا التعليم، أربعة أهداف استراتيجية فقط، هي :

  1. منع التسرب.
  2. تأمين جودة التعليم.
  3. حسن التوجيه ما بين التعليم العام والتعليم المهني والتقني.
  4. تحقيق الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية. ومن خلال تتبعنا هذه القضايا على أرض الواقع، نلاحظ:

 

  1. أن التسرب قائم، وأنه  كما ورد في الصفحة ١١ من كتاب الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، الصادر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء العام ١٩٩٥ - من كلّ عشرة تلاميذ يدخلون الصف الأول الابتدائي، يصل إلى الصف الثالث الثانوي اثنان فقط (يعني أن التسرب كان حوالي ٨٠٪)

ومن خلال دراسة إحصائية دقيقة، تبيّن لنا أن عدد التلاميذ المسجلين في الصف الأول الأساسي للعام الدراسي ١٩٩٥ - ١٩٩٦ ، كان حوالي ٧٩٧٠٠ تلميذ، وقد بلغ عدد من وصل منهم إلى الصف التاسع الأساسي للعام ٢٠٠٣ – ٢٠٠٤/ ٥٧٧٠٠ تلميذ، وإلى الصف الأول الثانوي للعام ٢٠٠٤-٢٠٠٥/ ٤٤٢٩٦ تلميذاً، فيكون التسرب لهؤلاء قد بلغ  ٣٥٤٠٠ تلميذ، أي ما نسبته حوالي ٤٥  ٪.

  1. أما في موضوع جودة التعليم، فلا يزال هناك جزر حرمان وجزر إتقان في لبنان، وعلى الصعيدين الخاص والرسمي. وإذا كان التعليم الثانوي الرسمي قد تميّز بجودته عن بقية مراحل التعليم، وحقق نسب نجاح عالية في شهادة ''الثانوية العامة'' بفروعها كافة، فإن نسبة المتفوقين في التعليم الرسمي لا زالت متدنية، وهي لم تزد للعام ٢٠٠٥ على نسبة .٢٠٪
  2. وفي موضوع التوجيه، وتعدّد الخيارات التعلمية، فتكفينا الإشارة إلى الضياع في صفوف المتخرجين، مهنيين وأكاديميين، ويكفينا الوقوف عند هذا الرقم الصعب للحائزين على الشهادة الثانوية في لبنان للعام ٢٠٠٥ ، إذ بلغ عدد الشهادات الثانوية الرسمية الممنوحة ( ٣٠٠٠٠ ) ثلاثين ألف شهادة ! فماذا سيفعل كلّ هؤلاء بشهاداتهم وأين سيذهبون ؟
  3. أما في موضوع الاندماج الاجتماعي، والوحدة الوطنية، فتكفي الإشارة إلى وجود آذارين، وساحتين، وشارعين مع متفرعاتهما التي لا تعدّ ولا تحصى، للدلالة على العقبات والعوائق التي لا تزال تحول دون تحقيق أحلامنا بوطن كامل السيادة بوحدته وتآلف مواطنيه.

من هنا كانت قناعتنا الأبدية بالمدرسة الرسمية في لبنان، التي سيكون على عاتقها وحدها، إذا ما تمّ النهوض بها، تأمين اللحمة الوطنية، والاندماج الاجتماعي، والاستثمار الإيجابي لتعدّد الثقافات.

فما أحوجنا إلى أن نكون أمّة من الطلبة، وإلى أن نضع استراتيجية تربوية ملائمة ونبدأ فوراً بتنفيذها، انطلاقاً من سدّ النواقص على جميع الأصعدة  (من اللغة الأجنبية، إلى التكنولوجيا والمواد الأدائية، فإلى مادتي التاريخ والتربية الوطنية ثم حسم أمر التعليم الديني)، مروراً بالإنصاف المادي والمعنوي للأساتذة والمعلمين، وصولاً إلى التطوير المستمر تدريباً وإعادة نظر، وإلى تكافؤ الفرص بين التعليمين الخاص والرسمي.

إن أية استراتيجية تربوية لا توضع إلاّ بالاستناد إلى الفلسفة التربوية للوطن، المنبثقة من الفلسفة الاجتماعية، يعني السياسة.  فهلاّ اتفقنا على سياسة تربوية وطنية، واتخذنا قرارنا السياسي المناسب ؟ أم أننا سنبقى نتساءل : أتصطلح التربية لتصطلح السياسة، أم تصطلح السياسة لتصطلح التربية ؟ ونبقى مختلفين حول من قبل من، هل هي بيضة التربية أم دجاجة السياسة ؟ فنبقى نجتر أنفسنا ومشكلاتنا على مدار الزمن!

المدرسة الثانوية في لبنان ملتقى، أو مفترق الطرق إلى الوطن

المدرسة الثانوية في لبنان

ملتقى، أو مفترق الطرق إلى الوطن

 

د. رضا سعادة المفتش العام التربويعندما نعلم أن التعليم الثانوي في لبنان يرتبط لدى التلامذة بمرحلة عمرية متوقّدة، تصل المراهقة بالشباب، وتمتلىء بالاندفاع والتطلع إلى المستقبل، وإثبات الذات والالتزام بالقيم وعندما نعلم أن حيوية هذه المرحلة وتوقّدها، يتمظهران في أشكال مختلفة من التعبير السلوكي، الفردي والاجتماعي، وأنه في هذه المرحلة تتحدّد العلاقة مع الدين، وتتّخذ المواقف منه سلباً أو إيجاباً، كما تظهر التوجهات نحو سوق العمل، وتتبلور الإمكانات للمساهمة في التنمية على أشكالها، وأن هذه المرحلة من التعليم هي المعبر إلى التعليم العالي، الذي ترتسم معه الخطوط العريضة والنهائية لنمط العيش والحياة. وعندما نعلم أن هذه المرحلة بوجهيها، العلمي  التعلّمي والنفسي  الاجتماعي، هي المرحلة الأهّم لوعي موضوع الاندماج الاجتماعي والتوجهات الوحدوية الوطنية؛ عندما نعلم ذلك كلّه، ندرك أن التعليم الثانوي هو مفصل من أهّم مفاصل التعليم، خاصاً كان أم رسمياً، وأنه مفترق الطرق المؤدية إلى الضياع إذا لم نحسن ضبطه وتوجيهه، أو ملتقى الطرق المؤدية إلى الوطن، إذا حسن الضبط والتوجيه، وصدقت النوايا وسلمت التصرفات.

 

فالتعليم الثانوي حاضر بقوة في الهيكلية والمناهج الجديدة، سواء أكان ذلك في التوجهات والغايات والأهداف العامة للمناهج، أم في غايات وأهداف التعليم الثانوي على وجه الخصوص.

فإذا هدفت التوجهات العامة إلى تعزيز الربط بين التعليم ما قبل الجامعي والتعليم العالي، وإلى تحقيق التوازن بين التعليم العام والتعليم المهني والتقني؛ فمن غيرُ التعليم الثانوي معنيّ بذلك ؟ وإذا كانت التربية من أولويات الأعمال الوطنية، لأنها تدخل في إطار التخطيط للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، فإن شهادة ''الثانوية العامة'' تكتسب أهمّيتها في الدخول إلى سوق العمل، أو في متابعة التخصّص الجامعي والدراسات العليا، أو في الصورة الجيدة التي تعطيها عن الوطن، عندما تشهد بمستواها المعاهد والجامعات الأجنبية لدى طلابنا الذين يتابعون دراساتهم في الخارج

وإذا كان من أهّم الغايات والأهداف العامة للمناهج، إلى جانب بناء الفرد، بناء المواطن والعضو الصالح المنتج في المجتمع، من خلال الأبعاد الفكرية والإنسانية، كالإيمان بالحرية والديموقراطية، وبالقيم والمبادىء، والالتزام بالثقافة الوطنية والتراث الروحي، والانفتاح على الثقافات العالمية والإنسانية والتفاعل معها؛ فإنّ هذه المفاهيم جميعها لا تدرك إلاّ على مستوى التعليم الثانوي وما فوق

أما البُعد الوطني، المتمثّل بالإيمان والالتزام بسيادة القانون واحترام الحريات الفردية والجماعية، ومنها حرية التعليم؛ فهما بُعدان لصيقان بالتعليم الثانوي إلى أبعد الحدود.

 ولو اخترنا من أهداف المناهج وغاياتها، بناء المواطن فقط، ليكون مواطناً معتزاً بوطنه وبالانتماء إليه، ملتزماً بقضاياه، ومعتزاً بهويته وانتمائه العربيين، ومتمثلاً التراث الروحي، ومتمسكاً بالأخلاق والقيم الانسانية، مبتعداً عن الفئوية الضيقة، ناشداً الوصول إلى مجتمع منفتح موحّد؛ لكانت هذه الولاءات والاعتزازات كلها غير مفهومة، ولا تتخذ بشأنها المواقف، ما لم يكن ذلك على مستوى التعليم الثانوي وما فوق، ففي الثانوي يكون المدماك الأساس.

إذاً، التعليم الثانوي أهّم مرحلة يُتابَع فيها إنماء المواطن، وتمكينه من تقرير خياره للمستقبل.

إنها المرحلة الأكثر التصاقاً بالحياة، يُتوخى فيها توثيق الروابط بين المدرسة والمجتمع، وجعل المتعلم يفهم جوهر الأديان، ويدرك أهمّية القيم والمبادىء الأخلاقية والانسانية، والأنظمة والقوانين، وحرية التعبير، واحترام الغير، وترسيخ أسس العيش المشترك.

وإذا كنا نريد لبنان وطناً للحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، فهذا التعليم يبدأ بالكشف عن دور المواطن المسؤول اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وعن إدراك أهمّية الانتاج، والخدمات وترشيد الاستهلاك والإنفاق؛ ناهيك بدور الأسرة وأهمّيتها، وبالتفاعل الثقافي والحضاري من خلال إتقان اللغات الأجنبية. والسؤال الآن : هل يؤدّي التعليم الثانوي دوره؟

إذا اخترنا من بين الأهداف العامة لهذا التعليم، أربعة أهداف استراتيجية فقط، هي :

  1. منع التسرب.
  2. تأمين جودة التعليم.
  3. حسن التوجيه ما بين التعليم العام والتعليم المهني والتقني.
  4. تحقيق الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية. ومن خلال تتبعنا هذه القضايا على أرض الواقع، نلاحظ:

 

  1. أن التسرب قائم، وأنه  كما ورد في الصفحة ١١ من كتاب الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، الصادر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء العام ١٩٩٥ - من كلّ عشرة تلاميذ يدخلون الصف الأول الابتدائي، يصل إلى الصف الثالث الثانوي اثنان فقط (يعني أن التسرب كان حوالي ٨٠٪)

ومن خلال دراسة إحصائية دقيقة، تبيّن لنا أن عدد التلاميذ المسجلين في الصف الأول الأساسي للعام الدراسي ١٩٩٥ - ١٩٩٦ ، كان حوالي ٧٩٧٠٠ تلميذ، وقد بلغ عدد من وصل منهم إلى الصف التاسع الأساسي للعام ٢٠٠٣ – ٢٠٠٤/ ٥٧٧٠٠ تلميذ، وإلى الصف الأول الثانوي للعام ٢٠٠٤-٢٠٠٥/ ٤٤٢٩٦ تلميذاً، فيكون التسرب لهؤلاء قد بلغ  ٣٥٤٠٠ تلميذ، أي ما نسبته حوالي ٤٥  ٪.

  1. أما في موضوع جودة التعليم، فلا يزال هناك جزر حرمان وجزر إتقان في لبنان، وعلى الصعيدين الخاص والرسمي. وإذا كان التعليم الثانوي الرسمي قد تميّز بجودته عن بقية مراحل التعليم، وحقق نسب نجاح عالية في شهادة ''الثانوية العامة'' بفروعها كافة، فإن نسبة المتفوقين في التعليم الرسمي لا زالت متدنية، وهي لم تزد للعام ٢٠٠٥ على نسبة .٢٠٪
  2. وفي موضوع التوجيه، وتعدّد الخيارات التعلمية، فتكفينا الإشارة إلى الضياع في صفوف المتخرجين، مهنيين وأكاديميين، ويكفينا الوقوف عند هذا الرقم الصعب للحائزين على الشهادة الثانوية في لبنان للعام ٢٠٠٥ ، إذ بلغ عدد الشهادات الثانوية الرسمية الممنوحة ( ٣٠٠٠٠ ) ثلاثين ألف شهادة ! فماذا سيفعل كلّ هؤلاء بشهاداتهم وأين سيذهبون ؟
  3. أما في موضوع الاندماج الاجتماعي، والوحدة الوطنية، فتكفي الإشارة إلى وجود آذارين، وساحتين، وشارعين مع متفرعاتهما التي لا تعدّ ولا تحصى، للدلالة على العقبات والعوائق التي لا تزال تحول دون تحقيق أحلامنا بوطن كامل السيادة بوحدته وتآلف مواطنيه.

من هنا كانت قناعتنا الأبدية بالمدرسة الرسمية في لبنان، التي سيكون على عاتقها وحدها، إذا ما تمّ النهوض بها، تأمين اللحمة الوطنية، والاندماج الاجتماعي، والاستثمار الإيجابي لتعدّد الثقافات.

فما أحوجنا إلى أن نكون أمّة من الطلبة، وإلى أن نضع استراتيجية تربوية ملائمة ونبدأ فوراً بتنفيذها، انطلاقاً من سدّ النواقص على جميع الأصعدة  (من اللغة الأجنبية، إلى التكنولوجيا والمواد الأدائية، فإلى مادتي التاريخ والتربية الوطنية ثم حسم أمر التعليم الديني)، مروراً بالإنصاف المادي والمعنوي للأساتذة والمعلمين، وصولاً إلى التطوير المستمر تدريباً وإعادة نظر، وإلى تكافؤ الفرص بين التعليمين الخاص والرسمي.

إن أية استراتيجية تربوية لا توضع إلاّ بالاستناد إلى الفلسفة التربوية للوطن، المنبثقة من الفلسفة الاجتماعية، يعني السياسة.  فهلاّ اتفقنا على سياسة تربوية وطنية، واتخذنا قرارنا السياسي المناسب ؟ أم أننا سنبقى نتساءل : أتصطلح التربية لتصطلح السياسة، أم تصطلح السياسة لتصطلح التربية ؟ ونبقى مختلفين حول من قبل من، هل هي بيضة التربية أم دجاجة السياسة ؟ فنبقى نجتر أنفسنا ومشكلاتنا على مدار الزمن!

المدرسة الثانوية في لبنان ملتقى، أو مفترق الطرق إلى الوطن

المدرسة الثانوية في لبنان

ملتقى، أو مفترق الطرق إلى الوطن

 

د. رضا سعادة المفتش العام التربويعندما نعلم أن التعليم الثانوي في لبنان يرتبط لدى التلامذة بمرحلة عمرية متوقّدة، تصل المراهقة بالشباب، وتمتلىء بالاندفاع والتطلع إلى المستقبل، وإثبات الذات والالتزام بالقيم وعندما نعلم أن حيوية هذه المرحلة وتوقّدها، يتمظهران في أشكال مختلفة من التعبير السلوكي، الفردي والاجتماعي، وأنه في هذه المرحلة تتحدّد العلاقة مع الدين، وتتّخذ المواقف منه سلباً أو إيجاباً، كما تظهر التوجهات نحو سوق العمل، وتتبلور الإمكانات للمساهمة في التنمية على أشكالها، وأن هذه المرحلة من التعليم هي المعبر إلى التعليم العالي، الذي ترتسم معه الخطوط العريضة والنهائية لنمط العيش والحياة. وعندما نعلم أن هذه المرحلة بوجهيها، العلمي  التعلّمي والنفسي  الاجتماعي، هي المرحلة الأهّم لوعي موضوع الاندماج الاجتماعي والتوجهات الوحدوية الوطنية؛ عندما نعلم ذلك كلّه، ندرك أن التعليم الثانوي هو مفصل من أهّم مفاصل التعليم، خاصاً كان أم رسمياً، وأنه مفترق الطرق المؤدية إلى الضياع إذا لم نحسن ضبطه وتوجيهه، أو ملتقى الطرق المؤدية إلى الوطن، إذا حسن الضبط والتوجيه، وصدقت النوايا وسلمت التصرفات.

 

فالتعليم الثانوي حاضر بقوة في الهيكلية والمناهج الجديدة، سواء أكان ذلك في التوجهات والغايات والأهداف العامة للمناهج، أم في غايات وأهداف التعليم الثانوي على وجه الخصوص.

فإذا هدفت التوجهات العامة إلى تعزيز الربط بين التعليم ما قبل الجامعي والتعليم العالي، وإلى تحقيق التوازن بين التعليم العام والتعليم المهني والتقني؛ فمن غيرُ التعليم الثانوي معنيّ بذلك ؟ وإذا كانت التربية من أولويات الأعمال الوطنية، لأنها تدخل في إطار التخطيط للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، فإن شهادة ''الثانوية العامة'' تكتسب أهمّيتها في الدخول إلى سوق العمل، أو في متابعة التخصّص الجامعي والدراسات العليا، أو في الصورة الجيدة التي تعطيها عن الوطن، عندما تشهد بمستواها المعاهد والجامعات الأجنبية لدى طلابنا الذين يتابعون دراساتهم في الخارج

وإذا كان من أهّم الغايات والأهداف العامة للمناهج، إلى جانب بناء الفرد، بناء المواطن والعضو الصالح المنتج في المجتمع، من خلال الأبعاد الفكرية والإنسانية، كالإيمان بالحرية والديموقراطية، وبالقيم والمبادىء، والالتزام بالثقافة الوطنية والتراث الروحي، والانفتاح على الثقافات العالمية والإنسانية والتفاعل معها؛ فإنّ هذه المفاهيم جميعها لا تدرك إلاّ على مستوى التعليم الثانوي وما فوق

أما البُعد الوطني، المتمثّل بالإيمان والالتزام بسيادة القانون واحترام الحريات الفردية والجماعية، ومنها حرية التعليم؛ فهما بُعدان لصيقان بالتعليم الثانوي إلى أبعد الحدود.

 ولو اخترنا من أهداف المناهج وغاياتها، بناء المواطن فقط، ليكون مواطناً معتزاً بوطنه وبالانتماء إليه، ملتزماً بقضاياه، ومعتزاً بهويته وانتمائه العربيين، ومتمثلاً التراث الروحي، ومتمسكاً بالأخلاق والقيم الانسانية، مبتعداً عن الفئوية الضيقة، ناشداً الوصول إلى مجتمع منفتح موحّد؛ لكانت هذه الولاءات والاعتزازات كلها غير مفهومة، ولا تتخذ بشأنها المواقف، ما لم يكن ذلك على مستوى التعليم الثانوي وما فوق، ففي الثانوي يكون المدماك الأساس.

إذاً، التعليم الثانوي أهّم مرحلة يُتابَع فيها إنماء المواطن، وتمكينه من تقرير خياره للمستقبل.

إنها المرحلة الأكثر التصاقاً بالحياة، يُتوخى فيها توثيق الروابط بين المدرسة والمجتمع، وجعل المتعلم يفهم جوهر الأديان، ويدرك أهمّية القيم والمبادىء الأخلاقية والانسانية، والأنظمة والقوانين، وحرية التعبير، واحترام الغير، وترسيخ أسس العيش المشترك.

وإذا كنا نريد لبنان وطناً للحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، فهذا التعليم يبدأ بالكشف عن دور المواطن المسؤول اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وعن إدراك أهمّية الانتاج، والخدمات وترشيد الاستهلاك والإنفاق؛ ناهيك بدور الأسرة وأهمّيتها، وبالتفاعل الثقافي والحضاري من خلال إتقان اللغات الأجنبية. والسؤال الآن : هل يؤدّي التعليم الثانوي دوره؟

إذا اخترنا من بين الأهداف العامة لهذا التعليم، أربعة أهداف استراتيجية فقط، هي :

  1. منع التسرب.
  2. تأمين جودة التعليم.
  3. حسن التوجيه ما بين التعليم العام والتعليم المهني والتقني.
  4. تحقيق الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية. ومن خلال تتبعنا هذه القضايا على أرض الواقع، نلاحظ:

 

  1. أن التسرب قائم، وأنه  كما ورد في الصفحة ١١ من كتاب الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، الصادر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء العام ١٩٩٥ - من كلّ عشرة تلاميذ يدخلون الصف الأول الابتدائي، يصل إلى الصف الثالث الثانوي اثنان فقط (يعني أن التسرب كان حوالي ٨٠٪)

ومن خلال دراسة إحصائية دقيقة، تبيّن لنا أن عدد التلاميذ المسجلين في الصف الأول الأساسي للعام الدراسي ١٩٩٥ - ١٩٩٦ ، كان حوالي ٧٩٧٠٠ تلميذ، وقد بلغ عدد من وصل منهم إلى الصف التاسع الأساسي للعام ٢٠٠٣ – ٢٠٠٤/ ٥٧٧٠٠ تلميذ، وإلى الصف الأول الثانوي للعام ٢٠٠٤-٢٠٠٥/ ٤٤٢٩٦ تلميذاً، فيكون التسرب لهؤلاء قد بلغ  ٣٥٤٠٠ تلميذ، أي ما نسبته حوالي ٤٥  ٪.

  1. أما في موضوع جودة التعليم، فلا يزال هناك جزر حرمان وجزر إتقان في لبنان، وعلى الصعيدين الخاص والرسمي. وإذا كان التعليم الثانوي الرسمي قد تميّز بجودته عن بقية مراحل التعليم، وحقق نسب نجاح عالية في شهادة ''الثانوية العامة'' بفروعها كافة، فإن نسبة المتفوقين في التعليم الرسمي لا زالت متدنية، وهي لم تزد للعام ٢٠٠٥ على نسبة .٢٠٪
  2. وفي موضوع التوجيه، وتعدّد الخيارات التعلمية، فتكفينا الإشارة إلى الضياع في صفوف المتخرجين، مهنيين وأكاديميين، ويكفينا الوقوف عند هذا الرقم الصعب للحائزين على الشهادة الثانوية في لبنان للعام ٢٠٠٥ ، إذ بلغ عدد الشهادات الثانوية الرسمية الممنوحة ( ٣٠٠٠٠ ) ثلاثين ألف شهادة ! فماذا سيفعل كلّ هؤلاء بشهاداتهم وأين سيذهبون ؟
  3. أما في موضوع الاندماج الاجتماعي، والوحدة الوطنية، فتكفي الإشارة إلى وجود آذارين، وساحتين، وشارعين مع متفرعاتهما التي لا تعدّ ولا تحصى، للدلالة على العقبات والعوائق التي لا تزال تحول دون تحقيق أحلامنا بوطن كامل السيادة بوحدته وتآلف مواطنيه.

من هنا كانت قناعتنا الأبدية بالمدرسة الرسمية في لبنان، التي سيكون على عاتقها وحدها، إذا ما تمّ النهوض بها، تأمين اللحمة الوطنية، والاندماج الاجتماعي، والاستثمار الإيجابي لتعدّد الثقافات.

فما أحوجنا إلى أن نكون أمّة من الطلبة، وإلى أن نضع استراتيجية تربوية ملائمة ونبدأ فوراً بتنفيذها، انطلاقاً من سدّ النواقص على جميع الأصعدة  (من اللغة الأجنبية، إلى التكنولوجيا والمواد الأدائية، فإلى مادتي التاريخ والتربية الوطنية ثم حسم أمر التعليم الديني)، مروراً بالإنصاف المادي والمعنوي للأساتذة والمعلمين، وصولاً إلى التطوير المستمر تدريباً وإعادة نظر، وإلى تكافؤ الفرص بين التعليمين الخاص والرسمي.

إن أية استراتيجية تربوية لا توضع إلاّ بالاستناد إلى الفلسفة التربوية للوطن، المنبثقة من الفلسفة الاجتماعية، يعني السياسة.  فهلاّ اتفقنا على سياسة تربوية وطنية، واتخذنا قرارنا السياسي المناسب ؟ أم أننا سنبقى نتساءل : أتصطلح التربية لتصطلح السياسة، أم تصطلح السياسة لتصطلح التربية ؟ ونبقى مختلفين حول من قبل من، هل هي بيضة التربية أم دجاجة السياسة ؟ فنبقى نجتر أنفسنا ومشكلاتنا على مدار الزمن!