عوارض ما بعد الصدمة عند الأولاد وكيفية التعاطي معها
عوارض ما بعد الصدمة عند الأولاد وكيفية التعاطي معها
كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن الصدمة النفسية خاصةً بعد ما مرّ به اللبنانيون من أحداث مؤلمة وقاسية. أمّا عن سبب توصيف هذه الأحداث ''بالصدمة'' فيعود إلى كونها شكّلت ما يُسمى ''بالواقعة''(Réel) غير المنتظرة وغير المهيأ لها نفسياً أو فكرياً، وبالتالي غير المرمّزة أو المعرّف عنها (Non symbolisable ) (هل هي حرب طويلة الأمد أو قصيرة ... من المستهدف ...؟). وإضافة الى عنصر المفاجأة الذي يشكل أهم عناصر الصدمة، هنالك حالة الهلع والفوضى التي سيطرت على النفوس، إذ أصبح من المستحيل إعطاء تفسير لما يحصل أو التكهّن بما هو آتٍ. ومّما يزيد من حدة الخوف والشعور بالاضطهاد هو عدم رؤية العدو أو تحديد موقعه وبالتالي استحالة تحديد مصدر الخطر بهدف تجنبه أو الهروب منه. فلا مكان آمن، وغالبية المدن والبلدات أصبحت أهدافاً محتملة.
يُضاف الى هذا كلّه الشعور بالوحدة والعزلة في غياب المساعدة والنجدة الآتيتين من الخارج القريب أو البعيد، ما يعزز حالة الهلع والإرتباك أمام آلة عسكرية غاضبة ومدمرة تستهدف الجميع من دون استثناء، ولا تفرّق بين المقاتلين والمدنيين العُزَّل حتى ولو كانوا من النساء والأطفال.
شكلت هذه العوامل مجتمعة ما يُعرف ''بالصدمة النفسية'' (Traumatisme psychique ) التي تفشَّت في المجتمع ككل وإن أصابت أناساً أكثر من غيرهم. وكان تأثيرها على البعض كبير بحيث غيّرت مجرى حياتهم الطبيعي وأدّت في بعض الحالات إلى أعراض مرَضيّة تعيق حياة الانسان الفرديّة والعائلية والاجتماعية. وقد نظنّ أن هذا المقال جاء متأخراً إذ إن حالة الحرب قد أصبحت من الماضي وانتهت العمليات العسكرية، وبذلك فمن الطبيعي أن ننهي معها آثارها على المواطنين. ولكنه أصبح من المعروف أن الصدمة لا تختفي مع انتهاء الحدث المسبب لها بل بإمكانها أن تستمر لوقت طويل بعده، حتى إنها وفي أغلب الحالات لا تظهر أثناء الحدث نفسه بل بعد مرور فترة زمنية تتراوح بين الاسبوعي والستة أشهر على انتهائه، ولهذا السبب تُسمى ب ''عوارض ما بعد الصدمة" (Syndromes post-traumatiques).
أمّا الحديث عن تأثير الصّدمة على الاطفال بالتحديد، فهل هو مبرّر أو أن هذه الفئة لا تختلف عن سواها من فئات المجتمع في تأثّرها بالحرب وفي كيفية تعاطيها مع نتائجها المادية والمعنوية؟
الأرجح أن الاحتمال الأول هو الأصح، إذ إن العوارض تظهر بنسبة أكبر عند الأولاد، وهو ما نراه ونلمسه يومياً، سواء أكانوا في المنزل أم في المدرسة أم حتى في الملعب مع الاصدقاء.
ولكن، ما هي الأسباب المؤدية إلى تُعرّض الأولاد بشكل خاص لمفاعيل الصدمة، وهل يعود ذلك إلى ضعف بنيتهم الجسدية، وبالتالي عدم تمكنهم من الدفاع عن النفس، أو إلى تعرّضهم للخطر أكثر من غيرهم خصوصاً في حال غياب الأهل أو إصابتهم بحالة من الهلع بحيث لا يعود باستطاعتهم الاهتمام بأولادهم بشكل سليم؟
هذه احتمالات واردة إنما لا تشكل السبب الرئيسي في ظهور عوارض الصدمة النفسية عند الأولاد بشكل أساس. إذ إن هذه العوارض تعود بشكل خاص إلى عدم قدرة ''الأنا'' عند الولد على استيعاب ما يحصل وبالتالي على تحمّل واقع ما يراه أو ما يعيشه من عنف وتعذيب وتهجير... فكل هذه الأمور تُولّد انفعالات بالغة القوّة، ويترتّب على ''الأنا'' تصريفها وإلا ظهرت من خلال عوارض نفسية وجسدية.
والفارق الأبرز بين الإنسان الراشد والطفل في هذه الحالة هو أن الأول يمتلك الوسائل الضرورّية لفهم ما يحصل ولترميزه وبالتالي لتصريف الانفعال الناتج عنه. ويتمّ ذلك من خلال الكلام والتعبير عمّا يعيشه من ضيقة وخوف على حياته وحياة الآخرين، ومن قلق على المستقبل ... الخ. هذا التعبير يتّم طبعاً عبر الكلام والتواصل بين الناس للتخفيف بعضهم عن بعض وللاتحاد في مواجهة الصعوبات التي يمرّون بها، فيختلقون ما يشبه ''شبكة تواصل"( Chaîne de communication) تسمح لهم بالتعبير عما قاسوه وفهم ما حلّ بهم، لوضعه في خانة معيّنة من ذاكرتهم .
أما الطفل، فإن نضوجه الفكري والعاطفي غير الكاملين، إضافة إلى عدم امتلاكه للمفردات والتركيبات اللغوية اللازمة، يشكل حجر عثرة أمام محاولته لاستيعاب الصدمة وتصريف الانفعالات الناتجة عنها.
ونُذكّر هنا ما يسبّب الصدمة النفسية بشكل عام هو ما ينتج عن ''الأنا'' من انزعاج جرّاء تراكم الإنفعالات المتأتية من الخارج أو حتى من داخل الشخص نفسه (ولكن هذا ليس موضوعنا هنا).
وأمام عجزه عن ترميز الصدمة بسبب عدم قدرته على تحليلها والتعبير عنها، إضافة إلى التعتيم الذي يفرضه الأهل أحياناً بغية تجنب الولد آثار الصدمة، ظناً منهم أنه غير قادر على تحمّل نتائجها، يقوم الأنا بكبت مفاعيلها. ولكن هذا الكبت لا يدوم طويلاً، فيظل المكبوت ناشطاً في ''اللاوعي'' (l'inconscient ) ويسعى إلى الظهور إلى حالة الوعي (le conscient ) حين تكون الفرصة سانحة، حتى ولو طالت مدّة الكبت(Refoulement) .
وهذا ما يفسّرِ ظهور عوارض ما بعد الصدمة بعد فترة من الركود والهدوء تتخطّى في بعض الحالات مهلة الستّة أشهر.
أمّا العوارض التي يظهر من خلالها ما قد تمّ كبته وعاد من جديد إلى حالة الوعي (Retour de refoulememt) فهي الآتية:
في المنزل:
- تبدّلُات في النوم تظهر من خلال الأرق، أو الخوف الليلي، أو الكوابيس، أو كل هذه العناصرمجتمعة.
- تبدّلُات في الشهيّة تُترجَم برفض الولد للطعام، بفقدان الشهية وبظهور عوارض جسدية لديه، مثلاً: المغص، الاستفراغ والسيلان.
- اضطرابات لغوّية كالتأتأة أو التأخر في النّطق أو أيضاً الإنقطاع عن الكلام (Mutisme)
- اضطرابات في النمو، والعودة إلى مراحل سبق للولد أن تخطّاها (Régression) مثلاً: التبول اللاإرادي خصوصاً أثناء النوم (Enurésie nocturne)، أو حتى التبرّز اللاإرادي (Encoprésie)
- تبدّلات عاطفية تتمثل بالتبعيّة الزائدة للأهل والخوف من البعد عنهم، العصبية الزائدة، عدم الاستقرار الحركي، الخوف الشديد واللامُبرّر في أغلب الأحيان.
- تبدُلات سلوكية أهمها المواقف المعارضة والرّفضيّة، نوبات الغضب، الخجل، الانزوائية، العزلة الاجتماعية.
- الميل إلى الخيال، يصل أحياناً إلى حالة شبيهة بالهلوسة.
في المدرسة:
- النقص في الاهتمام لشرح المعلّم.
- السّهو والصعوبة في التركيز.
- الصّد الفكري (Inhibition intellectuelle) حيث يتشكّل عند الولد ما يشبه الحاجز الذي يمنع المعلومات من اختراق فكره من أجل فهمها أو حفظها.
- الحركة الزائدة في الصف ما يؤدي إلى الصعوبة في التركيز، وأيضاً إلى انزعاج الرفاق والمدرّس.
- الميل إلى اللّعب أو الرسم أثناء الدّرس. وغالباً ما يكون موضوع الرسومات متعلّقاً بما عاشه الولد من تجارب أدّت إلى إصابته بالصدمة النفسية.
- الانطوائية والامتناع عن مشاركة الرفاق اللعب والتسلية أو حتى الأحاديث.
- العدائية التي تظهر غالباً في الملعب أثناء الفرصة، وتكون موجّهة ضد الرفاق ما يؤدي إلى نفورهم وانزعاجهم.
ولكنه ليس من الضروري أن تظهر هذه العوارض مجتمعة عند الولد، بل يمكننا أن نلاحظ البعض منها عند ولد معيّن والبعض الآخر عند غيره.
أما في ما يتعلّق بكيفية تعاطي المدرّس مع هذه العوارض ومع الولد الذي يعاني منها، فبإمكانه الاستعانة بالوسائل أو الخطوات التالية علّها تُسهّل مهّمته وتسهم في إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي. من أهم هذه الوسائل نذكر الآتية:
- في بداية السنة الدراسية، يجب التحدّث بما حصل خلال الصيف من معارك وتهجير، وسؤال الأولاد عن شعورهم حيال تلك الأمور.
إن هذه الخطوة تعطي الأولاد الفرصة للتعبير عمّا قاسوه من خوف وذعر وعدم استقرار، وتعوّض عن الكبت الذي يميل الأهل إلى فرضه عليهم لاعتقادهم أنهم غير قادرين على فهم هذه الأمور أو حتى أنهم بمنأى عن تأثيراتها السلّبية. فإنه أصبح من المعروف والمثبت علمياً أن الاولاد قادرين وبشكل كبير على فهم وترميز ما يعيشونه شرط أن يُسمح لهم بالتعبير عنه وأن يُرد على أسئلتهم بطريقة مبسطة تتناسب ونضوجهم الفكري وتكون بعيدة عن أي كذب أو تعتيم.
- التواصل مع الأهل في حال بروز عوارض الصدمة النفسية عند ولدهم، وذلك بهدف التحقق من ظهور عوارض أخرى في المنزل وأيضاً للاطلاع منهم على المراحل التي مرّوا بها أثناء الحرب وكيفية تعاطيهم مع الولد حينها وتفسيرهم لما حدث. يمكننا أيضاً أخذ رأيهم حول ما يظنّونه قد ترك الأثر الأكبر على الولد: مشهد معيّن، أو حالة هلع معيّنة أو مكان معيّن ...
- ضرورة تفهّم الولد الذي يعاني من أثار الصدمة واعتباره شخصاً يعاني وبحاجة إلى المساعدة، بدلاً من محاولة قمعه ظناً منّا أن تصّرفاته تعكس وجود مشاكل شخصية مع المعلّم أو ما شابه ذلك. ولكن لا يمكننا في المقابل التمادي في تمييزنا للولد المصاب لأن هذا قد يشجعه على الإبقاء على العوارض التي يُظهرها. بدلاً من ذلك بإمكاننا القول للولد إننا نتفهمّه بشكل كبير ونعي ما قد مرّ به، ولذلك فإننا نعطيه الفرصة للتعبير عنه بالوسائل المناسبة. وتختلف هذه الوسائل باختلاف عمر الولد ونضوجه الفكري والعاطفي، وأهمها:
أ- إنشاء مجموعات للتحاور والمناقشة داخل المدارس وخاصة تلك التي يوجد فيها عدد كبير من الاولاد المصابين بالصدمة النفسية. علماً أن بعض عوارض الصدمة تكون مُعدية وتنتقل من ولد إلى آخر، كالقلق والعدائية وغيرها. فمن أهداف هذه المجموعات ترك الفرصة للأولاد للتعبير عن أنفسهم ولمشاركة مخاوفهم وهمومهم مع الآخرين، بهدف التخفيف من أثرها عليهم ومنع عوارض الصدمة من التفشي والانتقال حتى إلى الأولاد الذين لم يختبروا الحرب عن كثب، بل عاشوها عن بعد أو شاهدوها على شاشة التلفزيون.
ب- إضافة الى الكلام، هنالك وسائل تعبير أخرى ربما تكون أسهل للولد في سن معينة، إذ كما سبق وذكرنا فمن الصعب على الولد التعبير من خلال الكلام فقط، حيث لا يمتلك دائماً التعابير أو التركيبات اللغوية الضرورية لهذا الهدف.
فكبديل عن الكلام أو كمقدمة له هنالك:
الرسم: شرط أن نسمح للولد بالتكلم عمّا رسمه طبعاً إن كان يريد ذلك، ونسأله حينئذ عمّا تعنيه لوحته وعن الدافع الذي وراءها.
اللعب: تخصيص فترات للّعب مع الاولاد بهدف التخفيف عنهم وإخراجهم من الجو المشحون الذي عاشوا فيه أثناء الحرب ولا يزالون في بعض الأحيان. وبالإضافة إلى فترات اللعب المنظّمة من قبل المدرسين، يجب ترك الاولاد يلعبون بكل حرّية في الملعب حتى ولو كان موضوع اللعب متعلّق بالحرب. فما ذلك الاّ محاولة لفهم ما حصل وللسيطرة على المشاعر الناتجة عنه، وبالتالي تفريغها (Catharsis) يتم ذلك عبر تكرار الولد لما عاشه بغية ترميزه. ومن حسنات هذه الوسيلة إنها تُمكّن الولد من اختيار الدّور الذي يريد، فمن دور الضحّية ينتقل إلى دور المهاجم، ثم المدافع ... كل ذلك يسمح له برؤية الأمور من مختلف جوانبها وبفهمها على طريقته الخاصّة.
عدا عن الرسم واللعب، توجد وسائل خاصة بالأولاد الصغار في الصفوف الأولى، مثل الدمى(Marionnettes)، أو المعجونة (Pâte à modeler)، أو غيرها ... شرط أن نترك للولد الحرّية في اختيار موضوع اللعبة.
- ويبقى الأهم في كل هذا، العلاقة بين المعلم والتلميذ. فهذا الأخير يعتبر المعلم بمثابة أحد الأهل وينظر إليه كمثال أعلى وأيضاً كمحام له. وفي أغلب الاحيان، خصوصاً عندما تكون العلاقة جيدة بينهما، يرى التلميذ صورته المستقبلية في المعلم، فيتماهى بها ويسعى إلى تقليدها أو أخذ بعد الخصائص منها. فهنا يمكن للمعلّم استغلال هذه النقطة من خلال تمتعه بنظرة ايجابية للأمور ونقلها للولد، إضافة إلى طمأنته ودفعه إلى المضي قُدماً والاستمرار بالحياة حتى ولو فقد ما هو عزيز عليه. فالحياة تستمر، من حقّنا أن نحزن، نعم، ولكن من حقنا أيضاً أن نعيش وأن نتطلع للتعويض عمّا خسرناه، وذلك بتحقيقنا لإنجازات جديدة. حتى وفي حال وفاة شخص قريب لنا، فالميت ولو استطاع إبداء رأيه، لكان طلب منّا الاستمرار والتعويض عما خسرناه برحيله، بدل من أن نبكيه ما حيينا.
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نشدد على أهمية الكلام، فهو الوسيلة التي يتواصل بها الناس وتُقاس بها الحضارات. فبدل قمعها علينا تشجيعها وتقدير قيمتها الفعلّية. والمعلم يستخدم الكلمة كأداة لنقل المعرفة إلى الاجيال الجديدة، وهو بالطبع مدرك لأهميتها ويعرف حقّ المعرفة أنه كما بإمكان الكلمة أن تُشعِل حرباً، كذلك بإمكانها أن تداوي وأن تحلّ السلام ليس على أرض المعركة وحسب، بل أيضاً في النفوس.