التربية على المواطنية في زمن الحرب
التربية على المواطنية في زمن الحرب
''أطفالنا صاروا يتمردون علينا وشعرنا أننا فقدنا السيطرة عليهم، ولا نعرف ماذا يدور في أذهانهم، ماذا يقلقهم، فلم يرغبوا أن يتكلموا، حتى بدأت متطوعات من الجمعيات يأتين ليقضين معهم ساعات في الرسم والألعاب وحكاية القصص، عندها تغير الوضع تماماً''. قالتها أم مهجرة مع أسرتها في مدرسة في رأس بيروت.
يلخص هذا الحديث ظاهرتين تميزت بهما حرب ١٢ تموز عن سابقاتها من الحروب في لبنان.
الظاهرة الأولى هي النشاطات التي أقيمت للأطفال في مراكز التهجير المختلفة من مدارس وأبنية بما فيها المسارح والمطاعم والشقق. حيث نظمت نشاطات متنوعة متعددة، ساعدت الأطفال على مواجهة قسوة التهجير والحرب والدمار، فأعطتهم فرصة للتعبير عما يعانونه من ناحية، كما عوضت عليهم القليل من الفرح الذي وعدتهم به عطلة الصيف واستعدوا له في بيوتهم وبين أشيائهم الخاصة. كما اعطتهم فرصة للتعرف إلى أبناء وطنهم بفئتيهم المهجرين والمتطوعين.
الظاهرة الثانية كانت تلك الإندفاعة غير المسبوقة من قبل الشباب والشابات من الفئات كافة، الذين قاموا بمبادرات خاصة أو من خلال جمعيات أهلية بالتطوع لمساندة المهجرين. تميز هؤلاء الشباب بحماسة غلّفتها روح من العطاء المتدفق، حيث استنفروا علاقاتهم بتنوعها للمساهمة في الإغاثة. فكانت دائرة المشاركة واسعة، فاقت بدرجات كافة الأزمات السابقة، كما ترافق نشاط الشباب هذا بنشاط غير مسبوق أيضاً لذوي الاختصاص لا سيما الكادر الطبي والطبي النفسي.
وكانت هذه التجربة بظاهرتيها تؤسس لمدرسة عملية لتعليم المواطنية من خلال ممارستها على الأرض من دون وعي لذلك من قبل الشباب والأطفال ولكن بحماسة لا بد أن تترك أثراً عميقاً فيهم. وسنعالج هاتين الظاهرتين في هذه المقالة من هذ المنطلق وذلك من خلال التجربة المباشرة.
الظاهرة الأولى: ظاهرة نشاطات الأطفال
خلال فترات الحرب في لبنان، كان الاهتمام بالأطفال وحاجاتهم محصوراً بالأسرة والمدرسة وقلة من الجمعيات التي رعت الأطفال ذوي الحاجات الخاصة، الجسدية والذهنية والاجتماعية، بمعنى المعوقين والأيتام. ومهما كبر عدد هؤلاء الأطفال فيبقى محدوداً ويبقى يشكل أقلية بالمقارنة مع الأكثرية من الأطفال العاديين ذهنياً وجسدياً واجتماعياً. ففي أيام السلم تكثر النشاطات للأطفال العاديين، لا سيما في فصل الصيف، حتى باتت المخيمات الصيفية للأطفال تأخذ شكلاً مؤسساتياً. وقد بدأت ظاهرة الاهتمام بالأطفال في الأزمات وتنظيم النشاطات التربوية لهم من قبل مؤسسات المجتمع الأهلي ولكن بشكل خجول إبان ''عناقيد الغضب'' عام ١٩٩٦ حينها نظمت قلة من الجمعيات بعض النشاطات للأطفال في أماكن التهجير في بيروت، اقتصرت على الرسم والتلوين ليس إلاّ، ولكنها لم تستمر طويلاً.
في حرب تموز ٢٠٠٦ كانت الظاهرة عامة. فقد نظم الشباب في اللجان والجمعيات المعنية بالمهجرين في معظم أماكن التهجير نشاطات متعددة اتخذت أشكالاً مختلفة، من رسم ومسرح ورياضة وكتابة إبداعية بالإضافة إلى الألعاب على أشكالها وغيرها. وترافقت هذه النشاطات في العديد من المراكز بمساعدة تربوية ومتخصصة في الدعم النفسي للأطفال، كما اتخذت طابعاً منظماً وشكلاً استمرارياً.
ربما كانت الحاجة لمثل هذه النشاطات حادة وظاهرة، نظراً إلى ضخامة عدد المهجرين وعدد مراكز التهجير وتكدس الأطفال فيها والمشاكل التي نتجت عن ذلك من توتر لهؤلاء عبّر عن نفسه بأشكال مختلفة تراوحت بين العصبية والهياج والسكون والتقوقع. فكان الحل المنطقي هو اللجوء إلى نشاط يساعد هؤلاء الأطفال من ناحية، وأهلهم لا سيما أمهاتهم من ناحية أخرى. فقد كانت الأمهات يشكلن الغالبية الساحقة من المهجرين الكبار والذين كانوا هم أنفسهم بحاجة إلى رعاية.
حيث زاد على تشردهم وافتقادهم للخصوصية قلقهم على أحبائهم الشباب الذين تركوهم هناك. لذا فلم يكونوا بوضع يسمح لهم بمساعدة أطفالهم لأنهم افتقدوا إلى الصبر الذي تحتاجه الرعاية في مثل هذه الظروف.
لقد ظهرت هذه الحاجة بشكل واضح منذ بداية التهجير وتفاقمت مع مرور الوقت. وبما أن هذه الحرب قد استمرت طويلاً ورافقها تدمير هائل وتهجير واسع بالإضافة إلى مجازر قاسية طالت الأطفال وأسرهم، فقد كان تأثيرها على الأطفال كبيراً. هذا الوضع استدعى معالجة فورية وساعد على تحقيق ذلك توسع دائرة المتطوعين من الفئات والإختصاصات كافة.
وربما كان من أهم هذه النشاطات تلك التعبيرية بالكتابة أم بالرسم، وقد تُرك في معظم الأحيان للأطفال حرية اختيار اللوحة التي يريدون. فماذا رسم وماذا كتب الأطفال؟ وماذا تقول لنا لوحاتهم وكتاباتهم عنهم؟
أولاً: تبين اللوحات التي رسمها الأطفال أن هناك تفاوتاً في قدراتهم الفنية ومهاراتهم باستعمال أدواتها. بل ظهر أن العديد منهم لم يكن قد تعرض للرسم كعملية ولا نمت مهاراته في هذا المجال. ما يدل على تقصير للمدارس بشكل عام. فيما تبين أن هناك رسومات لمواهب كان يمكن تنميتها لو أعطيت الفرصة والاهتمام الكافي. في المقابل تبين أن هناك لوحات عبرت عن قدرات نامية لدى عدد آخر من الأطفال تدل على جهود قيمة كانت تبذل معهم في مدارسهم. بل أن هناك رسومات ذات مستوى عالٍ، فيها إبداع من حيث المفاهيم والرسوم على حدٍ سواء.
ثانياً: عبرت اللوحات عن نظرة إلى الحرب تجلت في اعتبارها تعدٍ على الوطن والأُسر والأمان والجمال والبيوت من قبل عدو هو إسرائيل. فنرى الصواريخ عليها نجمة داود أو كلمة إسرائيل تتوجه نحو البيوت الآمنة الجميلة مع الأطفال الملائكة وتفجرها بينما ترى الصواريخ التي تحمل اسم المقاومة أو تحمل علم لبنان تتوجه نحو الدبابات الإسرائيلية والبارجة في البحر.
لقد أظهرت الرسوم وعياً سياسياً حدد من خلاله هؤلاء الأطفال عدوهم. كما أظهروا معرفة بأنواع الصواريخ والطائرات وقد كتبوا عليها تلك الأسماء، مثل:(M-K). و (F- 16)
ثالثاً: رغم أن اللوحات أظهرت رموز المقاومة، إلا أنها كانت تعج بالعلم اللبناني وبتعابير لبنان الجميل ورسوم لبيوت القرية مع القلوب وأزهار عنونت بكلمة لبنان الوطن الجميل ومن ثم محبة لبنان وبيروت. فالبيوت كانت تضم بمكان ما علم لبنان، إما في الداخل أو على السطح أو حتى على الشبابيك. فكل منظر جميل ارتبط بعلم لبنان وقلوب وحمامات سلام. كما تضمنت اللوحات والرسائل بغالبيتها الساحقة المحبة الكبيرة للبنان، ''الوطن الحبيب'' ''الوطن الجميل'' ''سويسرا الشرق''. والحنق على الدمار الذي لحق به. وكانت الكلمات تدل على الخوف على لبنان والغضب من تدميره في اللوحات أو الكتابات من دون ذكر للقرية أو حتى المنطقة التي جاء منها هؤلاء الأطفال. فغابت أسماء القرى والأحياء والمناطق لتحل محلها كلمتي ''الوطن'' و''لبنان''. وتكاد لا تخلو لوحة من علم لبنان.
كتبت طفلة تحت عنوان ''لبنان يعيش إلى الأبد'' فقرة تقول فيها:
''وطني لبنان، وأعيش فيه وألتحف سماءه الزرقاء وأفترش أرضه الخضراء''.
أما بالنسبة للعلاقات الداخلية في لبنان، فقد برزت في رسومات الأطفال صورة الكنيسة والجامع جنباً إلى جنب وبعضها جعل الصواريخ الإسرائيلية تستهدفهما معاً وتشعل فيهما النيران. ما يعبر عن مفهوم وحدوي للبنان المستهدف كله ولوحدة الحال بين أبنائه كافة. وربما كان لتنوع طوائف المتطوعين واحتضان المهجرين في أماكن النزوح المختلفة تأثير في تأكيد ذلك.
رابعاً: أظهرت لوحات الأطفال وكتاباتهم، الحنين إلى البيت حيث السعادة والهناء مقابل ''التعاسة'' في أماكن اللجوء. ''سأعود إلى بيتي الذي تربيت فيه منذ طفولتي الاولى لأنني سألعب مع رفاقي وأحبائي وجيراني الذين هم في البيوت المجاورة لنا''... كما ظهر الحنين إلى أشيائهم الخاصة، والصغيرة وخصوصياتهم التي أفتقدوها. ''من يعيش في المدارس يعيش تعيساً فالمياه ليست مؤمنة مثل البيوت والأشياء الخاصة بك ليست مؤمنة، لأنه هنا قعدنا مع أناس لا نعرفهم، غرباء عنا، ولكن مضطرين للعيش معهم، ننام مع أناس لا نعرفهم والغرفة صغيرة صغيرة. كل شيء هنا صعب المنال، ليس كالبيت كل شيء مؤمن، فالمياه بالدور وليست مؤمنة''. ''الحياة في المدرسة جداً صعبة مؤلمة وقاسية لأننا تعودنا حياة مريحة وآمنة وغرف لا يشاركنا فيها أحد. وهنا تغيرت الحكاية فبدل الحمام الطويل بالدوش والبانيو أصبح الحمام بسطل ووعاء صغير. وكذلك الغسيل والجلي نقوم به بسرعة لكي يمر الدور على جارك. تأخذ المياه بالدور، الجلي بالدور، كل شيىء بالدور''.
كما أظهرت الرسومات البيت الجميل مع الأزهار التي كانت أحياناً أكبر من حجم البيت للدلالة على الجمال والمبالغة فيه. وقد رسم العديد من الأطفال بيوتهم مع حدائق وألوان جميلة، احتضنت معظمهاقلوباً متناثرة هنا وهناك، كبيرة وصغيرة للدلالة على الحب والحنان الذي يمثله ''البيت''. وبالإضافة إلى ذلك علم لبنان.
خامساً: الثقة بالنصر والأمل في عودة الحياة إلى سابق عهدها كانت السمة العامة في لوحات الأطفال وكتاباتهم. بعضهم ذكر أنه خسر رفاقه ولكنه يتمنى النصر بل هو متأكد منه. ''كنا نفكر أن نلعب في هذه الصيفية ولكن فجأة سمعت طائرات تحلق في السماء، ظننت أنها كالعادة تحلق ولكن بدأت تقصف البيوت من حولنا. أسرعت إلى أمي اختبأت في حضنها، يا ليتكِ ترجعيني إلى بطنك لأني منذ ولدت وأنا أسمع بمجازر إسرائيل من قانا إلى سلعاتا، فقدت الكثير من رفاقي الذين كنت أنا وهم نلعب. وأقول كلمة أخيرة ربنا أكرم علينا بنصر قريباً كلمع البصر''. ومنهم من هاجم الدول العربية والعالم لعدم وقف هذه الحرب ولإيقاف الظلم والأذى بالأطفال (الملائكة).
سادساً: وكما مر في الفقرة السابقة، فقد ظهر في الكتابات والرسومات اضطرار الأطفال ولو مرغمين إلى التعاون مع الآخرين وبالدور في كل شيء والقليل من كل شيء والمشاركة في أشياء شخصية وخاصة مع آخرين، أقرباء وغرباء على حد سواء. فكان هذا بحد ذاته رغم كرههم له، مدرسة في المواطنية مارسها الأطفال أنفسهم، حيث تعلموا أن الشأن العام هو شأنهم أيضاً وأن مصلحتهم الخاصة تأتي من المصلحة العامة للجماعة وأن العيش مع الجماعة ليكون عادلاً لابد أن ياخذ شكلاً من التنظيم. كما استفادوا من تجربة العمل مع المتطوعين الذين عملوا معهم، إن في توزيع المساعدات ولو من خلال الحرب والقسوة والقلة، وفي النشاطات التي قام بها هؤلاء المتطوعون الشباب في مراكزهم. فيذكر طفل في وصف تجربته ''هذه التجربة جعلتني أفخر بوطني وأبنائه الأبرار لوقوفهم إلى جانب بعضهم البعض وفي حالتنا هذه وبوجود هؤلاء الأشخاص كان عندي اليقين أننا نستطيع أن نحارب العالم بكامله لا إسرائيل فقط''.
الظاهرة الثانية: إندفاع الشباب
أما الظاهرة الثانية في حرب ١٢ تموز، فكانت إندفاعة الشباب والحماسة سمة الشباب. لقد كان التطوع لدعم المهجرين جزءًا من تراث لبنان الحربي منذ ١٩٧٨ و ١٩٨٢ و ١٩٩٦ . ولكن حرب ١٢ تموز ٢٠٠٦ فاقت كل ما سبقها في توسع دائرة العمل والنشاط. صحيح أن العمل بدأ مع الجمعيات الموجودة ولكن عدد المتطوعين لهذه الجمعيات تضاعف منذ الأيام الأولى للحرب. كما نشأت إلى جانب هذه الجمعيات لجان شبابية بدأ عدد منها بمبادرات فردية سرعان ما توسعت لتشمل أعداداً كبيرة من المتطوعين والمتطوعات نظمت نفسها من خلال العمل وجعلت لها أطراً بحسب المهمات الناشئة. تميزت هذه الظاهرة بميزات عدة جعلتها مدرسة في المواطنية من ناحية، كما عبرت عن استعداد كبير لدى الشباب لتلبية حاجات الوطن والمواطن من ناحية أخرى، فقد تعلم هؤلاء المتطوعون المواطنية بالطريقة التربوية الأفعل، من خلال الممارسة الفعلية المجبولة بدفق من العاطفة والحماسة.
أولاً: لقد رعى الشباب المتطوع المهجرين بغض النظر عن انتمائهم إلى فئة أخرى أوطائفة أخرى أومنطقة أخرى أو موقف سياسي آخر. فمارسوا الوحدة الوطنية وقبول الآخر بصمت وبعيداً عن الشعارات. تقول متطوعة في بكفيا: ''لا أتفق سياسياً مع هذه الحرب، لكنني أشعر بعمق أننا جميعاً مستهدفون. ما عدت أفكر بطريقة مناطقية كما في زمن الحرب اللبنانية. أشعر بأن كل المناطق لنا'' (الحياة ٢٠٠٦/٧/٣١)
ثانياً: كان احتضان الشباب في المناطق كافة لهؤلاء المهجرين تلقائياً عفوياً ومن ثم تبلورت الصيغ لتنظيم العمل معهم. فلا هم طبًّقوا نظريات اجتماعية درسوها في مدارسهم ولا وضعوا خططاً دقيقة التزموا بها ولا حسبوا خطواتهم، بل على العكس بدأوا خطوة خطوة فكان يتطور عملهم ويزداد عددهم كلما زادت الحاجة مع تدفق المهجرين إلى أماكن جديدة وتكدسهم في الأماكن التي أصبحت قديمة. وكلما تنوعت المهمات تنوعت الوسائل والأطر. فتعلم الشباب المتطوع معنى المؤسسات من خلال إنشائها وتقسيم العمل والتكامل مع الآخرين من خلال تعدد المهمات وبالتالي التخصصات المطلوبة، وأهمية التنسيق والتعاون من خلال تلمس الحاجة إليهما لنجاح العمل، والمسؤولية الاجتماعية من خلال ممارستها فعلياً ومن خلال روح العطاء السائدة بين الجميع.
ثالثاً: لم يكن هؤلاء الشباب مهيئين للعمل في مؤسسات المجتمع الأهلي. فقد اتسمت هذه المؤسسات بشكل عام بافتقادها لعنصر الشباب واقتصارها على الكبار في السن الذين قلما يفسحون المجال للجيل الجديد لأخذ دوره. فلا تقاعد ولا نهاية خدمة في العمل العام الأهلي أسوة بأي عمل آخر.
إلا أن هذه التجربة أدخلت الشباب إلى العمل الأهلي من الباب العريض. وقد حملوا معهم طرائق التفكير العصري ووسائله من استخدام أساسي للكمبيوتر لتنظيم العمل وللاتصال مع الآخرين لكسب الدعم وللتنسيق. كما حملوا معهم قيم الشباب الصافية فكان الالتزام بإنجاح العمل من أجل المهجرين وتلبية احتياجاتهم هدفهاً وحيداً. وكان شعار ''لنسد الثغرات'' شعاراً يكاد يكون عاماً بين اللجان الناشئة والشباب المتطوع. فكان التعاون والتنسيق بل والتكامل مع الآخرين، لجاناً وجمعيات وأفراداً هو الغالب وليس التنافس.
رابعاً: نشأت علاقات إنسانية راقية بين المتطوعين، الذين كانوا في كثير من الأحيان لا يعرفون بعضهم من قبل. فالمشاركه في مهمة إنسانية وطنية، وخوض تجربة جردت فيها الأنا إلى حد كبير وحدتهم وقربت فيما بينهم.
كما نشأت علاقات عاطفية إنسانية بين المتطوعين والمهجرين من نساء وشباب وأطفال. وكان قد انضم إلى المتطوعين عدد من الشباب المهجر، آثروا أن يتحولوا من متلقين إلى مساهمين في العمل التطوعي. ما ساهم في التفاعل الشبابي بين الفئات والمناطق اللبنانية المختلفة وفي خوض تجربة المواطنة بأرقى أشكالها.
إن هذه التجربة وهذه الممارسة، بل وهاتان الظاهرتان نشاط الأطفال وتطوع الشباب يعطينا كتربويين درساً هاماً، مفاده أن المواطنية التي تغيب عن برامج مدارسنا هي ليست واجباً على أبنائنا وإنما هي حق لهم، وأن تعلمها لا يأتي من خلال الكتب وإنما من خلال ممارستها فعلياُ. وما أفضل من العمل التطوعي والخدمة العامة سبيلاً لهذه التربية، التي باتت في الدول المتقدمة جزءاً أساسياً من برامجها التعليمية.
وتبقى مشكلة كبرى ربما تؤدي إلى شرخ جديد في حياة الأطفال والشباب، فماذا عن هؤلاء الأطفال والشباب الذين لم يمروا بأي من تجارب التهجير أو التطوع. ألن يكون هناك شرخ جديد ليس سياسياً أو طائفياً بل وطنيٌ أو مواطني. فهل تنمو لديهم وقد غادروا مع أهلهم إلى خارج الوطن كله، أم أنهم غادروا إلى أماكن أكثر أماناً وبعيداً عن كل هذه المشاكل التي ''لا تعنينا''. فأي حس بالمسؤولية العامة نتوقع من هؤلاء بالمقارنة مع من خاض التجربة وتعلم منها كمهجّر وكمتطوع، كطفل وكشاب.
إن من واجب المؤسسة التربوية أن تقوم بمهمة سد الثغرة بين أبناء الوطن الواحد وليس أفضل من برامج الخدمة المجتمعية يقوم بها الطلاب لفئة تختلف عنهم اجتماعياً ومناطقياً، تفرضها المدارس على طلابها كجزء من برنامجها الرسمي. إنها أفضل وسيلة لتنمية المواطنة وتنشئة الأطفال والشباب على قبول الآخر واحترام المؤسسات وحب الوطن الجميل، الذي هو للجميع، والعمل من أجل نموه وتألقه.