المدرسة والجامعة أمام مهمّة المساندة النفسية للطلاب

المدرسة والجامعة أمام مهمّة المساندة النفسية للطلاب

د. زهير هواري المسؤول التربوي في جريدة ''السفير''، أستاذ متعاقد في كلية التربية الجامعة اللبنانيةيعود المعلمون والمعلمات والأساتذة إلى صفوفهم هذا العام، وطلابهم ليسوا هم طلابهم كما في العام السابق. ليس لأن القاعدة أن الطلاب يتغيّرون على إيقاع سنوي عادي، عندما ينتقلون من صف إلى آخر، أو يتخرّجون من مدارسهم وجامعاتهم، بل لأن هؤلاء الطلاب لم يعودوا هم أنفسهم، بعد أن مرّت عليهم حرب الثلاث والثلاثين يوماً مع ما تخلّلها ورافقها من فظائع وضحايا بشرية وجرحى ودمار وأضرار وتهجير وحصار.

بالتأكيد سيشهد العديد من الأساتذة والمعلمين والمعلمات نقصاً في بعض الصفوف، نظراً لاستشهاد عدد من التلاميذ والطلاب جراء العدوان الذي استهدف القرى والمدن والضواحي، أو انتقال بعض التلامذة إلى مدارس أخرى بعد أن دُمّرِت بيوتهم ومدارسهم واضطروا إلى مغادرة مناطق سكنهم الأساسية، هذا إذا لم نتحدث عن أولئك الذين افتقر ذووهم وباتوا عاجزين عن الإيفاء بالأقساط وأثمان اللوازم الضرورية مع مطلع كل عام دراسي. يعود التلامذة والطلاب إلى مدارسهم مختلفين عمّا كانوا عليه في السنوات السابقة بعد أن جرت دماء كثيرة في طول البلاد وعرضها. ومثل هذا الأمر سيكون له مضاعفاته ومترتباته ليس على شؤون حياتهم اليومية، وبعد أن دُمّرِت حوالى أربعين مدرسة تدميراً كاملاً، سبق وألفوها بكل من وما فيها، وتضرّرت أكثر من ثلاثماية أخرى. بل أيضاً لأن الدمار العام من شأنه أن يترك بصمات على ما تعودوه من أشكال اجتماع وحياة، تتعذر معه الآن العودة إلى البيت الأصلي أو إمكانية الحصول على الضروريات كالتيار الكهربائي وإمدادات المياه والمستوى المعيشي الذي تراجع وما شابه ذلك.
الكثير من الندوب يحملها هؤلاء الطلاب في دواخلهم جراء العدوان، وهي ندوب تختلف بين فئة طلابية وأخرى تبعاً لمعدلات الأعمار، وبالتالي الوعي بما كان وما صار من جهة، ودرجة القرب أو البعد عن مسرح التدمير الهمجي المنهجي الإسرائيلي مع ما واكبه من قتلى وجرحى ومعاقين وتخريب من جهة ثانية. فالمعروف أن غ
صورة لصف من الداخل وعامل ينظف الزجاج المهشّم  البية القرى الجنوبية كانت تفتقد إلى الكثير من المرافق قبل الحرب العدوانية الأخيرة. وهي أصلاً وبالأساس لم تخرج من تحت نير الاحتلال الإسرائيلي إلاّ قبل ست سنوات من تاريخ هذه الحرب. هذا من دون أن نتحدث عن الاجتياحات السابقة سواء عبر الاحتلالات المباشرة أو الاحتلال بالنار كما في مسلسل الأعوام ١٩٩٦ و ١٩٩٣ و ١٩٨٢ و ١٩٧٨ . يجب أن يقترن ذلك بالإشارة إلى إغفال المقاومة إنشاء أي بنى صحية أو اجتماعية تخفّف من الضغوط التي تعرّضت لها تلك المنطقة، إذ اقتصر عملها على إيلاء الجانب العسكري الاهتمام دون سواه من المرافق الحياتية الضرورية للسكان. رغم ذلك يمكن القول إن الأمور كانت في حدود مقبولة قبل الحرب الأخيرة. وقد أطلقت هذه تحدّيات تنوء بها الدول المعافاة فكيف بالوضع اللبناني الذي تعاني مؤسساته وأجهزته من أعطاب بنيوية كبرى منعته من إقامة دولة ذات سلطة واحدة ووحيدة ومؤسسات قادرة على لعب دورها في حالي الحرب والسلم على حدّ سواء. وهنا لا بدّ من أن نشير إلى أن السائد في غضون السنوات المنصرمة كان منطق التلزيم في الجنوب كما في سواه من المناطق، وإن كان في هذا المنطقة يكتسب حساسيات عالية تتجاوز كما هو معروف المحلي إلى الاقليمي.
الثابت أن كل طلاب لبنان يحملون في ذواتهم بعضاً من  آثار الحرب متأثرين ومتفاعلين مع المناخات العامة في البلاد، وتلك التي تعيشها ''مجتمعاتهم'' الصغيرة في المنازل. لكن هذا على صحته لا يعني بأي حال من الأحوال توازن التفاعلات على دواخلهم وتوزعها بالعدل والقسطاس من دون تمايز. فالأطفال والمراهقون من طلاب المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في المناطق التي استهدفت أكثر من سواها سيكونون أكثر تأثراً على الصعيد النفسي طالما : أولاً أن ثلاثين بالمئة من الضحايا هم من الأطفال، وهم كانوا أقرب من زملائهم في المناطق الأبعد إلى مسرح العدوان الذي ليس سوى بيوتهم وقراهم ومدنهم، وثانياً لأن هؤلاء الشهداء كانوا مقرّبين من زملائهم الباقين على قيد الحياة ويحملون في ذاكرتهم الكثير من الصور لهم. وثالثاً فإن الإصابات النفسية تقوى كل ما كانت الخسائر البشرية أكثر ملامسة لهؤلاء من سواهم. ورابعاً في حال افتراض عدم وجود خسائر مباشرة فإن الإقامة لأيام طويلة على مقربة من استهدافات القصف بمنوعاته، أو في الملاجئ والنزوح، أو تحت مظلة الغارات الجوية واللجوء إلى المدارس والأديرة والكنائس والمساجد والحدائق وسواها من أماكن عامة لا يمحى من الذاكرة لمجرد توقف القتال وعودة الهدوء إلى البلاد. كما أن فقدان الأب أو الأم أو الأخت أو الأخ أو المعلم والصديق والقريب وغيرهم من المعارف اليوميين من شأنه أن يترك ندوباً لا يمكن أن تُنسى بالسهولة التي يتصوّرها البعض. ويظلّ الأكثر فداحةً هو ما يتناول كل الطلاب في لبنان بدءاً من الجنوب وحتى أقاصي الشمال ويعبّر عن نفسه بنوعٍ من الزلازل التي أصابت ثقة هذه الشرائح العمرية بالمستقبل في بلادهم، وفي منظومات القيم التي طالما تعمد الأسرة والمدرسة إلى تربيتهم عليها، خصوصاً لجهة قِيَم العمل والعلم والكدح في سبيل تحصيلهما ومراكمتهما، معطوفاً ذلك كلّه على مناخات الإنقسام السياسي على تقويم ما حدث وأسبابه ومبرّراته وإمكانات علاجه ومستقبل تقاطعاته وعلاقات بلدهم بالأوضاع الداخلية والإقليمية. إذاً نحن أمام منوعات من المضاعفات على طلابنا، تبدأ من مراحل الحضانة وتصل إلى الصفوف الجامعية وفي عموم المناطق من دون استثناء. ما يعني أننا أمام أمر واقع يتطلب علاجات حقيقية، طالما أن معرفة هؤلاء الطلاب بمجريات الوقائع هي حاصلة بفعل ضخ الإعلام اليومي الذي يشاهدونه صباحاً مساءً .صورة لطاولة المعلم وعليها زجاج مهشّم      مقاعد لتلاميذ من داخل الصف حيث كانو يجلسون وهي محطمة
العلاجات التي نتقصد الإشارة إليها لا يمكن أن تكون من النوع التقليدي الذي تعتمده دوائر معزولة بعضها عن بعض. وهنا لا بدّ من التنويه بكل المبادرات التي أقدم عليها أساتذة ومعالجون نفسيون من الجامعات اللبنانية واليسوعية والأميركية والبلمند وغيرها من الهيئات المدنية والمراكز المتخصصة العربية والدولية. لقد وضع هؤلاء أنفسهم في خدمة المحتاجين إلى خدماتهم من أجل المساعدة على مواجهة مضاعفات المحنة على المواطنين عموماً ومن هم منهم في أعمار الدراسة خصوصاً. من دون أن ننسى ولو للحظة واحدة أن مشهد الموت العنيف وتمزق العائلات والأقارب وتشتّتهم مع الأصدقاء وتدمير المقتنيات، كلّ هذا من شأنه أن يكون قاسياً، بل وحشيٌ وذو تأثيرات فادحة على
الصغار الذين لم يصلوا بعد إلى فهم أو استيعاب آليات الحرب أو ما يرافقها من حالات الموت التي تطول الأقارب أو أبناء الوطن. وقبل ذلك كلّه هذا التحوّل الدراماتيكي الذي أصاب حياة الأفراد والجماعات وأدّى إلى مضاعفات عميقة وبالغة الضراوة  والسرعة في غضون فترة قصيرة قياسياً، لم تكن في الوارد أو الحسبان.إنّ استمرار منوّعات التدمير متمثلة بركام المنازل والأحياء والشوارع وتعذّر الوصول إلى الحقول وارتياد الطرقات التي  تنتشر عليها آلاف القنابل العنقودية والألغام وسقوط الضحايا على نحو يومي رغم وقف إطلاق النار، ودخول الجيش اللبناني إلى الجنوب ومعه قوات الطوارئ الدولية المعزّزة، واضطرار الآلاف من العائلات إلى الإقامة في مساكن شبه مدمّرة وتشكّل خطراً على السلامة العامة، أو اضطرارها إلى الرحيل عن قراها حتى إلى قرى أخرى، من شأنه أن يترك مضاعفات على العائدين والنازحين على حدّ سواء. وهذا يجعل من ذاكرة المحنة مقيمة لا تتزحزح، بل وقادرة على تأكيد حضورها على ما عداها من وقائع.
لقد كانت هذه المبادرات العلمية والعملية التي انطلقت هنا وهناك في ذروة حمأة العدوان، وبالعلاقة مع محنة النزوح التي طالت ربع سكان لبنان، من نوع علاجات الطوارئ العاجلة لا أكثر ولا أقلّ. الآن وبعد هدوء العاصفة، ننطلق من أن مهمّة التجاوز والانتصار على المحنة، لا يمكن أن تُحقّق أغراضها من دون اعتبار المجتمع بكليّته مسؤولاً عن المساهمة في العودة إلى الحياة السوية الطبيعية لأبنائه. ومثل هذا لا يمكن أن يتحقّق من دون ''علاجات'' على المديين القصير والمتوسط، وهذا الهدف لا يمكن له أن يتحقّق إلاّ بمجهودات جماعية تلعب بموجبه كلّ مجموعة وفئة وشريحة محلية أو وطنية دورها في عملية الانتقال أو العودة إلى المقاييس الطبيعية للحياة. ويبقى دور الدولة هو الأساس، إذ المعروف أنّ الدولة غابت طويلاً عن الجنوب، لا نتحدث هنا عن غياب الجيش اللبناني عن الحدود الوطنية منذ عقود، بل عن الأجهزة والمؤسسات الرسمية، بما فيها الخدمات على اختلافها. وفي هذا المجال فإن توفير الخدمات العامة بما فيها الخدمات الصحية والنفسية من شأنه أن يعني الكثير على صعيد الأهالي
من كل الأعمار والفئات والمناطق المنكوبة.صورة لأولاد داخل أحد الصفوف وأعمال ترفيهية
نتوقف هنا عند الإشارة على نحو مخصوص عند دور ومهمّة الهيئة التعليمية في أي من المراحل سواء أكانت في مستويات أوليّة أم في مستويات أكاديمية وعليا، إذ الفعلي أن وظيفة التعليم لا يمكن أن تقتصر على نقل المعارف والعلوم أو إثارة الدافعية لتحصيلها لدى التلامذة والطلاب من دون أدنى اعتبار لأوضاعهم وعوالم دواخلهم، ولعلّ مثل هذه العملية أساساً وبالأصل تتعذّر إن لم نقل أنّها تستحيل في ظلّ التشوّهات والإصابات النفسية بعد العدوان، مع التشديد على تباين الآثار والنتائج بين فئات الطلاب.
سيلحظ المعلمون والمعلمات والأساتذة في صفوفهم بالتأكيد، أنواعاً من الحالات التي يتوجّب على ضميرهم المهني والوطني مسؤولية التعاطي معها ولا نقول علاجها، والمساعدة على عبور أصحابها نحو سويّة عادية، ومثل هذا التعاطي هو في صميم الدور الذي يلعبه المعلم\المعلمة مهما اختلفت الصِيَغ حول الدور الذي يتوجّب عليه القيام به داخل الصف، ملقّناً أو منسّقاً أو مرشداً وموجّهاً، رغم محدودية نتائج الأول ورحابة إمكانية نجاح الثاني. وأيّاً كان شكل هذا الدور فإن المدرّس\المدرّسة لا يستطيع تجاهل حالات الإنطواء والشرود واليأس والتراجع والميول العدوانية بل والاكتئاب لدى طلابه صغاراً وكباراً. وهو إلى هذا الحدّ أو ذاك معني في المساهمة في مواجهة مثل هذه المواقف التي تحتاج إلى كثير من الرعاية والنقاش والاحتضان والتفهم والمساندة من أجل تجاوزها. لا يعني مثل هذا أنّ الهيئات التعليمية لا يعاني أفراد منها هي الأخرى من مثل المضاعفات التي يعاني منها الطلاب، إلاّ أنّ الثابت أن وقع المعضلات أخفّ وطأة على أفرادها من الطلاب الذين ما زالت أعمارهم طريّة في احتمال ما فرض عليهم احتماله من أهوال، باعتبار أنّ الكبار هم أقدر على عقلنة المجريات والأحداث التي مرّت على البلاد. ويتأكّد ذلك إذا ما توافرت لهؤلاء المعلمين والأساتذة الدورات السريعة (يوم إلى ثلاثة أيام) أو المنشورات على الأقلّ التي تمكّنهم من إدارة حلقات دعم نفسي جماعي لزملائهم وللمواطنين على حداء سواء. إنّ مثل هذا الدور لا يتحقّق إلاّ إذا تحوّلت المدرسة سواء كانت أساسية أو ثانوية أو كلية إلى خليّة جذب زاخرة بالأنشطة التي تتجاوز عزلة المجتمعات المحلية إلى الرحاب الوطني. إنّ تزويد هذه المدارس بالأجهزة السمعية البصرية والأفلام الهادفة وتشجيع الفرق الطلابية من أقسام المسرح والسينما والفنون على أنواعها على تنظيم زيارات أو أيام عمل لمواقع تجمّع وابتكار كلّ ما من شأنه مواجهة حالات الإنطواء كلّ هذه تعني أن قرار تجاوز المحنة يتجاوز أصحابه والمعنيين مباشرة به إلى أوساط أوسع.صورة لصف قد حوّل إلى بيت ثانٍ خلال الحرب
إنّ قيام المدرسة في مراحل الحضانة أو الأساسي أو المتوسط أو الثانوي وكذلك الجامعات بمثل هذا الدور، لا يمكن له أن يستقيم على نحو طبيعي إلاّ إذا اذا تأمّنت له عوامل التماسك والتضامن في مواجهة تداعيات العدوان. وهو تضامن يجب أن ينهض أولاً بين أفراد الهيئة التعليمية والإدارية وبين هؤلاء وطلابهم. ومثل هذا التضامن من شأنه أن يسهم في تشخيص المشكلات وفي إدراك أنّ علاجها لا يمكن أن يتحقّق عبر الأدوات التقليدية سواء أكانت كيمائية أم غيرها. أكثر من ذلك فإن الوسائل العلاجية لا يمكن أن تصل يعملون تحت راية الوطن. إلى تحقيق مبتغاها، إلاّ إذا تضافرت مع أشكال من الاحتضان الجماعي الذي تلعب المدرسة دوراً رائداً في صياغته، لكنه لا يختزلها بأي حال من الأحوال. وهنا نصل إلى دور الأسرة، باعتبارها الخليّة الأساسية التي تستطيع إذا ما قامت بالمطلوب منها أن تدفع بالاستقرار النفسي خطوات إلى الأمام .
إنّ وضع الأسرة اللبنانية المتباينة لجهة وَعيِها لِما حصل، واختلاف مستواها الثقافي والاجتماعي وقدراتها على التواصل بين أفرادها، يجعل من قيامها بدورها ''الاستشفائي'' أمراً مشكوكاً فيه، إذا لم يتمّ بالعلاقة مع المدرسة والجامعة بطبيعة الحال. إنّ التفاعل بين دوري ''الإدارة'' العائلية والتربوية والأكاديمية معاً من شأنه أن يوفّر عناصر النجاح الفعلي إذا ما عطفنا ذلك كلّه على الجانب العلمي ممثّلاً بالأطباء والمعالجين النفسيين والمرشدين الاجتماعيين. هذه الدوائر لا تتكامل إلاّ بالتواصل مع المجتمع المحلي، ونعني به هنا السلطات البلدية والأندية والهيئات الثقافية، بل وحتى الفعاليات على مختلف أنواعها من صناعية وتجارية ورياضية وترفيهية وخدماتية. وكلّ هذه الشرائح تستطيع أن تتفاعل مع المدرسة والمؤسسة التربوية في مهمّة تجاوز آثار وذيول المحنة النفسية التي يعاني منها المجتمع عموماً والشرائح الطالبية خصوصاً. إنّ وضع الطالب، الذي لم يبرأ ممّا عاناه بعد، تحت مطرقة الواجبات البيتية، من شأنه أن يقود إلى بروز ميول وأشكال من الرفض والتمرد والانفصال والقنوط عن مهمّة التعلّم السوية والمجتمع التربوي، طالما تحوّلت هذه في وعيه أو لاوعيه إلى ما يشبه السجن حيث العقوبات الجماعية هي القاعدة ودون حدّ أدنى من الاحترام لخصوصيته وذاتيته والظروف التي يجتازها.
إنّ تحوّل المؤسسة التربوية إلى ملجأ وملاذ يحتضن كل الطلاب، خصوصاً منهم ذوي المعاناة أو الحساسية العالية من شأنه أن يجعل إمكانية التجاوز تمرّ بيسرٍ وسرعةٍ قياسية، أما اعتماد أساليب الزجر والعقاب الإداري فأقصر الطرق نحو انفجار الأزمات، وبالتالي خسارة أفراد أسوياء قادرين على القيام بمهامهم التعلمية إذا ما تحقّقت رعايتهم وضمان عبورهم في هذه المرحلة الحرجة من حياتهم والتي فُرضت عليهم من دون قرارهم.

لقد تضامن اللبنانيون في غضون أيام المحنة، ومهما كان التوصيف الذي أُعطي لأشكال التضامن التي مورست عندما فُتحت البيوت والأماكن العامة أمام النازحين ونهضت المبادرات الأهلية والمدنية من جانب كلّ الأفراد والفئات والجمعيات والهيئات على تأمين عبور مواطنيهم هذه التجربة القاسية. هذا المستند يمكن أن يتكرّر هنا وعلى نحو فعلي إذا ما أدرك اللبنانيون أنّ ضمانة الانتصار الحقيقي وليس الإنشائي على العدوان يتحقّق من خلال مسؤوليتهم جميعاً عن أبنائهم وأخوانهم في مثل هذه المرحلة الحرجة لضمان عدم انكسار وطنهم، باعتبار أنّ المساندة النفسية المطلوبة بإلحاح في هذا الوقت بالذات هي بطاقة عبور نحو مستقبلهم الموحّد. وممّا يعزّز ذلك أن هناك الكثير من الإيجابيات التي لوحظت والتي يمكن البناء عليها وتعزيزها لتحقيق تجاوز الخسائر والأضرار وهواجس القلق، والانطلاق مجدّداً نحو وطن معافى متماسك بما يحقّق هزيمة الاستهدافات الإسرائيلية التي تعمّدت الوصول إلى أغراضها بتسليط الحديد والنار على اللبنانيين جميعاً من دون تمييز بين كبير وصغير، مقاتل ومدني، توصّلاً إلى إركاعهم وتبديد قدرتهم على النهوض مجدّداً، كما هو عهدهم طوال المحن التي عانوها في نصف القرن الأخير من حياة وطنهم.
إنّ الأضرار المادية الفادحة التي أصابت اللبنانيين في ممتلكاتهم العامة والخاصة تظلّ ورشة إعادة إعمارها أيسر من إعادة تأهيل ضحايا الحرب الأحياء ومواجهة ما يختزنونه من صدمات، إنّ مهمّة من هذا النوع لا تتحقّق من خلال مناخات فئوية وخاصة، إذ إن أقصى قدرة كهذه لا تعدو أن تنتج حالات انطواء ونزعات تدميرية، بينما المطلوب هو خطوات مجتمعية عاجلة توازي إن لم نقل تتقدّم ورشة الإعمار المادي، التي لا قيمة لها من دون مواطنين أسوياء قادرين على تحمّل عبء النهوض ثانيةً رغم الجراح التي  يُعانون في أجسادهم وأرواحهم.

المدرسة والجامعة أمام مهمّة المساندة النفسية للطلاب

المدرسة والجامعة أمام مهمّة المساندة النفسية للطلاب

د. زهير هواري المسؤول التربوي في جريدة ''السفير''، أستاذ متعاقد في كلية التربية الجامعة اللبنانيةيعود المعلمون والمعلمات والأساتذة إلى صفوفهم هذا العام، وطلابهم ليسوا هم طلابهم كما في العام السابق. ليس لأن القاعدة أن الطلاب يتغيّرون على إيقاع سنوي عادي، عندما ينتقلون من صف إلى آخر، أو يتخرّجون من مدارسهم وجامعاتهم، بل لأن هؤلاء الطلاب لم يعودوا هم أنفسهم، بعد أن مرّت عليهم حرب الثلاث والثلاثين يوماً مع ما تخلّلها ورافقها من فظائع وضحايا بشرية وجرحى ودمار وأضرار وتهجير وحصار.

بالتأكيد سيشهد العديد من الأساتذة والمعلمين والمعلمات نقصاً في بعض الصفوف، نظراً لاستشهاد عدد من التلاميذ والطلاب جراء العدوان الذي استهدف القرى والمدن والضواحي، أو انتقال بعض التلامذة إلى مدارس أخرى بعد أن دُمّرِت بيوتهم ومدارسهم واضطروا إلى مغادرة مناطق سكنهم الأساسية، هذا إذا لم نتحدث عن أولئك الذين افتقر ذووهم وباتوا عاجزين عن الإيفاء بالأقساط وأثمان اللوازم الضرورية مع مطلع كل عام دراسي. يعود التلامذة والطلاب إلى مدارسهم مختلفين عمّا كانوا عليه في السنوات السابقة بعد أن جرت دماء كثيرة في طول البلاد وعرضها. ومثل هذا الأمر سيكون له مضاعفاته ومترتباته ليس على شؤون حياتهم اليومية، وبعد أن دُمّرِت حوالى أربعين مدرسة تدميراً كاملاً، سبق وألفوها بكل من وما فيها، وتضرّرت أكثر من ثلاثماية أخرى. بل أيضاً لأن الدمار العام من شأنه أن يترك بصمات على ما تعودوه من أشكال اجتماع وحياة، تتعذر معه الآن العودة إلى البيت الأصلي أو إمكانية الحصول على الضروريات كالتيار الكهربائي وإمدادات المياه والمستوى المعيشي الذي تراجع وما شابه ذلك.
الكثير من الندوب يحملها هؤلاء الطلاب في دواخلهم جراء العدوان، وهي ندوب تختلف بين فئة طلابية وأخرى تبعاً لمعدلات الأعمار، وبالتالي الوعي بما كان وما صار من جهة، ودرجة القرب أو البعد عن مسرح التدمير الهمجي المنهجي الإسرائيلي مع ما واكبه من قتلى وجرحى ومعاقين وتخريب من جهة ثانية. فالمعروف أن غ
صورة لصف من الداخل وعامل ينظف الزجاج المهشّم  البية القرى الجنوبية كانت تفتقد إلى الكثير من المرافق قبل الحرب العدوانية الأخيرة. وهي أصلاً وبالأساس لم تخرج من تحت نير الاحتلال الإسرائيلي إلاّ قبل ست سنوات من تاريخ هذه الحرب. هذا من دون أن نتحدث عن الاجتياحات السابقة سواء عبر الاحتلالات المباشرة أو الاحتلال بالنار كما في مسلسل الأعوام ١٩٩٦ و ١٩٩٣ و ١٩٨٢ و ١٩٧٨ . يجب أن يقترن ذلك بالإشارة إلى إغفال المقاومة إنشاء أي بنى صحية أو اجتماعية تخفّف من الضغوط التي تعرّضت لها تلك المنطقة، إذ اقتصر عملها على إيلاء الجانب العسكري الاهتمام دون سواه من المرافق الحياتية الضرورية للسكان. رغم ذلك يمكن القول إن الأمور كانت في حدود مقبولة قبل الحرب الأخيرة. وقد أطلقت هذه تحدّيات تنوء بها الدول المعافاة فكيف بالوضع اللبناني الذي تعاني مؤسساته وأجهزته من أعطاب بنيوية كبرى منعته من إقامة دولة ذات سلطة واحدة ووحيدة ومؤسسات قادرة على لعب دورها في حالي الحرب والسلم على حدّ سواء. وهنا لا بدّ من أن نشير إلى أن السائد في غضون السنوات المنصرمة كان منطق التلزيم في الجنوب كما في سواه من المناطق، وإن كان في هذا المنطقة يكتسب حساسيات عالية تتجاوز كما هو معروف المحلي إلى الاقليمي.
الثابت أن كل طلاب لبنان يحملون في ذواتهم بعضاً من  آثار الحرب متأثرين ومتفاعلين مع المناخات العامة في البلاد، وتلك التي تعيشها ''مجتمعاتهم'' الصغيرة في المنازل. لكن هذا على صحته لا يعني بأي حال من الأحوال توازن التفاعلات على دواخلهم وتوزعها بالعدل والقسطاس من دون تمايز. فالأطفال والمراهقون من طلاب المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في المناطق التي استهدفت أكثر من سواها سيكونون أكثر تأثراً على الصعيد النفسي طالما : أولاً أن ثلاثين بالمئة من الضحايا هم من الأطفال، وهم كانوا أقرب من زملائهم في المناطق الأبعد إلى مسرح العدوان الذي ليس سوى بيوتهم وقراهم ومدنهم، وثانياً لأن هؤلاء الشهداء كانوا مقرّبين من زملائهم الباقين على قيد الحياة ويحملون في ذاكرتهم الكثير من الصور لهم. وثالثاً فإن الإصابات النفسية تقوى كل ما كانت الخسائر البشرية أكثر ملامسة لهؤلاء من سواهم. ورابعاً في حال افتراض عدم وجود خسائر مباشرة فإن الإقامة لأيام طويلة على مقربة من استهدافات القصف بمنوعاته، أو في الملاجئ والنزوح، أو تحت مظلة الغارات الجوية واللجوء إلى المدارس والأديرة والكنائس والمساجد والحدائق وسواها من أماكن عامة لا يمحى من الذاكرة لمجرد توقف القتال وعودة الهدوء إلى البلاد. كما أن فقدان الأب أو الأم أو الأخت أو الأخ أو المعلم والصديق والقريب وغيرهم من المعارف اليوميين من شأنه أن يترك ندوباً لا يمكن أن تُنسى بالسهولة التي يتصوّرها البعض. ويظلّ الأكثر فداحةً هو ما يتناول كل الطلاب في لبنان بدءاً من الجنوب وحتى أقاصي الشمال ويعبّر عن نفسه بنوعٍ من الزلازل التي أصابت ثقة هذه الشرائح العمرية بالمستقبل في بلادهم، وفي منظومات القيم التي طالما تعمد الأسرة والمدرسة إلى تربيتهم عليها، خصوصاً لجهة قِيَم العمل والعلم والكدح في سبيل تحصيلهما ومراكمتهما، معطوفاً ذلك كلّه على مناخات الإنقسام السياسي على تقويم ما حدث وأسبابه ومبرّراته وإمكانات علاجه ومستقبل تقاطعاته وعلاقات بلدهم بالأوضاع الداخلية والإقليمية. إذاً نحن أمام منوعات من المضاعفات على طلابنا، تبدأ من مراحل الحضانة وتصل إلى الصفوف الجامعية وفي عموم المناطق من دون استثناء. ما يعني أننا أمام أمر واقع يتطلب علاجات حقيقية، طالما أن معرفة هؤلاء الطلاب بمجريات الوقائع هي حاصلة بفعل ضخ الإعلام اليومي الذي يشاهدونه صباحاً مساءً .صورة لطاولة المعلم وعليها زجاج مهشّم      مقاعد لتلاميذ من داخل الصف حيث كانو يجلسون وهي محطمة
العلاجات التي نتقصد الإشارة إليها لا يمكن أن تكون من النوع التقليدي الذي تعتمده دوائر معزولة بعضها عن بعض. وهنا لا بدّ من التنويه بكل المبادرات التي أقدم عليها أساتذة ومعالجون نفسيون من الجامعات اللبنانية واليسوعية والأميركية والبلمند وغيرها من الهيئات المدنية والمراكز المتخصصة العربية والدولية. لقد وضع هؤلاء أنفسهم في خدمة المحتاجين إلى خدماتهم من أجل المساعدة على مواجهة مضاعفات المحنة على المواطنين عموماً ومن هم منهم في أعمار الدراسة خصوصاً. من دون أن ننسى ولو للحظة واحدة أن مشهد الموت العنيف وتمزق العائلات والأقارب وتشتّتهم مع الأصدقاء وتدمير المقتنيات، كلّ هذا من شأنه أن يكون قاسياً، بل وحشيٌ وذو تأثيرات فادحة على
الصغار الذين لم يصلوا بعد إلى فهم أو استيعاب آليات الحرب أو ما يرافقها من حالات الموت التي تطول الأقارب أو أبناء الوطن. وقبل ذلك كلّه هذا التحوّل الدراماتيكي الذي أصاب حياة الأفراد والجماعات وأدّى إلى مضاعفات عميقة وبالغة الضراوة  والسرعة في غضون فترة قصيرة قياسياً، لم تكن في الوارد أو الحسبان.إنّ استمرار منوّعات التدمير متمثلة بركام المنازل والأحياء والشوارع وتعذّر الوصول إلى الحقول وارتياد الطرقات التي  تنتشر عليها آلاف القنابل العنقودية والألغام وسقوط الضحايا على نحو يومي رغم وقف إطلاق النار، ودخول الجيش اللبناني إلى الجنوب ومعه قوات الطوارئ الدولية المعزّزة، واضطرار الآلاف من العائلات إلى الإقامة في مساكن شبه مدمّرة وتشكّل خطراً على السلامة العامة، أو اضطرارها إلى الرحيل عن قراها حتى إلى قرى أخرى، من شأنه أن يترك مضاعفات على العائدين والنازحين على حدّ سواء. وهذا يجعل من ذاكرة المحنة مقيمة لا تتزحزح، بل وقادرة على تأكيد حضورها على ما عداها من وقائع.
لقد كانت هذه المبادرات العلمية والعملية التي انطلقت هنا وهناك في ذروة حمأة العدوان، وبالعلاقة مع محنة النزوح التي طالت ربع سكان لبنان، من نوع علاجات الطوارئ العاجلة لا أكثر ولا أقلّ. الآن وبعد هدوء العاصفة، ننطلق من أن مهمّة التجاوز والانتصار على المحنة، لا يمكن أن تُحقّق أغراضها من دون اعتبار المجتمع بكليّته مسؤولاً عن المساهمة في العودة إلى الحياة السوية الطبيعية لأبنائه. ومثل هذا لا يمكن أن يتحقّق من دون ''علاجات'' على المديين القصير والمتوسط، وهذا الهدف لا يمكن له أن يتحقّق إلاّ بمجهودات جماعية تلعب بموجبه كلّ مجموعة وفئة وشريحة محلية أو وطنية دورها في عملية الانتقال أو العودة إلى المقاييس الطبيعية للحياة. ويبقى دور الدولة هو الأساس، إذ المعروف أنّ الدولة غابت طويلاً عن الجنوب، لا نتحدث هنا عن غياب الجيش اللبناني عن الحدود الوطنية منذ عقود، بل عن الأجهزة والمؤسسات الرسمية، بما فيها الخدمات على اختلافها. وفي هذا المجال فإن توفير الخدمات العامة بما فيها الخدمات الصحية والنفسية من شأنه أن يعني الكثير على صعيد الأهالي
من كل الأعمار والفئات والمناطق المنكوبة.صورة لأولاد داخل أحد الصفوف وأعمال ترفيهية
نتوقف هنا عند الإشارة على نحو مخصوص عند دور ومهمّة الهيئة التعليمية في أي من المراحل سواء أكانت في مستويات أوليّة أم في مستويات أكاديمية وعليا، إذ الفعلي أن وظيفة التعليم لا يمكن أن تقتصر على نقل المعارف والعلوم أو إثارة الدافعية لتحصيلها لدى التلامذة والطلاب من دون أدنى اعتبار لأوضاعهم وعوالم دواخلهم، ولعلّ مثل هذه العملية أساساً وبالأصل تتعذّر إن لم نقل أنّها تستحيل في ظلّ التشوّهات والإصابات النفسية بعد العدوان، مع التشديد على تباين الآثار والنتائج بين فئات الطلاب.
سيلحظ المعلمون والمعلمات والأساتذة في صفوفهم بالتأكيد، أنواعاً من الحالات التي يتوجّب على ضميرهم المهني والوطني مسؤولية التعاطي معها ولا نقول علاجها، والمساعدة على عبور أصحابها نحو سويّة عادية، ومثل هذا التعاطي هو في صميم الدور الذي يلعبه المعلم\المعلمة مهما اختلفت الصِيَغ حول الدور الذي يتوجّب عليه القيام به داخل الصف، ملقّناً أو منسّقاً أو مرشداً وموجّهاً، رغم محدودية نتائج الأول ورحابة إمكانية نجاح الثاني. وأيّاً كان شكل هذا الدور فإن المدرّس\المدرّسة لا يستطيع تجاهل حالات الإنطواء والشرود واليأس والتراجع والميول العدوانية بل والاكتئاب لدى طلابه صغاراً وكباراً. وهو إلى هذا الحدّ أو ذاك معني في المساهمة في مواجهة مثل هذه المواقف التي تحتاج إلى كثير من الرعاية والنقاش والاحتضان والتفهم والمساندة من أجل تجاوزها. لا يعني مثل هذا أنّ الهيئات التعليمية لا يعاني أفراد منها هي الأخرى من مثل المضاعفات التي يعاني منها الطلاب، إلاّ أنّ الثابت أن وقع المعضلات أخفّ وطأة على أفرادها من الطلاب الذين ما زالت أعمارهم طريّة في احتمال ما فرض عليهم احتماله من أهوال، باعتبار أنّ الكبار هم أقدر على عقلنة المجريات والأحداث التي مرّت على البلاد. ويتأكّد ذلك إذا ما توافرت لهؤلاء المعلمين والأساتذة الدورات السريعة (يوم إلى ثلاثة أيام) أو المنشورات على الأقلّ التي تمكّنهم من إدارة حلقات دعم نفسي جماعي لزملائهم وللمواطنين على حداء سواء. إنّ مثل هذا الدور لا يتحقّق إلاّ إذا تحوّلت المدرسة سواء كانت أساسية أو ثانوية أو كلية إلى خليّة جذب زاخرة بالأنشطة التي تتجاوز عزلة المجتمعات المحلية إلى الرحاب الوطني. إنّ تزويد هذه المدارس بالأجهزة السمعية البصرية والأفلام الهادفة وتشجيع الفرق الطلابية من أقسام المسرح والسينما والفنون على أنواعها على تنظيم زيارات أو أيام عمل لمواقع تجمّع وابتكار كلّ ما من شأنه مواجهة حالات الإنطواء كلّ هذه تعني أن قرار تجاوز المحنة يتجاوز أصحابه والمعنيين مباشرة به إلى أوساط أوسع.صورة لصف قد حوّل إلى بيت ثانٍ خلال الحرب
إنّ قيام المدرسة في مراحل الحضانة أو الأساسي أو المتوسط أو الثانوي وكذلك الجامعات بمثل هذا الدور، لا يمكن له أن يستقيم على نحو طبيعي إلاّ إذا اذا تأمّنت له عوامل التماسك والتضامن في مواجهة تداعيات العدوان. وهو تضامن يجب أن ينهض أولاً بين أفراد الهيئة التعليمية والإدارية وبين هؤلاء وطلابهم. ومثل هذا التضامن من شأنه أن يسهم في تشخيص المشكلات وفي إدراك أنّ علاجها لا يمكن أن يتحقّق عبر الأدوات التقليدية سواء أكانت كيمائية أم غيرها. أكثر من ذلك فإن الوسائل العلاجية لا يمكن أن تصل يعملون تحت راية الوطن. إلى تحقيق مبتغاها، إلاّ إذا تضافرت مع أشكال من الاحتضان الجماعي الذي تلعب المدرسة دوراً رائداً في صياغته، لكنه لا يختزلها بأي حال من الأحوال. وهنا نصل إلى دور الأسرة، باعتبارها الخليّة الأساسية التي تستطيع إذا ما قامت بالمطلوب منها أن تدفع بالاستقرار النفسي خطوات إلى الأمام .
إنّ وضع الأسرة اللبنانية المتباينة لجهة وَعيِها لِما حصل، واختلاف مستواها الثقافي والاجتماعي وقدراتها على التواصل بين أفرادها، يجعل من قيامها بدورها ''الاستشفائي'' أمراً مشكوكاً فيه، إذا لم يتمّ بالعلاقة مع المدرسة والجامعة بطبيعة الحال. إنّ التفاعل بين دوري ''الإدارة'' العائلية والتربوية والأكاديمية معاً من شأنه أن يوفّر عناصر النجاح الفعلي إذا ما عطفنا ذلك كلّه على الجانب العلمي ممثّلاً بالأطباء والمعالجين النفسيين والمرشدين الاجتماعيين. هذه الدوائر لا تتكامل إلاّ بالتواصل مع المجتمع المحلي، ونعني به هنا السلطات البلدية والأندية والهيئات الثقافية، بل وحتى الفعاليات على مختلف أنواعها من صناعية وتجارية ورياضية وترفيهية وخدماتية. وكلّ هذه الشرائح تستطيع أن تتفاعل مع المدرسة والمؤسسة التربوية في مهمّة تجاوز آثار وذيول المحنة النفسية التي يعاني منها المجتمع عموماً والشرائح الطالبية خصوصاً. إنّ وضع الطالب، الذي لم يبرأ ممّا عاناه بعد، تحت مطرقة الواجبات البيتية، من شأنه أن يقود إلى بروز ميول وأشكال من الرفض والتمرد والانفصال والقنوط عن مهمّة التعلّم السوية والمجتمع التربوي، طالما تحوّلت هذه في وعيه أو لاوعيه إلى ما يشبه السجن حيث العقوبات الجماعية هي القاعدة ودون حدّ أدنى من الاحترام لخصوصيته وذاتيته والظروف التي يجتازها.
إنّ تحوّل المؤسسة التربوية إلى ملجأ وملاذ يحتضن كل الطلاب، خصوصاً منهم ذوي المعاناة أو الحساسية العالية من شأنه أن يجعل إمكانية التجاوز تمرّ بيسرٍ وسرعةٍ قياسية، أما اعتماد أساليب الزجر والعقاب الإداري فأقصر الطرق نحو انفجار الأزمات، وبالتالي خسارة أفراد أسوياء قادرين على القيام بمهامهم التعلمية إذا ما تحقّقت رعايتهم وضمان عبورهم في هذه المرحلة الحرجة من حياتهم والتي فُرضت عليهم من دون قرارهم.

لقد تضامن اللبنانيون في غضون أيام المحنة، ومهما كان التوصيف الذي أُعطي لأشكال التضامن التي مورست عندما فُتحت البيوت والأماكن العامة أمام النازحين ونهضت المبادرات الأهلية والمدنية من جانب كلّ الأفراد والفئات والجمعيات والهيئات على تأمين عبور مواطنيهم هذه التجربة القاسية. هذا المستند يمكن أن يتكرّر هنا وعلى نحو فعلي إذا ما أدرك اللبنانيون أنّ ضمانة الانتصار الحقيقي وليس الإنشائي على العدوان يتحقّق من خلال مسؤوليتهم جميعاً عن أبنائهم وأخوانهم في مثل هذه المرحلة الحرجة لضمان عدم انكسار وطنهم، باعتبار أنّ المساندة النفسية المطلوبة بإلحاح في هذا الوقت بالذات هي بطاقة عبور نحو مستقبلهم الموحّد. وممّا يعزّز ذلك أن هناك الكثير من الإيجابيات التي لوحظت والتي يمكن البناء عليها وتعزيزها لتحقيق تجاوز الخسائر والأضرار وهواجس القلق، والانطلاق مجدّداً نحو وطن معافى متماسك بما يحقّق هزيمة الاستهدافات الإسرائيلية التي تعمّدت الوصول إلى أغراضها بتسليط الحديد والنار على اللبنانيين جميعاً من دون تمييز بين كبير وصغير، مقاتل ومدني، توصّلاً إلى إركاعهم وتبديد قدرتهم على النهوض مجدّداً، كما هو عهدهم طوال المحن التي عانوها في نصف القرن الأخير من حياة وطنهم.
إنّ الأضرار المادية الفادحة التي أصابت اللبنانيين في ممتلكاتهم العامة والخاصة تظلّ ورشة إعادة إعمارها أيسر من إعادة تأهيل ضحايا الحرب الأحياء ومواجهة ما يختزنونه من صدمات، إنّ مهمّة من هذا النوع لا تتحقّق من خلال مناخات فئوية وخاصة، إذ إن أقصى قدرة كهذه لا تعدو أن تنتج حالات انطواء ونزعات تدميرية، بينما المطلوب هو خطوات مجتمعية عاجلة توازي إن لم نقل تتقدّم ورشة الإعمار المادي، التي لا قيمة لها من دون مواطنين أسوياء قادرين على تحمّل عبء النهوض ثانيةً رغم الجراح التي  يُعانون في أجسادهم وأرواحهم.

المدرسة والجامعة أمام مهمّة المساندة النفسية للطلاب

المدرسة والجامعة أمام مهمّة المساندة النفسية للطلاب

د. زهير هواري المسؤول التربوي في جريدة ''السفير''، أستاذ متعاقد في كلية التربية الجامعة اللبنانيةيعود المعلمون والمعلمات والأساتذة إلى صفوفهم هذا العام، وطلابهم ليسوا هم طلابهم كما في العام السابق. ليس لأن القاعدة أن الطلاب يتغيّرون على إيقاع سنوي عادي، عندما ينتقلون من صف إلى آخر، أو يتخرّجون من مدارسهم وجامعاتهم، بل لأن هؤلاء الطلاب لم يعودوا هم أنفسهم، بعد أن مرّت عليهم حرب الثلاث والثلاثين يوماً مع ما تخلّلها ورافقها من فظائع وضحايا بشرية وجرحى ودمار وأضرار وتهجير وحصار.

بالتأكيد سيشهد العديد من الأساتذة والمعلمين والمعلمات نقصاً في بعض الصفوف، نظراً لاستشهاد عدد من التلاميذ والطلاب جراء العدوان الذي استهدف القرى والمدن والضواحي، أو انتقال بعض التلامذة إلى مدارس أخرى بعد أن دُمّرِت بيوتهم ومدارسهم واضطروا إلى مغادرة مناطق سكنهم الأساسية، هذا إذا لم نتحدث عن أولئك الذين افتقر ذووهم وباتوا عاجزين عن الإيفاء بالأقساط وأثمان اللوازم الضرورية مع مطلع كل عام دراسي. يعود التلامذة والطلاب إلى مدارسهم مختلفين عمّا كانوا عليه في السنوات السابقة بعد أن جرت دماء كثيرة في طول البلاد وعرضها. ومثل هذا الأمر سيكون له مضاعفاته ومترتباته ليس على شؤون حياتهم اليومية، وبعد أن دُمّرِت حوالى أربعين مدرسة تدميراً كاملاً، سبق وألفوها بكل من وما فيها، وتضرّرت أكثر من ثلاثماية أخرى. بل أيضاً لأن الدمار العام من شأنه أن يترك بصمات على ما تعودوه من أشكال اجتماع وحياة، تتعذر معه الآن العودة إلى البيت الأصلي أو إمكانية الحصول على الضروريات كالتيار الكهربائي وإمدادات المياه والمستوى المعيشي الذي تراجع وما شابه ذلك.
الكثير من الندوب يحملها هؤلاء الطلاب في دواخلهم جراء العدوان، وهي ندوب تختلف بين فئة طلابية وأخرى تبعاً لمعدلات الأعمار، وبالتالي الوعي بما كان وما صار من جهة، ودرجة القرب أو البعد عن مسرح التدمير الهمجي المنهجي الإسرائيلي مع ما واكبه من قتلى وجرحى ومعاقين وتخريب من جهة ثانية. فالمعروف أن غ
صورة لصف من الداخل وعامل ينظف الزجاج المهشّم  البية القرى الجنوبية كانت تفتقد إلى الكثير من المرافق قبل الحرب العدوانية الأخيرة. وهي أصلاً وبالأساس لم تخرج من تحت نير الاحتلال الإسرائيلي إلاّ قبل ست سنوات من تاريخ هذه الحرب. هذا من دون أن نتحدث عن الاجتياحات السابقة سواء عبر الاحتلالات المباشرة أو الاحتلال بالنار كما في مسلسل الأعوام ١٩٩٦ و ١٩٩٣ و ١٩٨٢ و ١٩٧٨ . يجب أن يقترن ذلك بالإشارة إلى إغفال المقاومة إنشاء أي بنى صحية أو اجتماعية تخفّف من الضغوط التي تعرّضت لها تلك المنطقة، إذ اقتصر عملها على إيلاء الجانب العسكري الاهتمام دون سواه من المرافق الحياتية الضرورية للسكان. رغم ذلك يمكن القول إن الأمور كانت في حدود مقبولة قبل الحرب الأخيرة. وقد أطلقت هذه تحدّيات تنوء بها الدول المعافاة فكيف بالوضع اللبناني الذي تعاني مؤسساته وأجهزته من أعطاب بنيوية كبرى منعته من إقامة دولة ذات سلطة واحدة ووحيدة ومؤسسات قادرة على لعب دورها في حالي الحرب والسلم على حدّ سواء. وهنا لا بدّ من أن نشير إلى أن السائد في غضون السنوات المنصرمة كان منطق التلزيم في الجنوب كما في سواه من المناطق، وإن كان في هذا المنطقة يكتسب حساسيات عالية تتجاوز كما هو معروف المحلي إلى الاقليمي.
الثابت أن كل طلاب لبنان يحملون في ذواتهم بعضاً من  آثار الحرب متأثرين ومتفاعلين مع المناخات العامة في البلاد، وتلك التي تعيشها ''مجتمعاتهم'' الصغيرة في المنازل. لكن هذا على صحته لا يعني بأي حال من الأحوال توازن التفاعلات على دواخلهم وتوزعها بالعدل والقسطاس من دون تمايز. فالأطفال والمراهقون من طلاب المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في المناطق التي استهدفت أكثر من سواها سيكونون أكثر تأثراً على الصعيد النفسي طالما : أولاً أن ثلاثين بالمئة من الضحايا هم من الأطفال، وهم كانوا أقرب من زملائهم في المناطق الأبعد إلى مسرح العدوان الذي ليس سوى بيوتهم وقراهم ومدنهم، وثانياً لأن هؤلاء الشهداء كانوا مقرّبين من زملائهم الباقين على قيد الحياة ويحملون في ذاكرتهم الكثير من الصور لهم. وثالثاً فإن الإصابات النفسية تقوى كل ما كانت الخسائر البشرية أكثر ملامسة لهؤلاء من سواهم. ورابعاً في حال افتراض عدم وجود خسائر مباشرة فإن الإقامة لأيام طويلة على مقربة من استهدافات القصف بمنوعاته، أو في الملاجئ والنزوح، أو تحت مظلة الغارات الجوية واللجوء إلى المدارس والأديرة والكنائس والمساجد والحدائق وسواها من أماكن عامة لا يمحى من الذاكرة لمجرد توقف القتال وعودة الهدوء إلى البلاد. كما أن فقدان الأب أو الأم أو الأخت أو الأخ أو المعلم والصديق والقريب وغيرهم من المعارف اليوميين من شأنه أن يترك ندوباً لا يمكن أن تُنسى بالسهولة التي يتصوّرها البعض. ويظلّ الأكثر فداحةً هو ما يتناول كل الطلاب في لبنان بدءاً من الجنوب وحتى أقاصي الشمال ويعبّر عن نفسه بنوعٍ من الزلازل التي أصابت ثقة هذه الشرائح العمرية بالمستقبل في بلادهم، وفي منظومات القيم التي طالما تعمد الأسرة والمدرسة إلى تربيتهم عليها، خصوصاً لجهة قِيَم العمل والعلم والكدح في سبيل تحصيلهما ومراكمتهما، معطوفاً ذلك كلّه على مناخات الإنقسام السياسي على تقويم ما حدث وأسبابه ومبرّراته وإمكانات علاجه ومستقبل تقاطعاته وعلاقات بلدهم بالأوضاع الداخلية والإقليمية. إذاً نحن أمام منوعات من المضاعفات على طلابنا، تبدأ من مراحل الحضانة وتصل إلى الصفوف الجامعية وفي عموم المناطق من دون استثناء. ما يعني أننا أمام أمر واقع يتطلب علاجات حقيقية، طالما أن معرفة هؤلاء الطلاب بمجريات الوقائع هي حاصلة بفعل ضخ الإعلام اليومي الذي يشاهدونه صباحاً مساءً .صورة لطاولة المعلم وعليها زجاج مهشّم      مقاعد لتلاميذ من داخل الصف حيث كانو يجلسون وهي محطمة
العلاجات التي نتقصد الإشارة إليها لا يمكن أن تكون من النوع التقليدي الذي تعتمده دوائر معزولة بعضها عن بعض. وهنا لا بدّ من التنويه بكل المبادرات التي أقدم عليها أساتذة ومعالجون نفسيون من الجامعات اللبنانية واليسوعية والأميركية والبلمند وغيرها من الهيئات المدنية والمراكز المتخصصة العربية والدولية. لقد وضع هؤلاء أنفسهم في خدمة المحتاجين إلى خدماتهم من أجل المساعدة على مواجهة مضاعفات المحنة على المواطنين عموماً ومن هم منهم في أعمار الدراسة خصوصاً. من دون أن ننسى ولو للحظة واحدة أن مشهد الموت العنيف وتمزق العائلات والأقارب وتشتّتهم مع الأصدقاء وتدمير المقتنيات، كلّ هذا من شأنه أن يكون قاسياً، بل وحشيٌ وذو تأثيرات فادحة على
الصغار الذين لم يصلوا بعد إلى فهم أو استيعاب آليات الحرب أو ما يرافقها من حالات الموت التي تطول الأقارب أو أبناء الوطن. وقبل ذلك كلّه هذا التحوّل الدراماتيكي الذي أصاب حياة الأفراد والجماعات وأدّى إلى مضاعفات عميقة وبالغة الضراوة  والسرعة في غضون فترة قصيرة قياسياً، لم تكن في الوارد أو الحسبان.إنّ استمرار منوّعات التدمير متمثلة بركام المنازل والأحياء والشوارع وتعذّر الوصول إلى الحقول وارتياد الطرقات التي  تنتشر عليها آلاف القنابل العنقودية والألغام وسقوط الضحايا على نحو يومي رغم وقف إطلاق النار، ودخول الجيش اللبناني إلى الجنوب ومعه قوات الطوارئ الدولية المعزّزة، واضطرار الآلاف من العائلات إلى الإقامة في مساكن شبه مدمّرة وتشكّل خطراً على السلامة العامة، أو اضطرارها إلى الرحيل عن قراها حتى إلى قرى أخرى، من شأنه أن يترك مضاعفات على العائدين والنازحين على حدّ سواء. وهذا يجعل من ذاكرة المحنة مقيمة لا تتزحزح، بل وقادرة على تأكيد حضورها على ما عداها من وقائع.
لقد كانت هذه المبادرات العلمية والعملية التي انطلقت هنا وهناك في ذروة حمأة العدوان، وبالعلاقة مع محنة النزوح التي طالت ربع سكان لبنان، من نوع علاجات الطوارئ العاجلة لا أكثر ولا أقلّ. الآن وبعد هدوء العاصفة، ننطلق من أن مهمّة التجاوز والانتصار على المحنة، لا يمكن أن تُحقّق أغراضها من دون اعتبار المجتمع بكليّته مسؤولاً عن المساهمة في العودة إلى الحياة السوية الطبيعية لأبنائه. ومثل هذا لا يمكن أن يتحقّق من دون ''علاجات'' على المديين القصير والمتوسط، وهذا الهدف لا يمكن له أن يتحقّق إلاّ بمجهودات جماعية تلعب بموجبه كلّ مجموعة وفئة وشريحة محلية أو وطنية دورها في عملية الانتقال أو العودة إلى المقاييس الطبيعية للحياة. ويبقى دور الدولة هو الأساس، إذ المعروف أنّ الدولة غابت طويلاً عن الجنوب، لا نتحدث هنا عن غياب الجيش اللبناني عن الحدود الوطنية منذ عقود، بل عن الأجهزة والمؤسسات الرسمية، بما فيها الخدمات على اختلافها. وفي هذا المجال فإن توفير الخدمات العامة بما فيها الخدمات الصحية والنفسية من شأنه أن يعني الكثير على صعيد الأهالي
من كل الأعمار والفئات والمناطق المنكوبة.صورة لأولاد داخل أحد الصفوف وأعمال ترفيهية
نتوقف هنا عند الإشارة على نحو مخصوص عند دور ومهمّة الهيئة التعليمية في أي من المراحل سواء أكانت في مستويات أوليّة أم في مستويات أكاديمية وعليا، إذ الفعلي أن وظيفة التعليم لا يمكن أن تقتصر على نقل المعارف والعلوم أو إثارة الدافعية لتحصيلها لدى التلامذة والطلاب من دون أدنى اعتبار لأوضاعهم وعوالم دواخلهم، ولعلّ مثل هذه العملية أساساً وبالأصل تتعذّر إن لم نقل أنّها تستحيل في ظلّ التشوّهات والإصابات النفسية بعد العدوان، مع التشديد على تباين الآثار والنتائج بين فئات الطلاب.
سيلحظ المعلمون والمعلمات والأساتذة في صفوفهم بالتأكيد، أنواعاً من الحالات التي يتوجّب على ضميرهم المهني والوطني مسؤولية التعاطي معها ولا نقول علاجها، والمساعدة على عبور أصحابها نحو سويّة عادية، ومثل هذا التعاطي هو في صميم الدور الذي يلعبه المعلم\المعلمة مهما اختلفت الصِيَغ حول الدور الذي يتوجّب عليه القيام به داخل الصف، ملقّناً أو منسّقاً أو مرشداً وموجّهاً، رغم محدودية نتائج الأول ورحابة إمكانية نجاح الثاني. وأيّاً كان شكل هذا الدور فإن المدرّس\المدرّسة لا يستطيع تجاهل حالات الإنطواء والشرود واليأس والتراجع والميول العدوانية بل والاكتئاب لدى طلابه صغاراً وكباراً. وهو إلى هذا الحدّ أو ذاك معني في المساهمة في مواجهة مثل هذه المواقف التي تحتاج إلى كثير من الرعاية والنقاش والاحتضان والتفهم والمساندة من أجل تجاوزها. لا يعني مثل هذا أنّ الهيئات التعليمية لا يعاني أفراد منها هي الأخرى من مثل المضاعفات التي يعاني منها الطلاب، إلاّ أنّ الثابت أن وقع المعضلات أخفّ وطأة على أفرادها من الطلاب الذين ما زالت أعمارهم طريّة في احتمال ما فرض عليهم احتماله من أهوال، باعتبار أنّ الكبار هم أقدر على عقلنة المجريات والأحداث التي مرّت على البلاد. ويتأكّد ذلك إذا ما توافرت لهؤلاء المعلمين والأساتذة الدورات السريعة (يوم إلى ثلاثة أيام) أو المنشورات على الأقلّ التي تمكّنهم من إدارة حلقات دعم نفسي جماعي لزملائهم وللمواطنين على حداء سواء. إنّ مثل هذا الدور لا يتحقّق إلاّ إذا تحوّلت المدرسة سواء كانت أساسية أو ثانوية أو كلية إلى خليّة جذب زاخرة بالأنشطة التي تتجاوز عزلة المجتمعات المحلية إلى الرحاب الوطني. إنّ تزويد هذه المدارس بالأجهزة السمعية البصرية والأفلام الهادفة وتشجيع الفرق الطلابية من أقسام المسرح والسينما والفنون على أنواعها على تنظيم زيارات أو أيام عمل لمواقع تجمّع وابتكار كلّ ما من شأنه مواجهة حالات الإنطواء كلّ هذه تعني أن قرار تجاوز المحنة يتجاوز أصحابه والمعنيين مباشرة به إلى أوساط أوسع.صورة لصف قد حوّل إلى بيت ثانٍ خلال الحرب
إنّ قيام المدرسة في مراحل الحضانة أو الأساسي أو المتوسط أو الثانوي وكذلك الجامعات بمثل هذا الدور، لا يمكن له أن يستقيم على نحو طبيعي إلاّ إذا اذا تأمّنت له عوامل التماسك والتضامن في مواجهة تداعيات العدوان. وهو تضامن يجب أن ينهض أولاً بين أفراد الهيئة التعليمية والإدارية وبين هؤلاء وطلابهم. ومثل هذا التضامن من شأنه أن يسهم في تشخيص المشكلات وفي إدراك أنّ علاجها لا يمكن أن يتحقّق عبر الأدوات التقليدية سواء أكانت كيمائية أم غيرها. أكثر من ذلك فإن الوسائل العلاجية لا يمكن أن تصل يعملون تحت راية الوطن. إلى تحقيق مبتغاها، إلاّ إذا تضافرت مع أشكال من الاحتضان الجماعي الذي تلعب المدرسة دوراً رائداً في صياغته، لكنه لا يختزلها بأي حال من الأحوال. وهنا نصل إلى دور الأسرة، باعتبارها الخليّة الأساسية التي تستطيع إذا ما قامت بالمطلوب منها أن تدفع بالاستقرار النفسي خطوات إلى الأمام .
إنّ وضع الأسرة اللبنانية المتباينة لجهة وَعيِها لِما حصل، واختلاف مستواها الثقافي والاجتماعي وقدراتها على التواصل بين أفرادها، يجعل من قيامها بدورها ''الاستشفائي'' أمراً مشكوكاً فيه، إذا لم يتمّ بالعلاقة مع المدرسة والجامعة بطبيعة الحال. إنّ التفاعل بين دوري ''الإدارة'' العائلية والتربوية والأكاديمية معاً من شأنه أن يوفّر عناصر النجاح الفعلي إذا ما عطفنا ذلك كلّه على الجانب العلمي ممثّلاً بالأطباء والمعالجين النفسيين والمرشدين الاجتماعيين. هذه الدوائر لا تتكامل إلاّ بالتواصل مع المجتمع المحلي، ونعني به هنا السلطات البلدية والأندية والهيئات الثقافية، بل وحتى الفعاليات على مختلف أنواعها من صناعية وتجارية ورياضية وترفيهية وخدماتية. وكلّ هذه الشرائح تستطيع أن تتفاعل مع المدرسة والمؤسسة التربوية في مهمّة تجاوز آثار وذيول المحنة النفسية التي يعاني منها المجتمع عموماً والشرائح الطالبية خصوصاً. إنّ وضع الطالب، الذي لم يبرأ ممّا عاناه بعد، تحت مطرقة الواجبات البيتية، من شأنه أن يقود إلى بروز ميول وأشكال من الرفض والتمرد والانفصال والقنوط عن مهمّة التعلّم السوية والمجتمع التربوي، طالما تحوّلت هذه في وعيه أو لاوعيه إلى ما يشبه السجن حيث العقوبات الجماعية هي القاعدة ودون حدّ أدنى من الاحترام لخصوصيته وذاتيته والظروف التي يجتازها.
إنّ تحوّل المؤسسة التربوية إلى ملجأ وملاذ يحتضن كل الطلاب، خصوصاً منهم ذوي المعاناة أو الحساسية العالية من شأنه أن يجعل إمكانية التجاوز تمرّ بيسرٍ وسرعةٍ قياسية، أما اعتماد أساليب الزجر والعقاب الإداري فأقصر الطرق نحو انفجار الأزمات، وبالتالي خسارة أفراد أسوياء قادرين على القيام بمهامهم التعلمية إذا ما تحقّقت رعايتهم وضمان عبورهم في هذه المرحلة الحرجة من حياتهم والتي فُرضت عليهم من دون قرارهم.

لقد تضامن اللبنانيون في غضون أيام المحنة، ومهما كان التوصيف الذي أُعطي لأشكال التضامن التي مورست عندما فُتحت البيوت والأماكن العامة أمام النازحين ونهضت المبادرات الأهلية والمدنية من جانب كلّ الأفراد والفئات والجمعيات والهيئات على تأمين عبور مواطنيهم هذه التجربة القاسية. هذا المستند يمكن أن يتكرّر هنا وعلى نحو فعلي إذا ما أدرك اللبنانيون أنّ ضمانة الانتصار الحقيقي وليس الإنشائي على العدوان يتحقّق من خلال مسؤوليتهم جميعاً عن أبنائهم وأخوانهم في مثل هذه المرحلة الحرجة لضمان عدم انكسار وطنهم، باعتبار أنّ المساندة النفسية المطلوبة بإلحاح في هذا الوقت بالذات هي بطاقة عبور نحو مستقبلهم الموحّد. وممّا يعزّز ذلك أن هناك الكثير من الإيجابيات التي لوحظت والتي يمكن البناء عليها وتعزيزها لتحقيق تجاوز الخسائر والأضرار وهواجس القلق، والانطلاق مجدّداً نحو وطن معافى متماسك بما يحقّق هزيمة الاستهدافات الإسرائيلية التي تعمّدت الوصول إلى أغراضها بتسليط الحديد والنار على اللبنانيين جميعاً من دون تمييز بين كبير وصغير، مقاتل ومدني، توصّلاً إلى إركاعهم وتبديد قدرتهم على النهوض مجدّداً، كما هو عهدهم طوال المحن التي عانوها في نصف القرن الأخير من حياة وطنهم.
إنّ الأضرار المادية الفادحة التي أصابت اللبنانيين في ممتلكاتهم العامة والخاصة تظلّ ورشة إعادة إعمارها أيسر من إعادة تأهيل ضحايا الحرب الأحياء ومواجهة ما يختزنونه من صدمات، إنّ مهمّة من هذا النوع لا تتحقّق من خلال مناخات فئوية وخاصة، إذ إن أقصى قدرة كهذه لا تعدو أن تنتج حالات انطواء ونزعات تدميرية، بينما المطلوب هو خطوات مجتمعية عاجلة توازي إن لم نقل تتقدّم ورشة الإعمار المادي، التي لا قيمة لها من دون مواطنين أسوياء قادرين على تحمّل عبء النهوض ثانيةً رغم الجراح التي  يُعانون في أجسادهم وأرواحهم.