المناهج الجديدة: ما لها وما عليها
ان مشروع الإصلاح التربوي الذي انطلق منذ العام ١٩٩٤ قد وضع أسس تأمين مستقبل تربوي حيوي لأولادنا. إننا من خلال مواكبتنا لمراحل المشروع لا بد لنا من التنويه بالرؤية المستقبلية التي تحلى بها مصممو المشروع وبمبادرتهم لجمع كامل المجتمع التربوي في محاولة لم يسبق لها مثيل لدمج القطاعين الرسمي والخاص وبالتزامهم مبدأ تقييم المناهج ومراجعتها وتطويرها بشكل دائم ومستمر. اننا على قناعة تامة بأهمية التربية والقطاع التربوي ودورهما في حلّ كثير من المشاكل التي يعانيها مجتمعنا على الصعد كافة: السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها، إذا ما احسن استثمارهما وتوجيههما نحو أهدافنا وغاياتنا المرجوة، خاصة وان المؤسسة التعليمية هي واحدة من ابرز ركائز التنشئة الوطنية والمركز الرئيسي لصهر فكر الإنسان وشحذ إمكاناته وابداعاته.
من لجان التخطيط للمناهج حتى غرفة الصف، مسار طويل ومتدرج قطعته مناهجنا تخطيطاً نظرياً وتطبيقاً عملياً. وان كنا قد قطعنا المرحلة الأولى وهي التخطيط والإعداد فنحن الآن أمام المرحلة الأهم وهي المناهج في غرفة الصف، ففي هذه الغرفة يتلاقى المعلم حامل رؤية المناهج وفلسفتها والتلميذ الذي هو هدفها ومبتغاها. في هذه الغرفة تُشرح المناهج، تتحول النظريات إلى حقائق معاشة، يُلفظ بعضها ويُكتسب البعض الآخر، هنا يكمن تحليل وتقييم كل جزئية من جزئيات المنهج، هنا تتم المعايشة الحقيقية والتلاقي البنَّاء بين المثلث التربوي (المعلم، التلميذ والمنهج) من هنا نستشرف اوجه التجديد والفعالية في مناهجنا لنتمسك بها ونطورها واوجه التناقض أو الاختلال لنقوّمها، وهنا تبرز اقتراحات الحلول الممكنة التي تساعد على تحديد مساراتنا بحيث لا نخسر نواحي التجديد والفعالية في مناهجنا.
من خلال دراسة ميدانية خضع لها حوالى ١٥٠ تلميذاً من السنتين الثانويتين الثانية والثالثة وشارك فيها ثلاثون منسقاً ومعلماً لمختلف المواد التعليمية لهاتين السنتين نستخلص ما يأتي :
١- إجماع أراء التلاميذ
أ- الإيجابيات
- المناهج تُكسب المتعلم ثقافة عامة.
- تتطلب تفكيراً عميقاً ونقداً شديداً وهذا ما ينمي العقل والفكر.
- تركّز على حلّ المشاكل والمسائل وتتطلب مهارة التحليل والاستنتاج.
- حددت الأهداف مسيرة التعليم.
- تحديد أهداف المناهج والمواد التعليمية ساعد المعلم على التنظيم والوضوح.
- التلميذ مشارك، محاور وفي قلب العملية التعليمية.
- تشجيع العمل الجماعي.
- ساعدت المناهج على الحدّ من أنانية التلاميذ المتفوقين، وتقوقع التلاميذ المقصرين.
- اكتشف التلاميذ أن لديهم قدرات لم تكن تستعمل : الفكر النقدي، التحليل والاستنتاج، حرية المناقشة ...
- فتح المجال لتخصصات جديدة (الاقتصاد، الاجتماع...)
- الاهتمام بمواضيع تُعايش بيئة التلميذ.
ب- السلبيات
رأي تلميذة اختصر آراء الجميع:
"إنني اكره هذه المناهج على أهميتها، فقد اقلقتني وجعلتني مشتتة بين العلمي والأدبي، اغرق في بحر من المعلومات والمعارف، لا اعرف المهم من الأهم، ثقافتي العلمية سطحية، لا وقت لي للتعمق في ما احب".
- كثرة المواد وكثرة ساعات التعليم، لا وقت للتلميذ للانتباه إلى نفسه والى هواياته.
- ضعف التنسيق والترابط بين المواد لجهة الأهداف العامة والخاصة للمادة الواحدة ولبقية المواد.
- كثرة المواد الأدبية في الفروع العلمية.
- لماذا لا تجمع المواد الأدبية في مقرر واحد يشمل مجمل الثقافة المطلوبة؟
- الاهتمام بالمواد الفنية والرياضية غير كافٍ.
- توزيع مواد المنهاج غير متوازن بحيث جاءت المادة مكثفة في سنة معينة وناقصة في سنوات أخرى.
- ترجمة الكتب من لغة إلى أخرى والأخطاء الواردة في الشكل والمضمون .
- تضارب أسئلة الامتحانات بين مادة وأخرى مضموناً وتركيباً، خصوصاً في المواد العلمية، واختلاف مصطلحاتها مما يربك التلاميذ.
- التقييم وما يتضمنه من غموض وارباك مما يؤدي إلى تراجع نتائج التلاميذ.
٢- آراء المنسقين والمعلمين
وإذ عَّبر التلاميذ عن تفاعلهم ومعاناتهم من المناهج، يطرح المنسقون والمعلمون بعض الحلول التي يجدونها مناسبة من خلال معايشتهم وتطبيقهم لمناهج المواد التي يشرفون عليها:
أ- بعض الملاحظات التي لم ترد عند التلاميذ
- الفصام الواقع بين التعليم والتقييم الذي جاء متأخراً عن محتوى المناهج.
- ندرة المراجع الإنكليزية التي تنسجم مع التقييم المعتمد في الامتحانات الرسمية.
- استئثار المعلم بالنصيب الأكبر من اللقاء الصفّي وطغيان عملية التعليم على التعلّم بسبب تعدد الأهداف والمواد وكثافة محتواها.
- ان ما يعرف بتخفيف المنهج الذي تقرر في سنوات لاحقة لم يكن بنّاءً لانه في بعض الأحيان لم يرتكز على دراسات وافية، إذ ألغى بعض المواضيع كما انه لم يلحظ علاقة هذه المواضيع بالسنوات اللاحقة.
ب- في التقييم
إن الاعتماد على مبدأ المجالات والكفايات لتقييم عمل التلميذ هو من الأمور الضرورية والمطلوبة، لكن تقييد المعلم بتقسيم ثابت للعلامة هو من الأمور المعقّدة التي تُصعّبِ عملية التقييم.
ثم إن الامتحانات الرسمية لا تتقيّد بشكل دقيق بتقسيم العلامة على الكفايات والمجالات. أضف إلى ذلك أنها لا تراعي دائماً التغيير الحاصل في المنهجية الجديدة، مما خلق في بعض الأحيان هوة بين فلسفة واضعي المنهج وعقلية واضعي أسئلة الامتحانات الرسمية. وهذا ما يسبب ارباكاً في عمل المعلمين، مما دفع الكثيرين منهم إلى التخلي عن تطبيق الكثير من الطرائق التي يتطلبها المنهج الجديد وحتى إلى تغيير الكتاب المتّبع من كتاب يتلاءم نوعاً ما مع المنهج الجديد إلى كتاب يتلاءم اكثر مع عقلية واضعي أسئلة الامتحانات الرسمية حتى لو كان هذا الكتاب بعيداً عن التغيير المطلوب، إذ اصبح الأهم تأمين النجاح في الشهادة الرسمية وليس التعليم وفق المنهجية الجديدة.
ج- اقتراحات عامة
- إعادة النظر في محتوى المناهج وعدم اللجوء إلى التخفيف والبتر لانه يضر بوحدة المناهج وتماسكها واشراك المعلمين في ذلك اشراكاً جوهرياً فعالاً لا اشراكاً شكلياً، لتحديد مضمون المنهج تحديداً دقيقاً من حيث المواضيع والوقت المخصص لكل موضوع، مع إنشاء لجنة دائمة تحدد دورياً شروحات تفصيلية لما يجب اعتماده.
- تعميم ثقافة التقييم في أوساط الهيئة التعليمية وجعلها الثقافة المشتركة بين المعلمين في المواد التعليمية كافةً مع إعادة النظر بلجان الامتحانات وإيجاد ترابط واضح بين هذه اللجان وما تتطلبه المناهج الجديدة.
- توزيع المقرر مع الأخذ بالاعتبار العمر العقلي للتلميذ ونقل بعض الدروس من صف إلى صف آخر.
- الإشراف الجدّي على الكتب الجديدة ومراقبتها. فالكتاب الجيّد هو من أهم العوامل الضرورية لاستكمال الغاية من وضع منهج جديد.
- الاهتمام بتدريب وإعداد المعلم تدريباً جيداً، وأفضل الحلول هو إعادة العمل بكلية التربية لاعداد المعلمين الجدد والإكثار من الدورات التدريبية للمعلمين خلال الخدمة الوظيفية "اذ لا يعقل أن يدرّسِ معلمو الماضي تلامذة اليوم ليعيشوا في المستقبل".
- التفكير بمقرر واحد يجمع بين دفتيه الثقافة الإنسانية المرجوة من المنهج والموزعة على مواد عدة كالتربية الوطنية، الجغرافيا، علم الاجتماع ... وذلك للمرحلتين المتوسطة والثانوية، أما المرحلة الابتدائية وخصوصاً الحلقة الأولى منها فمن الضروري دمج المواد بعضها ببعض من منطلق فلسفة التربية الشمولية لان التلميذ في هذه المرحلة يرهقه التشتت في المعرفة وهو غير قادر في هذه السن المبكرة على فصل القضايا عن بعضها البعض والتعرف إليها أنىّ وجدت.
صحيح أن هذه الآراء والمقترحات قد كتب عنها الكثير، وجاءت ضمن معظم التقارير الواردة إلى المركز التربوي للبحوث والإنماء، ولكن الصحيح ايضاً إنها تجربة ميدانية معيوشة من قبل التلاميذ ومعلميهم، وهي تلخص معظم ما يقال ويدور حول المناهج وتطويرها. يبقى أن نشير الى أن كل منسق ومعلم قد أبدى رأيه في تفاصيل كل مادة هو مسؤول عنها وهذه التفاصيل قد أرسلت إلى المركز التربوي من خلال الاستمارات التي وزعها على المدارس.
وفي الختام لا بد لنا أن نثمّنِ الجهود المبذولة من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء لتقييم وتطوير المناهج وملحقاتها، تلك المناهج التي أحدثت تعديلات جوهرية في التعليم العام، وليس ادلّ على ذلك من أن هذه المناهج، رغم الثغرات التي تشوبها، قد قدّمت إلى المدارس القادرة على استيعابها في أساليبها وتجهيزاتها، لا سيما التكنولوجية منها، وفي مستوى إعداد معلميها، فرصة ذهبية لتطوير العملية التربوية بشكل شامل، ولكنها عمقت من جهة ثانية، التفاوت في النوعية بين المدارس القادرة والمدارس غير القادرة على مجاراة متطلبات تطبيق هذه المناهج مادياً وبشرياً.
إننا جميعاً معنيون بتقييم وتطوير مناهجنا، فهي سبيلنا إلى توحيد رؤيتنا وجمع شملنا في المواطنية وفي الحقوق والواجبات، متمنين تضافر جميع الجهود للوصول إلى الأفضل.
مؤسسة الحريري
مديرة التربية والتعليم
فاطمة بكداش الرشيدي