ذاكرة المجلة - جبران ومستقبل اللغة العربية

العدد الثاني ١٩٨١

 

 

كانت مجلة "هلال" المصرية (مؤسسها اللبناني جرجي زيدان) قد وجهت بعض الأسئلة حول مستقبل اللغة العربية إلى بعض رجال الفكر، في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد كان لجبران ردّ مشهور ذو تطلعات مستقبلية تدعو المواطن العربي إلى التفكير بلغته ودورها في بناء مستقبله، وتستوقف كل مسؤول تربوي للتفكير جدّيًّا بأهمية توحيد المدرسة والكتاب المدرسي ودورهما في تقوية وحدة الوطن وتوحيد كلمة أبنائه.

يرى جبران، في ردّه على السؤال الأول، ان "اللغة العربية مظهر من مظاهر قوة ابتكار في مجموع الأمة"، وإن مستقبلها "يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن – أو غير الكائن – في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية".

ان جبران، الذي اشتهر بثورته الاجتماعية، كلن يريد أن يكون ثائراً لغوياً أيضًا، وربط قوة اللغة بقوة الفكر والابداع، والابتعاد عن التقليد، وطبق ثورته ومارسها من خلال نثره الغني المميز في كل ما كتب.

غير أن ما نحب أن نوليه اهتمامنا الآن هو ما أجاب به جبران عن السؤالين التاليين:

  • هل يعممّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية، وتعلَّم بها جميع العلوم؟
  • وهل تتغلب "اللغة العربية الفصحى" على اللهجات العامية المختلفة وتوحدها؟.

في زمن جبران كان التعليم كان التعليم في بلادنا محصوراً في الجمعيات الطائفية، والارساليلا الأجنبية، أو الكتاتيب المحلية، ولم لكن للتعليم مصادر متعددة، مختلفة المشارب والمذاهب والمراجع، فكان من الطبيعي أن يقلق كل مفكر على مستقبل أمته ووطنه، وقد عبّر جبران عن قلقه هذا بقوله: "لا يعممّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية حتى تصبح تلك المدارس ذات صبغة وطنية مجردة، ولن تعلَّم بها جميع العلوم حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية واللجان الطائفية والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية".

ثم يعود ويصعّد قلقه بقوله: "ففي سوريا مثلاً كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة، وقد كنا ولم نزل نلتهم خيز الصدقة، لأننا جياع متضوّرون، ولقد أحياناً ذلك الخبز، ولما أحيانا أماتنا".

بعد هذا التصريح والتحذير اللذين صدرا عن جبران منذ حوالي ستين سنة، علينا أن نتسائل:

أصحيح ان التعليم القادم من الغرب احيانا ثم اماتنا؟ ولماذا؟ وهل انتهى هذا الدور الذي تحدث عنه جبران في إحيائنا وإماتنا.

وهل نحن، مع هذا الانتشار الواسع للمدارس الرسمية  والخاصة، العالية وغير العالية، احياء أم أموات؟

وهل أنقذنا انتشار المداراس الرسمية امما كان يحذّرنا منه جبران؟

أسئلة كثيرة يجيب جبران نفسه عن أولها في المقالة نفسها:

"أحياناً لأنه (أي التعليم الآتي إلينا من الغرب) أيقظ بعض مداركنا، ونبّه عقولنا قليلاً، وأماتنا لأنه فرّق كلمتنا وأضعف وحدتنا، وقطع روابطنا، وأبعد ما بين طوائفنا....."

أما الأجوبة عن بقية الأسئلة والتساؤلات فإننا نتجاوزها إلى القول اننا خطونا خطى واسعة منذ مطلع الاستقلال وقبله، فس تعميم التعليم الرسمي وتوحيد الكتاب المدرسي، غير أن المسيرة ما زالت طويلة وشاقة، لأن المدرسة الرمسية ما زالت عاجزة عن الحلول مكان المدرسة الخاصة حلولاً كاملاً، والكتاب المدرسي الوطني المفعول سنوات أخر، عسى أن الا تطول.

وماذا في جواب جبران عن السؤال الآخر؟

ان جبران، في جوابه، لا يدعو صراحة إلى تغليب الفصحى، كما كانت في أيامه وما قبل زمانه، كما لا يدعو إلى تغليب العامية، ولكنه يقول: :ان اللهجات العامية تتحور وتتهذب، ويدلك الخشن فيها ويلين، ولكنها لا ولن تغلب – ويجب أن لا تغلب – لأنها مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام ومنبت ما نعدّه بليغاً من البيان".

وجبران يرى أن "في اللهجات العامية الشء الكثير من الأنسب الذي سيبقى، لأنه أقرب إلى فكرة الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة". ثم يعلل هذا البقاء بأنه "سيلتحم بجسم اللغة ويصير جزءاً من مجموعها".

واستناداً إلى تعليله هذا استعمل كلمة "يتحمم" العامية بدلاً من "استحمّ" الفصيحة، في قصيدته "أعطني الناي":

                       هل تحممّتَ بعطرِ                 وتنشّفت بنور

                       وشربتَ الفجرَ خمراً               في كؤوس من أثير

هذا، وإذا كنا نؤيد جبران أن "لكل لغة من لغات الغرب لهجات عامية"،

وان "لتلك اللهجات مظاهر أدبية وفنية لا تخلو من الجميل المرغوب فيه والجديد المبتكر"،

وان "في الموالي والزجل" و "العتابا" و "المعنى" من الكتابات المستجدة والاستعارات المستملحة" التي تفوق "تلك القصائد المنظمومة بلغة فصيحة"،

وان "اللغة الايطالية الحديثة كانت عامية في القرون المتوسطة"،

فاننا لا نوافقه في ان اللهجات العامية العربية ستتحول إلى لغة فصحى، حتى وان "ظهر في الشرق عظيم: ووضع كتاباً عظيماً في أحدى تلك اللهجات".

يمكن أن ندعم رأينا بموقف جاك بيرك، الذي يتباهى، وهو الفرنسي المتملك من لغته، بأنه تعلم اللغة العربية وأتقنها بجميع لهجاتها، من المغرب والجزائر إلى مصر ولبنان، فاليمن والخليج، حتى بات لا يُعرف ولا يُميّز عن متكلمي تلك اللهجات، اذا ما وُجد بينهم، الا انه على الرغم من هذه الثروة اللغوية، وهذه التجربة الخصبة النادرة، حريص على العربية الفصحى لأنها، في رأيه، المحك والمصحح والهادي الوحدي لتلك اللجهات، ولا يمكن مقارنة دورها بدور اللغة اللاتينية بإزاء لغات أوروبة الحديثة. (راجع كتابه Arabies، ستوك، باريس 1980).

وبعد ستين سنة من نشر آراء جبران حول مستقبل اللغة العربية، نرى أن اللغة العربية منتشرة في المدارس العالية وغير العالية، وان العلوم تدرَّرس بها في معظم البلدان العربية، وان هذه اللغة قادرة على استيعاب علوم العصر، وهذا ما تنبأ به مفكرنا الكبير، مؤكداً "ان في المدرسة تتوحد الميول وفي المدرسة تتجوهر المنازع"، وان "هذا لا يتم حتى نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا".

واذا كانت المدرسة الرسمية، بكل مراحلها، هي أفضل المصادر للخبز الوطني، الموحِّد للميول والأهداف، فان اللغة العربية الفصحى هي التي يجب ان تتغلب، لأنها أداة هذا التوحيد والتقارب والتفاهم بين بلدان الوطن العربي الكبير، شرط ان يستمرّ فيها التجديد والتجدّد، والتطوير والتطوّر، في استعمالها وطرائق تدرسيها وتبسيط تعلّمها.

ذاكرة المجلة - جبران ومستقبل اللغة العربية

العدد الثاني ١٩٨١

 

 

كانت مجلة "هلال" المصرية (مؤسسها اللبناني جرجي زيدان) قد وجهت بعض الأسئلة حول مستقبل اللغة العربية إلى بعض رجال الفكر، في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد كان لجبران ردّ مشهور ذو تطلعات مستقبلية تدعو المواطن العربي إلى التفكير بلغته ودورها في بناء مستقبله، وتستوقف كل مسؤول تربوي للتفكير جدّيًّا بأهمية توحيد المدرسة والكتاب المدرسي ودورهما في تقوية وحدة الوطن وتوحيد كلمة أبنائه.

يرى جبران، في ردّه على السؤال الأول، ان "اللغة العربية مظهر من مظاهر قوة ابتكار في مجموع الأمة"، وإن مستقبلها "يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن – أو غير الكائن – في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية".

ان جبران، الذي اشتهر بثورته الاجتماعية، كلن يريد أن يكون ثائراً لغوياً أيضًا، وربط قوة اللغة بقوة الفكر والابداع، والابتعاد عن التقليد، وطبق ثورته ومارسها من خلال نثره الغني المميز في كل ما كتب.

غير أن ما نحب أن نوليه اهتمامنا الآن هو ما أجاب به جبران عن السؤالين التاليين:

  • هل يعممّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية، وتعلَّم بها جميع العلوم؟
  • وهل تتغلب "اللغة العربية الفصحى" على اللهجات العامية المختلفة وتوحدها؟.

في زمن جبران كان التعليم كان التعليم في بلادنا محصوراً في الجمعيات الطائفية، والارساليلا الأجنبية، أو الكتاتيب المحلية، ولم لكن للتعليم مصادر متعددة، مختلفة المشارب والمذاهب والمراجع، فكان من الطبيعي أن يقلق كل مفكر على مستقبل أمته ووطنه، وقد عبّر جبران عن قلقه هذا بقوله: "لا يعممّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية حتى تصبح تلك المدارس ذات صبغة وطنية مجردة، ولن تعلَّم بها جميع العلوم حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية واللجان الطائفية والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية".

ثم يعود ويصعّد قلقه بقوله: "ففي سوريا مثلاً كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة، وقد كنا ولم نزل نلتهم خيز الصدقة، لأننا جياع متضوّرون، ولقد أحياناً ذلك الخبز، ولما أحيانا أماتنا".

بعد هذا التصريح والتحذير اللذين صدرا عن جبران منذ حوالي ستين سنة، علينا أن نتسائل:

أصحيح ان التعليم القادم من الغرب احيانا ثم اماتنا؟ ولماذا؟ وهل انتهى هذا الدور الذي تحدث عنه جبران في إحيائنا وإماتنا.

وهل نحن، مع هذا الانتشار الواسع للمدارس الرسمية  والخاصة، العالية وغير العالية، احياء أم أموات؟

وهل أنقذنا انتشار المداراس الرسمية امما كان يحذّرنا منه جبران؟

أسئلة كثيرة يجيب جبران نفسه عن أولها في المقالة نفسها:

"أحياناً لأنه (أي التعليم الآتي إلينا من الغرب) أيقظ بعض مداركنا، ونبّه عقولنا قليلاً، وأماتنا لأنه فرّق كلمتنا وأضعف وحدتنا، وقطع روابطنا، وأبعد ما بين طوائفنا....."

أما الأجوبة عن بقية الأسئلة والتساؤلات فإننا نتجاوزها إلى القول اننا خطونا خطى واسعة منذ مطلع الاستقلال وقبله، فس تعميم التعليم الرسمي وتوحيد الكتاب المدرسي، غير أن المسيرة ما زالت طويلة وشاقة، لأن المدرسة الرمسية ما زالت عاجزة عن الحلول مكان المدرسة الخاصة حلولاً كاملاً، والكتاب المدرسي الوطني المفعول سنوات أخر، عسى أن الا تطول.

وماذا في جواب جبران عن السؤال الآخر؟

ان جبران، في جوابه، لا يدعو صراحة إلى تغليب الفصحى، كما كانت في أيامه وما قبل زمانه، كما لا يدعو إلى تغليب العامية، ولكنه يقول: :ان اللهجات العامية تتحور وتتهذب، ويدلك الخشن فيها ويلين، ولكنها لا ولن تغلب – ويجب أن لا تغلب – لأنها مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام ومنبت ما نعدّه بليغاً من البيان".

وجبران يرى أن "في اللهجات العامية الشء الكثير من الأنسب الذي سيبقى، لأنه أقرب إلى فكرة الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة". ثم يعلل هذا البقاء بأنه "سيلتحم بجسم اللغة ويصير جزءاً من مجموعها".

واستناداً إلى تعليله هذا استعمل كلمة "يتحمم" العامية بدلاً من "استحمّ" الفصيحة، في قصيدته "أعطني الناي":

                       هل تحممّتَ بعطرِ                 وتنشّفت بنور

                       وشربتَ الفجرَ خمراً               في كؤوس من أثير

هذا، وإذا كنا نؤيد جبران أن "لكل لغة من لغات الغرب لهجات عامية"،

وان "لتلك اللهجات مظاهر أدبية وفنية لا تخلو من الجميل المرغوب فيه والجديد المبتكر"،

وان "في الموالي والزجل" و "العتابا" و "المعنى" من الكتابات المستجدة والاستعارات المستملحة" التي تفوق "تلك القصائد المنظمومة بلغة فصيحة"،

وان "اللغة الايطالية الحديثة كانت عامية في القرون المتوسطة"،

فاننا لا نوافقه في ان اللهجات العامية العربية ستتحول إلى لغة فصحى، حتى وان "ظهر في الشرق عظيم: ووضع كتاباً عظيماً في أحدى تلك اللهجات".

يمكن أن ندعم رأينا بموقف جاك بيرك، الذي يتباهى، وهو الفرنسي المتملك من لغته، بأنه تعلم اللغة العربية وأتقنها بجميع لهجاتها، من المغرب والجزائر إلى مصر ولبنان، فاليمن والخليج، حتى بات لا يُعرف ولا يُميّز عن متكلمي تلك اللهجات، اذا ما وُجد بينهم، الا انه على الرغم من هذه الثروة اللغوية، وهذه التجربة الخصبة النادرة، حريص على العربية الفصحى لأنها، في رأيه، المحك والمصحح والهادي الوحدي لتلك اللجهات، ولا يمكن مقارنة دورها بدور اللغة اللاتينية بإزاء لغات أوروبة الحديثة. (راجع كتابه Arabies، ستوك، باريس 1980).

وبعد ستين سنة من نشر آراء جبران حول مستقبل اللغة العربية، نرى أن اللغة العربية منتشرة في المدارس العالية وغير العالية، وان العلوم تدرَّرس بها في معظم البلدان العربية، وان هذه اللغة قادرة على استيعاب علوم العصر، وهذا ما تنبأ به مفكرنا الكبير، مؤكداً "ان في المدرسة تتوحد الميول وفي المدرسة تتجوهر المنازع"، وان "هذا لا يتم حتى نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا".

واذا كانت المدرسة الرسمية، بكل مراحلها، هي أفضل المصادر للخبز الوطني، الموحِّد للميول والأهداف، فان اللغة العربية الفصحى هي التي يجب ان تتغلب، لأنها أداة هذا التوحيد والتقارب والتفاهم بين بلدان الوطن العربي الكبير، شرط ان يستمرّ فيها التجديد والتجدّد، والتطوير والتطوّر، في استعمالها وطرائق تدرسيها وتبسيط تعلّمها.

ذاكرة المجلة - جبران ومستقبل اللغة العربية

العدد الثاني ١٩٨١

 

 

كانت مجلة "هلال" المصرية (مؤسسها اللبناني جرجي زيدان) قد وجهت بعض الأسئلة حول مستقبل اللغة العربية إلى بعض رجال الفكر، في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد كان لجبران ردّ مشهور ذو تطلعات مستقبلية تدعو المواطن العربي إلى التفكير بلغته ودورها في بناء مستقبله، وتستوقف كل مسؤول تربوي للتفكير جدّيًّا بأهمية توحيد المدرسة والكتاب المدرسي ودورهما في تقوية وحدة الوطن وتوحيد كلمة أبنائه.

يرى جبران، في ردّه على السؤال الأول، ان "اللغة العربية مظهر من مظاهر قوة ابتكار في مجموع الأمة"، وإن مستقبلها "يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن – أو غير الكائن – في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية".

ان جبران، الذي اشتهر بثورته الاجتماعية، كلن يريد أن يكون ثائراً لغوياً أيضًا، وربط قوة اللغة بقوة الفكر والابداع، والابتعاد عن التقليد، وطبق ثورته ومارسها من خلال نثره الغني المميز في كل ما كتب.

غير أن ما نحب أن نوليه اهتمامنا الآن هو ما أجاب به جبران عن السؤالين التاليين:

  • هل يعممّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية، وتعلَّم بها جميع العلوم؟
  • وهل تتغلب "اللغة العربية الفصحى" على اللهجات العامية المختلفة وتوحدها؟.

في زمن جبران كان التعليم كان التعليم في بلادنا محصوراً في الجمعيات الطائفية، والارساليلا الأجنبية، أو الكتاتيب المحلية، ولم لكن للتعليم مصادر متعددة، مختلفة المشارب والمذاهب والمراجع، فكان من الطبيعي أن يقلق كل مفكر على مستقبل أمته ووطنه، وقد عبّر جبران عن قلقه هذا بقوله: "لا يعممّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية حتى تصبح تلك المدارس ذات صبغة وطنية مجردة، ولن تعلَّم بها جميع العلوم حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية واللجان الطائفية والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية".

ثم يعود ويصعّد قلقه بقوله: "ففي سوريا مثلاً كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة، وقد كنا ولم نزل نلتهم خيز الصدقة، لأننا جياع متضوّرون، ولقد أحياناً ذلك الخبز، ولما أحيانا أماتنا".

بعد هذا التصريح والتحذير اللذين صدرا عن جبران منذ حوالي ستين سنة، علينا أن نتسائل:

أصحيح ان التعليم القادم من الغرب احيانا ثم اماتنا؟ ولماذا؟ وهل انتهى هذا الدور الذي تحدث عنه جبران في إحيائنا وإماتنا.

وهل نحن، مع هذا الانتشار الواسع للمدارس الرسمية  والخاصة، العالية وغير العالية، احياء أم أموات؟

وهل أنقذنا انتشار المداراس الرسمية امما كان يحذّرنا منه جبران؟

أسئلة كثيرة يجيب جبران نفسه عن أولها في المقالة نفسها:

"أحياناً لأنه (أي التعليم الآتي إلينا من الغرب) أيقظ بعض مداركنا، ونبّه عقولنا قليلاً، وأماتنا لأنه فرّق كلمتنا وأضعف وحدتنا، وقطع روابطنا، وأبعد ما بين طوائفنا....."

أما الأجوبة عن بقية الأسئلة والتساؤلات فإننا نتجاوزها إلى القول اننا خطونا خطى واسعة منذ مطلع الاستقلال وقبله، فس تعميم التعليم الرسمي وتوحيد الكتاب المدرسي، غير أن المسيرة ما زالت طويلة وشاقة، لأن المدرسة الرمسية ما زالت عاجزة عن الحلول مكان المدرسة الخاصة حلولاً كاملاً، والكتاب المدرسي الوطني المفعول سنوات أخر، عسى أن الا تطول.

وماذا في جواب جبران عن السؤال الآخر؟

ان جبران، في جوابه، لا يدعو صراحة إلى تغليب الفصحى، كما كانت في أيامه وما قبل زمانه، كما لا يدعو إلى تغليب العامية، ولكنه يقول: :ان اللهجات العامية تتحور وتتهذب، ويدلك الخشن فيها ويلين، ولكنها لا ولن تغلب – ويجب أن لا تغلب – لأنها مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام ومنبت ما نعدّه بليغاً من البيان".

وجبران يرى أن "في اللهجات العامية الشء الكثير من الأنسب الذي سيبقى، لأنه أقرب إلى فكرة الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة". ثم يعلل هذا البقاء بأنه "سيلتحم بجسم اللغة ويصير جزءاً من مجموعها".

واستناداً إلى تعليله هذا استعمل كلمة "يتحمم" العامية بدلاً من "استحمّ" الفصيحة، في قصيدته "أعطني الناي":

                       هل تحممّتَ بعطرِ                 وتنشّفت بنور

                       وشربتَ الفجرَ خمراً               في كؤوس من أثير

هذا، وإذا كنا نؤيد جبران أن "لكل لغة من لغات الغرب لهجات عامية"،

وان "لتلك اللهجات مظاهر أدبية وفنية لا تخلو من الجميل المرغوب فيه والجديد المبتكر"،

وان "في الموالي والزجل" و "العتابا" و "المعنى" من الكتابات المستجدة والاستعارات المستملحة" التي تفوق "تلك القصائد المنظمومة بلغة فصيحة"،

وان "اللغة الايطالية الحديثة كانت عامية في القرون المتوسطة"،

فاننا لا نوافقه في ان اللهجات العامية العربية ستتحول إلى لغة فصحى، حتى وان "ظهر في الشرق عظيم: ووضع كتاباً عظيماً في أحدى تلك اللهجات".

يمكن أن ندعم رأينا بموقف جاك بيرك، الذي يتباهى، وهو الفرنسي المتملك من لغته، بأنه تعلم اللغة العربية وأتقنها بجميع لهجاتها، من المغرب والجزائر إلى مصر ولبنان، فاليمن والخليج، حتى بات لا يُعرف ولا يُميّز عن متكلمي تلك اللهجات، اذا ما وُجد بينهم، الا انه على الرغم من هذه الثروة اللغوية، وهذه التجربة الخصبة النادرة، حريص على العربية الفصحى لأنها، في رأيه، المحك والمصحح والهادي الوحدي لتلك اللجهات، ولا يمكن مقارنة دورها بدور اللغة اللاتينية بإزاء لغات أوروبة الحديثة. (راجع كتابه Arabies، ستوك، باريس 1980).

وبعد ستين سنة من نشر آراء جبران حول مستقبل اللغة العربية، نرى أن اللغة العربية منتشرة في المدارس العالية وغير العالية، وان العلوم تدرَّرس بها في معظم البلدان العربية، وان هذه اللغة قادرة على استيعاب علوم العصر، وهذا ما تنبأ به مفكرنا الكبير، مؤكداً "ان في المدرسة تتوحد الميول وفي المدرسة تتجوهر المنازع"، وان "هذا لا يتم حتى نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا".

واذا كانت المدرسة الرسمية، بكل مراحلها، هي أفضل المصادر للخبز الوطني، الموحِّد للميول والأهداف، فان اللغة العربية الفصحى هي التي يجب ان تتغلب، لأنها أداة هذا التوحيد والتقارب والتفاهم بين بلدان الوطن العربي الكبير، شرط ان يستمرّ فيها التجديد والتجدّد، والتطوير والتطوّر، في استعمالها وطرائق تدرسيها وتبسيط تعلّمها.