ذاكرة التربية

ذاكرة التربية

لم يكن في قرية بعاصير أيام طفولتي الأولى مدرسة، فما عرفت المدرسة إلا بعد أن تجاوزت السبع سنوات، ولهذه المدرسة حكاية خلاصتها أن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية قرّرت أن تفتح في القرى الفقيرة مدارس لفقراء المسلمين، فكان من حظ قرية بعاصير أن أنشئت فيها مدرسة، فدخلت هذه المدرسة وقد عيّنِ فيها لتعليمنا مع أبناء قريتي شيخ شاب معمّم من شرقي الأردن تخرج في دمشق وجاء إلى بيروت مفتشاً عن عمل، فوصل إلى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، فعينته في بعاصير. وواقع الحال أن حظ بعاصير وأهلها كان كبيراً بهذا الرجل فقد دأب على تعليم الكبار قبل الصغار وأحدث حركة في القرية، لكنه لم يكن يعرف لغة أجنبية فعلمنا اللغة العربية التي كان متعمقاً فيها، والدين والقرآن الكريم والحساب والتاريخ والجغرافيا والأخلاق، فاكتسبنا منه شيئاً كثيراً، وكانت علاقتي به جيدة لأنني كنت متميّزاً بعض التميّز. بقي عندنا الشيخ صالح خمس سنوات، من سنة ١٩٣٧ حتى سنة ١٩٤٢ وترك في أثناء الحرب العالمية الثانية وعاد إلى شرقي الأردن فأصبحنا بلا مدرسة من جديد. لكن في قرية برجا جارتنا، مدرسة رسمية ابتدائية تُعلّمِ حتى نهاية الشهادة الابتدائية، فالتحقت بها ولكني لم أكن أعرف لغة أجنبية فتأخرت قليلاً بسبب اللغة الفرنسية، ثم التحقت بالركب وتخرجت في سنة ١٩٤٥ من مدرسة برجا الرسمية.

وجئت إلى بيروت فالتحقت بمدرسة حوض الولاية الرسمية للبنين، وكان يدرسنا فيها اللغة العربية الشيخ راشد عليوان وهو خريج مدرسة الشيخ أحمد عباس المشهورة التي خرجت من قبله رهطاً من شهداء لبنان أيام الحرب العالمية الأولى الذين شنقهم جمال باشا السفاح بسبب نضالهم ضد الاستعمار العثماني. وقد بدا لي في هذه المدرسة أنني أحمل زاداً غنياً باللغة العربية، شهد لي الشيخ راشد عليوان وسماني بين التلاميذ "مرجع اللغة" وكل هذا بفضل الشيخ صالح سلامة معلمي الأول.

في سنة ١٩٤٨ دخلت دار المعلمين وكان مديرها آنذاك المرحوم الدكتور فؤاد افرام البستاني فتخرجت فيها بعد سنتين وعينت مدرساً منذ تشرين الأول عام ١٩٥٠ في مدرسة الطريق الجديدة الرسمية التي كانت تكميلية آنذاك، وكنت حاملاً لشهادة البكالوريا القسم الثاني فانتسبت إلى كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف وإلى كلية العلوم السياسية والاقتصادية في الأكاديمية اللبنانية، وكنّا في ذلك الوقت نطالب بفتح الجامعة اللبنانية حتى أعطت المطالبة نتيجتها وفتحت أبواب الجامعة اللبنانية يوم ٥ كانون الأول ١٩٥١ فدخلت اليها طالباً بصفة مدرّس منتدب للتخصص في الجامعة اللبنانية. وكان اسمها أنذاك "دار المعلمين العليا".

تابعت تخصصي في الجامعة باللغة العربية واضطررت إلى ترك الحقوق لأن دراستها تحتاج إلى دوام مستمر، وبقيت محافظاً على الانتساب لفرع العلوم السياسية حتى نلت شهادة الليسانس عام ١٩٥٤ ، وأذكر أنني كتبت رسالة في ذلك الحين عنوانها "الإنماء الاقتصادي في لبنان ومصادر تمويلة" أشرف علي فيها الدكتور برهان الدجاني مدير غرف التجارة والصناعة والزراعة في البلاد العربية آنذاك.

بعد الحصول على الإجازة في اللغة العربية وآدابها عام ١٩٥٤ أيضاً، تابعت الدراسة في دار المعلمين، وحصلت على شهادة الكفاءة في التعليم الثانوي وعدت أستاذاً في التعليم الثانوي إلى مدرسة الطريق الجديدة التي كانت أول مدرسة تكميلية تتحول إلى مدرسة ثانوية ومعها مدرسة في طرابلس للبنات. على أنني قبل أن أعيّن بأسبوع استاذاً للتعليم الثانوي أرسل في طلبي أستاذي في دار المعلمين العليا آنذاك الدكتور جبور عبد النور وكان رئيس الدائرة العربية في مدرسة الليسيه الفرنسية العلمانية وعهد الي تعليم اللغة العربية في صفوف البكالوريا وكان زميلي آنذاك رئيف خوري.

وأمضيت في ثانوية الطريق الجديدة إحدى عشرة سنة علّمت فيها أفواجاً من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من كبار البارزين في لبنان إدارياً وسياسياً وقضائياً وعسكرياً وتربوياً وقيادياً.

إلا أنني بدأت التدريس في الجامعة اللبنانية بمعهد المعلمين العالي "دار المعلمين العليا" سابقاً عام ١٩٦١ الذي أصبح فيما بعد كلية التربية سنة ١٩٦٥ ، وعندما تأسست كلية التربية انتقلت اليها من ملاك التعليم الثانوي إلى ملاك التعليم العالي وأعطيت في كلية التربية عشرين سنة تماماً. أما الليسيه العلمانية الفرنسية فقد علمت فيها ١٥ سنة واستقلت منها عام ١٩٦٩ حين صدر في الجامعة اللبنانية قانون تفرغ الأساتذة.

من الجدير ذكره أن كلية التربية كانت في زمنها أهم مؤسسة جامعية في لبنان كله، وكانت تخرّجِ أساتذة للتعليم الثانوي في ١٤ فرعاً اختصاصياً وقد تخرج فيها نخبة كبرى من الأساتذة الثانويين الناجحين وما يزال بعضهم حتى اليوم، ونخبة من أساتذة الجامعة والصحافيين والأدباء والشعراء الذين ما زالوا يمسكون بالحياة الأدبية والثقافية حتى اليوم، وأذكر أن المرحوم الدكتور خليل حاوي الذي كان أستاذاً متعاقداً عندنا في كلية التربية قال لي "أنا أفضل أن أكون في كلية التربية مع هذا الرهط من الطلاب الممتازين على أن أكون مع طلاب الجامعة الأميركية رغم محبتي للجامعة الأميركية واحترامي لها واعترافي انني أعيش منها".

في العام ١٩٧٧ تغير نظام كلية التربية فما عادت تأخذ الطلاب من البكالوريا ليدرسوا ٥ سنوات في الجامعة ويحصلوا على شهادة الكفاءة للتعليم الثانوي، وإنما جاء النظام الجديد الذي يفرض الإجازة والدراسة مدة سنتين للحصول على الكفاءة في التعليم الثانوي، وما أُخذ بموجب هذا النظام إلا فوج واحد، وبعدها توقفت كلية التربية عن قبول الطلاب الرسميين الذين يفترض فيهم أن يكونوا الزامياً أساتذة في التعليم الثانوي. وأصبح طلاب كلية التربية منذ ذلك الحين أحراراً يحصلون على شهاداتهم من غير توظيف.

آنذاك طلبت الانتقال إلى كلية الآداب فعنيت فيها مديراً سنة ١٩٨١ . وبقيت في الإدارة حتى عام ١٩٨٨ وكان عذري لترك الإدارة طلب إجازة السنة السابعة. بعد ذلك عدت إلى كلية الآداب وبقيت أستاذاً فيها حتى ١٩٩٤ عام بلوغي السن القانونية، ثم مدد لي مجلس الوزراء أربع سنوات بالتعاقد لمتابعة الإشراف على اطروحات الدكتوراه، وجدير بالذكر هنا أنني عملت منذ مجيئي إلى كلية الآداب على تأسيس فرع شهادة الدكتوراه فيها فصدر مرسومها عام ١٩٨٤ وهكذا أنهيت عملي في الجامعة اللبنانية عام ١٩٩٨.
 

رأي في التربية:
عن أهمية الإعداد التربوي في صناعة المعلم الصالح يقول الدكتور أحمد أبو حاقة:
الإعداد التربوي مهم جداً في إعداد المعلم الصالح لأن التربية ليست مجرد دراسة أكاديمية وإنما هي ثقافة وتمرّس وأخلاق واستعداد شخصي ينشأ عليه المعلم، ذلك أن التعليم رسالة قبل أن يكون وظيفة. فهو مزاج خاص وطبيعة خاصة عند الإنسان أساسها أن العمل التربوي ينمي في الإنسان دوافع الخير والخدمة الاجتماعية وإعداد التلاميذ ليكونوا مواطنين صالحين والأستاذ الصالح لا يسعى وراء الكسب المادي وإن كان محتاجاً له لكي يعيش، إنما هو يسعى إلى عمل إنساني رفيع المستوى، فالمعلم الصالح يحب عمله ولو نال منه تعباً وعذاباً وشقاءً. والأستاذ الصالح لا يتأفف من عمله أبداً ولا يشعر في يوم من الأيام أنه يكره عمله بل أنه يحبه ويلتزمه. وأنا أذكر اني أمضيت في التعليم رسمياً ٤٨ عاماً لكن ما زلت أقوم بالتدريس حتى اليوم وما تأففت في يوم من الأيام من عملي وما كرهت أحداً من طلابي وأعتز وأفتخر بهم جميعاً وما زلت أشعر حتى الأن أنني في قاعة التعليم كالسمكة حين تكون في الماء. ومعنى هذا كله أن الدراسة التربوية أساسية لتعطي المعلم عدة صالحة في عمله لكن المعلم الحقيقي يولد معلماً. وما زلت حتى اليوم أتذكر معلمي الأول صالح الذي أعتبره معلماً حقيقياً وعلمني كي أكون معلماً حقيقياً.

ذاكرة التربية

ذاكرة التربية

لم يكن في قرية بعاصير أيام طفولتي الأولى مدرسة، فما عرفت المدرسة إلا بعد أن تجاوزت السبع سنوات، ولهذه المدرسة حكاية خلاصتها أن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية قرّرت أن تفتح في القرى الفقيرة مدارس لفقراء المسلمين، فكان من حظ قرية بعاصير أن أنشئت فيها مدرسة، فدخلت هذه المدرسة وقد عيّنِ فيها لتعليمنا مع أبناء قريتي شيخ شاب معمّم من شرقي الأردن تخرج في دمشق وجاء إلى بيروت مفتشاً عن عمل، فوصل إلى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، فعينته في بعاصير. وواقع الحال أن حظ بعاصير وأهلها كان كبيراً بهذا الرجل فقد دأب على تعليم الكبار قبل الصغار وأحدث حركة في القرية، لكنه لم يكن يعرف لغة أجنبية فعلمنا اللغة العربية التي كان متعمقاً فيها، والدين والقرآن الكريم والحساب والتاريخ والجغرافيا والأخلاق، فاكتسبنا منه شيئاً كثيراً، وكانت علاقتي به جيدة لأنني كنت متميّزاً بعض التميّز. بقي عندنا الشيخ صالح خمس سنوات، من سنة ١٩٣٧ حتى سنة ١٩٤٢ وترك في أثناء الحرب العالمية الثانية وعاد إلى شرقي الأردن فأصبحنا بلا مدرسة من جديد. لكن في قرية برجا جارتنا، مدرسة رسمية ابتدائية تُعلّمِ حتى نهاية الشهادة الابتدائية، فالتحقت بها ولكني لم أكن أعرف لغة أجنبية فتأخرت قليلاً بسبب اللغة الفرنسية، ثم التحقت بالركب وتخرجت في سنة ١٩٤٥ من مدرسة برجا الرسمية.

وجئت إلى بيروت فالتحقت بمدرسة حوض الولاية الرسمية للبنين، وكان يدرسنا فيها اللغة العربية الشيخ راشد عليوان وهو خريج مدرسة الشيخ أحمد عباس المشهورة التي خرجت من قبله رهطاً من شهداء لبنان أيام الحرب العالمية الأولى الذين شنقهم جمال باشا السفاح بسبب نضالهم ضد الاستعمار العثماني. وقد بدا لي في هذه المدرسة أنني أحمل زاداً غنياً باللغة العربية، شهد لي الشيخ راشد عليوان وسماني بين التلاميذ "مرجع اللغة" وكل هذا بفضل الشيخ صالح سلامة معلمي الأول.

في سنة ١٩٤٨ دخلت دار المعلمين وكان مديرها آنذاك المرحوم الدكتور فؤاد افرام البستاني فتخرجت فيها بعد سنتين وعينت مدرساً منذ تشرين الأول عام ١٩٥٠ في مدرسة الطريق الجديدة الرسمية التي كانت تكميلية آنذاك، وكنت حاملاً لشهادة البكالوريا القسم الثاني فانتسبت إلى كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف وإلى كلية العلوم السياسية والاقتصادية في الأكاديمية اللبنانية، وكنّا في ذلك الوقت نطالب بفتح الجامعة اللبنانية حتى أعطت المطالبة نتيجتها وفتحت أبواب الجامعة اللبنانية يوم ٥ كانون الأول ١٩٥١ فدخلت اليها طالباً بصفة مدرّس منتدب للتخصص في الجامعة اللبنانية. وكان اسمها أنذاك "دار المعلمين العليا".

تابعت تخصصي في الجامعة باللغة العربية واضطررت إلى ترك الحقوق لأن دراستها تحتاج إلى دوام مستمر، وبقيت محافظاً على الانتساب لفرع العلوم السياسية حتى نلت شهادة الليسانس عام ١٩٥٤ ، وأذكر أنني كتبت رسالة في ذلك الحين عنوانها "الإنماء الاقتصادي في لبنان ومصادر تمويلة" أشرف علي فيها الدكتور برهان الدجاني مدير غرف التجارة والصناعة والزراعة في البلاد العربية آنذاك.

بعد الحصول على الإجازة في اللغة العربية وآدابها عام ١٩٥٤ أيضاً، تابعت الدراسة في دار المعلمين، وحصلت على شهادة الكفاءة في التعليم الثانوي وعدت أستاذاً في التعليم الثانوي إلى مدرسة الطريق الجديدة التي كانت أول مدرسة تكميلية تتحول إلى مدرسة ثانوية ومعها مدرسة في طرابلس للبنات. على أنني قبل أن أعيّن بأسبوع استاذاً للتعليم الثانوي أرسل في طلبي أستاذي في دار المعلمين العليا آنذاك الدكتور جبور عبد النور وكان رئيس الدائرة العربية في مدرسة الليسيه الفرنسية العلمانية وعهد الي تعليم اللغة العربية في صفوف البكالوريا وكان زميلي آنذاك رئيف خوري.

وأمضيت في ثانوية الطريق الجديدة إحدى عشرة سنة علّمت فيها أفواجاً من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من كبار البارزين في لبنان إدارياً وسياسياً وقضائياً وعسكرياً وتربوياً وقيادياً.

إلا أنني بدأت التدريس في الجامعة اللبنانية بمعهد المعلمين العالي "دار المعلمين العليا" سابقاً عام ١٩٦١ الذي أصبح فيما بعد كلية التربية سنة ١٩٦٥ ، وعندما تأسست كلية التربية انتقلت اليها من ملاك التعليم الثانوي إلى ملاك التعليم العالي وأعطيت في كلية التربية عشرين سنة تماماً. أما الليسيه العلمانية الفرنسية فقد علمت فيها ١٥ سنة واستقلت منها عام ١٩٦٩ حين صدر في الجامعة اللبنانية قانون تفرغ الأساتذة.

من الجدير ذكره أن كلية التربية كانت في زمنها أهم مؤسسة جامعية في لبنان كله، وكانت تخرّجِ أساتذة للتعليم الثانوي في ١٤ فرعاً اختصاصياً وقد تخرج فيها نخبة كبرى من الأساتذة الثانويين الناجحين وما يزال بعضهم حتى اليوم، ونخبة من أساتذة الجامعة والصحافيين والأدباء والشعراء الذين ما زالوا يمسكون بالحياة الأدبية والثقافية حتى اليوم، وأذكر أن المرحوم الدكتور خليل حاوي الذي كان أستاذاً متعاقداً عندنا في كلية التربية قال لي "أنا أفضل أن أكون في كلية التربية مع هذا الرهط من الطلاب الممتازين على أن أكون مع طلاب الجامعة الأميركية رغم محبتي للجامعة الأميركية واحترامي لها واعترافي انني أعيش منها".

في العام ١٩٧٧ تغير نظام كلية التربية فما عادت تأخذ الطلاب من البكالوريا ليدرسوا ٥ سنوات في الجامعة ويحصلوا على شهادة الكفاءة للتعليم الثانوي، وإنما جاء النظام الجديد الذي يفرض الإجازة والدراسة مدة سنتين للحصول على الكفاءة في التعليم الثانوي، وما أُخذ بموجب هذا النظام إلا فوج واحد، وبعدها توقفت كلية التربية عن قبول الطلاب الرسميين الذين يفترض فيهم أن يكونوا الزامياً أساتذة في التعليم الثانوي. وأصبح طلاب كلية التربية منذ ذلك الحين أحراراً يحصلون على شهاداتهم من غير توظيف.

آنذاك طلبت الانتقال إلى كلية الآداب فعنيت فيها مديراً سنة ١٩٨١ . وبقيت في الإدارة حتى عام ١٩٨٨ وكان عذري لترك الإدارة طلب إجازة السنة السابعة. بعد ذلك عدت إلى كلية الآداب وبقيت أستاذاً فيها حتى ١٩٩٤ عام بلوغي السن القانونية، ثم مدد لي مجلس الوزراء أربع سنوات بالتعاقد لمتابعة الإشراف على اطروحات الدكتوراه، وجدير بالذكر هنا أنني عملت منذ مجيئي إلى كلية الآداب على تأسيس فرع شهادة الدكتوراه فيها فصدر مرسومها عام ١٩٨٤ وهكذا أنهيت عملي في الجامعة اللبنانية عام ١٩٩٨.
 

رأي في التربية:
عن أهمية الإعداد التربوي في صناعة المعلم الصالح يقول الدكتور أحمد أبو حاقة:
الإعداد التربوي مهم جداً في إعداد المعلم الصالح لأن التربية ليست مجرد دراسة أكاديمية وإنما هي ثقافة وتمرّس وأخلاق واستعداد شخصي ينشأ عليه المعلم، ذلك أن التعليم رسالة قبل أن يكون وظيفة. فهو مزاج خاص وطبيعة خاصة عند الإنسان أساسها أن العمل التربوي ينمي في الإنسان دوافع الخير والخدمة الاجتماعية وإعداد التلاميذ ليكونوا مواطنين صالحين والأستاذ الصالح لا يسعى وراء الكسب المادي وإن كان محتاجاً له لكي يعيش، إنما هو يسعى إلى عمل إنساني رفيع المستوى، فالمعلم الصالح يحب عمله ولو نال منه تعباً وعذاباً وشقاءً. والأستاذ الصالح لا يتأفف من عمله أبداً ولا يشعر في يوم من الأيام أنه يكره عمله بل أنه يحبه ويلتزمه. وأنا أذكر اني أمضيت في التعليم رسمياً ٤٨ عاماً لكن ما زلت أقوم بالتدريس حتى اليوم وما تأففت في يوم من الأيام من عملي وما كرهت أحداً من طلابي وأعتز وأفتخر بهم جميعاً وما زلت أشعر حتى الأن أنني في قاعة التعليم كالسمكة حين تكون في الماء. ومعنى هذا كله أن الدراسة التربوية أساسية لتعطي المعلم عدة صالحة في عمله لكن المعلم الحقيقي يولد معلماً. وما زلت حتى اليوم أتذكر معلمي الأول صالح الذي أعتبره معلماً حقيقياً وعلمني كي أكون معلماً حقيقياً.

ذاكرة التربية

ذاكرة التربية

لم يكن في قرية بعاصير أيام طفولتي الأولى مدرسة، فما عرفت المدرسة إلا بعد أن تجاوزت السبع سنوات، ولهذه المدرسة حكاية خلاصتها أن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية قرّرت أن تفتح في القرى الفقيرة مدارس لفقراء المسلمين، فكان من حظ قرية بعاصير أن أنشئت فيها مدرسة، فدخلت هذه المدرسة وقد عيّنِ فيها لتعليمنا مع أبناء قريتي شيخ شاب معمّم من شرقي الأردن تخرج في دمشق وجاء إلى بيروت مفتشاً عن عمل، فوصل إلى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، فعينته في بعاصير. وواقع الحال أن حظ بعاصير وأهلها كان كبيراً بهذا الرجل فقد دأب على تعليم الكبار قبل الصغار وأحدث حركة في القرية، لكنه لم يكن يعرف لغة أجنبية فعلمنا اللغة العربية التي كان متعمقاً فيها، والدين والقرآن الكريم والحساب والتاريخ والجغرافيا والأخلاق، فاكتسبنا منه شيئاً كثيراً، وكانت علاقتي به جيدة لأنني كنت متميّزاً بعض التميّز. بقي عندنا الشيخ صالح خمس سنوات، من سنة ١٩٣٧ حتى سنة ١٩٤٢ وترك في أثناء الحرب العالمية الثانية وعاد إلى شرقي الأردن فأصبحنا بلا مدرسة من جديد. لكن في قرية برجا جارتنا، مدرسة رسمية ابتدائية تُعلّمِ حتى نهاية الشهادة الابتدائية، فالتحقت بها ولكني لم أكن أعرف لغة أجنبية فتأخرت قليلاً بسبب اللغة الفرنسية، ثم التحقت بالركب وتخرجت في سنة ١٩٤٥ من مدرسة برجا الرسمية.

وجئت إلى بيروت فالتحقت بمدرسة حوض الولاية الرسمية للبنين، وكان يدرسنا فيها اللغة العربية الشيخ راشد عليوان وهو خريج مدرسة الشيخ أحمد عباس المشهورة التي خرجت من قبله رهطاً من شهداء لبنان أيام الحرب العالمية الأولى الذين شنقهم جمال باشا السفاح بسبب نضالهم ضد الاستعمار العثماني. وقد بدا لي في هذه المدرسة أنني أحمل زاداً غنياً باللغة العربية، شهد لي الشيخ راشد عليوان وسماني بين التلاميذ "مرجع اللغة" وكل هذا بفضل الشيخ صالح سلامة معلمي الأول.

في سنة ١٩٤٨ دخلت دار المعلمين وكان مديرها آنذاك المرحوم الدكتور فؤاد افرام البستاني فتخرجت فيها بعد سنتين وعينت مدرساً منذ تشرين الأول عام ١٩٥٠ في مدرسة الطريق الجديدة الرسمية التي كانت تكميلية آنذاك، وكنت حاملاً لشهادة البكالوريا القسم الثاني فانتسبت إلى كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف وإلى كلية العلوم السياسية والاقتصادية في الأكاديمية اللبنانية، وكنّا في ذلك الوقت نطالب بفتح الجامعة اللبنانية حتى أعطت المطالبة نتيجتها وفتحت أبواب الجامعة اللبنانية يوم ٥ كانون الأول ١٩٥١ فدخلت اليها طالباً بصفة مدرّس منتدب للتخصص في الجامعة اللبنانية. وكان اسمها أنذاك "دار المعلمين العليا".

تابعت تخصصي في الجامعة باللغة العربية واضطررت إلى ترك الحقوق لأن دراستها تحتاج إلى دوام مستمر، وبقيت محافظاً على الانتساب لفرع العلوم السياسية حتى نلت شهادة الليسانس عام ١٩٥٤ ، وأذكر أنني كتبت رسالة في ذلك الحين عنوانها "الإنماء الاقتصادي في لبنان ومصادر تمويلة" أشرف علي فيها الدكتور برهان الدجاني مدير غرف التجارة والصناعة والزراعة في البلاد العربية آنذاك.

بعد الحصول على الإجازة في اللغة العربية وآدابها عام ١٩٥٤ أيضاً، تابعت الدراسة في دار المعلمين، وحصلت على شهادة الكفاءة في التعليم الثانوي وعدت أستاذاً في التعليم الثانوي إلى مدرسة الطريق الجديدة التي كانت أول مدرسة تكميلية تتحول إلى مدرسة ثانوية ومعها مدرسة في طرابلس للبنات. على أنني قبل أن أعيّن بأسبوع استاذاً للتعليم الثانوي أرسل في طلبي أستاذي في دار المعلمين العليا آنذاك الدكتور جبور عبد النور وكان رئيس الدائرة العربية في مدرسة الليسيه الفرنسية العلمانية وعهد الي تعليم اللغة العربية في صفوف البكالوريا وكان زميلي آنذاك رئيف خوري.

وأمضيت في ثانوية الطريق الجديدة إحدى عشرة سنة علّمت فيها أفواجاً من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من كبار البارزين في لبنان إدارياً وسياسياً وقضائياً وعسكرياً وتربوياً وقيادياً.

إلا أنني بدأت التدريس في الجامعة اللبنانية بمعهد المعلمين العالي "دار المعلمين العليا" سابقاً عام ١٩٦١ الذي أصبح فيما بعد كلية التربية سنة ١٩٦٥ ، وعندما تأسست كلية التربية انتقلت اليها من ملاك التعليم الثانوي إلى ملاك التعليم العالي وأعطيت في كلية التربية عشرين سنة تماماً. أما الليسيه العلمانية الفرنسية فقد علمت فيها ١٥ سنة واستقلت منها عام ١٩٦٩ حين صدر في الجامعة اللبنانية قانون تفرغ الأساتذة.

من الجدير ذكره أن كلية التربية كانت في زمنها أهم مؤسسة جامعية في لبنان كله، وكانت تخرّجِ أساتذة للتعليم الثانوي في ١٤ فرعاً اختصاصياً وقد تخرج فيها نخبة كبرى من الأساتذة الثانويين الناجحين وما يزال بعضهم حتى اليوم، ونخبة من أساتذة الجامعة والصحافيين والأدباء والشعراء الذين ما زالوا يمسكون بالحياة الأدبية والثقافية حتى اليوم، وأذكر أن المرحوم الدكتور خليل حاوي الذي كان أستاذاً متعاقداً عندنا في كلية التربية قال لي "أنا أفضل أن أكون في كلية التربية مع هذا الرهط من الطلاب الممتازين على أن أكون مع طلاب الجامعة الأميركية رغم محبتي للجامعة الأميركية واحترامي لها واعترافي انني أعيش منها".

في العام ١٩٧٧ تغير نظام كلية التربية فما عادت تأخذ الطلاب من البكالوريا ليدرسوا ٥ سنوات في الجامعة ويحصلوا على شهادة الكفاءة للتعليم الثانوي، وإنما جاء النظام الجديد الذي يفرض الإجازة والدراسة مدة سنتين للحصول على الكفاءة في التعليم الثانوي، وما أُخذ بموجب هذا النظام إلا فوج واحد، وبعدها توقفت كلية التربية عن قبول الطلاب الرسميين الذين يفترض فيهم أن يكونوا الزامياً أساتذة في التعليم الثانوي. وأصبح طلاب كلية التربية منذ ذلك الحين أحراراً يحصلون على شهاداتهم من غير توظيف.

آنذاك طلبت الانتقال إلى كلية الآداب فعنيت فيها مديراً سنة ١٩٨١ . وبقيت في الإدارة حتى عام ١٩٨٨ وكان عذري لترك الإدارة طلب إجازة السنة السابعة. بعد ذلك عدت إلى كلية الآداب وبقيت أستاذاً فيها حتى ١٩٩٤ عام بلوغي السن القانونية، ثم مدد لي مجلس الوزراء أربع سنوات بالتعاقد لمتابعة الإشراف على اطروحات الدكتوراه، وجدير بالذكر هنا أنني عملت منذ مجيئي إلى كلية الآداب على تأسيس فرع شهادة الدكتوراه فيها فصدر مرسومها عام ١٩٨٤ وهكذا أنهيت عملي في الجامعة اللبنانية عام ١٩٩٨.
 

رأي في التربية:
عن أهمية الإعداد التربوي في صناعة المعلم الصالح يقول الدكتور أحمد أبو حاقة:
الإعداد التربوي مهم جداً في إعداد المعلم الصالح لأن التربية ليست مجرد دراسة أكاديمية وإنما هي ثقافة وتمرّس وأخلاق واستعداد شخصي ينشأ عليه المعلم، ذلك أن التعليم رسالة قبل أن يكون وظيفة. فهو مزاج خاص وطبيعة خاصة عند الإنسان أساسها أن العمل التربوي ينمي في الإنسان دوافع الخير والخدمة الاجتماعية وإعداد التلاميذ ليكونوا مواطنين صالحين والأستاذ الصالح لا يسعى وراء الكسب المادي وإن كان محتاجاً له لكي يعيش، إنما هو يسعى إلى عمل إنساني رفيع المستوى، فالمعلم الصالح يحب عمله ولو نال منه تعباً وعذاباً وشقاءً. والأستاذ الصالح لا يتأفف من عمله أبداً ولا يشعر في يوم من الأيام أنه يكره عمله بل أنه يحبه ويلتزمه. وأنا أذكر اني أمضيت في التعليم رسمياً ٤٨ عاماً لكن ما زلت أقوم بالتدريس حتى اليوم وما تأففت في يوم من الأيام من عملي وما كرهت أحداً من طلابي وأعتز وأفتخر بهم جميعاً وما زلت أشعر حتى الأن أنني في قاعة التعليم كالسمكة حين تكون في الماء. ومعنى هذا كله أن الدراسة التربوية أساسية لتعطي المعلم عدة صالحة في عمله لكن المعلم الحقيقي يولد معلماً. وما زلت حتى اليوم أتذكر معلمي الأول صالح الذي أعتبره معلماً حقيقياً وعلمني كي أكون معلماً حقيقياً.