ذاكرة المجلة

العدد الأول (١٩٨٣)



 

حــــــلم

قصيدة للدكتور وليم الخازن

 

جزتُ الأعتاب السماوية... فُتحت أمامي الأبواب، فإذا فردوس ساحر يشعّ بالنور. موسيقاه طبيعية شجية، ونسميه طريّ أنيس. انبهرت عيناي، وانفتح قلبي وأنا في النعيم، أرى في حلمي ما لا يراه الخيال، ويمتلكني شعور الى النشوة أقرب. انه خدر الأخدار. خلعت نفسي حُجب الجسد، وطارت ممتزجة بعالم الأرواح. يا لروعة ما ارى... تجاوزتُ اندهاشي وعبرت، فلقيني صديق حميم، تخلّى عن جسده منذ أكثر من عشر سنوات، لم ألمح في قسمات وجهه المنوّر دليل تعجّب او مفاجأة، كأنّ حضوري لديه أمر عاديّ مرتقب...

بعد قبلة اللقاء، أمسكني من ذراعي، وسرنا متشابكين، حافيي الاقدام، على طريق لا طريق، يغطيه عشب ناعم، وحولنا ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن.

قال صديقي السعيد:

- أهلاً بك في الفردوس. كنت أراك راكضاً على الأرض، فيهلع قلبي لمرآك، وأقول في نفسي: متى يتخلص صديقي من عذابه، ويوافيني الى هذا المكان، فتمتزج سعادتي بسعادته؟

أجبته:

- كنت متوهّماً يا صديقي. أنا سعيد على الأرض. أسرع لآكل خبزي بمشيئة الله. ولكنني أعدو فرحاً لانني لا أحمّل ضميري طمعاً أو رجساً من الشيطان.

قال بلهجة المعلم الواثق:

- ما كنت متوهّماً. كنت أرى الشقاء بعيني. تعالَ معي وانظر.

سار بي في درب جانبي الى مكان منفسح، تجمعت فيه حشود لا تُعدّ من أرواح الجنة، وهي تتفرج كما نتفرج في دنيانا على الألعاب الأولمبية.

قلت:

- ما بال هذه الجموع محتشدة؟

أجاب:

- إنها تتفرج على كوكب الأرض وساكنيه.

صوّبتُ نظري الى حيث يتطلعون، فرأيت الأرض وسكانها واحداً واحداً، إلا من كان منهم داخل بناء أو تحت شجر، ولفتني على الفور ما لفت صاحبي من سرعة جريهم، فتأوّهت وشهقت، ثم استدركت قائلاً:

- انهم يسرعون فعلاً، ويتشابكون في جريهم صباح مساء، ولكنهم، في الواقع، يسيرون على نظام بمنتهى الدقة والتنسيق. تأمّل في أنّ كل هؤلاء الناس يسعون لأهداف معينة. وكل هذه الأهداف، بل العوالم الخاصة لكل انسان، تلتقي لتتناغم وتسهم في تقدّم العالم الأرضي، وبلوغ المنتهى... المنتهى... الولادة الجديدة.

ضحك صاحبي وقال:

- لم ترَ كل شيء بعد. أنظر الساحة على الجهة اليسرى.

نظرت، وجزعت جزعاً شديداً. رأيت أناساً يتقاتلون بآلة وبغير آلة. رأيت ما نسميه مدافع، ودبابات، وطائرات، وصواريخ، وبراكين من الحديد والنار، يتقاذفون بها لغير سبب ظاهر. ثم جذبني منظر رهيب: أهل ضيعة ريفية، رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً، يقعون على الأرض ويهمدون بغير حراك...

أدرت ناظري نحو صاحبي مستفسراً.

قال:

- لا تتعجب. هولاء يموتون بالغاز السام والأسلحة الجديدة التي لا ترى قذائفها، ولكنك تشاهد أثرها العام.

فنبرتُ منفعلاً:

- ان ما أراه مؤثر حقاً، ولكنه نكسة في طريق الحياة المتطورة. انه طارىء وليس أصيلاً كالبقعة السوداء في اللوحة الزاهية.

قاطعني، وكأنه يحرص على ان لا تفوته فكرة خطرت:

- أي تطور هذا الذي يؤدي الى ابادة وفساد؟ ألن ينتهي أهل الأرض جميعاً الى نزاع عام شامل، حينما تأتي الساعة؟

- أية ساعة؟

- الساعة الأخيرة. يوم القيامة.

- تقوم القيامة في آخر الدهر لبلورة الوجود الحقيقي، وفصل الرديء عن الجيّد. انها الوسيلة الناجعة لحتمية العبور وانقضاء الدهر.

- لا أرى في ذلك تطوراً نحو الأفضل !

- هي سنّة النشوء والارتقاء يا صديقي. استنتجتها الانسان من قديم. والحياة الى امام مهما اعترض لها من عثرات.

- وماذا تقول في نظرية تيار دو شردان بنفاد الحياة من قشرة الأرض مع الايام؟

- انها نفاد الأرض، وليست نفاد الانسان الباقي بروحه وقيَمه.

- ولماذا يقتل الناس بعضهم بعضاً، كما نشاهد الان على وجه البسيطة؟

- ما قولك أنت في ذلك، وقد بلغتَ شفافية الادراك، بعد ان نزعتَ الثوب الترابي؟ لقد  اعتبرتني تعساً شقياً وأنا أسرع لتحصيل قوتي وقوت عيالي. فماذا تقول في هؤلاء الناس الذين يتقاتلون بغير شفقة ولا رحمة؟

قال، من غير أن تفارق الابتسامة وجهه البهيّ:

- هذا لا يدركه الا الله. الانسان الضعيف يمرّ في تجربة قاسية على الأرض، ليستحق السماء. وبدلاً من ان يتعاون مع أمثاله لبلوغ هذا الهدف، يتباغض الناس ويتقاتلون لخسارة ما وُعد به المتّقون صانعو الخير والسلام.

قلت:

- لا اعتراض على حكم الله. ولكن، لماذا شاء الله الانسان هكذا؟

قال:

- صنع الله الانسان على مثاله، وأحبّه، وأكبره، وأعطاه الحرية التي لا يستحقّ بغيرها الثواب.

قلت متأسفاً:

- ما كان أجمل الدنيا لو عاش فيها الكائن البشري ببساطة، وحكَّم سجيّته وطبعه السليم في سعيه وعمله، مطبقاً المبدأ القائل: عامل غيرك كما تريد ان يعاملك الغير! ولكن، هل أكثر الناس مجانين وهم لا يعلمون؟

قال صاحبي:

- تأمل يا صديقي صغر الكوكب الأرضي ! انه من أصغر الكواكب الهيوليّة. تأمل حجم الجسد البشري، وقابل بينه وبين عظمة الروح الحاّلة فيه ! ماذا يبقى للأرض الفانية لو نظرنا اليها والى سكانها من خلال ما نراه في الملكوت؟ كم على البسيطة من الناس في جيل واحد؟ انهم الآن أربعة مليارات. كم جيل وجيل انتقل عنها منذ خلقها؟! لو تفكّر الانسان لما راى الأرض شيئاً، ولما رأى للزمان الذي يركض فيه أية أهمية. زمان الحياة الأرضية قصير جداً...لحظات...ثوانٍ...

ليس للانسان ماض ولا حاضر. الماضي في الضمير والحاضر يعبر. غداً يموت الانسان وليس بعد غدٍ. الأرض ممرّ سريع وليست مقراً. هنا المقرّ الدائم. هنا الأبد. ولولا عطف الله وتسامحه لرأيت الفردوس السماوي قاعاً صفصفاً، لا روح فيه لبني البشر.

أشحت بنظري عن الأرض، التي كدت أعدُّ سكانها، وسرّحته بعيداً في الساحة الفسيحة التي أقف فيها، فرأيت من الأرواح ما لا يعدّ، على قلة احتياجها الى مكان، والسعادة الدائمة تُطفح كيانها عزماً وإشعاعاً متوقداً. وبمثل انصياع لأمر قاهر، نظرت الوجوه جميعاً إليّ، وهمّت النفوس نحوي، أنا الغريب، بأيدٍ ممدودة على مداها، تريد دفعي الى الهوة الهائلة التي تفصل بين السماء والأرض. فما تمالكت عن الصراخ الذي أيقظني من حلمي الباهر، وأعادني الى الأرض القاسية التي كنت أراها على حقيقتها، من بعيد بعيد...

 

ذاكرة المجلة

العدد الأول (١٩٨٣)



 

حــــــلم

قصيدة للدكتور وليم الخازن

 

جزتُ الأعتاب السماوية... فُتحت أمامي الأبواب، فإذا فردوس ساحر يشعّ بالنور. موسيقاه طبيعية شجية، ونسميه طريّ أنيس. انبهرت عيناي، وانفتح قلبي وأنا في النعيم، أرى في حلمي ما لا يراه الخيال، ويمتلكني شعور الى النشوة أقرب. انه خدر الأخدار. خلعت نفسي حُجب الجسد، وطارت ممتزجة بعالم الأرواح. يا لروعة ما ارى... تجاوزتُ اندهاشي وعبرت، فلقيني صديق حميم، تخلّى عن جسده منذ أكثر من عشر سنوات، لم ألمح في قسمات وجهه المنوّر دليل تعجّب او مفاجأة، كأنّ حضوري لديه أمر عاديّ مرتقب...

بعد قبلة اللقاء، أمسكني من ذراعي، وسرنا متشابكين، حافيي الاقدام، على طريق لا طريق، يغطيه عشب ناعم، وحولنا ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن.

قال صديقي السعيد:

- أهلاً بك في الفردوس. كنت أراك راكضاً على الأرض، فيهلع قلبي لمرآك، وأقول في نفسي: متى يتخلص صديقي من عذابه، ويوافيني الى هذا المكان، فتمتزج سعادتي بسعادته؟

أجبته:

- كنت متوهّماً يا صديقي. أنا سعيد على الأرض. أسرع لآكل خبزي بمشيئة الله. ولكنني أعدو فرحاً لانني لا أحمّل ضميري طمعاً أو رجساً من الشيطان.

قال بلهجة المعلم الواثق:

- ما كنت متوهّماً. كنت أرى الشقاء بعيني. تعالَ معي وانظر.

سار بي في درب جانبي الى مكان منفسح، تجمعت فيه حشود لا تُعدّ من أرواح الجنة، وهي تتفرج كما نتفرج في دنيانا على الألعاب الأولمبية.

قلت:

- ما بال هذه الجموع محتشدة؟

أجاب:

- إنها تتفرج على كوكب الأرض وساكنيه.

صوّبتُ نظري الى حيث يتطلعون، فرأيت الأرض وسكانها واحداً واحداً، إلا من كان منهم داخل بناء أو تحت شجر، ولفتني على الفور ما لفت صاحبي من سرعة جريهم، فتأوّهت وشهقت، ثم استدركت قائلاً:

- انهم يسرعون فعلاً، ويتشابكون في جريهم صباح مساء، ولكنهم، في الواقع، يسيرون على نظام بمنتهى الدقة والتنسيق. تأمّل في أنّ كل هؤلاء الناس يسعون لأهداف معينة. وكل هذه الأهداف، بل العوالم الخاصة لكل انسان، تلتقي لتتناغم وتسهم في تقدّم العالم الأرضي، وبلوغ المنتهى... المنتهى... الولادة الجديدة.

ضحك صاحبي وقال:

- لم ترَ كل شيء بعد. أنظر الساحة على الجهة اليسرى.

نظرت، وجزعت جزعاً شديداً. رأيت أناساً يتقاتلون بآلة وبغير آلة. رأيت ما نسميه مدافع، ودبابات، وطائرات، وصواريخ، وبراكين من الحديد والنار، يتقاذفون بها لغير سبب ظاهر. ثم جذبني منظر رهيب: أهل ضيعة ريفية، رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً، يقعون على الأرض ويهمدون بغير حراك...

أدرت ناظري نحو صاحبي مستفسراً.

قال:

- لا تتعجب. هولاء يموتون بالغاز السام والأسلحة الجديدة التي لا ترى قذائفها، ولكنك تشاهد أثرها العام.

فنبرتُ منفعلاً:

- ان ما أراه مؤثر حقاً، ولكنه نكسة في طريق الحياة المتطورة. انه طارىء وليس أصيلاً كالبقعة السوداء في اللوحة الزاهية.

قاطعني، وكأنه يحرص على ان لا تفوته فكرة خطرت:

- أي تطور هذا الذي يؤدي الى ابادة وفساد؟ ألن ينتهي أهل الأرض جميعاً الى نزاع عام شامل، حينما تأتي الساعة؟

- أية ساعة؟

- الساعة الأخيرة. يوم القيامة.

- تقوم القيامة في آخر الدهر لبلورة الوجود الحقيقي، وفصل الرديء عن الجيّد. انها الوسيلة الناجعة لحتمية العبور وانقضاء الدهر.

- لا أرى في ذلك تطوراً نحو الأفضل !

- هي سنّة النشوء والارتقاء يا صديقي. استنتجتها الانسان من قديم. والحياة الى امام مهما اعترض لها من عثرات.

- وماذا تقول في نظرية تيار دو شردان بنفاد الحياة من قشرة الأرض مع الايام؟

- انها نفاد الأرض، وليست نفاد الانسان الباقي بروحه وقيَمه.

- ولماذا يقتل الناس بعضهم بعضاً، كما نشاهد الان على وجه البسيطة؟

- ما قولك أنت في ذلك، وقد بلغتَ شفافية الادراك، بعد ان نزعتَ الثوب الترابي؟ لقد  اعتبرتني تعساً شقياً وأنا أسرع لتحصيل قوتي وقوت عيالي. فماذا تقول في هؤلاء الناس الذين يتقاتلون بغير شفقة ولا رحمة؟

قال، من غير أن تفارق الابتسامة وجهه البهيّ:

- هذا لا يدركه الا الله. الانسان الضعيف يمرّ في تجربة قاسية على الأرض، ليستحق السماء. وبدلاً من ان يتعاون مع أمثاله لبلوغ هذا الهدف، يتباغض الناس ويتقاتلون لخسارة ما وُعد به المتّقون صانعو الخير والسلام.

قلت:

- لا اعتراض على حكم الله. ولكن، لماذا شاء الله الانسان هكذا؟

قال:

- صنع الله الانسان على مثاله، وأحبّه، وأكبره، وأعطاه الحرية التي لا يستحقّ بغيرها الثواب.

قلت متأسفاً:

- ما كان أجمل الدنيا لو عاش فيها الكائن البشري ببساطة، وحكَّم سجيّته وطبعه السليم في سعيه وعمله، مطبقاً المبدأ القائل: عامل غيرك كما تريد ان يعاملك الغير! ولكن، هل أكثر الناس مجانين وهم لا يعلمون؟

قال صاحبي:

- تأمل يا صديقي صغر الكوكب الأرضي ! انه من أصغر الكواكب الهيوليّة. تأمل حجم الجسد البشري، وقابل بينه وبين عظمة الروح الحاّلة فيه ! ماذا يبقى للأرض الفانية لو نظرنا اليها والى سكانها من خلال ما نراه في الملكوت؟ كم على البسيطة من الناس في جيل واحد؟ انهم الآن أربعة مليارات. كم جيل وجيل انتقل عنها منذ خلقها؟! لو تفكّر الانسان لما راى الأرض شيئاً، ولما رأى للزمان الذي يركض فيه أية أهمية. زمان الحياة الأرضية قصير جداً...لحظات...ثوانٍ...

ليس للانسان ماض ولا حاضر. الماضي في الضمير والحاضر يعبر. غداً يموت الانسان وليس بعد غدٍ. الأرض ممرّ سريع وليست مقراً. هنا المقرّ الدائم. هنا الأبد. ولولا عطف الله وتسامحه لرأيت الفردوس السماوي قاعاً صفصفاً، لا روح فيه لبني البشر.

أشحت بنظري عن الأرض، التي كدت أعدُّ سكانها، وسرّحته بعيداً في الساحة الفسيحة التي أقف فيها، فرأيت من الأرواح ما لا يعدّ، على قلة احتياجها الى مكان، والسعادة الدائمة تُطفح كيانها عزماً وإشعاعاً متوقداً. وبمثل انصياع لأمر قاهر، نظرت الوجوه جميعاً إليّ، وهمّت النفوس نحوي، أنا الغريب، بأيدٍ ممدودة على مداها، تريد دفعي الى الهوة الهائلة التي تفصل بين السماء والأرض. فما تمالكت عن الصراخ الذي أيقظني من حلمي الباهر، وأعادني الى الأرض القاسية التي كنت أراها على حقيقتها، من بعيد بعيد...

 

ذاكرة المجلة

العدد الأول (١٩٨٣)



 

حــــــلم

قصيدة للدكتور وليم الخازن

 

جزتُ الأعتاب السماوية... فُتحت أمامي الأبواب، فإذا فردوس ساحر يشعّ بالنور. موسيقاه طبيعية شجية، ونسميه طريّ أنيس. انبهرت عيناي، وانفتح قلبي وأنا في النعيم، أرى في حلمي ما لا يراه الخيال، ويمتلكني شعور الى النشوة أقرب. انه خدر الأخدار. خلعت نفسي حُجب الجسد، وطارت ممتزجة بعالم الأرواح. يا لروعة ما ارى... تجاوزتُ اندهاشي وعبرت، فلقيني صديق حميم، تخلّى عن جسده منذ أكثر من عشر سنوات، لم ألمح في قسمات وجهه المنوّر دليل تعجّب او مفاجأة، كأنّ حضوري لديه أمر عاديّ مرتقب...

بعد قبلة اللقاء، أمسكني من ذراعي، وسرنا متشابكين، حافيي الاقدام، على طريق لا طريق، يغطيه عشب ناعم، وحولنا ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن.

قال صديقي السعيد:

- أهلاً بك في الفردوس. كنت أراك راكضاً على الأرض، فيهلع قلبي لمرآك، وأقول في نفسي: متى يتخلص صديقي من عذابه، ويوافيني الى هذا المكان، فتمتزج سعادتي بسعادته؟

أجبته:

- كنت متوهّماً يا صديقي. أنا سعيد على الأرض. أسرع لآكل خبزي بمشيئة الله. ولكنني أعدو فرحاً لانني لا أحمّل ضميري طمعاً أو رجساً من الشيطان.

قال بلهجة المعلم الواثق:

- ما كنت متوهّماً. كنت أرى الشقاء بعيني. تعالَ معي وانظر.

سار بي في درب جانبي الى مكان منفسح، تجمعت فيه حشود لا تُعدّ من أرواح الجنة، وهي تتفرج كما نتفرج في دنيانا على الألعاب الأولمبية.

قلت:

- ما بال هذه الجموع محتشدة؟

أجاب:

- إنها تتفرج على كوكب الأرض وساكنيه.

صوّبتُ نظري الى حيث يتطلعون، فرأيت الأرض وسكانها واحداً واحداً، إلا من كان منهم داخل بناء أو تحت شجر، ولفتني على الفور ما لفت صاحبي من سرعة جريهم، فتأوّهت وشهقت، ثم استدركت قائلاً:

- انهم يسرعون فعلاً، ويتشابكون في جريهم صباح مساء، ولكنهم، في الواقع، يسيرون على نظام بمنتهى الدقة والتنسيق. تأمّل في أنّ كل هؤلاء الناس يسعون لأهداف معينة. وكل هذه الأهداف، بل العوالم الخاصة لكل انسان، تلتقي لتتناغم وتسهم في تقدّم العالم الأرضي، وبلوغ المنتهى... المنتهى... الولادة الجديدة.

ضحك صاحبي وقال:

- لم ترَ كل شيء بعد. أنظر الساحة على الجهة اليسرى.

نظرت، وجزعت جزعاً شديداً. رأيت أناساً يتقاتلون بآلة وبغير آلة. رأيت ما نسميه مدافع، ودبابات، وطائرات، وصواريخ، وبراكين من الحديد والنار، يتقاذفون بها لغير سبب ظاهر. ثم جذبني منظر رهيب: أهل ضيعة ريفية، رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً، يقعون على الأرض ويهمدون بغير حراك...

أدرت ناظري نحو صاحبي مستفسراً.

قال:

- لا تتعجب. هولاء يموتون بالغاز السام والأسلحة الجديدة التي لا ترى قذائفها، ولكنك تشاهد أثرها العام.

فنبرتُ منفعلاً:

- ان ما أراه مؤثر حقاً، ولكنه نكسة في طريق الحياة المتطورة. انه طارىء وليس أصيلاً كالبقعة السوداء في اللوحة الزاهية.

قاطعني، وكأنه يحرص على ان لا تفوته فكرة خطرت:

- أي تطور هذا الذي يؤدي الى ابادة وفساد؟ ألن ينتهي أهل الأرض جميعاً الى نزاع عام شامل، حينما تأتي الساعة؟

- أية ساعة؟

- الساعة الأخيرة. يوم القيامة.

- تقوم القيامة في آخر الدهر لبلورة الوجود الحقيقي، وفصل الرديء عن الجيّد. انها الوسيلة الناجعة لحتمية العبور وانقضاء الدهر.

- لا أرى في ذلك تطوراً نحو الأفضل !

- هي سنّة النشوء والارتقاء يا صديقي. استنتجتها الانسان من قديم. والحياة الى امام مهما اعترض لها من عثرات.

- وماذا تقول في نظرية تيار دو شردان بنفاد الحياة من قشرة الأرض مع الايام؟

- انها نفاد الأرض، وليست نفاد الانسان الباقي بروحه وقيَمه.

- ولماذا يقتل الناس بعضهم بعضاً، كما نشاهد الان على وجه البسيطة؟

- ما قولك أنت في ذلك، وقد بلغتَ شفافية الادراك، بعد ان نزعتَ الثوب الترابي؟ لقد  اعتبرتني تعساً شقياً وأنا أسرع لتحصيل قوتي وقوت عيالي. فماذا تقول في هؤلاء الناس الذين يتقاتلون بغير شفقة ولا رحمة؟

قال، من غير أن تفارق الابتسامة وجهه البهيّ:

- هذا لا يدركه الا الله. الانسان الضعيف يمرّ في تجربة قاسية على الأرض، ليستحق السماء. وبدلاً من ان يتعاون مع أمثاله لبلوغ هذا الهدف، يتباغض الناس ويتقاتلون لخسارة ما وُعد به المتّقون صانعو الخير والسلام.

قلت:

- لا اعتراض على حكم الله. ولكن، لماذا شاء الله الانسان هكذا؟

قال:

- صنع الله الانسان على مثاله، وأحبّه، وأكبره، وأعطاه الحرية التي لا يستحقّ بغيرها الثواب.

قلت متأسفاً:

- ما كان أجمل الدنيا لو عاش فيها الكائن البشري ببساطة، وحكَّم سجيّته وطبعه السليم في سعيه وعمله، مطبقاً المبدأ القائل: عامل غيرك كما تريد ان يعاملك الغير! ولكن، هل أكثر الناس مجانين وهم لا يعلمون؟

قال صاحبي:

- تأمل يا صديقي صغر الكوكب الأرضي ! انه من أصغر الكواكب الهيوليّة. تأمل حجم الجسد البشري، وقابل بينه وبين عظمة الروح الحاّلة فيه ! ماذا يبقى للأرض الفانية لو نظرنا اليها والى سكانها من خلال ما نراه في الملكوت؟ كم على البسيطة من الناس في جيل واحد؟ انهم الآن أربعة مليارات. كم جيل وجيل انتقل عنها منذ خلقها؟! لو تفكّر الانسان لما راى الأرض شيئاً، ولما رأى للزمان الذي يركض فيه أية أهمية. زمان الحياة الأرضية قصير جداً...لحظات...ثوانٍ...

ليس للانسان ماض ولا حاضر. الماضي في الضمير والحاضر يعبر. غداً يموت الانسان وليس بعد غدٍ. الأرض ممرّ سريع وليست مقراً. هنا المقرّ الدائم. هنا الأبد. ولولا عطف الله وتسامحه لرأيت الفردوس السماوي قاعاً صفصفاً، لا روح فيه لبني البشر.

أشحت بنظري عن الأرض، التي كدت أعدُّ سكانها، وسرّحته بعيداً في الساحة الفسيحة التي أقف فيها، فرأيت من الأرواح ما لا يعدّ، على قلة احتياجها الى مكان، والسعادة الدائمة تُطفح كيانها عزماً وإشعاعاً متوقداً. وبمثل انصياع لأمر قاهر، نظرت الوجوه جميعاً إليّ، وهمّت النفوس نحوي، أنا الغريب، بأيدٍ ممدودة على مداها، تريد دفعي الى الهوة الهائلة التي تفصل بين السماء والأرض. فما تمالكت عن الصراخ الذي أيقظني من حلمي الباهر، وأعادني الى الأرض القاسية التي كنت أراها على حقيقتها، من بعيد بعيد...