كيف تكون التربية عامل تغيير؟

كيف تكون التربية عامل تغيير؟

سلوكيّات في الحياة اليومية والمدرسية

د. انطوان نصري مسرّه استاذ جامعي ناشط في الشأن العام

هل العلاقات في البنيات التحتية في المجتمع، أي في العائلة والمدرسة والحي وبين الرفاق، مبنية على قوّة ونفوذ وموقع أم على قواعد ناظمة (norme)؟ يبدو أن كل شيء في لبنان أصبح قابلاً للتفاوض والمناورة والشطارة وتحزيب فريق على آخر. لسنا جينيًا كذلك، بل في بلدان أخرى تمّ الاهتمام بالتربية على القاعدة الحقوقية، أي على القواعد الناظمة للمجتمع، بعد مرحلة التحرر الوطني. أما في المجتمعات العربية فتلت عهود ما سميّ التحرر عهود من الاستبداد وحروب وأزمات مستعصية. وقد كان هدف "خطة النهوض التربوي" التي أعدّها المركز التربوي للبحوث والانماء، خصوصاً برامج "التربية الوطنية والتنشئة المدنية"، إجراء تحوّل في السلوك من خلال التربية.

 

التغيير في السلوكيات عملية تربوية بالمعنى الواسع وهي تشمل العائلة والبيئة ومؤسسات التعليم، الهيئات الرسمية بما تنقله من نماذج سلوكية، وكذلك وسائل الإعلام.

إن الجمعيات الشبابية والاجتماعية والثقافية، والمؤسسات التربوية، الرسمية والخاصة، قادرة على التغيير في التربية المعيشة. يتوجه الكثيرون إلى الدولة للشكوى أو النقد أو المطالبة. الكل يهرب إلى خارج سربه، بينما المطلوب من كل واحد أن يعمل أولاً حيث هو، فيثير القناعة والقدوة والاقتداء ومن ثم التعميم. يقول الفيلسوف الألماني نيتشه :(Nietsche)  حيث أنت إنقب بعمق".

نشاهد الحادثة الآتية في عائلة لبنانية: أنبّتَ الجدّة الولد البالغ عشر سنوات من العمر وضربته لأنه أساء التصرف. فجاء الطفل إلى والده ليشكو جدته. أنّبَه الأب أيضًا وضربه. عاد الطفل إلى جدته  مستاءً وبصق أمامها. احتضنته الجدة لتحميه وأخذت تلاطفه. توجهت حينئذ الوالدة إلى طفلها قائلة: هكذا تتصرف مع جدتك التي قدمت لك حذاءً جديدًا! أجاب الطفل بشراسة: لا، ليست جدتي التي أهدتني الحذاء!

يظهر من هذه الحادثة التي نشاهد مثيلها مرارًا، أن العلاقة فيها تقوم على الشطارة، والتفاوض في كل الأمور من دون استثناء، وعدم احترام الآخر، وتحزيب فريق على آخر واستجداء عطف فريق ضد فريق.

النظام التربوي بين التقييد والانفتاح

يتمتع اللبناني بالعديد من الصفات: القدرة على التكيّف، الانفتاح على العالم، الخبرة التاريخية الطويلة، التعلق بالحريات... لكن بعض السلوكيات السائدة لها نتائج سلبية على الحياة الفردية والعامة. كل ما نشكو منه على مستوى النظام السياسي في ما يتعلق خصوصاً بالسلطة والإدارة والشأن العام له جذوره في البنيات الذهنية. فهل تحدث المعاناة المشتركة طيلة أكثر من ربع قرن صدمة نفسية تؤثر على سلوكيات المواطنين؟

غياب القيم مشكلة تصادفنا في حياتنا اليومية وتعني المجتمع بكامله: الآباء والأمهات والمعلمين والأساتذة والمسؤولين والأطفال والشباب والتلامذة والطلاب، وكذلك المؤسسات السياسية والإدارات العامة وجمعيات المجتمع المدني.

 

١- سلوكيات في العائلة

١- "واحد بشدّ والتاني بيرخي" أو علاقة الشطارة حيث كل شيء قابل للتفاوض: إنه مبدأ سائد في البيت. عندما يؤنّب الأب أحد أولاده ويهدّده، تسرع الأم لتدافع والعكس بالعكس. وبالتالي ينظر الولد إلى السلطة وقواعدها وكأنها لعبة مناورة وتوازن قوى حيث الحق لصالح من يجيد اللعبة. ويفجر الولد للحصول على ما يبتغيه فتسارع والدته إلى تلبية طلباته. من "ينرفز" و"يفجر" و"يتمرجل" يحصل على مبتغاه في حين أن من يمارس العقلانية وضبط النفس تكون حقوقه مهدورة.

٢- التهديد من دون تنفيذ: "بكسر إيدك" تتوجه الأم يوميًا إلى طفلها بوابل من الوعيد والتهديد من دون أن تنفذ بندًا واحدًا من أقوالها! مجرد القول: "بِكسر إيدك''، فيه من التضخيم ما يجعله مستحيل التنفيذ.

٣- ضياع المسؤولية: "أشكيك عند البابا": تقول الأم لابنها أشكيك عند "البابا". فهل هي شاهدة  غريبة عن البيت ومجردة من الصلاحيات وكيف يمكن للأب أن يقاصص ببرودة أعصاب ومن دون أن يكون شاهدًا على سياق ما جرى؟

٤- الكل يتدخل في كل شيء: عندما تكون العائلة في صالون المنزل ويسدي الأب أو الأم الرأي إلى الابنة أو الابن تتدخل العمة والعم والخالة والصديق والجارة وغالبًا كل الحاضرين، وتتحول الملاحظة إلى سجال عام. ما شأن الأقرباء والجيران في صلاحية الوالد أو الوالدة وفي العلاقات بين الآباء وأبنائهم؟ كل واحد يتدخل في كل شيء ويتحول كل موضوع إلى حوار سائب من دون تمايز في الوظائف أو الضوابط، وذلك على النمط الذي عشناه طيلة سنوات الحروب في لبنان وأسميناه حواراً. التمييز بين الأدوار واحترام الصلاحيات وقواعد اتخاذ القرارات وتنفيذها هي من الأمور التي لم نتربّ عليها.

صور متعددة وأرزة واحدة

٥- الحصول على المبتغى بواسطة الملاحقة أو "النقّ": الطفل الذي ترفض له والدته مطلبًا يعتمد المثابرة في "النق"، اليوم وغدًا، وبعد أيام، وبعد أسبوع، وحتى طيلة شهر وربما أشهر... إلى أن تستسلم الوالدة مرهقة ومنهارة الأعصاب. يمتد هذا السلوك إلى الحياة الاجتماعية. إذا وضع أحدهم سيارته في التصليح في أحد الكاراجات ووُعد بإنجازها في الساعة الرابعة بعد الظهر يتصل بصاحب الكاراج في العاشرة صباحًا، ويمر عليه ظهراً ويطرح عليه سؤالاً بواسطة أحد الأقارب حول مجرى العمل، ويعود إلى الملاحقة في الثانية بعد الظهر، إلى أن ينتهي العمل ويتأكد من ذلك. هذا النوع من الملاحقة "بالنق" يرسي علاقات بين الناس قائمة على توازن قوى حيث النَعَم ليست نَعَم، واللا ليست لا. يمكن تاليًا الحصول على كل شيء بالقوة والنفوذ، وفي حالة الضعف بإرهاق الآخر نفسيًا تحت ستار الاستجداء وإثارة العطف والشفقة. المثابرة في الملاحقة، بهدف إرهاق الآخر، هي نقد لمفهوم المعايير والمبادئ والحقوق.

٦- "الماركانتيلية" أو لكل سلوك سعر: وهناك "الماركانتيلية" في العلاقات العائلية: إذا كتبت فرضك تستحق خرجية، وإذا كنت عاقلاً تذهب في نزهة. يتلاشى من جراء هذه السلوكيات مفهوم الواجبات والحقوق لصالح المنفعة الشخصية المباشرة والملموسة.

٧- الظلم: "جيبيلي كباية ماي"! العلاقات العائلية تقوم على المحبة والتضامن والمشاركة. يخرج الأخ ليلعب خارج المنزل، بينما تبقى الشقيقة الصغرى في المنزل وتتعب في ترتيب البيت وإعداد الطعام. يعود الأخ ويقول، وهو جالس على كرسيه، آمراً: "أعطيني كباية ماي"! يفتقر هذا النمط من السلوك إلى العدل والمساواة والمشاركة في المسؤولية.

 

٢- سلوكيات في المدرسة

١- تلقين ولا تعبير: أعطت المعلمة التلامذة فرضًا في الإنشاء حول موضوع: صف والدتك. يتعلّم التلميذ أجمل العبارات التي وردت في كتاب للمطالعة، أو المختارات التي تمّتَ دراستها في الصف ويحصل على علامة جيدة. وكيف ذلك؟ الأم التي يصفها لا تنطبق صورتها على صورة أمه. يستحق التلميذ بالأحرى علامة متدنية لأنه لا يصف فعلاً والدته إنما صورة الأم الموجودة في الكتاب!

تخبر والدة، أستاذة في علم النفس، إنه طُلب من ابنها في المدرسة كتابة إنشاء حول موضوع: ماذا تفعل والدتك صباحًا؟ بعد أيام قرأت الوالدة إنشاء ابنها حيث يصف والدة تستيقظ باكرًا وتعدّ الحليب والفطور لزوجها وأولادها، فقالت له مستغربة: ولكني أنا لا أفعل ذلك! أجابها الابن: "هيك لازم نكتب"! ما يعني أنه لا يتوجب عليه التعبير عن الواقع بل سرد المفردات والأفكار السائدة كي يستحق التقدير ويحصل على علامة جيدة.

بين العتمة والضوء. أي مستقبل ينتظره

٢- لا تساؤل: لماذا صعد الولد إلى الجبل؟ إلى أي مدى المدرسة هي مجال للتفكير والتساؤل والقول لا ولماذا؟ ينقل عن منح الصلح قوله إن الأزمة مع بعض المثقفين "اللغويين" أنهم يقومون بتصريف جيد للجملة: صعد الولد إلى الجبل. لا بأس بالتصريف، لكن المشكلة هي الآتية وننساها: ماذا صعد يفعل في الجبل!

٣-  اتكالية ولا مبادرة: عاد طفل أميركي من المدرسة باكيًا لأن رفيقه في الصف أخذ منه الطابة فاستعجلته أمه قائلة: "كف عن البكاء. إذا وصل والدك وعرف السبب، سيوبِّخك. غدًا حاول أن تعالج القضية مع رفيقك وأن تسترجع الطابة". إذا حصل ذات الحدث مع أم عربية، تثور العائلة بكاملها ضد المدرسة والناظر والإدارة ويذهب الأب والأم في اليوم التالي ليشتكيا ويدافعا عن ولدهما. الاتكالية هي السائدة.

 

٣- سلوكيات في الحياة العامة

١- حضارة الزجل أو الجواب على القافية: يقتضي الخوف من الخطاب الذي هو فصيح وبليغ ولكنه لا يصف الأشياء على حقيقتها. يقتضي التخلص من حضارة الزجل  (وهو غير الزجل الشعري)، هذه المنافسة في الشعر العامي التي تفرض على الشاعر الإجابة عفويًّا وشعريًّا عن القافية التي وضعها الفريق الآخر. إنه تمرين يفرض المهارة ويثير التصفيق والشعور بالابتهاج. هذه الطريقة الزجلية تستعمل في المجالات الأخرى. كلما أجبنا بطريقة لبقة أو ألقينا خطابًا، يخيل الينا أننا حللنا المشكلة، ونصدق كلامنا ونقف عنده من دون ترجمة القول بالفعل. والمؤسف أننا نصدق أننا بجوابنا البليغ وصلنا إلى الهدف.

٢-  التكاذب وعدم المصارحة وعدم المكاشفة والمجاملة في أمور أساسية: عُرضت في القاهرة مسرحية كتبها لينين الرملي بعنوان: "بالعربي الفصيح". موضوع المسرحية الانفصام بين الخطاب العربي والممارسة، ليس في السياسة فقط بل في مختلف شؤون الحياة اليومية، ما ينعكس سلبًا على الحياة العامة. موضوع المسرحية: ٢٢ شابًا وشابة من مختلف الجنسيات العربية يتابعون دراستهم الجامعية في لندن. إنهم يعانون من سوء الصورة العربية لدى البريطانيين والغرب عامة وفي مختلف وسائل الإعلام. وهم يريدون تحسين الصورة، مجرد الصورة، وهم يمضون أوقاتهم في العلب الليلية. يقع هؤلاء الطلاب العرب، بل يوقعون أنفسهم، في سلسلة مشاكل مع السلطات البريطانية لأنهم يتمرجلون في خطاباتهم فيؤخذ كلامهم على غير واقعه. ويقعون كذلك في مشاكل لا تحصى مع ذويهم، وخطيباتهم في البلاد العربية، وزملائهم العرب في الدراسة، كل ذلك بسبب عدم المكاشفة وعدم المصارحة والتهرب من الواقع، ومقاربة المشاكل بالخطب الرنانة، من دون مواجهة الذات والآخر. وإذا اتفقوا على عقد اجتماع قمة لمعالجة مشكلة، فإنهم يختلفون في ما بينهم حول جدول الأعمال ومن يرأس الجلسة، ويتحول الاجتماع إلى مزايدات خطابية وتخوين متبادل، وينتهي اللقاء ببيان كله بلاغة كلامية لمجرد إعطاء صورة عن الاجتماع تتناقض تمامًا مع ما حصل خلاله. المسرحية مليئة بالمفاجآت والمصائب والمشاكل مع السلطات البريطانية كما بين الطلاب أنفسهم، بسبب التكاذب والتذاكي والمسايرة والبطولات الخطابية. ويشعر هؤلاء الطلاب في النهاية انهم يتكاذبون ويتذاكون ولا يتصارحون ولا يتكاشفون، ما يورطهم في مشاكل مع ذويهم وعائلاتهم وقضاياهم القومية والاجتماعية والعائلية. تنتهي المسرحية بتكرار عبارة "لدينا مشكلة"، "لدينا مشكلة"! لكن الإقرار بوجود مشكلة لا يؤدي إلى الاعتراف بالخطأ ومجابهة الذات والواقع، بل يتحول إلى شعار جديد يتكرر كأسطوانة معطلة. يوفر هذا الشعار لأبطال المسرحية الشعور بالاكتفاء الذاتي، من جراء النغمة الكلامية التي تتردد كأنشودة، ويسدل الستار عن آخر فصل من المسرحية المضحكة والمأساوية في آن (١).

كيف يمكن احتواء النزاعات وحلّ المشاكل من دون التعبير الواضح عنها بلا خوف ولا تخوين؟ كلامنا في موضوع سياسي له خمسة أوجه تختلف باختلاف المحاور:

  • الكلام للكلام، وذلك لإثبات الموقف وإثبات الوجود من دون أن يؤدي ذلك إلى عمل معين.
  • الكلام الذي يقوله اللبناني لمن هو من دينه.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله اللبناني لمن ليس من دينه.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله للأجنبي.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله للعربي.

هذه الخماسية في الكلام - وهي أكثر وأبعد من الثنائية  - تولد لبسًا يشكل عنصر صراع وتصعيد ونزاعات، بينما تفترض حالات السلم والحرب مواقف  صريحة.

في حياتنا الاجتماعية، تقال الحقيقة غالبًا في الكواليس وقاعات الانتظار وليس في اجتماعات رسمية حيث يظهر الجميع خلال الاجتماع إعجابهم بالنظام والعمل والدرس وعلاقاتهم مع الإدارة! داخل الاجتماع العام الأمور كلها على ما يرام! لا تعرف حقيقة ما يجري إلا خارج قاعدة الاجتماع. ما لا يقال، لياقة ومسايرة في الحياة العائلية والمدرسية والحياة الاجتماعية، هو الأهم والجوهر، ويتراكم مع الوقت ثم ينفجر فجأة. ويستغرب الجميع الانفجار الذي لم يعد مكبوتًا.

أرادت مديرة مدرسة أن تعالج مشكلة الكذب المتستر بالمسايرة فطلبت من التلامذة ومن الأهل أن يعبروا خطيًا عمّا يزعجهم. أجابوا بصراحة. يوجد وسيلة لتقول ما تفكر به، باحترام وصدق ومن دون تجريح لحلّ المشاكل بجدية.

٣- الانفعالية وردّة الفعل وعدم التخطيط: تتحكم في النفسية اللبنانية عوامل متعددة أهمها الانفعالية. ارتكزت الاستراتيجية خلال سبعة وخمسين وقفًا لاطلاق النار في حرب السنتين (١٩٧٥ – ١٩٧٦) على تسلسل الانفعالات وردات الفعل التي يمكن عرضها بشكل رسم بياني يمثل استراتيجية ردة الفعل أو الدورة العادية للجولة العنفية خلال حرب السنتين وسبعة وخمسين وقف إطلاق نار (رسم ١).

رسم 1 - استراتيجية العنف في حرب السنتين: 57 جولة عنف و57 قرقر إطلاق النار 1975 - 1976

بعض ما نشكو منه على صعيد الأمن القومي له جذوره في البنيات الذهنية. إن أحداث الشوف في ٨ أيار ١٩٩٣ وأحداث أخرى، وبخاصة تظاهرة الأحد الأسود في  ٥ /٢ /٢٠٠٦ ، وُضِعَ حدّ لها بفضل التدخل الصارم من قيادات سياسية ودينية وقبل أن تتفاعل بمداخلات خارجية. تظهر هذه الأحداث أن البنيات الذهنية (الانفعالية، الانجراف بالإشاعات...) بحاجة إلى معالجة لأن هذه السلوكيات تهدد الأمن والاستقلال.

كيف نتخطى الانفعالية والارتجال ونلج إلى التخطيط؟ إن الشطارة تعدّاها الزمن. في لبنان كما في المنطقة أصبح التنافس حادًا وسيزداد حدة في إطار السلام في المنطقة. يرتكز التنافس اليوم على النوعية لأن الناس أصبحت مدركة لمصالحها.

٤- الارتجال: يذهلك في العديد من الإدارات العامة مشاريع رائدة وتصاميم موضوعة بأشكال جميلة ومعلقة على الجدران. إذا سألت عن تنفيذ هذه المشاريع ينظر إليك باحتقار وكأنك لا تتذوق الفن والزخرفة والتخطيط الحديث. توفر الخطب والتصاميم اكتفاء ذاتيًا يغني عن المتابعة والتنفيذ.

٥– "المعليش" أو عدم إدراك المصلحة العامة: نتمتع كلبنانيين، وكعرب عامة، بميزات معروفة ومهمة، أبرزها الانفتاح والتكيّف بسهولة. والتجارب العديدة التي مررنا بها جعلت منا شعبًا ناضجًا في العديد من القضايا. لكن بعض تصرفاتنا، ومنها الشطارة والمسايرة "والتظبيطات" والخطابات الرنانة، باتت غير ناجعة في عالم تنافسي أكثر فأكثر وفي مرحلة إعادة البناء. تتطلب هذه المرحلة التخطيط والإدراك الشامل للمصلحة العامة والتنفيذ.

في مسرحية "السلم"، يصف الكاتب الشاب يوسف سعد، الذي صرعه الموت في ٢٥ نيسان ١٩٩٠ في مكتبه في "قرى الأطفال" في سن الفيل، الصور المشوّهة عن الآخر وبعض السلوكيات (٢). تجربتنا الغنية والمؤلمة هي وحدها التي تسمح لنا من خلال حالات معيشة باستخلاص العبر. ولكن بدلاً من ذلك يبدو أننا مستمرون في اعتماد سلوك "المعليش"، ''وبيناتنا"، "والشطارة"، "ومشّيها"، "والمسايرة". ونحن مستمرون في ممارسة التذاكي، أي الاعتقاد بأن أرباب الطائفة الأخرى أقل ذكاء في إدراك اللعبة التي نمارسها، وفي تبرير الذات استنادًا إلى ما نسميه الواقع والظروف. اضمحلت الشجاعة في الحياة العامة نتيجة المساومة والمسايرة. لم نفقد الشجاعة في التكيّف مع كل الأوضاع، بل فقدنا الشجاعة في التقرير، في المغادرة أو في البقاء، وفي تحمل المسؤولية، بدلاً من تمييعها في مشاركة مشبوهة أو وفاق يقتصر على أعلى القمة ويتستر خلف الحجج القانونية.

هل ندرك أن الثرثرة "ولتلتة" الجيران قد تزعزع استقرار عائلة وأن الاستخفاف بالمواعيد يسبب اضطرابًا في الحياة المدرسية والجامعية؟ يمكن إنقاذ حياة بشرية بفضل إحساس أعمق بالواجب وضمير مهني أشد عزيمة. قد تؤدي "المعليش" إلى اللامسؤولية وإلى مأساة وطنية.

٦– "بتعرف مين أنا"؟ في مجال إدراك المساواة نسمع بعض الأحيان العبارة الآتية: "بتعرف مين أنا" أو "بتعرف مع مين عم تحكي". إنه الدلالة على التعالي والطبقية والعلاقات الاجتماعية القائمة على المحسوبية واستغلال النفوذ لا على المساواة في الحقوق والواجبات.

لبنان بلد صغير حيث الناس تعرف بعضها بعضًا. إذا كنت قاضيًا فالمتقاضون هم من الأصدقاء أو الجيران أو أصدقاء الأصدقاء أو أصدقاء الجيران. كيف يمكن للإنسان الحريص على مبادئه في بلد صغير كلبنان، حيث الناس تعرف بعضها بعضًا، أن يحافظ على علاقاته الاجتماعية وعلى حرارتها في إطار تطبيق القاعدة والقانون؟ يبدو لمن يعيش هذه المأساة أن السؤال هو من نوع الأحجية. إنها معضلة رجل السياسة اللبناني الذي يتمتع بصفات رجل الدولة، والقاضي، والموظف، ومدير المؤسسة أو المدرسة أو المعهد، أو مدير عقار في ملكية مشتركة، أو رب عائلة في العائلة اللبنانية الممتدة.

ما العمل؟ إذا انتقلنا من المسايرة المشبوهة إلى القاعدة المدروسة والعادلة في علاقاتنا وعلى كل المستويات فإننا نحافظ على حرارة علاقاتنا الإنسانية وشفافيتها وينحسر التداخل الوخيم العواقب بين مصالحنا الفردية الضيقة والشأن العام. القاعدة تنظم الحياة العامة وتحمي العلاقات الخاصة.

يمكن معالجة العديد من المشاكل والحفاظ على حرارة علاقاتنا إذا أصبح بالإمكان القول لجمهور أصدقائنا، ومعارفنا، ومعارف معارفنا، وجيراننا وجيران جيراننا، وأقاربنا، والمقربين إلينا، عندما يطلبون ويُطالبون بمساومة مشبوهة: ماذا يقول الكتاب؟، وذلك على نمط الرئيس فؤاد شهاب وهو يعني بالكتاب الدستور والنظام العام.

__________________________

١ - لينين الرملي، بالعربي الفصيح، القاهرة، المركز المصري العربي، ١٩٩٢، ١٧٦ ص.

٢ - يوسف سعد، المسرحيات (اشرف على نشرها ليلى سلوم سعد وانطوان مسرّه وافلين مسرّه)، جزءان وجزء ٣ قيد الاعداد، بيروت، المكتبة الشرقية، ١٩٩٢ و ١٩٩٨

 

كيف تكون التربية عامل تغيير؟

كيف تكون التربية عامل تغيير؟

سلوكيّات في الحياة اليومية والمدرسية

د. انطوان نصري مسرّه استاذ جامعي ناشط في الشأن العام

هل العلاقات في البنيات التحتية في المجتمع، أي في العائلة والمدرسة والحي وبين الرفاق، مبنية على قوّة ونفوذ وموقع أم على قواعد ناظمة (norme)؟ يبدو أن كل شيء في لبنان أصبح قابلاً للتفاوض والمناورة والشطارة وتحزيب فريق على آخر. لسنا جينيًا كذلك، بل في بلدان أخرى تمّ الاهتمام بالتربية على القاعدة الحقوقية، أي على القواعد الناظمة للمجتمع، بعد مرحلة التحرر الوطني. أما في المجتمعات العربية فتلت عهود ما سميّ التحرر عهود من الاستبداد وحروب وأزمات مستعصية. وقد كان هدف "خطة النهوض التربوي" التي أعدّها المركز التربوي للبحوث والانماء، خصوصاً برامج "التربية الوطنية والتنشئة المدنية"، إجراء تحوّل في السلوك من خلال التربية.

 

التغيير في السلوكيات عملية تربوية بالمعنى الواسع وهي تشمل العائلة والبيئة ومؤسسات التعليم، الهيئات الرسمية بما تنقله من نماذج سلوكية، وكذلك وسائل الإعلام.

إن الجمعيات الشبابية والاجتماعية والثقافية، والمؤسسات التربوية، الرسمية والخاصة، قادرة على التغيير في التربية المعيشة. يتوجه الكثيرون إلى الدولة للشكوى أو النقد أو المطالبة. الكل يهرب إلى خارج سربه، بينما المطلوب من كل واحد أن يعمل أولاً حيث هو، فيثير القناعة والقدوة والاقتداء ومن ثم التعميم. يقول الفيلسوف الألماني نيتشه :(Nietsche)  حيث أنت إنقب بعمق".

نشاهد الحادثة الآتية في عائلة لبنانية: أنبّتَ الجدّة الولد البالغ عشر سنوات من العمر وضربته لأنه أساء التصرف. فجاء الطفل إلى والده ليشكو جدته. أنّبَه الأب أيضًا وضربه. عاد الطفل إلى جدته  مستاءً وبصق أمامها. احتضنته الجدة لتحميه وأخذت تلاطفه. توجهت حينئذ الوالدة إلى طفلها قائلة: هكذا تتصرف مع جدتك التي قدمت لك حذاءً جديدًا! أجاب الطفل بشراسة: لا، ليست جدتي التي أهدتني الحذاء!

يظهر من هذه الحادثة التي نشاهد مثيلها مرارًا، أن العلاقة فيها تقوم على الشطارة، والتفاوض في كل الأمور من دون استثناء، وعدم احترام الآخر، وتحزيب فريق على آخر واستجداء عطف فريق ضد فريق.

النظام التربوي بين التقييد والانفتاح

يتمتع اللبناني بالعديد من الصفات: القدرة على التكيّف، الانفتاح على العالم، الخبرة التاريخية الطويلة، التعلق بالحريات... لكن بعض السلوكيات السائدة لها نتائج سلبية على الحياة الفردية والعامة. كل ما نشكو منه على مستوى النظام السياسي في ما يتعلق خصوصاً بالسلطة والإدارة والشأن العام له جذوره في البنيات الذهنية. فهل تحدث المعاناة المشتركة طيلة أكثر من ربع قرن صدمة نفسية تؤثر على سلوكيات المواطنين؟

غياب القيم مشكلة تصادفنا في حياتنا اليومية وتعني المجتمع بكامله: الآباء والأمهات والمعلمين والأساتذة والمسؤولين والأطفال والشباب والتلامذة والطلاب، وكذلك المؤسسات السياسية والإدارات العامة وجمعيات المجتمع المدني.

 

١- سلوكيات في العائلة

١- "واحد بشدّ والتاني بيرخي" أو علاقة الشطارة حيث كل شيء قابل للتفاوض: إنه مبدأ سائد في البيت. عندما يؤنّب الأب أحد أولاده ويهدّده، تسرع الأم لتدافع والعكس بالعكس. وبالتالي ينظر الولد إلى السلطة وقواعدها وكأنها لعبة مناورة وتوازن قوى حيث الحق لصالح من يجيد اللعبة. ويفجر الولد للحصول على ما يبتغيه فتسارع والدته إلى تلبية طلباته. من "ينرفز" و"يفجر" و"يتمرجل" يحصل على مبتغاه في حين أن من يمارس العقلانية وضبط النفس تكون حقوقه مهدورة.

٢- التهديد من دون تنفيذ: "بكسر إيدك" تتوجه الأم يوميًا إلى طفلها بوابل من الوعيد والتهديد من دون أن تنفذ بندًا واحدًا من أقوالها! مجرد القول: "بِكسر إيدك''، فيه من التضخيم ما يجعله مستحيل التنفيذ.

٣- ضياع المسؤولية: "أشكيك عند البابا": تقول الأم لابنها أشكيك عند "البابا". فهل هي شاهدة  غريبة عن البيت ومجردة من الصلاحيات وكيف يمكن للأب أن يقاصص ببرودة أعصاب ومن دون أن يكون شاهدًا على سياق ما جرى؟

٤- الكل يتدخل في كل شيء: عندما تكون العائلة في صالون المنزل ويسدي الأب أو الأم الرأي إلى الابنة أو الابن تتدخل العمة والعم والخالة والصديق والجارة وغالبًا كل الحاضرين، وتتحول الملاحظة إلى سجال عام. ما شأن الأقرباء والجيران في صلاحية الوالد أو الوالدة وفي العلاقات بين الآباء وأبنائهم؟ كل واحد يتدخل في كل شيء ويتحول كل موضوع إلى حوار سائب من دون تمايز في الوظائف أو الضوابط، وذلك على النمط الذي عشناه طيلة سنوات الحروب في لبنان وأسميناه حواراً. التمييز بين الأدوار واحترام الصلاحيات وقواعد اتخاذ القرارات وتنفيذها هي من الأمور التي لم نتربّ عليها.

صور متعددة وأرزة واحدة

٥- الحصول على المبتغى بواسطة الملاحقة أو "النقّ": الطفل الذي ترفض له والدته مطلبًا يعتمد المثابرة في "النق"، اليوم وغدًا، وبعد أيام، وبعد أسبوع، وحتى طيلة شهر وربما أشهر... إلى أن تستسلم الوالدة مرهقة ومنهارة الأعصاب. يمتد هذا السلوك إلى الحياة الاجتماعية. إذا وضع أحدهم سيارته في التصليح في أحد الكاراجات ووُعد بإنجازها في الساعة الرابعة بعد الظهر يتصل بصاحب الكاراج في العاشرة صباحًا، ويمر عليه ظهراً ويطرح عليه سؤالاً بواسطة أحد الأقارب حول مجرى العمل، ويعود إلى الملاحقة في الثانية بعد الظهر، إلى أن ينتهي العمل ويتأكد من ذلك. هذا النوع من الملاحقة "بالنق" يرسي علاقات بين الناس قائمة على توازن قوى حيث النَعَم ليست نَعَم، واللا ليست لا. يمكن تاليًا الحصول على كل شيء بالقوة والنفوذ، وفي حالة الضعف بإرهاق الآخر نفسيًا تحت ستار الاستجداء وإثارة العطف والشفقة. المثابرة في الملاحقة، بهدف إرهاق الآخر، هي نقد لمفهوم المعايير والمبادئ والحقوق.

٦- "الماركانتيلية" أو لكل سلوك سعر: وهناك "الماركانتيلية" في العلاقات العائلية: إذا كتبت فرضك تستحق خرجية، وإذا كنت عاقلاً تذهب في نزهة. يتلاشى من جراء هذه السلوكيات مفهوم الواجبات والحقوق لصالح المنفعة الشخصية المباشرة والملموسة.

٧- الظلم: "جيبيلي كباية ماي"! العلاقات العائلية تقوم على المحبة والتضامن والمشاركة. يخرج الأخ ليلعب خارج المنزل، بينما تبقى الشقيقة الصغرى في المنزل وتتعب في ترتيب البيت وإعداد الطعام. يعود الأخ ويقول، وهو جالس على كرسيه، آمراً: "أعطيني كباية ماي"! يفتقر هذا النمط من السلوك إلى العدل والمساواة والمشاركة في المسؤولية.

 

٢- سلوكيات في المدرسة

١- تلقين ولا تعبير: أعطت المعلمة التلامذة فرضًا في الإنشاء حول موضوع: صف والدتك. يتعلّم التلميذ أجمل العبارات التي وردت في كتاب للمطالعة، أو المختارات التي تمّتَ دراستها في الصف ويحصل على علامة جيدة. وكيف ذلك؟ الأم التي يصفها لا تنطبق صورتها على صورة أمه. يستحق التلميذ بالأحرى علامة متدنية لأنه لا يصف فعلاً والدته إنما صورة الأم الموجودة في الكتاب!

تخبر والدة، أستاذة في علم النفس، إنه طُلب من ابنها في المدرسة كتابة إنشاء حول موضوع: ماذا تفعل والدتك صباحًا؟ بعد أيام قرأت الوالدة إنشاء ابنها حيث يصف والدة تستيقظ باكرًا وتعدّ الحليب والفطور لزوجها وأولادها، فقالت له مستغربة: ولكني أنا لا أفعل ذلك! أجابها الابن: "هيك لازم نكتب"! ما يعني أنه لا يتوجب عليه التعبير عن الواقع بل سرد المفردات والأفكار السائدة كي يستحق التقدير ويحصل على علامة جيدة.

بين العتمة والضوء. أي مستقبل ينتظره

٢- لا تساؤل: لماذا صعد الولد إلى الجبل؟ إلى أي مدى المدرسة هي مجال للتفكير والتساؤل والقول لا ولماذا؟ ينقل عن منح الصلح قوله إن الأزمة مع بعض المثقفين "اللغويين" أنهم يقومون بتصريف جيد للجملة: صعد الولد إلى الجبل. لا بأس بالتصريف، لكن المشكلة هي الآتية وننساها: ماذا صعد يفعل في الجبل!

٣-  اتكالية ولا مبادرة: عاد طفل أميركي من المدرسة باكيًا لأن رفيقه في الصف أخذ منه الطابة فاستعجلته أمه قائلة: "كف عن البكاء. إذا وصل والدك وعرف السبب، سيوبِّخك. غدًا حاول أن تعالج القضية مع رفيقك وأن تسترجع الطابة". إذا حصل ذات الحدث مع أم عربية، تثور العائلة بكاملها ضد المدرسة والناظر والإدارة ويذهب الأب والأم في اليوم التالي ليشتكيا ويدافعا عن ولدهما. الاتكالية هي السائدة.

 

٣- سلوكيات في الحياة العامة

١- حضارة الزجل أو الجواب على القافية: يقتضي الخوف من الخطاب الذي هو فصيح وبليغ ولكنه لا يصف الأشياء على حقيقتها. يقتضي التخلص من حضارة الزجل  (وهو غير الزجل الشعري)، هذه المنافسة في الشعر العامي التي تفرض على الشاعر الإجابة عفويًّا وشعريًّا عن القافية التي وضعها الفريق الآخر. إنه تمرين يفرض المهارة ويثير التصفيق والشعور بالابتهاج. هذه الطريقة الزجلية تستعمل في المجالات الأخرى. كلما أجبنا بطريقة لبقة أو ألقينا خطابًا، يخيل الينا أننا حللنا المشكلة، ونصدق كلامنا ونقف عنده من دون ترجمة القول بالفعل. والمؤسف أننا نصدق أننا بجوابنا البليغ وصلنا إلى الهدف.

٢-  التكاذب وعدم المصارحة وعدم المكاشفة والمجاملة في أمور أساسية: عُرضت في القاهرة مسرحية كتبها لينين الرملي بعنوان: "بالعربي الفصيح". موضوع المسرحية الانفصام بين الخطاب العربي والممارسة، ليس في السياسة فقط بل في مختلف شؤون الحياة اليومية، ما ينعكس سلبًا على الحياة العامة. موضوع المسرحية: ٢٢ شابًا وشابة من مختلف الجنسيات العربية يتابعون دراستهم الجامعية في لندن. إنهم يعانون من سوء الصورة العربية لدى البريطانيين والغرب عامة وفي مختلف وسائل الإعلام. وهم يريدون تحسين الصورة، مجرد الصورة، وهم يمضون أوقاتهم في العلب الليلية. يقع هؤلاء الطلاب العرب، بل يوقعون أنفسهم، في سلسلة مشاكل مع السلطات البريطانية لأنهم يتمرجلون في خطاباتهم فيؤخذ كلامهم على غير واقعه. ويقعون كذلك في مشاكل لا تحصى مع ذويهم، وخطيباتهم في البلاد العربية، وزملائهم العرب في الدراسة، كل ذلك بسبب عدم المكاشفة وعدم المصارحة والتهرب من الواقع، ومقاربة المشاكل بالخطب الرنانة، من دون مواجهة الذات والآخر. وإذا اتفقوا على عقد اجتماع قمة لمعالجة مشكلة، فإنهم يختلفون في ما بينهم حول جدول الأعمال ومن يرأس الجلسة، ويتحول الاجتماع إلى مزايدات خطابية وتخوين متبادل، وينتهي اللقاء ببيان كله بلاغة كلامية لمجرد إعطاء صورة عن الاجتماع تتناقض تمامًا مع ما حصل خلاله. المسرحية مليئة بالمفاجآت والمصائب والمشاكل مع السلطات البريطانية كما بين الطلاب أنفسهم، بسبب التكاذب والتذاكي والمسايرة والبطولات الخطابية. ويشعر هؤلاء الطلاب في النهاية انهم يتكاذبون ويتذاكون ولا يتصارحون ولا يتكاشفون، ما يورطهم في مشاكل مع ذويهم وعائلاتهم وقضاياهم القومية والاجتماعية والعائلية. تنتهي المسرحية بتكرار عبارة "لدينا مشكلة"، "لدينا مشكلة"! لكن الإقرار بوجود مشكلة لا يؤدي إلى الاعتراف بالخطأ ومجابهة الذات والواقع، بل يتحول إلى شعار جديد يتكرر كأسطوانة معطلة. يوفر هذا الشعار لأبطال المسرحية الشعور بالاكتفاء الذاتي، من جراء النغمة الكلامية التي تتردد كأنشودة، ويسدل الستار عن آخر فصل من المسرحية المضحكة والمأساوية في آن (١).

كيف يمكن احتواء النزاعات وحلّ المشاكل من دون التعبير الواضح عنها بلا خوف ولا تخوين؟ كلامنا في موضوع سياسي له خمسة أوجه تختلف باختلاف المحاور:

  • الكلام للكلام، وذلك لإثبات الموقف وإثبات الوجود من دون أن يؤدي ذلك إلى عمل معين.
  • الكلام الذي يقوله اللبناني لمن هو من دينه.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله اللبناني لمن ليس من دينه.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله للأجنبي.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله للعربي.

هذه الخماسية في الكلام - وهي أكثر وأبعد من الثنائية  - تولد لبسًا يشكل عنصر صراع وتصعيد ونزاعات، بينما تفترض حالات السلم والحرب مواقف  صريحة.

في حياتنا الاجتماعية، تقال الحقيقة غالبًا في الكواليس وقاعات الانتظار وليس في اجتماعات رسمية حيث يظهر الجميع خلال الاجتماع إعجابهم بالنظام والعمل والدرس وعلاقاتهم مع الإدارة! داخل الاجتماع العام الأمور كلها على ما يرام! لا تعرف حقيقة ما يجري إلا خارج قاعدة الاجتماع. ما لا يقال، لياقة ومسايرة في الحياة العائلية والمدرسية والحياة الاجتماعية، هو الأهم والجوهر، ويتراكم مع الوقت ثم ينفجر فجأة. ويستغرب الجميع الانفجار الذي لم يعد مكبوتًا.

أرادت مديرة مدرسة أن تعالج مشكلة الكذب المتستر بالمسايرة فطلبت من التلامذة ومن الأهل أن يعبروا خطيًا عمّا يزعجهم. أجابوا بصراحة. يوجد وسيلة لتقول ما تفكر به، باحترام وصدق ومن دون تجريح لحلّ المشاكل بجدية.

٣- الانفعالية وردّة الفعل وعدم التخطيط: تتحكم في النفسية اللبنانية عوامل متعددة أهمها الانفعالية. ارتكزت الاستراتيجية خلال سبعة وخمسين وقفًا لاطلاق النار في حرب السنتين (١٩٧٥ – ١٩٧٦) على تسلسل الانفعالات وردات الفعل التي يمكن عرضها بشكل رسم بياني يمثل استراتيجية ردة الفعل أو الدورة العادية للجولة العنفية خلال حرب السنتين وسبعة وخمسين وقف إطلاق نار (رسم ١).

رسم 1 - استراتيجية العنف في حرب السنتين: 57 جولة عنف و57 قرقر إطلاق النار 1975 - 1976

بعض ما نشكو منه على صعيد الأمن القومي له جذوره في البنيات الذهنية. إن أحداث الشوف في ٨ أيار ١٩٩٣ وأحداث أخرى، وبخاصة تظاهرة الأحد الأسود في  ٥ /٢ /٢٠٠٦ ، وُضِعَ حدّ لها بفضل التدخل الصارم من قيادات سياسية ودينية وقبل أن تتفاعل بمداخلات خارجية. تظهر هذه الأحداث أن البنيات الذهنية (الانفعالية، الانجراف بالإشاعات...) بحاجة إلى معالجة لأن هذه السلوكيات تهدد الأمن والاستقلال.

كيف نتخطى الانفعالية والارتجال ونلج إلى التخطيط؟ إن الشطارة تعدّاها الزمن. في لبنان كما في المنطقة أصبح التنافس حادًا وسيزداد حدة في إطار السلام في المنطقة. يرتكز التنافس اليوم على النوعية لأن الناس أصبحت مدركة لمصالحها.

٤- الارتجال: يذهلك في العديد من الإدارات العامة مشاريع رائدة وتصاميم موضوعة بأشكال جميلة ومعلقة على الجدران. إذا سألت عن تنفيذ هذه المشاريع ينظر إليك باحتقار وكأنك لا تتذوق الفن والزخرفة والتخطيط الحديث. توفر الخطب والتصاميم اكتفاء ذاتيًا يغني عن المتابعة والتنفيذ.

٥– "المعليش" أو عدم إدراك المصلحة العامة: نتمتع كلبنانيين، وكعرب عامة، بميزات معروفة ومهمة، أبرزها الانفتاح والتكيّف بسهولة. والتجارب العديدة التي مررنا بها جعلت منا شعبًا ناضجًا في العديد من القضايا. لكن بعض تصرفاتنا، ومنها الشطارة والمسايرة "والتظبيطات" والخطابات الرنانة، باتت غير ناجعة في عالم تنافسي أكثر فأكثر وفي مرحلة إعادة البناء. تتطلب هذه المرحلة التخطيط والإدراك الشامل للمصلحة العامة والتنفيذ.

في مسرحية "السلم"، يصف الكاتب الشاب يوسف سعد، الذي صرعه الموت في ٢٥ نيسان ١٩٩٠ في مكتبه في "قرى الأطفال" في سن الفيل، الصور المشوّهة عن الآخر وبعض السلوكيات (٢). تجربتنا الغنية والمؤلمة هي وحدها التي تسمح لنا من خلال حالات معيشة باستخلاص العبر. ولكن بدلاً من ذلك يبدو أننا مستمرون في اعتماد سلوك "المعليش"، ''وبيناتنا"، "والشطارة"، "ومشّيها"، "والمسايرة". ونحن مستمرون في ممارسة التذاكي، أي الاعتقاد بأن أرباب الطائفة الأخرى أقل ذكاء في إدراك اللعبة التي نمارسها، وفي تبرير الذات استنادًا إلى ما نسميه الواقع والظروف. اضمحلت الشجاعة في الحياة العامة نتيجة المساومة والمسايرة. لم نفقد الشجاعة في التكيّف مع كل الأوضاع، بل فقدنا الشجاعة في التقرير، في المغادرة أو في البقاء، وفي تحمل المسؤولية، بدلاً من تمييعها في مشاركة مشبوهة أو وفاق يقتصر على أعلى القمة ويتستر خلف الحجج القانونية.

هل ندرك أن الثرثرة "ولتلتة" الجيران قد تزعزع استقرار عائلة وأن الاستخفاف بالمواعيد يسبب اضطرابًا في الحياة المدرسية والجامعية؟ يمكن إنقاذ حياة بشرية بفضل إحساس أعمق بالواجب وضمير مهني أشد عزيمة. قد تؤدي "المعليش" إلى اللامسؤولية وإلى مأساة وطنية.

٦– "بتعرف مين أنا"؟ في مجال إدراك المساواة نسمع بعض الأحيان العبارة الآتية: "بتعرف مين أنا" أو "بتعرف مع مين عم تحكي". إنه الدلالة على التعالي والطبقية والعلاقات الاجتماعية القائمة على المحسوبية واستغلال النفوذ لا على المساواة في الحقوق والواجبات.

لبنان بلد صغير حيث الناس تعرف بعضها بعضًا. إذا كنت قاضيًا فالمتقاضون هم من الأصدقاء أو الجيران أو أصدقاء الأصدقاء أو أصدقاء الجيران. كيف يمكن للإنسان الحريص على مبادئه في بلد صغير كلبنان، حيث الناس تعرف بعضها بعضًا، أن يحافظ على علاقاته الاجتماعية وعلى حرارتها في إطار تطبيق القاعدة والقانون؟ يبدو لمن يعيش هذه المأساة أن السؤال هو من نوع الأحجية. إنها معضلة رجل السياسة اللبناني الذي يتمتع بصفات رجل الدولة، والقاضي، والموظف، ومدير المؤسسة أو المدرسة أو المعهد، أو مدير عقار في ملكية مشتركة، أو رب عائلة في العائلة اللبنانية الممتدة.

ما العمل؟ إذا انتقلنا من المسايرة المشبوهة إلى القاعدة المدروسة والعادلة في علاقاتنا وعلى كل المستويات فإننا نحافظ على حرارة علاقاتنا الإنسانية وشفافيتها وينحسر التداخل الوخيم العواقب بين مصالحنا الفردية الضيقة والشأن العام. القاعدة تنظم الحياة العامة وتحمي العلاقات الخاصة.

يمكن معالجة العديد من المشاكل والحفاظ على حرارة علاقاتنا إذا أصبح بالإمكان القول لجمهور أصدقائنا، ومعارفنا، ومعارف معارفنا، وجيراننا وجيران جيراننا، وأقاربنا، والمقربين إلينا، عندما يطلبون ويُطالبون بمساومة مشبوهة: ماذا يقول الكتاب؟، وذلك على نمط الرئيس فؤاد شهاب وهو يعني بالكتاب الدستور والنظام العام.

__________________________

١ - لينين الرملي، بالعربي الفصيح، القاهرة، المركز المصري العربي، ١٩٩٢، ١٧٦ ص.

٢ - يوسف سعد، المسرحيات (اشرف على نشرها ليلى سلوم سعد وانطوان مسرّه وافلين مسرّه)، جزءان وجزء ٣ قيد الاعداد، بيروت، المكتبة الشرقية، ١٩٩٢ و ١٩٩٨

 

كيف تكون التربية عامل تغيير؟

كيف تكون التربية عامل تغيير؟

سلوكيّات في الحياة اليومية والمدرسية

د. انطوان نصري مسرّه استاذ جامعي ناشط في الشأن العام

هل العلاقات في البنيات التحتية في المجتمع، أي في العائلة والمدرسة والحي وبين الرفاق، مبنية على قوّة ونفوذ وموقع أم على قواعد ناظمة (norme)؟ يبدو أن كل شيء في لبنان أصبح قابلاً للتفاوض والمناورة والشطارة وتحزيب فريق على آخر. لسنا جينيًا كذلك، بل في بلدان أخرى تمّ الاهتمام بالتربية على القاعدة الحقوقية، أي على القواعد الناظمة للمجتمع، بعد مرحلة التحرر الوطني. أما في المجتمعات العربية فتلت عهود ما سميّ التحرر عهود من الاستبداد وحروب وأزمات مستعصية. وقد كان هدف "خطة النهوض التربوي" التي أعدّها المركز التربوي للبحوث والانماء، خصوصاً برامج "التربية الوطنية والتنشئة المدنية"، إجراء تحوّل في السلوك من خلال التربية.

 

التغيير في السلوكيات عملية تربوية بالمعنى الواسع وهي تشمل العائلة والبيئة ومؤسسات التعليم، الهيئات الرسمية بما تنقله من نماذج سلوكية، وكذلك وسائل الإعلام.

إن الجمعيات الشبابية والاجتماعية والثقافية، والمؤسسات التربوية، الرسمية والخاصة، قادرة على التغيير في التربية المعيشة. يتوجه الكثيرون إلى الدولة للشكوى أو النقد أو المطالبة. الكل يهرب إلى خارج سربه، بينما المطلوب من كل واحد أن يعمل أولاً حيث هو، فيثير القناعة والقدوة والاقتداء ومن ثم التعميم. يقول الفيلسوف الألماني نيتشه :(Nietsche)  حيث أنت إنقب بعمق".

نشاهد الحادثة الآتية في عائلة لبنانية: أنبّتَ الجدّة الولد البالغ عشر سنوات من العمر وضربته لأنه أساء التصرف. فجاء الطفل إلى والده ليشكو جدته. أنّبَه الأب أيضًا وضربه. عاد الطفل إلى جدته  مستاءً وبصق أمامها. احتضنته الجدة لتحميه وأخذت تلاطفه. توجهت حينئذ الوالدة إلى طفلها قائلة: هكذا تتصرف مع جدتك التي قدمت لك حذاءً جديدًا! أجاب الطفل بشراسة: لا، ليست جدتي التي أهدتني الحذاء!

يظهر من هذه الحادثة التي نشاهد مثيلها مرارًا، أن العلاقة فيها تقوم على الشطارة، والتفاوض في كل الأمور من دون استثناء، وعدم احترام الآخر، وتحزيب فريق على آخر واستجداء عطف فريق ضد فريق.

النظام التربوي بين التقييد والانفتاح

يتمتع اللبناني بالعديد من الصفات: القدرة على التكيّف، الانفتاح على العالم، الخبرة التاريخية الطويلة، التعلق بالحريات... لكن بعض السلوكيات السائدة لها نتائج سلبية على الحياة الفردية والعامة. كل ما نشكو منه على مستوى النظام السياسي في ما يتعلق خصوصاً بالسلطة والإدارة والشأن العام له جذوره في البنيات الذهنية. فهل تحدث المعاناة المشتركة طيلة أكثر من ربع قرن صدمة نفسية تؤثر على سلوكيات المواطنين؟

غياب القيم مشكلة تصادفنا في حياتنا اليومية وتعني المجتمع بكامله: الآباء والأمهات والمعلمين والأساتذة والمسؤولين والأطفال والشباب والتلامذة والطلاب، وكذلك المؤسسات السياسية والإدارات العامة وجمعيات المجتمع المدني.

 

١- سلوكيات في العائلة

١- "واحد بشدّ والتاني بيرخي" أو علاقة الشطارة حيث كل شيء قابل للتفاوض: إنه مبدأ سائد في البيت. عندما يؤنّب الأب أحد أولاده ويهدّده، تسرع الأم لتدافع والعكس بالعكس. وبالتالي ينظر الولد إلى السلطة وقواعدها وكأنها لعبة مناورة وتوازن قوى حيث الحق لصالح من يجيد اللعبة. ويفجر الولد للحصول على ما يبتغيه فتسارع والدته إلى تلبية طلباته. من "ينرفز" و"يفجر" و"يتمرجل" يحصل على مبتغاه في حين أن من يمارس العقلانية وضبط النفس تكون حقوقه مهدورة.

٢- التهديد من دون تنفيذ: "بكسر إيدك" تتوجه الأم يوميًا إلى طفلها بوابل من الوعيد والتهديد من دون أن تنفذ بندًا واحدًا من أقوالها! مجرد القول: "بِكسر إيدك''، فيه من التضخيم ما يجعله مستحيل التنفيذ.

٣- ضياع المسؤولية: "أشكيك عند البابا": تقول الأم لابنها أشكيك عند "البابا". فهل هي شاهدة  غريبة عن البيت ومجردة من الصلاحيات وكيف يمكن للأب أن يقاصص ببرودة أعصاب ومن دون أن يكون شاهدًا على سياق ما جرى؟

٤- الكل يتدخل في كل شيء: عندما تكون العائلة في صالون المنزل ويسدي الأب أو الأم الرأي إلى الابنة أو الابن تتدخل العمة والعم والخالة والصديق والجارة وغالبًا كل الحاضرين، وتتحول الملاحظة إلى سجال عام. ما شأن الأقرباء والجيران في صلاحية الوالد أو الوالدة وفي العلاقات بين الآباء وأبنائهم؟ كل واحد يتدخل في كل شيء ويتحول كل موضوع إلى حوار سائب من دون تمايز في الوظائف أو الضوابط، وذلك على النمط الذي عشناه طيلة سنوات الحروب في لبنان وأسميناه حواراً. التمييز بين الأدوار واحترام الصلاحيات وقواعد اتخاذ القرارات وتنفيذها هي من الأمور التي لم نتربّ عليها.

صور متعددة وأرزة واحدة

٥- الحصول على المبتغى بواسطة الملاحقة أو "النقّ": الطفل الذي ترفض له والدته مطلبًا يعتمد المثابرة في "النق"، اليوم وغدًا، وبعد أيام، وبعد أسبوع، وحتى طيلة شهر وربما أشهر... إلى أن تستسلم الوالدة مرهقة ومنهارة الأعصاب. يمتد هذا السلوك إلى الحياة الاجتماعية. إذا وضع أحدهم سيارته في التصليح في أحد الكاراجات ووُعد بإنجازها في الساعة الرابعة بعد الظهر يتصل بصاحب الكاراج في العاشرة صباحًا، ويمر عليه ظهراً ويطرح عليه سؤالاً بواسطة أحد الأقارب حول مجرى العمل، ويعود إلى الملاحقة في الثانية بعد الظهر، إلى أن ينتهي العمل ويتأكد من ذلك. هذا النوع من الملاحقة "بالنق" يرسي علاقات بين الناس قائمة على توازن قوى حيث النَعَم ليست نَعَم، واللا ليست لا. يمكن تاليًا الحصول على كل شيء بالقوة والنفوذ، وفي حالة الضعف بإرهاق الآخر نفسيًا تحت ستار الاستجداء وإثارة العطف والشفقة. المثابرة في الملاحقة، بهدف إرهاق الآخر، هي نقد لمفهوم المعايير والمبادئ والحقوق.

٦- "الماركانتيلية" أو لكل سلوك سعر: وهناك "الماركانتيلية" في العلاقات العائلية: إذا كتبت فرضك تستحق خرجية، وإذا كنت عاقلاً تذهب في نزهة. يتلاشى من جراء هذه السلوكيات مفهوم الواجبات والحقوق لصالح المنفعة الشخصية المباشرة والملموسة.

٧- الظلم: "جيبيلي كباية ماي"! العلاقات العائلية تقوم على المحبة والتضامن والمشاركة. يخرج الأخ ليلعب خارج المنزل، بينما تبقى الشقيقة الصغرى في المنزل وتتعب في ترتيب البيت وإعداد الطعام. يعود الأخ ويقول، وهو جالس على كرسيه، آمراً: "أعطيني كباية ماي"! يفتقر هذا النمط من السلوك إلى العدل والمساواة والمشاركة في المسؤولية.

 

٢- سلوكيات في المدرسة

١- تلقين ولا تعبير: أعطت المعلمة التلامذة فرضًا في الإنشاء حول موضوع: صف والدتك. يتعلّم التلميذ أجمل العبارات التي وردت في كتاب للمطالعة، أو المختارات التي تمّتَ دراستها في الصف ويحصل على علامة جيدة. وكيف ذلك؟ الأم التي يصفها لا تنطبق صورتها على صورة أمه. يستحق التلميذ بالأحرى علامة متدنية لأنه لا يصف فعلاً والدته إنما صورة الأم الموجودة في الكتاب!

تخبر والدة، أستاذة في علم النفس، إنه طُلب من ابنها في المدرسة كتابة إنشاء حول موضوع: ماذا تفعل والدتك صباحًا؟ بعد أيام قرأت الوالدة إنشاء ابنها حيث يصف والدة تستيقظ باكرًا وتعدّ الحليب والفطور لزوجها وأولادها، فقالت له مستغربة: ولكني أنا لا أفعل ذلك! أجابها الابن: "هيك لازم نكتب"! ما يعني أنه لا يتوجب عليه التعبير عن الواقع بل سرد المفردات والأفكار السائدة كي يستحق التقدير ويحصل على علامة جيدة.

بين العتمة والضوء. أي مستقبل ينتظره

٢- لا تساؤل: لماذا صعد الولد إلى الجبل؟ إلى أي مدى المدرسة هي مجال للتفكير والتساؤل والقول لا ولماذا؟ ينقل عن منح الصلح قوله إن الأزمة مع بعض المثقفين "اللغويين" أنهم يقومون بتصريف جيد للجملة: صعد الولد إلى الجبل. لا بأس بالتصريف، لكن المشكلة هي الآتية وننساها: ماذا صعد يفعل في الجبل!

٣-  اتكالية ولا مبادرة: عاد طفل أميركي من المدرسة باكيًا لأن رفيقه في الصف أخذ منه الطابة فاستعجلته أمه قائلة: "كف عن البكاء. إذا وصل والدك وعرف السبب، سيوبِّخك. غدًا حاول أن تعالج القضية مع رفيقك وأن تسترجع الطابة". إذا حصل ذات الحدث مع أم عربية، تثور العائلة بكاملها ضد المدرسة والناظر والإدارة ويذهب الأب والأم في اليوم التالي ليشتكيا ويدافعا عن ولدهما. الاتكالية هي السائدة.

 

٣- سلوكيات في الحياة العامة

١- حضارة الزجل أو الجواب على القافية: يقتضي الخوف من الخطاب الذي هو فصيح وبليغ ولكنه لا يصف الأشياء على حقيقتها. يقتضي التخلص من حضارة الزجل  (وهو غير الزجل الشعري)، هذه المنافسة في الشعر العامي التي تفرض على الشاعر الإجابة عفويًّا وشعريًّا عن القافية التي وضعها الفريق الآخر. إنه تمرين يفرض المهارة ويثير التصفيق والشعور بالابتهاج. هذه الطريقة الزجلية تستعمل في المجالات الأخرى. كلما أجبنا بطريقة لبقة أو ألقينا خطابًا، يخيل الينا أننا حللنا المشكلة، ونصدق كلامنا ونقف عنده من دون ترجمة القول بالفعل. والمؤسف أننا نصدق أننا بجوابنا البليغ وصلنا إلى الهدف.

٢-  التكاذب وعدم المصارحة وعدم المكاشفة والمجاملة في أمور أساسية: عُرضت في القاهرة مسرحية كتبها لينين الرملي بعنوان: "بالعربي الفصيح". موضوع المسرحية الانفصام بين الخطاب العربي والممارسة، ليس في السياسة فقط بل في مختلف شؤون الحياة اليومية، ما ينعكس سلبًا على الحياة العامة. موضوع المسرحية: ٢٢ شابًا وشابة من مختلف الجنسيات العربية يتابعون دراستهم الجامعية في لندن. إنهم يعانون من سوء الصورة العربية لدى البريطانيين والغرب عامة وفي مختلف وسائل الإعلام. وهم يريدون تحسين الصورة، مجرد الصورة، وهم يمضون أوقاتهم في العلب الليلية. يقع هؤلاء الطلاب العرب، بل يوقعون أنفسهم، في سلسلة مشاكل مع السلطات البريطانية لأنهم يتمرجلون في خطاباتهم فيؤخذ كلامهم على غير واقعه. ويقعون كذلك في مشاكل لا تحصى مع ذويهم، وخطيباتهم في البلاد العربية، وزملائهم العرب في الدراسة، كل ذلك بسبب عدم المكاشفة وعدم المصارحة والتهرب من الواقع، ومقاربة المشاكل بالخطب الرنانة، من دون مواجهة الذات والآخر. وإذا اتفقوا على عقد اجتماع قمة لمعالجة مشكلة، فإنهم يختلفون في ما بينهم حول جدول الأعمال ومن يرأس الجلسة، ويتحول الاجتماع إلى مزايدات خطابية وتخوين متبادل، وينتهي اللقاء ببيان كله بلاغة كلامية لمجرد إعطاء صورة عن الاجتماع تتناقض تمامًا مع ما حصل خلاله. المسرحية مليئة بالمفاجآت والمصائب والمشاكل مع السلطات البريطانية كما بين الطلاب أنفسهم، بسبب التكاذب والتذاكي والمسايرة والبطولات الخطابية. ويشعر هؤلاء الطلاب في النهاية انهم يتكاذبون ويتذاكون ولا يتصارحون ولا يتكاشفون، ما يورطهم في مشاكل مع ذويهم وعائلاتهم وقضاياهم القومية والاجتماعية والعائلية. تنتهي المسرحية بتكرار عبارة "لدينا مشكلة"، "لدينا مشكلة"! لكن الإقرار بوجود مشكلة لا يؤدي إلى الاعتراف بالخطأ ومجابهة الذات والواقع، بل يتحول إلى شعار جديد يتكرر كأسطوانة معطلة. يوفر هذا الشعار لأبطال المسرحية الشعور بالاكتفاء الذاتي، من جراء النغمة الكلامية التي تتردد كأنشودة، ويسدل الستار عن آخر فصل من المسرحية المضحكة والمأساوية في آن (١).

كيف يمكن احتواء النزاعات وحلّ المشاكل من دون التعبير الواضح عنها بلا خوف ولا تخوين؟ كلامنا في موضوع سياسي له خمسة أوجه تختلف باختلاف المحاور:

  • الكلام للكلام، وذلك لإثبات الموقف وإثبات الوجود من دون أن يؤدي ذلك إلى عمل معين.
  • الكلام الذي يقوله اللبناني لمن هو من دينه.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله اللبناني لمن ليس من دينه.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله للأجنبي.
  • الكلام في الموضوع نفسه الذي يقوله للعربي.

هذه الخماسية في الكلام - وهي أكثر وأبعد من الثنائية  - تولد لبسًا يشكل عنصر صراع وتصعيد ونزاعات، بينما تفترض حالات السلم والحرب مواقف  صريحة.

في حياتنا الاجتماعية، تقال الحقيقة غالبًا في الكواليس وقاعات الانتظار وليس في اجتماعات رسمية حيث يظهر الجميع خلال الاجتماع إعجابهم بالنظام والعمل والدرس وعلاقاتهم مع الإدارة! داخل الاجتماع العام الأمور كلها على ما يرام! لا تعرف حقيقة ما يجري إلا خارج قاعدة الاجتماع. ما لا يقال، لياقة ومسايرة في الحياة العائلية والمدرسية والحياة الاجتماعية، هو الأهم والجوهر، ويتراكم مع الوقت ثم ينفجر فجأة. ويستغرب الجميع الانفجار الذي لم يعد مكبوتًا.

أرادت مديرة مدرسة أن تعالج مشكلة الكذب المتستر بالمسايرة فطلبت من التلامذة ومن الأهل أن يعبروا خطيًا عمّا يزعجهم. أجابوا بصراحة. يوجد وسيلة لتقول ما تفكر به، باحترام وصدق ومن دون تجريح لحلّ المشاكل بجدية.

٣- الانفعالية وردّة الفعل وعدم التخطيط: تتحكم في النفسية اللبنانية عوامل متعددة أهمها الانفعالية. ارتكزت الاستراتيجية خلال سبعة وخمسين وقفًا لاطلاق النار في حرب السنتين (١٩٧٥ – ١٩٧٦) على تسلسل الانفعالات وردات الفعل التي يمكن عرضها بشكل رسم بياني يمثل استراتيجية ردة الفعل أو الدورة العادية للجولة العنفية خلال حرب السنتين وسبعة وخمسين وقف إطلاق نار (رسم ١).

رسم 1 - استراتيجية العنف في حرب السنتين: 57 جولة عنف و57 قرقر إطلاق النار 1975 - 1976

بعض ما نشكو منه على صعيد الأمن القومي له جذوره في البنيات الذهنية. إن أحداث الشوف في ٨ أيار ١٩٩٣ وأحداث أخرى، وبخاصة تظاهرة الأحد الأسود في  ٥ /٢ /٢٠٠٦ ، وُضِعَ حدّ لها بفضل التدخل الصارم من قيادات سياسية ودينية وقبل أن تتفاعل بمداخلات خارجية. تظهر هذه الأحداث أن البنيات الذهنية (الانفعالية، الانجراف بالإشاعات...) بحاجة إلى معالجة لأن هذه السلوكيات تهدد الأمن والاستقلال.

كيف نتخطى الانفعالية والارتجال ونلج إلى التخطيط؟ إن الشطارة تعدّاها الزمن. في لبنان كما في المنطقة أصبح التنافس حادًا وسيزداد حدة في إطار السلام في المنطقة. يرتكز التنافس اليوم على النوعية لأن الناس أصبحت مدركة لمصالحها.

٤- الارتجال: يذهلك في العديد من الإدارات العامة مشاريع رائدة وتصاميم موضوعة بأشكال جميلة ومعلقة على الجدران. إذا سألت عن تنفيذ هذه المشاريع ينظر إليك باحتقار وكأنك لا تتذوق الفن والزخرفة والتخطيط الحديث. توفر الخطب والتصاميم اكتفاء ذاتيًا يغني عن المتابعة والتنفيذ.

٥– "المعليش" أو عدم إدراك المصلحة العامة: نتمتع كلبنانيين، وكعرب عامة، بميزات معروفة ومهمة، أبرزها الانفتاح والتكيّف بسهولة. والتجارب العديدة التي مررنا بها جعلت منا شعبًا ناضجًا في العديد من القضايا. لكن بعض تصرفاتنا، ومنها الشطارة والمسايرة "والتظبيطات" والخطابات الرنانة، باتت غير ناجعة في عالم تنافسي أكثر فأكثر وفي مرحلة إعادة البناء. تتطلب هذه المرحلة التخطيط والإدراك الشامل للمصلحة العامة والتنفيذ.

في مسرحية "السلم"، يصف الكاتب الشاب يوسف سعد، الذي صرعه الموت في ٢٥ نيسان ١٩٩٠ في مكتبه في "قرى الأطفال" في سن الفيل، الصور المشوّهة عن الآخر وبعض السلوكيات (٢). تجربتنا الغنية والمؤلمة هي وحدها التي تسمح لنا من خلال حالات معيشة باستخلاص العبر. ولكن بدلاً من ذلك يبدو أننا مستمرون في اعتماد سلوك "المعليش"، ''وبيناتنا"، "والشطارة"، "ومشّيها"، "والمسايرة". ونحن مستمرون في ممارسة التذاكي، أي الاعتقاد بأن أرباب الطائفة الأخرى أقل ذكاء في إدراك اللعبة التي نمارسها، وفي تبرير الذات استنادًا إلى ما نسميه الواقع والظروف. اضمحلت الشجاعة في الحياة العامة نتيجة المساومة والمسايرة. لم نفقد الشجاعة في التكيّف مع كل الأوضاع، بل فقدنا الشجاعة في التقرير، في المغادرة أو في البقاء، وفي تحمل المسؤولية، بدلاً من تمييعها في مشاركة مشبوهة أو وفاق يقتصر على أعلى القمة ويتستر خلف الحجج القانونية.

هل ندرك أن الثرثرة "ولتلتة" الجيران قد تزعزع استقرار عائلة وأن الاستخفاف بالمواعيد يسبب اضطرابًا في الحياة المدرسية والجامعية؟ يمكن إنقاذ حياة بشرية بفضل إحساس أعمق بالواجب وضمير مهني أشد عزيمة. قد تؤدي "المعليش" إلى اللامسؤولية وإلى مأساة وطنية.

٦– "بتعرف مين أنا"؟ في مجال إدراك المساواة نسمع بعض الأحيان العبارة الآتية: "بتعرف مين أنا" أو "بتعرف مع مين عم تحكي". إنه الدلالة على التعالي والطبقية والعلاقات الاجتماعية القائمة على المحسوبية واستغلال النفوذ لا على المساواة في الحقوق والواجبات.

لبنان بلد صغير حيث الناس تعرف بعضها بعضًا. إذا كنت قاضيًا فالمتقاضون هم من الأصدقاء أو الجيران أو أصدقاء الأصدقاء أو أصدقاء الجيران. كيف يمكن للإنسان الحريص على مبادئه في بلد صغير كلبنان، حيث الناس تعرف بعضها بعضًا، أن يحافظ على علاقاته الاجتماعية وعلى حرارتها في إطار تطبيق القاعدة والقانون؟ يبدو لمن يعيش هذه المأساة أن السؤال هو من نوع الأحجية. إنها معضلة رجل السياسة اللبناني الذي يتمتع بصفات رجل الدولة، والقاضي، والموظف، ومدير المؤسسة أو المدرسة أو المعهد، أو مدير عقار في ملكية مشتركة، أو رب عائلة في العائلة اللبنانية الممتدة.

ما العمل؟ إذا انتقلنا من المسايرة المشبوهة إلى القاعدة المدروسة والعادلة في علاقاتنا وعلى كل المستويات فإننا نحافظ على حرارة علاقاتنا الإنسانية وشفافيتها وينحسر التداخل الوخيم العواقب بين مصالحنا الفردية الضيقة والشأن العام. القاعدة تنظم الحياة العامة وتحمي العلاقات الخاصة.

يمكن معالجة العديد من المشاكل والحفاظ على حرارة علاقاتنا إذا أصبح بالإمكان القول لجمهور أصدقائنا، ومعارفنا، ومعارف معارفنا، وجيراننا وجيران جيراننا، وأقاربنا، والمقربين إلينا، عندما يطلبون ويُطالبون بمساومة مشبوهة: ماذا يقول الكتاب؟، وذلك على نمط الرئيس فؤاد شهاب وهو يعني بالكتاب الدستور والنظام العام.

__________________________

١ - لينين الرملي، بالعربي الفصيح، القاهرة، المركز المصري العربي، ١٩٩٢، ١٧٦ ص.

٢ - يوسف سعد، المسرحيات (اشرف على نشرها ليلى سلوم سعد وانطوان مسرّه وافلين مسرّه)، جزءان وجزء ٣ قيد الاعداد، بيروت، المكتبة الشرقية، ١٩٩٢ و ١٩٩٨