التربية في خدمة الوحدة
التربية في خدمة الوحدة
كونواجميعًا يا بَنيّ إذا اعترى خطبٌ ولا تتفرّقوا أفرادا
تأبى العِصيّ إذا اجتمعن تكسُّراً وإذا افترقن تكسَّرت آحادا
معن بن زائدة
لا شك في أن كلاً منّا يتذكر قصة ذلك الأب الذي ربّى أولاده على الحكمة النابعة من مضمون هذين البيتين، فنشأوا على التماسك والألفة، وشكلوا أسرة موحّدة لا تقوى على تفريقها الأحداث، ولا تزعزع بنيانها أعاصير المطامع والأهواء.
إذا كان هذا أثر التربية في توحيد الأسرة، فمن البديهي أن يكون كذلك وأكثر في توحيد الأوطان. لأن الوطن ليس أرضاً فحسب، بل هو شعب يرتضي العيش فوق هذه الأرض. وقد تتنوّع جذور هذا الشعب وأصوله، لكن الوطن يوحد بين أهدافه، ويجمع أفراده في بوتقة العيش معاً، وفي إطار النضال المشترك لتحقيق الأهداف الوطنية الواحدة.
من هنا أهمية التربية في توحيد المفاهيم الوطنية، وفي تنشئة أجيال تؤمن بها وتدافع عنها. ولعلّ هذه الأهمية تتضاعف في بلد مثل لبنان، كون الطائفية قد رافقت مراحل بنائه، منذ نظام ''الملل'' العثماني وحتى ما بعد اتفاق الطائف، ما انعكس نبذاً بنيوياً أدى إلى خلخلة مفاصل الدولة، كلما سمح الصراع الدولي باهتزاز المعادلات الداخلية المحتاجة أصلاً إلى التماسك الحقيقي. لذلك فإن المطلوب هو تقوية العناصر الجامعة، في دولة يضعفها تنابذ الطوائف، وتصارعها على نهش جسد الدولة، في إطار تسابقها على تقوية تماسكها الداخلي. فهل استطاعت حرية التعليم في لبنان أن تقوّي عناصر الجمع هذه، وأن تقرّب الشقّة الفاصلة بين اللبنانيين وتحقّق وحدتهم؟
إن الحرية في المطلق هي من أسمى الأهداف التي ينشدها الإنسان، ولكن شرطها مراعاة حريات الآخرين. أما على المستوى الوطني فشرطها أن تكون موقّعة على أنغام سمفونية الوطن، أي مرتبطة بالوعي، وهادفةً إلى الوحدة.
على الرغم من اقتناعنا بحرية التعليم، فإننا نرى أنها جاوزت حدّها في لبنان، ولنعترف أن ضعف التعليم الرسمي، من الناحيتين الكمية والنوعية، قد أدى إلى تقوية مدارس الطوائف منذ قانون المعارف العثماني الصادر سنة ١٨٦٩، وحتى عهد مدارس الإرساليات الأوروبية والاميركية امتداداً إلى عهد الانتداب.
فالتعليم الرسمي لم يعرف نهضته من حيث الكم إلا بعد الاستقلال، ولكن هذا النهوض لم يأت وفق خطة تؤدي إلى تحسين جودته، لذلك بقي التعليم الخاص هو المسيطر بحصة تفوق ال ٦٠ ٪ من أعداد التلاميذ، وبقي مبدأ تكافؤ الفرص مختلاً، ما وقف حجر عثرة في طريق التماسك الاجتماعي. هذا بالإضافة إلى مضاعفة أعداد المدارس لدى الطوائف، حيث صار لدينا ''موزاييك'' من البرامج والمناهج، وبالتالي ''موزاييك'' من الكتب والأهداف والولاءات والانتماءات، ما حدا بممثلي الأمة في ''الطائف'' سنة ١٩٨٩، ومن منطلق وعيهم لأهمية دور التربية في تحقيق الوحدة الوطنية، إلى أن ينصّوا في وثيقة الوفاق الوطني، التي صارت دستور البلاد، على:
''إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعّزز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي، وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية''.
من المؤسف ألاّ يكون كتاب التاريخ قد أبصر النور حتى الآن، على الرغم من الجهود المضنية التي بذلت في هذا المجال. وإذا كنا لا نرغب الآن في إثارة الشكوك حول هذا الموضوع، فإننا ندعو إلى استئناف ورشة إعداد الكتاب، ومباشرة ورشة أخرى لإعادة النظر بكتاب ''التربية الوطنية والتنشئة المدنية''، بما يطّور مفاهيمه، ويسهّل استيعابه، ويوسّع الجانب التطبيقي فيه.
وفي مطلق الأحوال، فإن على التربية، لاسيما بعد هذه ألازمة الوطنية الكبرى التي يعاني منها لبنان والتي تهزّه في أعماق كيانه، أن تنهض بالدور المطلوب منها٠ هذا الدور الذي - ويا للأسف- لم تؤدّه بالشكل المطلوب منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، بما ينسجم مع روح وثيقة الوفاق الوطني، ويتفق مع طموحات اللبنانيين. ولعلّ بعض خطوات هذا الدور تكون في:
أولاً: حتمية قيامة المدرسة الرسمية. وذلك عبر تعزيز أوضاعها وتعميمها في كل المناطق على قاعدة جودة التعليم ورفع مستواه. فالمدرسة الرسمية بذلك تغدو قادرة على تخفيف حدة الفروقات الموجودة بين الطبقات والفئات والطوائف والمناطق، وتساعد على تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية، فتعزز بذلك التماسك الاجتماعي، وتصلّب بنيان الوحدة الوطنية.
ثانياً :ضرورة توحيد كتاب التاريخ، وتطوير كتاب التربية الوطنية والتنشئة المدنية، وإلزام كل المدارس الرسمية والخاصة باعتمادهما٠ على أن يتم التأكد من ذلك عبر التفتيش التربوي، الذي نقترح أن يعطى صلاحية متابعة اعتماد هذين الكتابين الوطنيين، في كل المدارس وحتى في المدارس الخاصة، والتأكد من أنهما لا يتخذان ستاراً (paravent) لإخفاء كتب أخرى أو مطبوعات أو تطبيقات تبتعد عن روحيّتهما. ولا يتذرعنَ أحد في هذا المجال بحرية التعليم، لأن الدستور الذي حمى حرية التعليم، هو الذي نص على إلزام كل مدارس لبنان بكتابي التاريخ والتربية الوطنية الموحدّين. أما خارج هذين الكتابين، فلتتمتع كل المدارس بحرية التعليم طالما أن هذه الحرية لا تمسُّ وحدة اللبنانيين وعيشهم المشترك، الذي اعتبر دستور الطائف أن لا شرعية لأي سلطة تتناقض معه.
ثالثاً: إشاعة ثقافة الحوار، وقبول الآخر المختلف، وحل المنازعات بروح مسالمة بعيدة عن العنف والتسلط والاستئثار. فنزعة رفض الآخر هي المسؤولة عن الكثير من منازعاتنا، فيما المطلوب في بلدٍ مثل لبنان، قائم على الديمقراطية التوافقية وعلى المشاركة بين مكوناته المتنوعة، أن يعترف كل منَا بشريكه في المواطنية، وبأن هذا الشريك له الحق في الرأي المختلف من دون ان يكون خائناً أو متهماً. إن إهمال التربية لثقافة الحوار وقبول الآخر هي المسؤولة عن الكثير من الحالات السائدة الآن، من تخوينٍ متبادل للشريك الوطني وتسفيه لآرائه، واستعداد دائم لمواجهته بالقطيعة والعنف والتباعد، فيما المطلوب هو التلاقي والتحاور لبناء الوحدة الوطنية، الحاضنة للتنوُع، والمحصّنة ضد السقوط في هاوية ألازمات التي يُدفع اللبنانيون اليها كلّما اشتعلت في ساحتهم المفتوحة صراعات الآخرين.
رابعاً: تعزيز الالتزام بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة٠ فكلّما ترسّخت لدى الناشىء هذه القيم، كلّما تعززت لديه روح المواطنة، وتمسّك أكثر باستقلال بلاده بعيداً عن أية وصاية، واستمات في الدفاع عنه. وحين يتلاقى المواطنون في تحصين السيادة ونشر العدالة والالتزام الطوعي بمخرجات الديمقراطية وسيادة القانون، تتعزّز الوحدة في ما بينهم، ويترسّخ انتماؤهم الوطني، ويصبحون أقوى في مواجهة العدو الإسرائيلي وفي مواجهة كل أشكال الهيمنة والطغيان.
خامساً: تعميق وعي المواطن لهويته الوطنية وانتمائه العربي الحضاري، على حساب الهويات الطائفية والمذهبية وسواها، وتحرير التربية من كل أشكال التعصب، لاسيما التعصب الطائفي، وجعلها تستند على الأخلاق والقيم المعنوية النابعة من روحية الأديان، التي ينبغي أن تتجلى لدى الناشىء بوجهها الرحب السموح، لا بوجهها المتعصّب المنغلق، وأن تعزز لديه قيم الحب والفضيلة والعدالة والتسامح وحكم العقل وشرعة الأخلاق.
سادساً: فتح الآفاق الإنسانية أمام الناشىء لجعله يفهم أنه جزءٌ من هذا الكون الأرحب، وأن عليه أن ينخرط في معالجة المشاكل الإنسانية الكبرى، باعتبارها قضايا عامة وشاملة تتناول الإنسان في كل مكان، هذا الإنسان الذي يجب أن ينظر إليه على أنه أخوه في الإنسانية، بمعزل عن الفوارق التي تميّزه عنه سواءٌ على مستوى الدين أو اللّون أو الجنس أو الثقافة أو اللّغة أو غيرها، ما يوسّع آفاقه، ويبعده عن التقوقع والانغلاق، ويصقل أفكاره، ويعمق إيمانه بالإخوة الإنسانية، ويزيد من إسهامه في الحضارة الإنسانية، لاسيما في هذا العصر الذي غدا فيه العالم كله قرية كونية واسعة ومتفاعلة.
هذا بالطبع غيض من فيض مما تستطيع التربية أن تنهض به لتصنع لنا وحدتنا. أما الوسائل فمتعدّدة، ولن يكون المجال متاحاً لها في هذه العجالة، وتبقى مباشرتها على عاتق المسؤولين التربويين من أجل تعزيز وحدة الناشئة، وبالتالي ترسيخ الوحدة الوطنية، لكي يبقى لنا هذا الوطن الذي ارتضيناه جميعاً، وقدمنا من أجله أغلى الشهداء٠ أما إذا بقيت مدارسنا، وجامعاتنا بشكل أخص، مسرحاً للتقاتل والعنف ورفض الآخر، فسلام على المستقبل الذي ينتظر وحدتنا، والوطن الذي نورّثه لأحفادنا؟!