التنشئة الاجتماعية للطفل بين الأسرة ودار الحضانة
التنشئة الاجتماعية للطفل
بين الأسرة ودار الحضانة
تتم عملية إشباع حاجات الطفل في سنوات الحضانة في الأسرة بواسطة الأم أولاً ثم الأب في إطار من الحب والعطف و التقبّل، ما ييسر له اكتساب القدرة على التّكيف، و لكن كلما تقدم الطفل في العمر شهراً بعد شهر ازدادت الضغوطات الواقعة عليه، و ازدادت تبعاً لذلك حاجته للتكّيف والتوفيق بين دوافعه البيولوجية الفجّة وحاجاته المختلفة من جهة، وبين قواعد المجتمع الذّي يعيش فيه وتقاليده وثقافته من جهة أخرى، لأن سلوك الفرد وكفّه عن الأعمال التي لا يتقبلها المجتمع لازم لحفظ الحياة الاجتماعية، ولكي يعيش الإنسان في سلام مع غيره من الناس ولكي يكسب حبهم واحترامهم.
١- الأسرة وعملية التنشئة الاجتماعية
إن التربية لا تنحصر في ذلك المجهود المتواصل الذي نأمل أن يوصل الطفل إلى الأخذ بألوان من الفكر والعاطفة والسلوك التي ما كان يستطيع الوصول إليها فيما لو ترك وشأنه في الأسرة، فالأسرة تضطره منذ حداثة سنه إلى الأكل والشرب والنوم في ساعات معيّنة، وتوجب عليه النظافة والطاعة، ثم تجبره على التعلم وعلى مراعاة حقوق الغير، وعلى احترام العادات والتقاليد ما يخلق لديه شيئاً فشيئاً، بعض العادات والميول الداخلية التي تلغي أثر عوامل القهر والتردد.
ويحاول الوالدان في الأسرة توفير شروط الرعاية المطلوبة من طريق إشباع حاجات الطفل في إطار من الأمن والتزام جانب المرونة والاعتدال في فرض النظام عليه، وفي ممارسة أنواع الضبط على سلوكه، والبعد عن التزمت والتّشدد معه، مراعين مطالب نموه ونضج قدراته حتى يتمكن من إنجاز ما هو مطلوب منه وفق وتيرة سرعته. عندها يكافئان نجاحه بالاستحسان ويمنحانه المحبة والحنان، فيوقن الطفل عندئذ أن الامتثال لرغبات الوالدين صفقة رابحة يقبل بالقيود أملاً في كسب حب والديه. وقد ظلت الأسرة الهيئة الأساسية للتربية من دون منازع، اضطلعت بهذا الدور وضمنت لأبنائها رعاية بيولوجية من جانب، وتدريباً على اكتساب العادات الثقافية والسلوكية من جانب آخر، وقامت بوقايتهم ورعايتهم طيلة فترة الطفولة الطويلة التي تتصف بالعجز والاعتماد على الغير.
وأهم ما يتعلمه الطفل في الأسرة خلال هذه المرحلة:
- المشي والنظام وضبط المثانة والأمعاء، والاستحياء الجنسي، وكف العدوان على الآخرين.
- التّعود على كفّ بعض الدوافع غير المرغوبة، أو الحدّ منها.
- الالتزام بالعادات و طرق التّصرف الملائمة مع الآخرين، نحو رموز السلطة والأهل.
- تعلّم الأدوار التي تحددها ثقافة المجتمع لكل من الجنسين والالتزام بها.
- الانضباط و التّعود على القيام بأعمال محددة في أوقات معينة.
و طيلة هذه المرحلة تكون الأم هي الشخص الذي يلبي حاجات الطفل ويكفلها، وبالتالي يزيل عنه الألم والانزعاج، فإنها نتيجة لذلك تصبح عنده المصدر الأساس للّذة والأمن والطمأنينة، كما تصبح مركزاً تدور حوله انفعالاته، فهو يقلق ويغضب ويحزن إذا غابت عنه أو أهملته، و يفرح ويسر ويطمئن إذا قامت برعايته وإشباع حاجاته.
لقد أصبح من البيّن اليوم أن الرعاية الأمومية في بداية الطفولة وخلال الطفولة المبكرة، هي من مقومات الصحّة العقلية للطفل. وتعرّضه للإهمال من قبل أمه وحرمانه عطفها وحنانها ومحبتها يهدد كيانه بالخطر، لأنّ الحرمان العاطفي من الأمومة هو كالجوع للطفل، لا يستطيع أن يتحمّله أو يتغلّب عليه من دون أن يصاب بالضرر.
إنّ السنوات الثلاث الأولى هي أكثر مراحل النّمو واكثرها تأثراً بالحرمان العاطفي النّاتج عن فراق الأم للطفل أو بعدها الطّويل عنه لأي سبب من الأسباب. أما في السّنة الرّابعة وما بعدها، فإنّ الطفل يكون قد بدأ يشعر بوجود الآخرين، ويتعرّف إليهم، لذلك يستطيع في الغالب أن يتحمّل، إلى حين ابتعاده عن أمه متطلّعاً إلى عودتها، فالطفل الّذي يثق بحب أمه له لا يحسّ بالقلق والخوف من فراقها المؤقّت أو الجزئي له.
وما من شك في أن ظروفاً اقتصادية واجتماعية تضطر الأمهات إلى الخروج من المنزل للعمل، لذلك يجب التّأكد من أن ترك الطفل لساعات طويلة مع أحد الأقارب أو الجيران أو في مراكز الرعاية النّهارية سوف يضمن له التّمتع بالرعاية الدافئة و الثابتة التي يحتاجها.
في ضوء ما وصفناه من متطلبات نمو الطفل في سنوات الحضانة الست الأولى من عمره، جسدياً وعاطفياً وذهنياً واجتماعياً، وعن حاجاته الضرورية لنموه وما ذكرناه عن المجهود الكبير الّذي يجب أن تقوم به الأسرة في تنشئة وتكوين شخصيته بأبعادها المختلفة تكويناً سوياً، ترتسم في الأفق علامات استفهام متعددة عن مدى قدرة الأسرة وتمكّنها من الاستمرار في تحمل مسؤولياتها وتأدية التزاماتها وممارسة أدوارها في زمن تغيرت فيه شروط وتفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية تغيراً شديداً، اثر في بناء الأسرة وفي وظائفها وفي علاقات أفرادها بعضهم ببعض. إن الأسرة المعاصرة لا تستطيع وحدها الاستمرار في أداء وظائفها المعهودة تربوياً ونفسياً واجتماعيا بعدما تغيرت نظرة الناس رجالاً ونساءً إلى الحياة، وتعدلت قناعاتهم بالنسبة للقيم التي بها يأخذون، ولاسيما تلك التي ترى بأنه يجب عليهم ألا يكرسوا كل حياتهم لأطفالهم، كما كان يحصل حتى الآن، بل على العكس تبين لهم أن هذا الاتجاه مضر بالأطفال ومقيد لهم ومضعف لشخصياتهم. فقد ظهرت عوامل كثيرة مختلفة، أعاقت الأسرة عن القيام وحدها بدورها كاملاً في تنشئة الطفل، ورعايته بما يحقق مطالب نموه وتفتح شخصيته. وأهم هذه العوامل:
- خروج المرأة إلى العمل.
- شدة وطأة الأعمال المنزلية.
- ج- الفقر و سوء الأحوال السكنية.
- د- جهل بعض الأمهات بأصول تربية الأطفال وتغذيتهم.
1- خروج المرأة للعمل.
تخرج المرأة إلى العمل غالباً للحصول على قدر من المال يرفع من دخل الأسرة أو لأسباب أخرى. ولكن الجديد بالنسبة لها ولوسطها الاجتماعي هو خروجها المنتظم المتكرر للعمل في الفترة اليومية الطويلة نسبياً، في جو منظم يضبطه نظام محدد. و قد دخلت المرأة الحضرية الآن إلى ميادين العمل المختلفة.
إن خروج المرأة يومياً على النحو المذكور، واضطرارها للغياب لساعات طويلة عن أطفالها الذين ما زالوا في مرحلة الحضانة، يشكل لها من ناحية أطفالها بالذات مشكلة حقيقية في استحالة حصولها على عناية والدتها أو عمتها أو أختها، اللواتي كنّ يشاركنها في السكن في ظل الأسرة التقليدية الكبيرة، كما تفتقد إلى الاستعانة بإحدى القريبات أو الجارات، لأن العائلة الأبوية الممتدة التي يشعر فيها الكل بأنه مسؤول عن الصغير، وبأنه مستعد للمعاونة وتقديم المساعدة بكل ما تفترضه من إعمال رقابة وحماية، لم تعد منتشرة، بل تراجعت وانحسرت إلى حد كبير. ونستخلص أن التغيير الاجتماعي قد أفرز بيئةً لم تعد مساعدة لإشباع كثير من حاجات الطفل، إذا تغيبت أمه عنه لفترات معينة، فعليها أن تجد البدائل المناسبة التي تملك أصول التعامل معه وبوسعها أن تؤثّر إيجاباً في سلامة سلوكه.
2- شدة وطأة الأعمال المنزلية على الأم وتشعّبها
كثيراً ما يكون انشغال الأم بإدارة شؤون المنزل الأسري هو السبب الرئيسي الذي يعيقها عن إشباع بعض حاجات طفلها ورعايته الكاملة، فهي مطالبة بالتزامات ربة الأسرة التي تقوم بواجبات التنظيم وتدبير الشؤون اليومية للمسكن ومحتوياته، والعناية بالاحتياجات الشخصية لكل من الزوج وأفراد الأسرة الآخرين، من غذاء وعناية بالملابس وغيرها، فالمرأة التي تصرف قسطاً من نهارها في العمل خارج المنزل قلما يتبقى لديها من الوقت والحيوية والجهد للتمكّن من بذل العناية الواجبة تقليداً لتأمين المستلزمات المطلوبة.
وتحاول المرأة العاملة جاهدة التوفيق بين مسؤولياتها الوظيفية وبين دورها التقليدي كأم وربة منزل، وهي تنظر لإنجاح مساعيها التوافقية، دعماً مناسباً قد يأتيها من زوج متفهم، أو من دعم من أسرة المنشأ، أو من مؤسسة أو هيئة مختصة تقدم بعض خدماتها في هذا المجال. وفي غياب ذلك تعزز الأوضاع الجديدة الإرهاق والقلق لدى الأم وينعكس توترها على زوجها وأطفالها و قد يؤدي ذلك إلى عرقلة واضطراب نمو الطفل.
3- فقر الأسرة وسوء أحوالها السكنية
ومن العوامل التي تعيق الأم في تعهد أطفالها يبرز الفقر في الطليعة، لأنه يتسبب بدوره في العجز عن تأمين الغذاء السليم، و عن توفير السكن الصّحي فتتعرض نسبة لا بأس بها من الأطفال للأمراض الناتجة من سوء التّغذية، أو عدم الحصول على اللقاحات المطلوبة في أوقاتها، يضاف إلى ذلك ازدحام المسكن بأسرة كثيرة العدد ورداءة خصائصه من حيث الإنارة والتهوئة والحصول على المياه النّظيفة وعدم اتصاله بالمرافق الصّحية. وإذا صودف أن الأسرة تتوافر فيها هذه الشروط يتبين أنها تفتقد إلى أخرى. حين تستقل بسكنها تنعزل عما يدور خارجها ويقضي أطفالها اغلب أوقاتهم في منزل صغير بين جدران غرف ضيّقة، حيث يتعذر فيها اللّعب، لاسيما إذا كانت مليئة بالأثاث فتصطدم رغبة الطّفل باللّعب برغبة الأهل بالمحافظة على الأثاث وترتيبه ونظافته فيشعره منعهم بالضّيق والتّذمر والحرمان.
4- جهل بعض الأمهات بأصول تربية الأطفال وتغذيتهم
تؤكّد الوقائع أن نسبة كبيرة من الآباء والأمهات لا يلمون بمطالب نمو أطفالهم ولا يعرفون الأساليب السليمة في تربيتهم مما يوقعهم عن غير قصد في كثير من الأخطاء الّتي تؤثّر في أطفالهم أسوأ الأثر في جانب من صحتهم الجسدية أو النفسية، أو قد يصابون بأمراض أو مشكلات تسبب لهم المعاناة وترافقهم طيلة حياتهم. وليس صحيحاً دائماً أن الأمهات ينشئن أطفالهنّ على هدى غريزة الأمومة، لأن الحب وحده لا يكفي ولا يقوم مقام العلم و المعرفة الصحيحة بأصول تقديم الرعاية الملائمة.
من الملاحظ أن العوامل التي عددناها في الفقرات السابقة تعيق الأم موضوعياً عن القيام بما تتطلبه التنّشئة الجيّدة والرعاية السّليمة. لذلك ظهرت دور الحضانة لتعوّض عجز الأسرة ولتساعد الأمهات على استكمال ما ينقصهنّ لتدعيم ما يحصل عليه الأطفال من رعاية، ولم يعد اللّجوء إلى دور الحضانة شأناً يتعلّق بأوضاع أسر محددة، بل إن كثيراً من الدول و المجتمعات أعطتها أدواراً واضحة ومتطورة في تربية الأطفال والسّهر على نموهم وسلامتهم.
يعتقد كثير من التربويين أن الحضانة قد أصبحت حاجة ضرورية مستقلّة عن سلسلة المؤسسات المختصّة بالشأن التربوي وليست مجرّد إضافة تقوم بأعمال محددة بديلاً عن أسرة الطّفل، بل هي أماكن مجهزّة ومعدّة كي تحقق للطّفل ما لا تستطيع الأسرة أن تقدم له، كما انّها بواسطة المربيات المتخصصات لديها تعمل على تصحيح أخطاء تربوية وسلوكية قد يرتكبها الوالدان لسبب من الأسباب، إضافة إلى انها توفر بيئة تتكامل فيها الحوافز ومثيرات النّشاط كي يحيا فيها الطّفل حياة صحيّة وتتفتّح طاقاته ويمارس فيها قدراته تحت مراقبة متخصصة.
2- أنواع دور الحضانة
تمارس وظيفة ومهام رعاية الأطفال في عدد من الدور، تختلف من حيث هندستها الداخلية وتجهيزاتها ومساحاتها وخصائص العاملين فيها وفئة عمر الأطفال الّذين تستقبلهم وأنواع الأنشطة المخصصة لهم، فهناك:
1-2 دور الرّضاعة
2-2 دور الحضانة
3-2 روضات الأطفال
1-2 دور الرّضاعة
هي عبارة عن مراكز تضم قاعات متوسطة الحجم، تستخدم مربيات ذوات خبرة، مجهزة بأسّرة كي تستقبل مواليد من عمر ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات طيلة فترة غياب الأم في عملها، فتستقبله وتحتضنه وتحاول أن تحلّ محلها في منحه الحنان والمحبّة وإشعاره بالحماية، فتراقب سلامته الصحية، وتتعهّد بتغذيته وتدريبه على اكتساب بعض العادات السلوكية والأخلاقية الحسنة. و يرتبط دوام عمل هذه الدور عادةً بمواعيد عمل الأمهات، وتنحصر أنشطة هذه الدور بالتمارين الحركية والتقليد و غناء الأناشيد ورسم الصور وتلوينها.
2-2 دور الحضانة
دور الحضانة هي مكان مصمم ليكون عالماً للأطفال أرضيته مغطاة بمواد ليّنة أو خشبية ومجهّز بتجهيزات وألعاب تراعي أحجام الأطفال وأذواقهم وقدراتهم، وهي غالباً ما تكون مصنوعة من مواد غير صلبة، كي لا تسبب لهم الأذى عند الوقوع أو الاصطدام بالآخرين وتستقبل الأطفال من عمر ٣ إلى ٤ سنوات، وتكلّف حادقات متخصصات من أجل رعاية الأطفال و الاهتمام بتحريكهم وإغناء تجاربهم الفردية ومراقبة سلامة ردود أفعالهم ونطقهم مستندين في ذلك إلى أدلّة تربوية وطرائق حديثة لتهيئة الطّفل المتعلّم.
3-2 روضات الأطفال
أصبحت روضات الأطفال أقساماً تشكل أجنحة خاصة من المباني المدرسية كالقسم الابتدائي أو المتوسط أو الثّانوي بعد أن دمجت الهيكلية العامة للتعليم بين المراحل، ومرحلة الروضة هي عبارة عن سنتين تمتدان من الرابعة إلى السادسة من العمر وتعرفان بمرحلة ما قبل الابتدائي.
- يشغل أطفال الرّوضة غرفاً داخل المدارس و يلحق بها ملعب خاص يفصل تجمّعهم عن تلامذة المراحل الأخرى.
- يتولى الإعداد في مرحلة الروضة حادقات متخصصصات في مختلف الأنشطة ويهيئن الأطفال للتعلّم النّظامي من خلال تدريس مواد تعليمية محددة لتحقيق أهداف لحظها المنهاج الرسمي، من اللّغات والرياضيات والعلوم والرياضة والفنون . ويحدث أن تؤسّس دار واحدة و تأخذ على مسؤوليتها رعاية الأطفال طيلة سنوات الحضانة، فتضّم في آن قاعات للرضاعة وقسماً للحضانة وشعباً خاصة بالروضتين الأولى والثّانية تأكيداً على وحدة هذه المرحلة و ترابط سنواتها وتكامل المهام المطلوبة للإشراف على النّمو السليم للطفل وتمكينه من التّفتح والانطلاق.
3- مهام دور الحضانة
3-1 مهام دور حضانة الرضّع
تهتم دور حضانة الرضّع بصحة الطفل النفسية، وتحرص على تدعيم شعوره بالأمن، وتمنحه شعوراً بأن مشرفته تحبه وترحب بمجيئه ووجوده في الدار. وأنه إذا غاب افتقدته، وتقوم مشرفة محددة بالإشراف على الطفل منذ اليوم الأول لدخوله إلى أن يترك الدار في سن الثالثة، فتتوثق العلاقة بين الطفل ومشرفته ويجد فيها بديلة ثابتة، إلى حدّ ما عن أمه، فتنمو عواطفه نحوها، ويتوحّد معها، وبذلك يتدعم أمنه النفسي، فهي ذات تأثير قوي، إيجابياً كان هذا التأثير أم سلبياً، على نموه الوجداني، وصحته النفسية، واتجاهاته بصفة عامة. إنها المسؤولة الأولى عنه، والمرافقة له في دار الحضانة، وبذلك تمثل بالنسبة له سلطة كل من الأبوين، ومجتمع الكبار بأسره، وتتيح لها سلطتها أن تمارس بشكل تلقائي اتجاهاتها التسلطية أو التكاملية، تبعاً لنمط الشخصية الغالب عليها؛ فحين تكون خبرة المشرفة هي المحددة لسلوك الطفل أو المفروضة عليه، تكون سلطتها تسلطية، وهي بقدر ما تتيح للطفل الفرصة لتكوين خبراته بنفسه وأن ينطلق منها لتجديد سلوكه وممارسته لأنشطته تكون سلطتها تكاملية.
وقد توصلت بعض الدراسات إلى أن التسلط قد يستثير التسلط والمقاومة، وأن سلوك التكامل الاجتماعي، يستثير السلوك التعاوني والتكاملي. فحين تفرض المشرفة سلطتها على الأطفال بصورة ملحوظة، أو التي تواجه عدوان الطفل بالتسلط والقسر، يحتمل أن تثير فيه نزعات عدوانية، بدلاً من أن تكون هي العاملة على تهدئته وتخفيف حدة عدوانه. أما المشرفة التي تلتزم سلوك التكامل الاجتماعي، فيغلب أن تنمي في الأطفال وروح التعاون.
هذا وقد وجد الباحثون في كل الحالات التي درسوها، أنه كلما كان سلوك المشرفات تكاملياً، أصبح الأطفال أكثر تلقائية، وأكثر أصالة، وزاد إسهامهم في النشاط، بينما كلما كانت المشرفات أكثر تسلطاً، زاد تشتت انتباه الأطفال وعبثهم، كما زاد انزواؤهم وتمرّدهم على حدّ سواء، ومع مراقبة الأطفال أنفسهم في السنوات التالية، تبين أن أنماط استجابتهم قد تغيرت وأن العبث والتشتت لم تكن من الخصائص المميزة للأطفال أنفسهم، بقدر ما كانت من الخصائص المميزة للمواقف التي كانت المشرفة تثيرها في الأطفال باتجاهاتها الغالبة في شخصيتها.
وتعد صحة الأطفال في سن ما دون الثالثة، من أهم مسؤوليات هذه الدور، وتأتي مراقبتها في المقام الأول في منهاج الرعاية. لأن الطفل كلما كان صغيراً، زادت قابليته للإصابة بالأمراض والعدوى. لذلك على هذه الدور، المحافظة على صحة الأطفال، وقاية وعلاجاً.
وتتضمن العناية بصحة الأطفال العناية بالتغذية، حيث توفرها للرضع بكميات كافية، ومنظمة في مواعيدها، وهادئة في أسلوب تعاطيها. ويجد الطفل من مشرفته الصبر والتشجيع في تعليمه عادات الأكل الصالحة، متمشية في ذلك مع نضج أجهزته وقدراته، ومع سرعته الخاصة.
ومن مظاهر العناية بصحة الطفل أيضاً، تنظيم مواعيد نومه ولعبه في داخل الحجرات أو في الحديقة، كلما سمح الجو بذلك، لأن تعريض الرضع لأشعة الشمس يحسّن صحتهم. وتحرص المشرفة على إتاحة الفرصة للرضيع، لكي يتحرك ويلعب اللعب الذي يتمشى مع نضجه، ويساعد على سيره قدماً إلى مزيد من النضج والنمو. يجب أن يحظى الأطفال الرضع في دور حضانتهم بعناية كبيرة، من حيث إكسابهم العادات الشخصية الحسنة في تناول الطعام، والإخراج، والاغتسال، والنوم واللعب. لأنها تعتبر من التفاصيل الأساسية التي تقوم عليها تنشئة الطفل الاجتماعية.
3-2 مهام دور حضانة أطفال ما قبل المدرسة
تسمى دار الحضانة لأطفال ما قبل المدرسة، عادة "مدرسة الحضانة"، وهي تعدّ منزلاً أو بيتاً قبل أن تكون مدرسة. إنها في الواقع مجتمع صغير يحيا فيه الطفل حياة طبيعية، أقرب إلى حياة المنزل، حيث يقضي معظم الوقت في نشاط حرّ تتخلله فترات للأكل والنوم والراحة، ويتاح خلال ذلك للطفل تكوين العادات السليمة، الصحية والعقلية والاجتماعية، واكتساب التجارب المتعددة والخبرات المختلفة بإشراف المربية. ويعتبر وينيكوت (Winnicott) "أن وظيفة مدرسة الحضانة هي أن تدعم، وتزيد في امتداد دور الأسرة. ويجب أن ننظر إليها على أنها امتداد "علوي" للأسرة، أكثر من أنها امتداد "سفلي" للمدرسة الابتدائية".
وبرنامج العمل في مدرسة الحضانة لأطفال ما قبل المدرسة، مرن لا يتبع خطة جامدة. فلا يدق جرس يحدد بدء أي نوع من النشاط ونهايته، بل هو انتقال تدريجي من عمل إلى آخر. وعلى الرغم من مرونة البرنامج، فإن له نظاماً معيناً يحفظ التوازن بين النشاط والراحة، حتى يتيسر للأطفال ومشرفاتهم، العمل في جو هادئ ومستقر. وتستند برامجها إلى الخبرات الحياتية العامة، أكثر منها إلى المدرسية النوعية القائمة بذاتها. فهي مؤسسات تتيح للأطفال اكتساب الخبرات اليومية، والمرغوب فيها من المجتمع، وحتى تكمل رسالة الأسرة، لا سيما بعد أن أصبح المنزل يضيق بالأنشطة الحرة وبالاحتياجات اليومية للطفل ويصعب على الأسرة توفيرها.
وأظهرت نتائج الأبحاث أن التربية في دور الحضانة، ذات أثر على مستوى الذكاء عند الطفل، حيث تقدم له خبرات مباشرة، أكثر بكثير من الخبرات القليلة التي تتاح له في البيت.
وبعد مراقبة النمو الجسدي للطفل يأتي دور الحضانة في تحقيق التوازن بين السلوك الذاتي التلقائي للأطفال، وبين التقيد بمعايير الجماعة. وتعنى مدرسة الحضانة، فضلاً عن ذلك، بمشاعر الأطفال واتجاهاتهم وتنمية مهاراتهم. وهي تهدف إلى مساعدة الأطفال على إدراك إمكانياتهم، وفي الوقت نفسه، تعينهم على تقبل الحدود التي تفرضها الحياة في مجتمع ديمقراطي.
ومن مهام مدرسة الحضانة أن تدرّب الطفل على التفكير المنطقي، والاعتماد على النفس وتحمّل المسؤولية واحترام الحرية الفردية. وأن توطد علاقة بنّاءة مع والدي الطفل وجماعة الآباء، وهي علاقة يجب أن تقوم على الاحترام والتعقل والتعاون.
وتخدم مدارس الحضانة مختلف الأسر المتباينة في مستوياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ومدرسة الحضانة يجب أن تنشئ الأطفال تنشئة اجتماعية، وأن تعدّهم للحياة الديمقراطية التعاونية، حيث يتمتع الجميع بحقوق متساوية، وفرص متكافئة. وتكون حاجاته الفردية مرتبطة في الوقت نفسه بحاجاته الاجتماعية، فتعلّمه كيف يعيش عيشة سعيدة ونافعة بين أقرانه.
وعندما يدخل الطفل مدرسة الحضانة، يكون في العادة وفي بداية الأمر ''فردياً'' إلى حدّ بعيد جداً، فمن بديهيات علم النفس الاجتماعي، أن الميول الفطرية الفردية أسبق ظهوراً، وأقوى كدوافع للسلوك من الميول الاجتماعية. ومهمة مدرسة الحضانة أن تساعد صغار الأطفال على أن يتحولوا من كائنات فردية متقوقعة حول نفسها إلى أشخاص اجتماعيين.
ويقيم دوركايم عالم الاجتماع الفرنسي الشهير مقارنة بين الأسرة والمدرسة فيقول: إن المدرسة هي في الواقع جماعة حقيقة ذات وجود فعلي يسهم فيها الطفل بالطبيعة وبالضرورة، وهي جماعة تختلف في طبيعتها عن الأسرة. إذ إنها لا تقوم، قبل كل شيء، على تقارب القلوب واندماج العواطف، كما هو الحال في الأسرة وإنما تتمثل فيها – على صورة أولية بسيطة - كل ضروب النشاط العقلي. وعلى ذلك، ففي وسعنا أن نهتدي في المدرسة إلى الوسيلة التي ندمج بها الطفل في حياة اجتماعية مختلفة عن حياته المنزلية، وفي وسعنا أن نكسبه عادات تتأصل في نفسه ويمتد تأثيرها إلى ما بعد فترة الدراسة حيث تدفعه دائماً إلى أن يشبعها بالقدر الذي تستحقه.
وعلى الرغم من اهتمام مدرسة الحضانة بغرس الروح الاجتماعية وتنميتها في نفس الطفل، إلا أنها تهتم أيضاً بألا يذوب الفرد في الجماعة، وبأن يكون له كيانه الخاص وذاته المستقلة، وأشياؤه الخاصة. ولذلك تحرص على أن يكون لكل طفل حيّزه المخصص له لوضع حوائجه.
إن الاهتمام بالملكيات الفردية هي مدخل لتنمية الميول الفردية واكتشافها، إضافة إلى أنها تعطيه الشعور بأنه يمتلك شيئاً. فاحترام ملكية الغير ومخصصاته، يجب أن يقوم على تقدير الملكية الشخصية، واعتزاز الفرد بما يخصه هو.
كما أن من واجبات دور الحضانة، أن تحرص حرصاً شديداً على نظافة الأطفال الشخصية وعلى سلامة صحتهم، وعلى نظافة المكان والأدوات والألعاب التي يتداولونها، لأن صغار الأطفال شديدو القابلية للعدوى، كما أن ذلك يساعد على خلق الوعي بالنظافة وتثبيتها في نفوسهم وسلوكهم.
ومن مهام مدرسة الحضانة، أن تساعد الطفل على التغلب على نفوره من الأطعمة غير المألوفة، وأن تعلمه كيف يقبل على أكل نوع من الطعام لم يره، ولم يذق له طعماً من قبل. فحياة الشخص الذي يخضع لنزواته الغذائية، ويتقيد بمفضلات معينة في أكله، تكون صعبة من الناحية الاجتماعية، ومعوقة للشفاء في حالة المرض حين يرفض الدواء. ويتدرّب فيها على السلوك المستحب والمرغوب فيه أثناء الأكل. ويتعلم آداب الأكل وآداب المائدة.
وتسهم عناية مدرسة الحضانة بالتغذية على الوجه السابق، في تقوية صحة الطفل وتساعد على سلامة نموه. وتسرع بذلك عن طريق العدوى حين يجلس الأطفال جنباً إلى جنب إلى المائدة يقلد بعضهم بعضاً، من حيث تناول الكمية المناسبة واتباع الطرائق المستحبة.
وما يسترعي الانتباه، أن الطفل غالباً ما يكون أكثر تقبلاً لتوجيه مشرفته أو معلمته، وأكثر استعداداً وميلاً لطاعتها منه مع أمه. ويرجع هذا إلى أن ارتباطه العاطفي بمعلمته، لا يصل في عنفه وشدته إلى درجة ارتباطه العاطفي بأمه، فهو لا يشعر بالرغبة في التحرر من مربيته، مثلما يشعر بذلك نحو أمه. فالمعلمة تحبه، ولكنه حب بغير هذا التلهف الشديد المفرط الذي يشعر به من أمه، والذي يدفعه إلى الثورة عليها ومحاولة التحرر منها في كثير من الأحيان. وبذلك تبدو له أكبر مساعدة على الاستقلال وعلى الاعتماد على النفس.
ورغبة الطفل في الاستقلال والاعتماد على نفسه، تجعله عنيداً صلب الإرادة شديد القابلية للانفجارات الانفعالية، يرفض بشدة أي نوع من أنواع القيود. ولكنه يرفض في الوقت نفسه فقدان حب الآخر له الذي يحاسبه بالتوبيخ والزجر والعقاب. فالحب يعني بالنسبة إليه التقبل والأمن والاستقرار. أما المحاسبة فتخلق عنده الخوف والصراع وينشأ عنهما المعاناة والقلق والتعاسة.
وأخيراً، لا بد أن تساعد مدرسة الحضانة على إنجاز فطام الطفل النفسي من أمه، ففيها ينطلق توتره ويتلاشى، وفي جوها الاجتماعي المليء بالحركة، وفي تواجده مع رفاقه تحت إشراف المربيات المختصات، يبدأ في اكتساب وتشرب الاتجاه السليم نحو سلطة الكبار. فالملاحظ أن الأطفال يتعلمون، بعضهم من بعض، بطريقة أسهل وأسرع. وبالإشراف الحكيم وغير التسلطي من المشرفة أو المعلمة، نجد الطفل في لعبه وتفاعله مع غيره من الأطفال، يبدأ بالسير نحو الوصول إلى التوازن المطلوب في شخصيته من حيث جانباها التسلطي والخضوعي. ذلك التوازن اللازم والجوهري لسلامة صحته العقلية والنفسية. فهو مع أقرانه، وعلى مسرح الحياة في مدرسة الحضانة، يتعلم أن يعطي ويأخذ، ويقود ويتبع، ويتسلط ويخضع. أما المشرفة أو المعلمة، فتستطيع أن تراقب نشاطه عن كثب، تاركة إياه ليتعلم من خبراته وتجاربه ولكنها تكون على استعداد لتقديم المساعدة له كلما تطلب الأمر؛ ليفيد قدر المستطاع من حياته في مجتمع دار الحضانة الطليق، ومن تعامله في هذا المجتمع مع أقرانه.
ومن سمات مدرسة الحضانة، أن التنشئة الاجتماعية فيها ليست وقفاً على مكان بعينه في بناء المدرسة، كما أنها ليست وقفاً على زمان معين، أو فترة معينة من اليوم. فكل شيء ينشغل به الطفل أو يقوم بعمله أثناء تواجده المدرسة، في مدرسة الحضانة يتعلم الطفل الحياة بالحياة. فهناك نظام معين تسير عليه المدرسة من الصباح إلى أن يحين موعد الانصراف. فهناك أوقات معينة للوجبات الغذائية، والاغتسال، والتوجه إلى دورة المياه، والنوم الخ... ومن المفروض أن يتوافق الطفل مع هذا النظام، وإلا وجد نفسه منعزلاً. ومع ذلك يجد الطفل نفسه أمام كثير من الاختيارات. فالمدرسة لا تضع حدوداً للعب إلا إذا كان الطفل يريد التخريب. ولا تفرض عليه تقليد نموذج معين في الرسم أو اللعب بالصلصال، بل يترك حراً يلعب بما يشاء وكيفما يملي عليه خياله ودوافعه. فالطفل في مدرسة الحضانة حر ما لم يضر. والأنشطة المهيأة له كلها في مستوى قدرته. كذلك هو حر في اختيار رفاقه، كما أنه لا يستطيع أن يفرض نفسه على أحد. ويكتشف الطفل طريقة تعامله مع الآخرين، هما اللذان يجعلانه مقبولاً لدى رفاقه.
وهكذا، من طريق الحياة الطبيعية التي يحياها الطفل في مدرسة الحضانة خلال السنوات الثلاث التي يقضيها فيها، تتاح له فرصة كبيرة لإشباع حاجته إلى الاستطلاع بدرجة لا يمكن أن تتاح له في منزله، فالمدرسة بأسرها تعدّ معملاً مجهزاً بطريقة تساعده وترغبه في البحث والتجريب، واكتساب المعلومات المختلفة.
كذلك يجد الطفل أشياء يرتبها ويصنفها، وأشياء يوزعها على زملائه، وبذلك تنمو قدرته على الملاحظة ويعرف الكثير عن حجم الأشياء وشكلها ولونها ومادتها.
وهكذا نجد أن مدرسة الحضانة، بهذا المفهوم الذي لا يفرق بين العمل واللعب، والذي يمزج بين التعليم والنشاط، تتيح الفرصة للطفل لكي يكتسب الخبرات والمهارات والمعلومات، التي تكون أساساً طيباً ومتيناً يبني عليه مزيداً من الخبرات والمهارات والمعلومات في المراحل التالية لنموه وتعليمه. فالمطلوب هو أن تعد مدرسة الحضانة الطفل للمستقبل، وتنقذه، من مواجهة تلك الصدمة التي كثيراً ما يعاني منها الأطفال، الذين يتركون المنزل مباشرة إلى المدرسة الابتدائية. وتهتمّ بأن يحيا في الحاضر حياة سعيدة مليئة بالنشاط والعمل والفرص، التي تتيح له النمو والنضج في جميع أبعادهما.
إن مدرسة الحضانة هي المعين والمساعد وليست البديل الذي يحلّ محل البيت. وعلى هذه الصورة تقوم بقسطها من التنشئة الاجتماعية بالمشاركة مع الأسرة، وفي ذلك يقول ''نيل سملسر'': ''مهما تكن درجة تركيز العلاقات بين الأم والطفل في السنوات المبكرة الأولى، فإن هذه الفترة قصيرة الأمد، ويتطلب المجتمع الحضري الصناعي المتقدم مهارات تقنية أعقد من أن توفرها له الأسرة. ومن ثم فإن الأسرة تتجه إلى التنازل عن كثير من وظائفها التدريبية إلى الأنساق التربوية الرسمية، فالأسرة في البلدان الصناعية المتطورة تفقد ضبطها لأطفالها في سن مبكرة جداً، وتسلمهم للمدرسة" الابتدائية، بل حتى لمدرسة الحضانة.