الاحتفالات المدرسية بين الممارسة الخاطئة والدور التربوي المرتجى

د. هشام زين الدين أخصائي الفنون الجميلة المركز التربوي للبحوث والإنماء استاذ في الجامعة اللبنانيةالاحتفالات المدرسية
بين الممارسة الخاطئة والدور التربوي المرتجى

 

تقدم غالبية المدارس اللبنانية الرسمية والخاصة عروضاً واحتفالات مسرحية في المناسبات والأعياد، وخصوصاً في احتفالات انتهاء العام الدراسي. وقد أصبح هذا التقليد من أساسيات روزنامة الأنشطة المدرسية التي تشكل مساحة للّقِاء مع الأهل، ومجالاً غير مباشر لاختبار وتوطيد علاقة المدرسة بالأهل وبالعكس، بحيث نجد أن بعض المدارس تهتم بشكل مبالغ فيه بإنجاح الاحتفالات، للظهور بصورة لمّاَعة أمام الأهل إيماناً منها بأن مفتاح الدخول إلى قلب وعقل ولي الأمر هو إغراء عينه بالشكل الجميل للاحتفال المدرسي، وإشباع عاطفته برؤية أولاده على خشبة المسرح يرقصون ويغنّون.


إن هذه المعادلة الشكلية التي تحكم تنظيم احتفالاتنا المدرسية والتي تنطبق على الغالبية العظمى من المدارس، هي غير صحيحة وغير مفيدة تربوياً، وبالتالي يجب أن تخضع لإعادة النظر بمسؤولية من قبل القيمين على الشأنين الإداري والتربوي في مدارسنا. ومن خلال المتابعة لما يجري قبل وأثناء وبعد العروض والاحتفالات المدرسية في عينة كبيرة المدارس الخاصة والرسمية، تكونت لدينا مجموعة ملاحظات- عناوين سوف نعالجها تفصيلياً، هي الآتية:

  1. غياب العدالة والمساواة بين التلاميذ
  2. الأجواء السلبية المرافقة لتحضير العرض أو الاحتفال
  3. السطحية والعشوائية في اختيار المواضيع
  4. التشويه الفني
  5. استغلال التلميذ وعدم مراعاة مصلحته (مشاركة الأهل والإدارة في اللعبة الإعلامية)

غياب العدالة والمساواة بين التلاميذ

خلال التحضير للعروض والاحتفالات في غالبية المدارس يتمّ انتقاء التلاميذ المميّزَين والموهوبين وأصحاب الشكل الجميل أو الصوت الواضح والعالي. هذه القاعدة يمكن أن تُخرق من قبل القيمين على الاحتفالات لإبراز تلميذ معين بدافع "الواسطة" كونه ابن المدير أو الناظر أو مقرَّب من معلمة أو تربط عائلته علاقة صداقة بأخرى...إلخ. من دون أن يكون من أصحاب الحضور أو الشخصية المميزة. وهذا الاستثناء المدعوم بال''واسطة'' يثير استياء المعلمين في العادة على خلفية عدم مشروعية تفضيل أحد التلاميذ على رفاقه من دون وجه حق، ويعتبره الجميع غير عادل خصوصاً وأن القاعدة المعمول بها، أن كل التلاميذ المشاركين في الاحتفال يجب أن يكونوا من أصحاب المواهب والشخصية القوية.

هذا ما يجري فعلاً في غالبية المدارس بنسبة تزيد هنا وتقل هناك، وهذا ما يعكس في الواقع سوء الفهم الحقيقي لدى الإدارة والمعلمين لوظيفة الاحتفال المدرسي، حيث يعتقد هؤلاء أن هدف الاحتفالات هو تلميع صورة المدرسة أمام الأهل والحضور، وإبراز المستوى العالي للتلاميذ "المنتقين" الذين يقومون بالتمثيل وقراءة الشعر والرقص والغناء ويتكلمون باللغات الأجنبية بطلاقة، ظناً منهم أن هذا الانتقاء للتلاميذ المميّزَين، كل في مجال معين، يدغدغ شعور الأهل ويُسهم في إقناعهم بالمستوى العالي للمدرسة وبالتالي يشعرهم بالرضا عنها لكي يطمئنّوا لبقاء أو لتسجيل أبنائهم فيها.

إن هذا الانتقاء المتعمّدَ للتلاميذ وإبرازهم أمام جمهور الأهل وتهميش رفاقهم ممن لا يملكون مواصفات التعبير المسرحي هو من أخطر الممارسات التي تشوه العملية التربوية برمتها، كما أن الشعور بعدم الإنصاف وعدم العدل بين تلميذ وآخر يؤثّرِ سلباً على ثقة التلميذ بمؤسسة المدرسة، وبالتالي يوقع القطيعة بينه وبينها، ويشكل سبباً غير مباشر للتسرب منها، وهو كذلك يتعارض مع أبسط القواعد والحقوق الإنسانية وحقوق الطفل، خصوصاً من ناحية عدم تكافؤ الفرص وغياب العدالة والمساواة بين الجميع. والمشكلة تصبح مضاعفة عندما يحصل ذلك في مؤسَّسة المدرسة المخوَّلة أساساً الحفاظ على هذه القوانين والأعراف وتفعيلها وتكييف التلاميذ معها لتتحول إلى سلوكيات وثوابت في قناعاتهم المستقبلية.

قد يظن البعض ممن ينظرون إلى الفنون ودورها التربوي نظرة استهتار وعدم جدوى، أن المسألة لا تحتمل كل هذا الضجيج، وأن الأمور ليست بهذه السلبية، والمسألة الفنية أو الاحتفالية ليست مطروحة كإشكالية تربوية تعاني منها مدارسنا وتستوجب الحلول السريعة، وبالتالي هناك الكثير من المشاكل التعليمية والتربوية التي يجب حلّها قبل هذه المشكلة، أمّا نحن كاختصاصيين في التربية الفنية فنعتقد العكس، لأن هذه المشكلة لا تتعلّق بالتربية الفنية أو المسرحية حصراً، بل تتعدى ذلك إلى اكتساب التلميذ للقيم والسلوكيات التربوية الخاطئة التي تمارس خلال هذه الاحتفالات على التلاميذ، وتؤثّر في تركيبتهم النفسية، وفي تكوين شخصياتهم المستقبلية، والتي تلبس الثوب المسرحي أو الاحتفالي فقط. ومن هنا نعتقد أن الأثر الذي تتركه هذه "الانتقائية" في نفسية التلميذ مدمّرِ، لأن هذا التلميذ يتأثر خلال سنوات الدراسة بكل ما من حوله سلباً أم إيجاباً، ومن أخطر التأثيرات في تكوين شخصيته شعوره بالنقص أو العزلة أو الضعف أو ما شابه ذلك.

وبالعودة إلى الاستثناء من القاعدة، أي التلميذ المدعوم بال"واسطة" الذي تكلمنا عنه آنفاً، والذي يعتبره البعض من خارج دائرة الموهوبين الذين يحق لهم وحدهم المشاركة، نجد أن أمثال هؤلاء هم الأكثر حاجة للصعود إلى خشبة المسرح والتعبير عن مكنوناتهم، ليس لأن لديه ''واسطة'' بل لأنه من خارج دائرة الموهوبين، فالتلميذ غير الواثق بنفسه والمتردد وصاحب الشخصية الضعيفة، هو الأكثر حاجة للظهور أمام الجمهور والمشاركة في الاحتفالات تمهيداً للخروج من أزمته، وسواء كان من أصحاب "الواسطة" أم لا فهو الأحق بممارسة المسرح والحصول على فرص التعبير عن الذات والإفادة من إمكانيات التمثيل والغناء والرقص والتعبير الفني، إننا نحاول أن نضيء على المفهوم الخاطىء المتحكِّم بأولادنا والمؤثر في تكوين شخصياتهم في مدارسنا، فالصحيح في نظر القيمين على الاحتفالات يتبيّنَ أنه خطأ، والخطأ في نظر المعلمين الذين يكرهون مبدأ الواسطة والتمييز بين التلاميذ- وهم على حق في ذلك- يتبيّنَ أنه صواب من الزاوية التربوية. إنها إشكالية التناقض بين الخطأ المتعارف عليه الذي يصبح القاعدة من جهة، وبين الصواب المجهول الذي يبقى الاستثناء، فقط لأننا لا نعرفه.

لحظات ما قبل العرض

الأجواء السلبية المرافقة للتحضير للعرض أو الاحتفال

من الملاحظات المتكررة التي شاهدناها واختبرناها في المدارس، الحالة المتشنّجِة والضاغطة التي تخيّمِ على أجواء التحضير للاحتفالات المدرسية، وهي سمة غالبة على جميع المدارس، ويعود السبب الأساس في ذلك إلى غياب المفهوم الواضح والنظرة الصحيحة للتربية المسرحية أو لدور المسرح في التربية. فخلال العمل مع التلاميذ على تحضير العروض والاحتفالات المدرسية، يقوم المعلمون بتدريب التلاميذ في أوقات محددة، غالباً ما تكون خلال الفرص أو ما بعد انتهاء الدوام، وفي العادة يكون الوقت المخصص للتمارين أقل بكثير من الحاجة الفعلية، فيضطر المعلمون للإسراع في التدريب لإنجاز العمل، ما ينعكس سلباً على التلميذ "المسكين" الذي يتعرض للقمع والترهيب والمعاقبة، فيما المطلوب تربوياً وفنياً إشاعة أجواء الفرح والمتعة والارتياح والتخيل، والإفادة منها في إخراج المكنونات الداخلية للتعبير والإبداع. ويعود السبب هنا أيضاً إلى غياب المفهوم الصحيح لجدوى الأنشطة الفنية وأهميتها التربوية، وبالتالي يتحول العمل الفني التربوي الهادف إلى واجب روتيني يقوم به المعلم تلبية لرغبة الإدارة، من دون مراعاة إحساس الطفل المشارك في الاحتفال والذي يعتبره فرصة للتعبير مختلفة عن أجواء الدرس الروتينية.

تمثيل ورقص في إحدى المدارسيعلم العاملون في هذا المجال أن ذلك يحصل في الغالبية المطلقة من المدارس، وهذا خطأ كبير يجب تلافيه وذلك لسببين مهمين: الأول، لأن ذلك لا يمكن أن ينتج عنه عمل تربوي واحتفال فني سليم، كون الطرق المستخدمة فيه غير تربوية. والثاني، لأن ذلك يتعارض مع أبسط شروط ممارسة الفن ومع حقوق الطفل، وبالتالي قد يتمكَّن المعلمون من إقامة الاحتفال وقد يفرح ذلك إدارة المدرسة والأهل على السواء، لكن هل لنا أن نفكر قليلاً بالآثار السلبية التي تبقى في داخل الطفل من جراء الطريقة القمعية التي استخدمت معه للوصول إلى العرض الجميل.

إن الأطفال يتعلمون من طريق الخبرة، وتترسَّخ في أذهانهم المفاهيم والقيم السلوكية، وتصبح جزءاً منهم. إننا عندما نسلك طريقاً غير سليم للوصول إلى النتيجة، وبخلاف النظر إلى هذه النتيجة، يجب أن نفكر بما تبقي من استنتاجات وترسبات نفسية لدى الطفل، فكيف يمكن أن تقوم المعلمة مثلاً بالصراخ على الأولاد وتهديدهم، وفي بعض الأحيان ضربهم من أجل تنفيذ عمل فني تربوي تعبيري جمالي احتفالي، أليس في ذلك تناقض رهيب؟

إن المشكلة الكبرى تكمن في أننا في مدارسنا غالباً ما ننسى أننا في مؤسسة تربوية مهمتها تكوين شخصية الطفل إضافة إلى تعليمه، فنمارس عليه شتى أنواع الضغوط والتقييد والحجز والتخويف، ولا نترك له متنفساً للتعبير بحرية والتصرف بعفوية، قد نوافق على مضض على أن بعض هذه الأساليب قد يصح بطرق مقبولة ومدروسة ومخفّفة خلال التعليم للتخفيف من الشغب أو لفرض النظام، نقول على مضض لأننا لا نوافق على هذه الأساليب بالمطلق، لكن أن يحصل ذلك في إطار ممارسة الفنون والمسرح والاحتفالات الفنية فهذا أمر مرفوض، وهو إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على ضعف المستوى التربوي للقيمين على التعليم في المدارس التي تنطبق عليها هذه المواصفات.

إن المطلوب هو أن تتحول الاحتفالات المدرسية إلى واحة إبداع وتعبير للتلاميذ، وذلك من خلال إعطائها الوقت الكافي، وتوفير الإمكانيات اللازمة لإنجاحها وخلق أجواء الفرح والمتعة، وتضمينها الأهداف التربوية المفيدة، لكي يشعر التلميذ أن ما يُتعِبه في الصف وخلال الدروس هناك ما يقابله من أجواء مريحة وممتعة، ما يؤدي بالنتيجة إلى شعوره بالأمان والتوازن، ويؤمن شروط المصالحة بين التلميذ والمدرسة، هذه المصالحة التي تعتبر من أهم الإشكاليات التربوية الحديثة والطارئة على العملية التربوية، خصوصاً في ظل ازدياد الضغوط النفسية على التلميذ داخل المدرسة وخارجها، ما يعمّق الفجوة بينه وبين المدرسة ويُسهم في إمكانية قبوله لفكرة التسرب تخفيفاً للضغط أو هروباً من المواجهة.

السطحية والعشوائية في اختيار المواضيع

من المشكلات المهمة التي تشهدها الاحتفالات المدرسية كيفية انتقاء المواضيع والمضامين للاحتفالات أو المسرحيات، فقلة قليلة من المدارس تعطي هذا الموضوع حيزاً من اهتمامها من ناحية التفكير بالمضمون التربوي أو الثقافي المفيد للتلميذ، فيما الغالبية تتعاطى معه من زاوية الترفيه السطحي والمجاني غير الهادف إلا إلى تضخيم الشكل على حساب المضمون. ومن خلال متابعاتنا لعدد كبير من الاحتفالات المدرسية في مدارس متنوعة ومختلفة من حيث المستوى والإمكانيات (النخبوية منها والعادية، الخاصة والرسمية)  وجدنا أن غالبية الاحتفالات تعتمد وسيلة الإبهار الشكلي ودغدغة عواطف الأهل والاستسهال في تقديم الاسكتشات والأغاني والرقصات في روتين ممل مضى عليه نصف قرن من الزمن.

إن المعادلة التي تحكم اختيار مضامين الاحتفالات المدرسية تستند إلى عاملين أساسيين هما: ثقافة إدارة المدرسة وثقافة الأهل-

الاحتفالات المدرسية بين الممارسة الخاطئة والدور التربوي المرتجى

د. هشام زين الدين أخصائي الفنون الجميلة المركز التربوي للبحوث والإنماء استاذ في الجامعة اللبنانيةالاحتفالات المدرسية
بين الممارسة الخاطئة والدور التربوي المرتجى

 

تقدم غالبية المدارس اللبنانية الرسمية والخاصة عروضاً واحتفالات مسرحية في المناسبات والأعياد، وخصوصاً في احتفالات انتهاء العام الدراسي. وقد أصبح هذا التقليد من أساسيات روزنامة الأنشطة المدرسية التي تشكل مساحة للّقِاء مع الأهل، ومجالاً غير مباشر لاختبار وتوطيد علاقة المدرسة بالأهل وبالعكس، بحيث نجد أن بعض المدارس تهتم بشكل مبالغ فيه بإنجاح الاحتفالات، للظهور بصورة لمّاَعة أمام الأهل إيماناً منها بأن مفتاح الدخول إلى قلب وعقل ولي الأمر هو إغراء عينه بالشكل الجميل للاحتفال المدرسي، وإشباع عاطفته برؤية أولاده على خشبة المسرح يرقصون ويغنّون.


إن هذه المعادلة الشكلية التي تحكم تنظيم احتفالاتنا المدرسية والتي تنطبق على الغالبية العظمى من المدارس، هي غير صحيحة وغير مفيدة تربوياً، وبالتالي يجب أن تخضع لإعادة النظر بمسؤولية من قبل القيمين على الشأنين الإداري والتربوي في مدارسنا. ومن خلال المتابعة لما يجري قبل وأثناء وبعد العروض والاحتفالات المدرسية في عينة كبيرة المدارس الخاصة والرسمية، تكونت لدينا مجموعة ملاحظات- عناوين سوف نعالجها تفصيلياً، هي الآتية:

  1. غياب العدالة والمساواة بين التلاميذ
  2. الأجواء السلبية المرافقة لتحضير العرض أو الاحتفال
  3. السطحية والعشوائية في اختيار المواضيع
  4. التشويه الفني
  5. استغلال التلميذ وعدم مراعاة مصلحته (مشاركة الأهل والإدارة في اللعبة الإعلامية)

غياب العدالة والمساواة بين التلاميذ

خلال التحضير للعروض والاحتفالات في غالبية المدارس يتمّ انتقاء التلاميذ المميّزَين والموهوبين وأصحاب الشكل الجميل أو الصوت الواضح والعالي. هذه القاعدة يمكن أن تُخرق من قبل القيمين على الاحتفالات لإبراز تلميذ معين بدافع "الواسطة" كونه ابن المدير أو الناظر أو مقرَّب من معلمة أو تربط عائلته علاقة صداقة بأخرى...إلخ. من دون أن يكون من أصحاب الحضور أو الشخصية المميزة. وهذا الاستثناء المدعوم بال''واسطة'' يثير استياء المعلمين في العادة على خلفية عدم مشروعية تفضيل أحد التلاميذ على رفاقه من دون وجه حق، ويعتبره الجميع غير عادل خصوصاً وأن القاعدة المعمول بها، أن كل التلاميذ المشاركين في الاحتفال يجب أن يكونوا من أصحاب المواهب والشخصية القوية.

هذا ما يجري فعلاً في غالبية المدارس بنسبة تزيد هنا وتقل هناك، وهذا ما يعكس في الواقع سوء الفهم الحقيقي لدى الإدارة والمعلمين لوظيفة الاحتفال المدرسي، حيث يعتقد هؤلاء أن هدف الاحتفالات هو تلميع صورة المدرسة أمام الأهل والحضور، وإبراز المستوى العالي للتلاميذ "المنتقين" الذين يقومون بالتمثيل وقراءة الشعر والرقص والغناء ويتكلمون باللغات الأجنبية بطلاقة، ظناً منهم أن هذا الانتقاء للتلاميذ المميّزَين، كل في مجال معين، يدغدغ شعور الأهل ويُسهم في إقناعهم بالمستوى العالي للمدرسة وبالتالي يشعرهم بالرضا عنها لكي يطمئنّوا لبقاء أو لتسجيل أبنائهم فيها.

إن هذا الانتقاء المتعمّدَ للتلاميذ وإبرازهم أمام جمهور الأهل وتهميش رفاقهم ممن لا يملكون مواصفات التعبير المسرحي هو من أخطر الممارسات التي تشوه العملية التربوية برمتها، كما أن الشعور بعدم الإنصاف وعدم العدل بين تلميذ وآخر يؤثّرِ سلباً على ثقة التلميذ بمؤسسة المدرسة، وبالتالي يوقع القطيعة بينه وبينها، ويشكل سبباً غير مباشر للتسرب منها، وهو كذلك يتعارض مع أبسط القواعد والحقوق الإنسانية وحقوق الطفل، خصوصاً من ناحية عدم تكافؤ الفرص وغياب العدالة والمساواة بين الجميع. والمشكلة تصبح مضاعفة عندما يحصل ذلك في مؤسَّسة المدرسة المخوَّلة أساساً الحفاظ على هذه القوانين والأعراف وتفعيلها وتكييف التلاميذ معها لتتحول إلى سلوكيات وثوابت في قناعاتهم المستقبلية.

قد يظن البعض ممن ينظرون إلى الفنون ودورها التربوي نظرة استهتار وعدم جدوى، أن المسألة لا تحتمل كل هذا الضجيج، وأن الأمور ليست بهذه السلبية، والمسألة الفنية أو الاحتفالية ليست مطروحة كإشكالية تربوية تعاني منها مدارسنا وتستوجب الحلول السريعة، وبالتالي هناك الكثير من المشاكل التعليمية والتربوية التي يجب حلّها قبل هذه المشكلة، أمّا نحن كاختصاصيين في التربية الفنية فنعتقد العكس، لأن هذه المشكلة لا تتعلّق بالتربية الفنية أو المسرحية حصراً، بل تتعدى ذلك إلى اكتساب التلميذ للقيم والسلوكيات التربوية الخاطئة التي تمارس خلال هذه الاحتفالات على التلاميذ، وتؤثّر في تركيبتهم النفسية، وفي تكوين شخصياتهم المستقبلية، والتي تلبس الثوب المسرحي أو الاحتفالي فقط. ومن هنا نعتقد أن الأثر الذي تتركه هذه "الانتقائية" في نفسية التلميذ مدمّرِ، لأن هذا التلميذ يتأثر خلال سنوات الدراسة بكل ما من حوله سلباً أم إيجاباً، ومن أخطر التأثيرات في تكوين شخصيته شعوره بالنقص أو العزلة أو الضعف أو ما شابه ذلك.

وبالعودة إلى الاستثناء من القاعدة، أي التلميذ المدعوم بال"واسطة" الذي تكلمنا عنه آنفاً، والذي يعتبره البعض من خارج دائرة الموهوبين الذين يحق لهم وحدهم المشاركة، نجد أن أمثال هؤلاء هم الأكثر حاجة للصعود إلى خشبة المسرح والتعبير عن مكنوناتهم، ليس لأن لديه ''واسطة'' بل لأنه من خارج دائرة الموهوبين، فالتلميذ غير الواثق بنفسه والمتردد وصاحب الشخصية الضعيفة، هو الأكثر حاجة للظهور أمام الجمهور والمشاركة في الاحتفالات تمهيداً للخروج من أزمته، وسواء كان من أصحاب "الواسطة" أم لا فهو الأحق بممارسة المسرح والحصول على فرص التعبير عن الذات والإفادة من إمكانيات التمثيل والغناء والرقص والتعبير الفني، إننا نحاول أن نضيء على المفهوم الخاطىء المتحكِّم بأولادنا والمؤثر في تكوين شخصياتهم في مدارسنا، فالصحيح في نظر القيمين على الاحتفالات يتبيّنَ أنه خطأ، والخطأ في نظر المعلمين الذين يكرهون مبدأ الواسطة والتمييز بين التلاميذ- وهم على حق في ذلك- يتبيّنَ أنه صواب من الزاوية التربوية. إنها إشكالية التناقض بين الخطأ المتعارف عليه الذي يصبح القاعدة من جهة، وبين الصواب المجهول الذي يبقى الاستثناء، فقط لأننا لا نعرفه.

لحظات ما قبل العرض

الأجواء السلبية المرافقة للتحضير للعرض أو الاحتفال

من الملاحظات المتكررة التي شاهدناها واختبرناها في المدارس، الحالة المتشنّجِة والضاغطة التي تخيّمِ على أجواء التحضير للاحتفالات المدرسية، وهي سمة غالبة على جميع المدارس، ويعود السبب الأساس في ذلك إلى غياب المفهوم الواضح والنظرة الصحيحة للتربية المسرحية أو لدور المسرح في التربية. فخلال العمل مع التلاميذ على تحضير العروض والاحتفالات المدرسية، يقوم المعلمون بتدريب التلاميذ في أوقات محددة، غالباً ما تكون خلال الفرص أو ما بعد انتهاء الدوام، وفي العادة يكون الوقت المخصص للتمارين أقل بكثير من الحاجة الفعلية، فيضطر المعلمون للإسراع في التدريب لإنجاز العمل، ما ينعكس سلباً على التلميذ "المسكين" الذي يتعرض للقمع والترهيب والمعاقبة، فيما المطلوب تربوياً وفنياً إشاعة أجواء الفرح والمتعة والارتياح والتخيل، والإفادة منها في إخراج المكنونات الداخلية للتعبير والإبداع. ويعود السبب هنا أيضاً إلى غياب المفهوم الصحيح لجدوى الأنشطة الفنية وأهميتها التربوية، وبالتالي يتحول العمل الفني التربوي الهادف إلى واجب روتيني يقوم به المعلم تلبية لرغبة الإدارة، من دون مراعاة إحساس الطفل المشارك في الاحتفال والذي يعتبره فرصة للتعبير مختلفة عن أجواء الدرس الروتينية.

تمثيل ورقص في إحدى المدارسيعلم العاملون في هذا المجال أن ذلك يحصل في الغالبية المطلقة من المدارس، وهذا خطأ كبير يجب تلافيه وذلك لسببين مهمين: الأول، لأن ذلك لا يمكن أن ينتج عنه عمل تربوي واحتفال فني سليم، كون الطرق المستخدمة فيه غير تربوية. والثاني، لأن ذلك يتعارض مع أبسط شروط ممارسة الفن ومع حقوق الطفل، وبالتالي قد يتمكَّن المعلمون من إقامة الاحتفال وقد يفرح ذلك إدارة المدرسة والأهل على السواء، لكن هل لنا أن نفكر قليلاً بالآثار السلبية التي تبقى في داخل الطفل من جراء الطريقة القمعية التي استخدمت معه للوصول إلى العرض الجميل.

إن الأطفال يتعلمون من طريق الخبرة، وتترسَّخ في أذهانهم المفاهيم والقيم السلوكية، وتصبح جزءاً منهم. إننا عندما نسلك طريقاً غير سليم للوصول إلى النتيجة، وبخلاف النظر إلى هذه النتيجة، يجب أن نفكر بما تبقي من استنتاجات وترسبات نفسية لدى الطفل، فكيف يمكن أن تقوم المعلمة مثلاً بالصراخ على الأولاد وتهديدهم، وفي بعض الأحيان ضربهم من أجل تنفيذ عمل فني تربوي تعبيري جمالي احتفالي، أليس في ذلك تناقض رهيب؟

إن المشكلة الكبرى تكمن في أننا في مدارسنا غالباً ما ننسى أننا في مؤسسة تربوية مهمتها تكوين شخصية الطفل إضافة إلى تعليمه، فنمارس عليه شتى أنواع الضغوط والتقييد والحجز والتخويف، ولا نترك له متنفساً للتعبير بحرية والتصرف بعفوية، قد نوافق على مضض على أن بعض هذه الأساليب قد يصح بطرق مقبولة ومدروسة ومخفّفة خلال التعليم للتخفيف من الشغب أو لفرض النظام، نقول على مضض لأننا لا نوافق على هذه الأساليب بالمطلق، لكن أن يحصل ذلك في إطار ممارسة الفنون والمسرح والاحتفالات الفنية فهذا أمر مرفوض، وهو إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على ضعف المستوى التربوي للقيمين على التعليم في المدارس التي تنطبق عليها هذه المواصفات.

إن المطلوب هو أن تتحول الاحتفالات المدرسية إلى واحة إبداع وتعبير للتلاميذ، وذلك من خلال إعطائها الوقت الكافي، وتوفير الإمكانيات اللازمة لإنجاحها وخلق أجواء الفرح والمتعة، وتضمينها الأهداف التربوية المفيدة، لكي يشعر التلميذ أن ما يُتعِبه في الصف وخلال الدروس هناك ما يقابله من أجواء مريحة وممتعة، ما يؤدي بالنتيجة إلى شعوره بالأمان والتوازن، ويؤمن شروط المصالحة بين التلميذ والمدرسة، هذه المصالحة التي تعتبر من أهم الإشكاليات التربوية الحديثة والطارئة على العملية التربوية، خصوصاً في ظل ازدياد الضغوط النفسية على التلميذ داخل المدرسة وخارجها، ما يعمّق الفجوة بينه وبين المدرسة ويُسهم في إمكانية قبوله لفكرة التسرب تخفيفاً للضغط أو هروباً من المواجهة.

السطحية والعشوائية في اختيار المواضيع

من المشكلات المهمة التي تشهدها الاحتفالات المدرسية كيفية انتقاء المواضيع والمضامين للاحتفالات أو المسرحيات، فقلة قليلة من المدارس تعطي هذا الموضوع حيزاً من اهتمامها من ناحية التفكير بالمضمون التربوي أو الثقافي المفيد للتلميذ، فيما الغالبية تتعاطى معه من زاوية الترفيه السطحي والمجاني غير الهادف إلا إلى تضخيم الشكل على حساب المضمون. ومن خلال متابعاتنا لعدد كبير من الاحتفالات المدرسية في مدارس متنوعة ومختلفة من حيث المستوى والإمكانيات (النخبوية منها والعادية، الخاصة والرسمية)  وجدنا أن غالبية الاحتفالات تعتمد وسيلة الإبهار الشكلي ودغدغة عواطف الأهل والاستسهال في تقديم الاسكتشات والأغاني والرقصات في روتين ممل مضى عليه نصف قرن من الزمن.

إن المعادلة التي تحكم اختيار مضامين الاحتفالات المدرسية تستند إلى عاملين أساسيين هما: ثقافة إدارة المدرسة وثقافة الأهل-

الاحتفالات المدرسية بين الممارسة الخاطئة والدور التربوي المرتجى

د. هشام زين الدين أخصائي الفنون الجميلة المركز التربوي للبحوث والإنماء استاذ في الجامعة اللبنانيةالاحتفالات المدرسية
بين الممارسة الخاطئة والدور التربوي المرتجى

 

تقدم غالبية المدارس اللبنانية الرسمية والخاصة عروضاً واحتفالات مسرحية في المناسبات والأعياد، وخصوصاً في احتفالات انتهاء العام الدراسي. وقد أصبح هذا التقليد من أساسيات روزنامة الأنشطة المدرسية التي تشكل مساحة للّقِاء مع الأهل، ومجالاً غير مباشر لاختبار وتوطيد علاقة المدرسة بالأهل وبالعكس، بحيث نجد أن بعض المدارس تهتم بشكل مبالغ فيه بإنجاح الاحتفالات، للظهور بصورة لمّاَعة أمام الأهل إيماناً منها بأن مفتاح الدخول إلى قلب وعقل ولي الأمر هو إغراء عينه بالشكل الجميل للاحتفال المدرسي، وإشباع عاطفته برؤية أولاده على خشبة المسرح يرقصون ويغنّون.


إن هذه المعادلة الشكلية التي تحكم تنظيم احتفالاتنا المدرسية والتي تنطبق على الغالبية العظمى من المدارس، هي غير صحيحة وغير مفيدة تربوياً، وبالتالي يجب أن تخضع لإعادة النظر بمسؤولية من قبل القيمين على الشأنين الإداري والتربوي في مدارسنا. ومن خلال المتابعة لما يجري قبل وأثناء وبعد العروض والاحتفالات المدرسية في عينة كبيرة المدارس الخاصة والرسمية، تكونت لدينا مجموعة ملاحظات- عناوين سوف نعالجها تفصيلياً، هي الآتية:

  1. غياب العدالة والمساواة بين التلاميذ
  2. الأجواء السلبية المرافقة لتحضير العرض أو الاحتفال
  3. السطحية والعشوائية في اختيار المواضيع
  4. التشويه الفني
  5. استغلال التلميذ وعدم مراعاة مصلحته (مشاركة الأهل والإدارة في اللعبة الإعلامية)

غياب العدالة والمساواة بين التلاميذ

خلال التحضير للعروض والاحتفالات في غالبية المدارس يتمّ انتقاء التلاميذ المميّزَين والموهوبين وأصحاب الشكل الجميل أو الصوت الواضح والعالي. هذه القاعدة يمكن أن تُخرق من قبل القيمين على الاحتفالات لإبراز تلميذ معين بدافع "الواسطة" كونه ابن المدير أو الناظر أو مقرَّب من معلمة أو تربط عائلته علاقة صداقة بأخرى...إلخ. من دون أن يكون من أصحاب الحضور أو الشخصية المميزة. وهذا الاستثناء المدعوم بال''واسطة'' يثير استياء المعلمين في العادة على خلفية عدم مشروعية تفضيل أحد التلاميذ على رفاقه من دون وجه حق، ويعتبره الجميع غير عادل خصوصاً وأن القاعدة المعمول بها، أن كل التلاميذ المشاركين في الاحتفال يجب أن يكونوا من أصحاب المواهب والشخصية القوية.

هذا ما يجري فعلاً في غالبية المدارس بنسبة تزيد هنا وتقل هناك، وهذا ما يعكس في الواقع سوء الفهم الحقيقي لدى الإدارة والمعلمين لوظيفة الاحتفال المدرسي، حيث يعتقد هؤلاء أن هدف الاحتفالات هو تلميع صورة المدرسة أمام الأهل والحضور، وإبراز المستوى العالي للتلاميذ "المنتقين" الذين يقومون بالتمثيل وقراءة الشعر والرقص والغناء ويتكلمون باللغات الأجنبية بطلاقة، ظناً منهم أن هذا الانتقاء للتلاميذ المميّزَين، كل في مجال معين، يدغدغ شعور الأهل ويُسهم في إقناعهم بالمستوى العالي للمدرسة وبالتالي يشعرهم بالرضا عنها لكي يطمئنّوا لبقاء أو لتسجيل أبنائهم فيها.

إن هذا الانتقاء المتعمّدَ للتلاميذ وإبرازهم أمام جمهور الأهل وتهميش رفاقهم ممن لا يملكون مواصفات التعبير المسرحي هو من أخطر الممارسات التي تشوه العملية التربوية برمتها، كما أن الشعور بعدم الإنصاف وعدم العدل بين تلميذ وآخر يؤثّرِ سلباً على ثقة التلميذ بمؤسسة المدرسة، وبالتالي يوقع القطيعة بينه وبينها، ويشكل سبباً غير مباشر للتسرب منها، وهو كذلك يتعارض مع أبسط القواعد والحقوق الإنسانية وحقوق الطفل، خصوصاً من ناحية عدم تكافؤ الفرص وغياب العدالة والمساواة بين الجميع. والمشكلة تصبح مضاعفة عندما يحصل ذلك في مؤسَّسة المدرسة المخوَّلة أساساً الحفاظ على هذه القوانين والأعراف وتفعيلها وتكييف التلاميذ معها لتتحول إلى سلوكيات وثوابت في قناعاتهم المستقبلية.

قد يظن البعض ممن ينظرون إلى الفنون ودورها التربوي نظرة استهتار وعدم جدوى، أن المسألة لا تحتمل كل هذا الضجيج، وأن الأمور ليست بهذه السلبية، والمسألة الفنية أو الاحتفالية ليست مطروحة كإشكالية تربوية تعاني منها مدارسنا وتستوجب الحلول السريعة، وبالتالي هناك الكثير من المشاكل التعليمية والتربوية التي يجب حلّها قبل هذه المشكلة، أمّا نحن كاختصاصيين في التربية الفنية فنعتقد العكس، لأن هذه المشكلة لا تتعلّق بالتربية الفنية أو المسرحية حصراً، بل تتعدى ذلك إلى اكتساب التلميذ للقيم والسلوكيات التربوية الخاطئة التي تمارس خلال هذه الاحتفالات على التلاميذ، وتؤثّر في تركيبتهم النفسية، وفي تكوين شخصياتهم المستقبلية، والتي تلبس الثوب المسرحي أو الاحتفالي فقط. ومن هنا نعتقد أن الأثر الذي تتركه هذه "الانتقائية" في نفسية التلميذ مدمّرِ، لأن هذا التلميذ يتأثر خلال سنوات الدراسة بكل ما من حوله سلباً أم إيجاباً، ومن أخطر التأثيرات في تكوين شخصيته شعوره بالنقص أو العزلة أو الضعف أو ما شابه ذلك.

وبالعودة إلى الاستثناء من القاعدة، أي التلميذ المدعوم بال"واسطة" الذي تكلمنا عنه آنفاً، والذي يعتبره البعض من خارج دائرة الموهوبين الذين يحق لهم وحدهم المشاركة، نجد أن أمثال هؤلاء هم الأكثر حاجة للصعود إلى خشبة المسرح والتعبير عن مكنوناتهم، ليس لأن لديه ''واسطة'' بل لأنه من خارج دائرة الموهوبين، فالتلميذ غير الواثق بنفسه والمتردد وصاحب الشخصية الضعيفة، هو الأكثر حاجة للظهور أمام الجمهور والمشاركة في الاحتفالات تمهيداً للخروج من أزمته، وسواء كان من أصحاب "الواسطة" أم لا فهو الأحق بممارسة المسرح والحصول على فرص التعبير عن الذات والإفادة من إمكانيات التمثيل والغناء والرقص والتعبير الفني، إننا نحاول أن نضيء على المفهوم الخاطىء المتحكِّم بأولادنا والمؤثر في تكوين شخصياتهم في مدارسنا، فالصحيح في نظر القيمين على الاحتفالات يتبيّنَ أنه خطأ، والخطأ في نظر المعلمين الذين يكرهون مبدأ الواسطة والتمييز بين التلاميذ- وهم على حق في ذلك- يتبيّنَ أنه صواب من الزاوية التربوية. إنها إشكالية التناقض بين الخطأ المتعارف عليه الذي يصبح القاعدة من جهة، وبين الصواب المجهول الذي يبقى الاستثناء، فقط لأننا لا نعرفه.

لحظات ما قبل العرض

الأجواء السلبية المرافقة للتحضير للعرض أو الاحتفال

من الملاحظات المتكررة التي شاهدناها واختبرناها في المدارس، الحالة المتشنّجِة والضاغطة التي تخيّمِ على أجواء التحضير للاحتفالات المدرسية، وهي سمة غالبة على جميع المدارس، ويعود السبب الأساس في ذلك إلى غياب المفهوم الواضح والنظرة الصحيحة للتربية المسرحية أو لدور المسرح في التربية. فخلال العمل مع التلاميذ على تحضير العروض والاحتفالات المدرسية، يقوم المعلمون بتدريب التلاميذ في أوقات محددة، غالباً ما تكون خلال الفرص أو ما بعد انتهاء الدوام، وفي العادة يكون الوقت المخصص للتمارين أقل بكثير من الحاجة الفعلية، فيضطر المعلمون للإسراع في التدريب لإنجاز العمل، ما ينعكس سلباً على التلميذ "المسكين" الذي يتعرض للقمع والترهيب والمعاقبة، فيما المطلوب تربوياً وفنياً إشاعة أجواء الفرح والمتعة والارتياح والتخيل، والإفادة منها في إخراج المكنونات الداخلية للتعبير والإبداع. ويعود السبب هنا أيضاً إلى غياب المفهوم الصحيح لجدوى الأنشطة الفنية وأهميتها التربوية، وبالتالي يتحول العمل الفني التربوي الهادف إلى واجب روتيني يقوم به المعلم تلبية لرغبة الإدارة، من دون مراعاة إحساس الطفل المشارك في الاحتفال والذي يعتبره فرصة للتعبير مختلفة عن أجواء الدرس الروتينية.

تمثيل ورقص في إحدى المدارسيعلم العاملون في هذا المجال أن ذلك يحصل في الغالبية المطلقة من المدارس، وهذا خطأ كبير يجب تلافيه وذلك لسببين مهمين: الأول، لأن ذلك لا يمكن أن ينتج عنه عمل تربوي واحتفال فني سليم، كون الطرق المستخدمة فيه غير تربوية. والثاني، لأن ذلك يتعارض مع أبسط شروط ممارسة الفن ومع حقوق الطفل، وبالتالي قد يتمكَّن المعلمون من إقامة الاحتفال وقد يفرح ذلك إدارة المدرسة والأهل على السواء، لكن هل لنا أن نفكر قليلاً بالآثار السلبية التي تبقى في داخل الطفل من جراء الطريقة القمعية التي استخدمت معه للوصول إلى العرض الجميل.

إن الأطفال يتعلمون من طريق الخبرة، وتترسَّخ في أذهانهم المفاهيم والقيم السلوكية، وتصبح جزءاً منهم. إننا عندما نسلك طريقاً غير سليم للوصول إلى النتيجة، وبخلاف النظر إلى هذه النتيجة، يجب أن نفكر بما تبقي من استنتاجات وترسبات نفسية لدى الطفل، فكيف يمكن أن تقوم المعلمة مثلاً بالصراخ على الأولاد وتهديدهم، وفي بعض الأحيان ضربهم من أجل تنفيذ عمل فني تربوي تعبيري جمالي احتفالي، أليس في ذلك تناقض رهيب؟

إن المشكلة الكبرى تكمن في أننا في مدارسنا غالباً ما ننسى أننا في مؤسسة تربوية مهمتها تكوين شخصية الطفل إضافة إلى تعليمه، فنمارس عليه شتى أنواع الضغوط والتقييد والحجز والتخويف، ولا نترك له متنفساً للتعبير بحرية والتصرف بعفوية، قد نوافق على مضض على أن بعض هذه الأساليب قد يصح بطرق مقبولة ومدروسة ومخفّفة خلال التعليم للتخفيف من الشغب أو لفرض النظام، نقول على مضض لأننا لا نوافق على هذه الأساليب بالمطلق، لكن أن يحصل ذلك في إطار ممارسة الفنون والمسرح والاحتفالات الفنية فهذا أمر مرفوض، وهو إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على ضعف المستوى التربوي للقيمين على التعليم في المدارس التي تنطبق عليها هذه المواصفات.

إن المطلوب هو أن تتحول الاحتفالات المدرسية إلى واحة إبداع وتعبير للتلاميذ، وذلك من خلال إعطائها الوقت الكافي، وتوفير الإمكانيات اللازمة لإنجاحها وخلق أجواء الفرح والمتعة، وتضمينها الأهداف التربوية المفيدة، لكي يشعر التلميذ أن ما يُتعِبه في الصف وخلال الدروس هناك ما يقابله من أجواء مريحة وممتعة، ما يؤدي بالنتيجة إلى شعوره بالأمان والتوازن، ويؤمن شروط المصالحة بين التلميذ والمدرسة، هذه المصالحة التي تعتبر من أهم الإشكاليات التربوية الحديثة والطارئة على العملية التربوية، خصوصاً في ظل ازدياد الضغوط النفسية على التلميذ داخل المدرسة وخارجها، ما يعمّق الفجوة بينه وبين المدرسة ويُسهم في إمكانية قبوله لفكرة التسرب تخفيفاً للضغط أو هروباً من المواجهة.

السطحية والعشوائية في اختيار المواضيع

من المشكلات المهمة التي تشهدها الاحتفالات المدرسية كيفية انتقاء المواضيع والمضامين للاحتفالات أو المسرحيات، فقلة قليلة من المدارس تعطي هذا الموضوع حيزاً من اهتمامها من ناحية التفكير بالمضمون التربوي أو الثقافي المفيد للتلميذ، فيما الغالبية تتعاطى معه من زاوية الترفيه السطحي والمجاني غير الهادف إلا إلى تضخيم الشكل على حساب المضمون. ومن خلال متابعاتنا لعدد كبير من الاحتفالات المدرسية في مدارس متنوعة ومختلفة من حيث المستوى والإمكانيات (النخبوية منها والعادية، الخاصة والرسمية)  وجدنا أن غالبية الاحتفالات تعتمد وسيلة الإبهار الشكلي ودغدغة عواطف الأهل والاستسهال في تقديم الاسكتشات والأغاني والرقصات في روتين ممل مضى عليه نصف قرن من الزمن.

إن المعادلة التي تحكم اختيار مضامين الاحتفالات المدرسية تستند إلى عاملين أساسيين هما: ثقافة إدارة المدرسة وثقافة الأهل-