ذاكرة التربية
من مدرسة القرية ... الى جامعة السوربون
ولدت في قرية الريحانة (منطقة جبيل) عام ١٩٢٩ . في عائلة فلاحين تعتمد في معيشتها على العمل في الارض. وككل عائلات الفلاحين آنذاك، كان لعائلتنا عدد من الماعز والبقر. وكان الأولاد وأنا منهم مسؤولين عن تربية الماشية. حيث كنا نستيقظ باكراً لمساعدة أهلنا في البيت وفي الحقل ولا سيما في تربية الحيوانات. في السابعة من عمري أرسلني أهلي إلى مدرسة القرية في جدايل، حيث كنا نذهب إليها مشياً على الأقدام وكانت المسافة بعيدة وكان في المدرسة معلم واحد يعلّم كل الاولاد، وجميع المواد. وكان شرط الأهل على المعلم أن يسرّحِ أولادهم الماشية باكراً، وبعد عودتهم إلى البيت يذهبون إلى المدرسة، يسمّعون أمثولتهم ويرجعون إلى البيت لمساعدة أهلهم.
أما مواد التعليم فكانت: القراءة العربية والإملاء، والحساب والقراءة الفرنسية، إنما لم نكن نعرف من الفرنسية سوى القراءة. حتى أن المعلم كان يجهل معنى معظم الكلمات. بعد ثلاث سنوات ذهبت الى المدرسة الرسمية الحكومية في قرية المنصف وكان فيها أستاذ مميز. هو خريج دار المعلمين الابتدائية، عرفنا معه النظام الدقيق والتعليم الجدّي الرصين، والاهتمام بعدد من المواد التي لم تكن في مدرستنا السابقة من عربية وفرنسية وحساب وإملاء ودروس أشياء، واعتماد كتب أفضل من السابق.
بعد نهاية المرحلة الابتدائية وجد أهلي أن أتابع دروسي، ولم يكن في جبيل ولا في منطقتها مدرسة واحدة للمرحلة ما بعد الابتدائية. كان القادرون يرسلون أولادهم الى المدرسة الخاصة في جونيه أو في بيروت. لحسن حظي كان لنا أقارب في بيروت، فرأى أهلي أن يرسلوني إلى هناك، اهتمت والدتي رحمها لله بالأمر وأخي الأكبر، وكان والدي قد توفاه لله وأنا في العاشرة من عمري. أما في بيروت فكانت توجد آنذاك عام ١٩٤٣ ، مدرستان حكوميتان فقط للمرحلة التكميلية أو المتوسطة. واحدة للصبيان هي ''مدرسة حوض الولاية'' وثانية للبنات هي ''مدرسة البنات الجديدة- التباريس''. دخلت مدرسة حوض الولاية وتأثرت بها كثيراً، كان فيها أساتذة ناجحون. تأثرت بصورة خاصة بالاستاذ أحمد مختار عضاضة، بأسلوبه، بطريقته الواعية في شرح الدرس. وبالشيخ راشد عليوان أستاذ اللغة العربية. اجتزت بنجاح شهادتي البريفه اللبنانية والفرنسية عام ١٩٤٧ . وكنت في الصيف أدير مدرسة صيفية في جدايل.
بعد المرحلة المتوسطة، كان يجب الانتقال الى المرحلة الثانوية. ولم يكن في بيروت أنذاك للحكومة سوى مدرسة واحدة للمرحلة ما بعد المتوسطة هي ''دار المعلمين الابتدائية''. تستقبل في السنة ٤٥ تلميذاً. وتجري لذلك امتحاناً دقيقاً وصعباً. وكنت لحسن حظي من الناجحين.
دخلت دار المعلمين، الابتدائية عام ١٩٤٧ وكانت تضم نخبة مميزة من الاساتذة، وفي مواد مختلفة، أتممت خلال سنتين وبنجاح برنامج دار المعلمين، وحصلت على الاجازة التعليمية، وكانت الدار تخصص سنة ثالثة لعدد من التلاميذ المتفوقين. وكنت من بينهم. تخصصت بتعليم اللغة الفرنسية ذاكرة التربية والتاريخ والجغرافيا. وبدأت التعليم في مدرسة راس بيروت الرسمية.
قررت الا أكتفي بشهادة دار المعلمين، فأعددت على ذاتي البكالوريا اللبنانية بقسميّها الأول والثاني. واخترت أن أتخصص بالتاريخ والجغرافيا، اعتبرت أن للمادة مستقبلاً حسناً. وبامكاني أن أستفيد من اتقاني للعربية والفرنسية. دخلت الأكاديمية اللبنانية لمؤسسها الكسي بطرس لاعداد إجازة في التاريخ، ومدرسة الآداب العليا التابعة لجامعة ليون الفرنسية لاعداد إجازة في الجغرافيا. أنهيت الإجازتين بنجاح. وبدأت بتعليم التاريخ والجغرافيا، وقد أحدث المتخصصون في هاتين المادتين تأثيراً كبيراً في حقل التعليم، وبدا للتلاميذ وللأهل أهمية التاريخ والجغرافيا. وفتحت الجامعات فروعاً لتعليمهما. وكان على جيلنا أن يضع نمطاً جديداً لتعليم التاريخ والجغرافيا. لم تكن كتب التاريخ والجغرافيا بعد على المستوى اللائق، فانصرف المعلمون الى وضع دراسات مكتوبة Cours وإملائها على التلاميذ. وتنبّهت دور النشر للأمر، فاتصلت بالمعلمين لوضع الكتب. اتصلت بي مؤسسة بدران، فوضعت سلسلة كتب تاريخ للمرحلة المتوسطة عام ١٩٦٢ . ثم وضعت سلسلة للمرحلة الثانوية بالتعاون مع مكتبة حبيب.
أما في حقل التعليم فانفتحت أمامنا ابواب واسعة، لا سيما بعد أن أصبحت مادتا التاريخ والجغرافيا من مواد الامتحانات الخطية. وتسابقت المدارس الخاصة الى التعاقد مع الاساتذة الناجحين. من جهتي، فبالاضافة الى المدارس الثانوية الرسمية، وقد علّمت في ثانوية رمل الظريف وفي ثانوية فرن الشباك للبنات. وعلّمَت في مدارس خاصة أبرزها مدرسة كلية البشارة الارثوذكسية، مدرسة اليسوعية - الجمهور- مدرسة الدومنيكان - عاريا، دار المعلمين، كلية التربية التابعة للجامعة اللبنانية، الاكاديمية اللبنانية - جامعة البلمند علّمَت فيها تاريخ الحضارة باللغة الفرنسية مدة طويلة.
لم يقتصر عملي على التعليم، ولم اكتف بالاجازة التعليمية (الليسانس)، بل اعددت الدكتوراه في التاريخ. استفدت من منحة من الحكومة الفرنسية، ودرست في جامعة السوربون في باريس، حيث أعددت شهادة الدروس المعمّقة في التاريخ، وتخصصت في وضع المناهج، وكتب التاريخ المدرسية. استفدت كثيراً من وجودي في باريس. تعرفت الى المكتبات الكبرى ودور النشر. واستفدت في طرق البحث، وقد ألقيت في جامعة السوربون أربع محاضرات. وتابعت البحث حتى حصلت على الدكتوراه في التاريخ بعنوان ''تطور تعليم التاريخ في لبنان''.
لم يقتصر نشاطي على التعليم، شئت أن يكون النشاط منوعاً ومثمراً، وأن أستفيد مما جمعت من خبرة، وأن يستفيد الآخرون. كنت مسؤولاً عن تدريب معلمي التاريخ والجغرافيا في المرحلة ١٩٧٠ . كنت مسؤولاً عن لجنة - المتوسطة بين سنتي ١٩٥٩ التاريخ في الامتحانات الرسمية مدة زادت على ٣٥ سنة. كما كنت عضواً في امتحانات البكالوريا الفرنسية في مادتي التاريخ والجغرافيا. وكان دور بارز في وضع مناهج التاريخ والجغرافيا للمرحلة الثانوية عام ١٩٦٧ . ووضعت وحدي، مناهج المرحلة الابتدائية. عام ١٩٧٢، وكنت مقرر اللجنة التي . أتمت بنجاح وضع مناهج التاريخ عام ١٩٩٨ كتبت عدداً كبيراً من المقالات التاريخية والتربوية، معظمها في مجلة الجيش اللبناني بين سنتي ١٩٧٣ و ١٩٩٦ ، وفي المجلة التربوية وفي عدد من الجرائد بالاضافة الى أحاديث في الإذاعات وفي التلفزة.
وضعت عدداً من الكتب غير المدرسية، أذكر منها ''حضارات الشرق القديم''، ''تاريخ هنيبعل وقرطاجة''، وقد خصني الشاعر سعيد عقل بجائزته لهذا الكتاب. كتاب عن الجنرال ديغول، تاريخ لبنان بعنوان: ''لبنان في مراحل تاريخه الموجزة'' (مكتبة أنطوان). نفذت الطبعتان الأولى والثانية وأعدّ الطبعة الثالثة. كتاب ''تطور تعليم التاريخ في لبنان'' (مكتبة انطوان). تناولت فيه تاريخ تعليم التاريخ في لبنان وتطوره، وأسلوبه، واقترحت طرقاً علمية للتعليم. ''مجموعة عالم التاريخ والحضارة'' (دار نوبليس) وهي من سبعة أجزاء للتاريخ العالمي وثلاثة أجزاء للحضارة. وأخيراً مجموعة موسعة لتاريخ العالم وحضارته من ١٦ جزءاً، أنهيت تأليفها، وهي الأن تحت الطبع في دار الثقافة اللبنانية. والآن أفكر بمشاريع تأليف جديدة يرد الحديث عنها فيما بعد ما دامت لنا الصحة وعون لله تعالى. وأراجع قراءة ما كتبت، معتمداً على مكتبة بدأت منذ صغري بإعدادها حتى أصبحت اليوم واحدة من أغنى المكتبات في لبنان، ولا يمكن للمؤرخ أن يعمل وينتج إذا لم تكن عنده مكتبة غنية.