تعرّف إلى لبنان
تعرّف إلى لبنان
طرابلس
تقع مدينة طرابلس العاصمة الثانية للجمهورية اللبنانية، على بعد ٨٥ كلم إلى الشمال من بيروت، كما تبعد عن الحدود السورية نحو ٤٠ كلم. ويخترقها في الشرق نهر''أبوعلي'' المتدفق من ينبوع الحدائق بالوادي المقدس قاديشا، وهو يفصل بين ربوتي أبي سمراء جنوباً وقبة النصر شمالاً. تضرب جذورها في عمق التاريخ، وترقى إلى ثلاثة آلاف وخمسمئة عام، حيث أسسها الفنيقيون قبل الميلاد بنحو ألف وخمسمئة عام، وتعاقبت عليها الأمم والعهود من الفنيقيين حتى الإنتداب الفرنسي، مروراً بالرومان، والبيزنطيين، والعرب، والمماليك، والعثمانيين.
وتعتبر طرابلس المدينة الأولى بثروتها التراثية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وهي الثانية بآثارها المملوكية بعد القاهرة، وتمثّل متحفاً حياً يجمع بين الأوابد الرومانية والبيزنطية، والآثار الفاطمية والصليبية، والعمارة المملوكية والعثمانية.
تؤكد المصادر التاريخية والتنقيبات الأثرية، وجود طرابلس في القرن الرابع عشر ق. م عندما كانت تقوم على التلة المعروفة اليوم بإسم ''تلة أبي سمراء''، وكانت تحمل آنذاك إسم ''وحليا''، هذا ما جاء في رسائل ''تل العمارنة''. لا يمكن متابعة تاريخ طرابلس بدقة إلا بدءاً من القرن التاسع ق. م. في تلك الفترة قام الفنيقيون بإنشاء محطة تجارية عند اطراف شبه الجزيرة التي تغطيها اليوم مدينة الميناء. ما لبثت تلك المحطة أن تحولت في غضون العصر الفارسي إلى مركز إتحادي يضم ممثلي الجاليات الصيدونية والصورية والأروادية الذين كانوا يجتمعون فيه لبحث الأمور الخطيرة التي تهمهم.
ومن خلال موقعها الجغرافي المميز على المدخل الجنوبي لسهل عكار، ومن خلال مرفأيها الطبيعيين ومجموعة الجزر الصغيرة التي تحميها من البحر، كانت طرابلس تتحكم في تلك الأيام بإحدى أهم عُقد طرق المواصلات العسكرية والتجارية في المنطقة، وهي تلك التي كانت تربط الطريق الساحلية بالبر الشامي عبر حمص. بقيت طرابلس في غضون العصر المتأغرق، في أيام خلفاء الإسكندر الكبير، قاعدة بحرية هامة، وما لبثت أن بلغت في نهايات تلك الحقبة درجة من الإستقلال الذاتي، مستفيدة من الظروف التي عصفت بالدولة السلوقية. غير أنها لم تبلغ أوج عزها إلا في العصر الروماني. ثم ما لبث إزدهار المدينة أن توقف فجأة في العصر البيزنطي عام ٥٥١ عندما ضربها زلزال هائل ترافق مع مد بحري جارف. بُعيد عام ٦٣٥ ، تم فتح المدينة على أيدي المسلمين وأصبحت قاعدة بحرية رئيسة للأسطول الإسلامي في أيام الأمويين. وفي العصر الفاطمي، في أواسط القرن الحادي عشر للميلاد، تمكنت طرابلس بفضل قضاتها من أسرة بني عمار من بلوغ شكل من أشكال الحكم الذاتي، وتحولت إلى مركز ثقافي وعلمي من الطراز الأول. وفي بدايات القرن الثاني عشر، حاصرها الفرنجة ودخلوها عام ١١٠٩ ، فخربوا عمرانها وألحقوا الأضرار بمكتبة دار العلم فيها التي كانت تضم آلاف الكتب. وبعد مضي أقل من مئتي عام على ذلك، حاصرها السلطان المملوكي قلاوون وفتحها عام ١٢٨٩ ، ثم أمر بتدمير المدينة التي كانت تقع في تلك الأيام عند طرف رأس الميناء وبإنشاء مدينة أخرى عند أقدام تلة القلعة.
وقد ازدانت طرابلس في أيام المماليك بعدد كبير من البنى والمنشآت التي مازالت تسبغ على المدينة المعاصرة طابعها ، الأصيل. وفي أيام العثمانيين، بين عامي ١٥١٦ و ١٩١٨ احتفظت طرابلس بمركزها المميز ومازالت تزدان بعدد من المباني التي تعود إلى تلك الفترة. تضم طرابلس عدداً كبيراً من الأبنية التاريخية والأثرية المسجلة على لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية ومن بينها ما يزيد على أربعين مسجداً ومدرسة وخاناً وحماماً تعود بمعظمها إلى عصر المماليك، وبخاصة إلى القرن الرابع عشر للميلاد.
- خانات طرابلس وأسواقها:
كانت الخانات تلعب دور الفنادق في عصرنا الحاضر بالإضافة إلى دورها التجاري، ومن بينها خان الخياطين الذي أقيم في غضون النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد على أنقاض بُنى تعود إلى العصور القديمة. ويتألف خان الخياطين اليوم من رواق طويل مسقوف يطل من على جانبيه عدد من الدكاكين التي تعلوها غرف النزلاء. وأمام مدخله الغربي مازال أحدهما يحتفظ بتاج كورنثي الطراز يعود إلى العصر الروماني المتأخر. على الرغم من وصفه ب ''الخان''، فإن تصميمه يختلف جذرياً عن تصاميم الخانات الأخرى، بحيث يبدو وكأنه شارع مسقوف أقيمت على جانبيه الدكاكين. أما خان المصريّين المجاور فقد أقيم في غضون النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد على المخطط التقليدي لمثل هذا النوع من البُنى. فهو يتألف من فناء تتوسطه بركة ماء وتحيط به طبقتان، خُصصت السفلى منهما للبهائم والبضائع فيما العليا للنزلاء.وتطل هذه الغرف على الفناء من خلال أروقة معومدة. أما خان الصابون الذي كان يُعرف بإسم ''خان الصاغة'' فقد أُنشئ في غضون النصف الثاني من القرن السادس عشر أو في بدايات القرن السابع عشر. وكان في الأصل بمنزلة فندق يجتمع فيه التجار الفرنسيون، ثم تحول بعضه في غضون النصف الأول من القرن العشرين إلى مصنع ومنشر للصابون. ويتألف هذا البناء الضخم المستطيل الشكل من فناء تتوسطه بركة ماء وتحيط به طبقتان خُصصت السفلى منهما للبهائم والبضائع والعليا للنزلاء.أما خان العسكر فيتألف من بنيتين يصل بينهما رواق طويل معقود، وأُقيم في أواخر القرن الثالث عشر. وفي غضون النصف الأول من القرن الثامن عشر أُجريت فيه بعض الإصلاحات والترميمات واستخدم كثكنة للعساكر العثمانية. وتشكل كل بنية فيه خاناً مستقلاً بذاته من حيث تخطيطها. إذ إنها تتألف من فناء تحيط به طبقتان تطل أقبيتها السفلى وغرفها العليا على الفناء من خلال أروقة معومدة. هناك بنية فريدة، هي سوق الحراج، التي ترقى على ما يبدو إلى القرن الرابع عشر، وترتكز قبابها على أربعة عشر عاموداً من الغرانيت لتشكل سوقاً مسقوفاً يشغلها اليوم المنجدون، ربما كانت فيما مضى سوقاً كما يدل إسمها على ذلك.
- حمامات طرابلس العامة:
كانت الحمامات تشكّل مظهراً من أبرز مظاهر الحياة المُدُنية في طرابلس، وقد ورثتها العمارة الإسلامية عن العمارة الكلاسيكية، الإغريقية والرومانية، عبر الوسيط البيزنطي، بحيث بقي ما تسميه اليوم بالحمّام التركي نموذجاً حياً عن نمط عيش يعود إلى أكثر من ألفي سنة من الرقي. ويتألف الحمّام عادة من ثلاثة أقسام رئيسة، بحسب التقاليد الموروثة من أيام الرومان والتي ماتزال معتمدة حتى يومنا هذا في ما يُسمى ب ''الحمامات التركية'' وهي المشلح، الذي يحتوي في وسطه بركة ماء وتحيط بجوانبه الدواوين، والحجرة الفاترة التي تستعمل للتدليك وبيت الحرارة. وجميع هذه الأقسام مغطاة بأقباء معقودة يدخلها نور الشمس عبر جامات من الزجاج. وينتشر في طرابلس القديمة عددٌ من خان الخياطين.الحمامات، التي ما يزال بعضها يعمل حتى اليوم، منها حمام عز الدين، الذي أقامه نائب السلطنة في طرابلس الأمير ''عز الدين أيبك الموصلي'' الذي توفي عام ١٢٩٨ م، ودُفن في ضريح ملاصق. ويُشغل بناء الحمام موقعاً كان يقوم عليه بيمارستان وكنيسة من العصر الصليبي على اسم ''القديس يعقوب''. ومازالت سقيفة الحمام تحمل لوحة رُقم عليها اسم القديس باللغة اللاتينية بين محارتين ترمزان إليه فيما يحمل ساكف الباب كتابة أخرى ونقشاً يرمزان إلى ''الحمل الفصحي''. وقد تعرّض هذا البناء للتدمير وهو اليوم مقفل بانتظار أعمال الترميم. أما حمام العبد الواقع على مقربة من خان الصابون، فقد شيد في أواخر القرن السابع عشر، وهو البناء الوحيد من نوعه الذي مازال يعمل حتى اليوم. أما الحمام المعروف بالجديد فقد شُيّد حوالي العام ١٧٤٠ ، وكان يُعتبر من اكبر حمامات طرابلس وأفخمها. وقد قامت المديرية العامة للآثار بترميمه في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، وهو مقفل منذ ذلك الحين.
- مساجد طرابلس ومدارسها:
تضم طرابلس القديمة عدداً لا يُستهان به من الجوامع والمساجد والمدارس الدينية التي يعود معظمها إلى عصر المماليك، بين نهايات القرن الثالث عشر وبدايات القرن السادس عشر للميلاد، نذكر منها الجامع المنصوري الكبير الذي شُيّد بين عامي ١٢٩٤ و ١٣١٥ على أنقاض كنيسة طرابلس الصليبية الكبرى التي كانت تُعرف بإسم ''كنيسة العذراء ذات البرج'' ويتألف الجامع من صحن فسيح تحيط به الأروقة المعقودة ويُفضي إلى قاعة الصلاة المقببة. ومازالت بعض أجزاء الجامع تحتفظ بعدد من الزخارف ذات النمط ''الروماني'' وهي ما تبقى من الكنيسة الصليبية. ومن بين أبرز المعالم المتبقية من هذا العصر الباب الشمالي وبرج المئذنة اللومبردي الطراز، وتزين جدران الجامع لوحات مرموقة تعود إلى عصر المماليك، بعضها تاريخي يفيد عن مراحل البناء وبعضها تنظيمي يتضمن نصوص مراسيم تتعلق ببعض الأمور الحياتية اليومية.أما جامع طينال فقد أقيم على أنقاض كنيسة الكرمليين الصليبية التي كانت تقوم بدورها على انقاض معبد روماني مكرّس لعبادة ''زوش القدّوس'' أو ''البعل القدّوس''. وقد بناه عام ١٣٣٦ الأمير سيف الدين طينال الذي مازال ضريحه على مقربة من قاعة الصلاة الداخلية. يمتاز هذا الجامع بأعمدته وتيجان أعمدته التي تعود إلى العصر الروماني المتأخر والتي أُعيد استعمالها في قاعة الصلاة الخارجية. أما البوابة التي تفصل بين قاعتي الصلاة، بمقرنصاتها ومأطورتها وكسوتها المرمرية الملونة، فتعتبر من أبدع منجزات الفن المملوكي في بلاد الشام. ويعتبر جامع عبد الواحد من أقدم معالم طرابلس في عهد المماليك، وقد بناه أحد الأتقياء المغاربة، وهو عبد الواحد المكناسي عام ١٣٠٥ ١٣٠٦ ، ويبدو من خلال تصميمه العام أنه أقيم محل خان أقدم منه عهداً. ويتميز هذا الجامع بمئذنة فريدة يبدو أنها أضيفت إليه في حقبة لاحقة. أما جامع العطّار فقد أقيم في غضون النصف الأول من القرن الرابع عشر، على أنقاض بنية صليبية، قد تكون كنيسة، وهو ما يظهر من خلال انعدام تناسق الصلاة فيه. وتتميز بوابته بمقرنصاتها وبمأطورتها الرخامية المتعددة الأولوان. ويعود تاريخ صنع منبره إلى عام ١٣٥٠ . وتنير كل جانب من جوانب الجزء الأعلى من مئذنته المربعة نافذتان توأمتان. اما الجامع المعروف بالمعلّق فيعود تاريخ بنائه إلى أواسط القرن السادس عشر. وقد سمي بالمعلق لكونه أقيم فوق الطابق الأرضي ولا يفضي بالتالي إلى الطريق العام كما كانت العادة تقضي بذلك.ويمتاز داخله ببساطة تصميمه وعدم تناظر أجزائه وتناسقها. ويحيط به من الخارج صحن وحديقة، وقد جهز الصحن بمحراب ليكون مصلّى خارجياً. ويشكل مجمع البرطاسي الذي يضم مدرسة وجامعاً أحد أبرز معالم طرابلس المملوكية. فقد أقيم في الربع الأول من القرن الرابع عشر للميلاد، وهو مسقوف بقبب على مدليات ذات مقرنصات تمتاز ببساطتها. وقد كسي جداره القبلي بالرخام المتعدد الألوان فيما زيّن محرابه بالفسيفساء المذّهبة. أما مئذنته المربعة التي تنير واجهاتها نوافذ متوأمة، فقد أقيمت فوق المدخل بشكل يدل على معرفة عميقة بقوانين الدفع الجانبي. وإلى يمين الداخل إليه ضريح واقف المدرسة ''عيسى بن عمر البرطاسي''. وتعتبر المدرسة القرطاوية التي بنيت في الربع الأول من القرن الرابع عشر، من اجمل مدارس طرابلس زخرفاً، وتتميز بوابتها بمقرنصاتها وبمأطورتها الرخامية المتعددة الألوان فيما تتميز قاعة صلاتها بقبتها البيضاوية الفريدة. أما المدرسة الطواشية فقد أقيمت والضريح القائم إلى جانبها في غضون النصف الثاني من القرن الخامس عشر. وتتوسط واجهتها القبلية المبلّقة بوابة تفضي يميناً إلى الضريح ويساراً إلى قاعة الصلاة، وتزّين عقد هذه البوابة شعاعات متداخلة ضمن جوفة محاريّة الشكل، فوق صفوف المقرنصات والعميدات المفتولة.
تحصينات طرابلس العسكرية و''برج السباع''
تشرف القلعة المعروفة بإسم ''قلعة سان جيل'' على جميع انحاء طرابلس، وقد تعرضت هذه القلعة منذ إنشائها في أيام الصليبيين إلى أعمال توسيع وترميم كثيرة. ومن الممكن اليوم مشاهدة بنية مثمنة الضلاع تعود إلى العصر الفاطمي، كانت في ما مضى مشهداً شيعياً يقوم في وسط جبانة عظيمة كانت تغطي التلة، وقد حوله ''ريمون دي سان جيل'' مؤسس كونتية طرابلس الصليبية إلى كنيسة على إسم ''كنيسة القبر المقدس التي على تلة الحجاج'' وهو الاسم الذي كانت تعرف به ''تلة أبي سمرا'' في تلك الأيام. وفي القلعة أيضاً بعض البنى التي تعود إلى أيام الصليبيين، ومنها أساسات الجبهة الشرقية وبعض أجزاء الكنيسة التي تعود إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بالإضافة إلى البرج الكبير القائم في وسط القلعة. أما التعديلات التي طرأت على القلعة أيام المماليك، فقد تناولت بشكل رئيسي إنشاء بنى على جبهتيها الشمالية والجنوبية. وهناك أيضاً بعض التعديلات الطفيفة التي تعود إلى العهد العثماني في بدايات القرن السادس عشر، والتي تتمثل بالبوابة الرئيسية التي أدخلت على البنية المملوكية.أما وضع القلعة الحاضر، فيعود إلى الترميمات والإصلاحات الجذرية التي قام بها متسلم طرابلس ''مصطفى آغا بربر'' في بدايات القرن التاسع عشر. ويشكل البرج المعروف ب ''برج السباع'' واحداً من سلسلة أبراج وحصون أقيمت في عصر المماليك لحماية الساحل الطرابلسي من غزوات الفرنجة الذين استقروا في قبرص على أثر طردهم من الشاطئ اللبناني في نهاية القرن الثالث عشر. وقد أقيم في أواخر القرن الخامس عشر، وعلى الرغم من كون اسمه الاصلي ما يزال موضع أخذ ورد، فقد عرف لدى العامة بهذا الاسم بسبب الاسود المحفورة التي كانت فيما مضى تزين مدخله. ويتم ولوج البرج المؤلف من طبقتين عبر بوابة مبلّقة. وتظهر في جدرانه أعمدة رومانيةمن الغرانيت كانت تستعمل كمرابط تربط البنية الخارجية بالبنية الداخلية لتمتين البنيان.
بقايا كنيسة صليبية
في غضون السبعينات من هذا القرن، تم كشف اجزاء مهمة من الكنيسة التي كانت تعرف في أيام الفرنجة بإسم ''كنيسة القديس يوحنا التي على تلة الحجاج''، وهي تقع على بعد ٢٠٠ متر إلى الجنوب من القلعة، داخل جبانة الموارنة
القائمة على ''تلة أبي سمرا''. وقد حلت هذه الجبانة محل الجبانة الصليبية التي حلت بدورها محل الجزء الجنوبي من جبانة عصر بني عمار. وتتألف هذه الكنيسة ذات العمارة البديعة من سوقين متلاصقتين، كبراهما تنتهي بمحراب نصف دائري، وصغراهما بمحراب مستطيل الشكل. وقد تبين من خلال الحفريات أن السوق الصغيرة كانت مخصصة للطقوس الجنائزية، ولاسيما أن الكنيسة كانت تتوسط جبانة كبيرة من العصر الصليبي.