رسوم الأطفال في زمن الحرب - مقاربة وإحصاءات
رسوم الأطفال في زمن الحرب-مقاربة وإحصاءات
ان موضوع درا سة الطفل في زمن الحرب هو من ادقّ المواضيع وأصعبها. لأن مفهوم الحرب عند الأ طفال مفهوم غامض رغم أنة مرتبط بيقظة الحاجات المعيشية عندهم. وهو عالم لايمكن لانسان را شد الولوج اليه وفهم ابعاده إلا إذا اتبع معايير تتناسب ومفاهيم هؤلاء الأطفال لردم الهوة بين عالمنا وعالمهم. يقول Antoine de Saint-Exupéry في مؤلفه "الأمير الصغير": " ان الراشدين لايفهمون الجمال إلا من خلال الأرقام ، فإذا قلت لهم بأنني إشتريت منزلاً سقفه من القرميد وتغطيه شجرة "الجماليا " (1) بزهورها القرمزيه ويعشش فيه حمام "الستوته" (2) فإن هذا الوصف لايشدهم أبدا . أما اذاقلت لهم بأنني إشتريت بيتًا بمئة ألف فرنك فرنسي فأنهم يقولون بدهشة ياله من بيت جميل.... لذا قررت أن لا أسأل الراشدين رأيهم، وأن أحتفظ بمشاعري لنفسي"(3)
أهمية الدراسة :
إنها دراسة تأسيسية وانسانية شاملة عما يرتكبه الراشدون في حق ألأطفال ، الطفل يكتب برسومه ما يخجل عن قوله الراشدون وهي دراسة فريدة لأنها مناسبة ظرفية لاتتكرربنفس المعايير ولا بنفس المكان والزمان. إذن هي دراسة فريدة بكل المقاييس العلمية المحتملة والإفتراضية والمقوننة.
تخضع المفاهيم عند الطفل لمعايير معقدة لأنها متعلقة بأحاسيسه ومشاعره، لذا فإن كثيرا من علماء النفس حاولوا القيام بدراسات معمقة لنفسية الطفل وآليات سلوكه، والقليلين منهم إستطاعوا أن يخرجوا من إطار رؤيتهم الخاصه للعالم، وأن يتخلصوا من اعتبار أن الطفل راشدا صغير الحجم يمتلك مفاهيم كالراشدين وبإختلاف كمّي فقط.
وبما أن عالم الطفولة لايدرك العالم ومفاهيمه كما الراشدين، فالمفاهيم ليست جاهزة في عقله، وإنما تبنى تدريجيًا خلال فترة النمو متأثرة بكل العوامل المحيطة بها. لذا فإن النقلة النوعية والتغيير المفاجىء والسريع للأطفال الذين رحّلوا بواسطة عمليات ألإجلاء (4) خلال حرب 12 تموز 2006 كان لها تأثيرًا عميقًا على نفسيتهم ومفاهيمهم إنعكس على طرق تعبيرهم خلال عملية الإجلاء، وتجلت بأنواع اللعب والرسوم التي أبدعوها في أماكن التجمع، والتي قدّر لي أن أكون مشاركة لهم في المحنة التي جمعت في مكان واحد وزمن واحد كل تناقضات الوطن وإختلافاته المذهبية والدينية والطبقية والسياسية، واتفقت في آن واحد على البحث عن الأمن والاستقرار، وبنظرة الأم التي حزنت لفراق أولادها ومعظمهم من الأخوة والأهل والجيران، وبنظرة الباحث عن المعرفة والحقيقة التي نسعى اليها دوما ومهما كانت العقبات، جمعت كل ماتيسر لي من هذه الرسوم بعد أن قرنت كل رسم بإجابات اسئلة تداعي ألأفكار التي طرحتها على الأطفال للوقوف على طريقة تفكيرهم ولمزيد من المعرفه المعمّقة عنهم وفي هذا الوضع الظرفي الغيرالعادي المتواجدين فيه .
وعدت وصّنفت هذه الرسوم وفقًا لمعايير تظهر مقاييس أثر الحرب على نفسية ألأطفال وأثرها على تعلق الأطفال بأوطانهم تبعًا لنقاط اتفق عليها مع "مؤسسة السلام الكوني" المنبثقة عن مؤسسة "تراخوس للبحوث والدراسات" وهي تشمل دراسة النقاط التالية:
- صورة الوطن في رسوم الأطفال.
- زمن الحرب (الحاضر)
- كيفية رسم الأطفال للبيت ؟ وأين ؟
- رسم الأقرباء والمعارف
- كيفية رسم الطبيعة وإلإنعكاسات النفسيه التي تظهرها
- الألوان وإستخداماتها في التعبير عن المشاعر: الخوف، عدم الإستقرار، ألأمن .....
- مفهوم الحرب والسلم عند الأطفال.
منهجية البحث:
العينة العشوائية:اذ جمعت 280 رسمًا من رسوم الأطفال شكلت الأرضية الأهم في البحث ،ومنها إنطلقت الى مرحلة تعبير الطفل عما تعني له رسوماته وقرنت كل رسم بتداعي الأفكار التي أنتجها الطفل وما عّبر عنه بكل تلقائية وعفوية وقارنتها بأسئلة الإستمارة المرفقة.
إستمارة لتفريغ معاني الرسوم :ومهمتها تفريغ معاني الرسوم ومواضيعها. وذلك بدراسة كل رسم على حدة، وتحليل المفاهيم الواردة في الرسم وكيفية التعاطي معها من قبل الطفل، وتحليل الألوان وكيفية تناسقها وإستخداماتها في الرسوم وتحليل المعاني النفسية ومقارنتها مع عملية تداعي الأفكار التي مرّ الطفل بتجربتها .
تفريغ الإستمارات وإستخلاص النتائج، وإدراجها في جداول إحصائية وإستخلاص نتائجها ونسبها المئوية التي تظهر الفوارق بين ماهو موجود والحالة الطبيعية الواجب تواجدها عند الطفل، لمعرفة حجم النتائج وعلى ضوئها توضع الحلول اللازمة .واخيرًا كتابة التقرير والتوصيات.
الهدف من البحث :
الهدف هو الوصول إلى نتائج إحصائية إستنتاجية لإستقراء وإستخراج القوانين التي حكمت الأطفال في إنتاجهم لهذه الصور، وعلاقتها بظروف الحرب ومدى تأثير هذه الظروف على نوعية تفكيرهم ووعيهم الواقع ، والتغيرات النفسية والبنيوية المستجدة عليه من جرائها .
كما وتشير هذه الدراسة الى المنطق الربطي بين الأحداث وبين حلم الأطفال المتمثل بفكرتهم عن البيت والوطن والأمن والسلام ، والتناقض الحاصل بين هذه المفاهيم وضياع المنطق وإكتشاف هذا التناقض في نفسيتهم ومن ثم إسقاطه في رسوماتهم.
فالرابط المنطقي عند الطفل إختلط بالغموض والبحث عن البديل ورغم التشتت في عملية التفكير المصاحبة للوضع القائم، فإن سمات التفاعل مع الحاضر طفت على الرسوم وأظهرت بوضوح بأنها آداة التعبير الوحيدة التي يستطيع الطفل إستخدامها بحريه .فكل الأطفال فنانون الى ان يثبت العكس ،والرسم هوالمخرج الأمثل لما يختلج في نفوسهم .إن رسوم الأطفال هو االإختبار الذي يهدف الى إظهار الرابط بين الواقع والمفهوم المرتبط إرتباطا وثيقًا بالمكان والزمان والحدث.
تفريغ الإستمارة:
إعتمدت في تفريغ الإستمارة على تصنيف بياجيه (5 ) لمراحل الإدراك عند الطفل وهي مصنفة الى ثلاث فئات :
المرحلة الأولى: تتضمن إجابات الأطفال الذين تقع أعمارهم بين 5 الى8سنوات وهؤلاء مازالو في الطور الأول للإدراك (حيث يفتقر الطفل الى التمييز بين الكثير من المفاهيم والأشياء .. اليمين واليسار ، الحب والممالقه ....)
أما المرحله الثانية: بين 8-11سنه حيث يبدأ الطفل بإدراك العلاقه بين معنيي الشرق والغرب واليمين واليسار.والفرق بين الأشياء وإختلافاتها ، فإن إجاباته تبقى مترددة ومضطربة نتيجة عدم إنسجامه النفسي بين ماهو معنى مجرد الرمز(6) وبين ماهو واقع في مجال تجربته الحياتيه اليوميه .
والمرحله الثالثة: تلك التي تمتد من عمر 11 سنه وما فوق وهي تتميز بالثقه والثبات في الإجابات وتعبر عن بنية ذهنية تتحكم بها واستخدمت معيار الثبات (7) في الإجابات المكون من ثلاثة أبعاد:اللون والحجم والحاجة.
دلَّت الدراسات على أن مسألة تكيف الطفل مع البيئه المحيطه به هو تكيف تدريجي وتلقائي يتأقلم مع التغيرات الروتينية التي يتعايش معها يوميًا .ودراستنا تطال اليوم التغيرات الجذرية والمفاجئة التي لاتخضع لمعيار التكيف البنيوي المتدرج .وبقراءة مفصلة ودقيقة للنتائج الإحصائية لدراسة رسوم وصور الأطفال نستطيع فهم ذهنية الطفل للزمن والثبات والمتغيرات الفجائية وسببية العلاقات ورفض الطفل للامنطقية التي يتعرض لها ،فمفهوم الزمان والمكان وسببية العلاقات مفاهيم مترابطة بذهنية الطفل ووثيقة الصلة مع حاضره ،وهي العامل الأوحد الذي يساعد الطفل على الخروج من آنيته، وتمركز تفكيره حول نفسه وذاتيته فقط ( égocentrisme) وإنطلاقه في عملية الإندماج الإجتماعي (socialization ) والإنتقال من الأنا الى الأنا الأعلى والمحيط وهي التي تشكل عاملاً مهمًا في عملية النمو النفسي الذي سينعكس عليه وعلى نفسيته مدى الحياة.فالطفل أسيرالحواس وإجاباته وليدة الحاضر المعيش.وطاولت العينه280 رسما" لأطفال تراوحت أعمارهم من 5-14 سنه وهي السنوات التي تتضمن أهم مراحل تكوين الإدراك عند الطفل .وجاءت هذه الرسوم نتيجة مخاض الإنتقال المتواصل الذي دام ستة أيام (فتره الإنتقال من لبنان الى كندا) ورغم الإهتمام المتزايد من قبل الدول الجالية فإن الأطفال حملوا في ذاكرتهم آلام الإنسلاخ عن كل مايربطهم بالواقع الأليم .
بعد ان تمت دراسة الرسوم وتفريغ محتوياتها ومدلولاتها النفسيه نلحظ مايلي :
١- إن سلم الأعمار للأطفال موضوع البحث يتراوح بين ٥ و ١٤ سنة.
٢- سلم تنوع الرسوم :طبيعة (لبنان)،طبيعة (كندا )، بيت، شخصيات...
- الرسم وسيلة للتعبير عن الارتباط المكاني والإنساني.
٣- الرسم وسيلة للتعبير عن المشاعر لدى ألأطفال: الحزن- الفرح.
٤- سلم القيم عند الأطفال لمفهومي الحرب والسلم :
٥- مفهوم الموت عند الأطفال:
٦- مفهوم التهجير وعدم الإستقرار:
كل الفئات العمرية بأعدادها كامله استوعبت معنى التهجير وعدم الاستقرار وارتأت في بلد المهجر الخلاص.
٧- مدى إدراك الطفل لمفهوم الوطن:
٨- مدى تكيّف الطفل مع الواقع (الحرب):
٩- درجة رفض الحرب:
١٠ - مفهوم تعلق الطفل بالوطن:
11- الحاله النفسيه للطفل أثناء الإجلاء:
12- كيفية استخدامه للألوان: هادف = نعم /غير هادف =لا:
تشير هذه الإحصاءات الى أنّ 9.15 % من الأولاد الذين تمّ إجلاؤهم عن الوطن الأم، هم بحاجة الى إعادة تأهيل نفسي اكلينيكي، نتيجة تأصل عادات الخوف في نفوسهم ؛ فمعظمهم غير قادرين على النوم، وغير مؤهلين للتفكير في مفهوم الوطن، بل ورافض له نتيجة الصور المرعبة والأصوات المخيفة التي خلفتها الحرب، هذا بالإضافة إلى التغيير المفاجىء في عاداته اليومية (الانتقال)، والتوتر الدائم والصراخ بدون سبب ظاهر. ومما تجدر الإشارة اليه أن تأثير الحرب لم يفرّق بين أطفال قرى الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، لأنّ التلفزيون كان ينقل كل الأحداث، فالطفل حيثما كان شاهد وسمع أصوات القصف، وعانى الرعب والإنفصال المفاجىء عن أحبائه وأصدقائه. وعندما يروي الأطفال معاناتهم، يتمنون لو استطاعوا إحضار هؤلاء الأصدقاء والأحباء معهم إلى ملاذ الأمان، ومنهم من لا يريد العودة، لأنّ أصدقاءهم قد لاقوا حتفهم، وفقدوا أصدقاءهم أو أقرباءهم. (9)
إن مسألة تكيف الطفل مع الأحداث الطارئة عليه والمفاجئة له والمغايرة لطبيعة الواقع لاتخضع للمعايير التقليدية التي تستخدم عادةً في قياس مسألة تكيف الطفل مع الواقع. وهذا التكيف يتم داخلياً بعملية ذكية للعقل الباطن حيث لاشعورياً يبحث الطفل عن بديل لما فقده (مثل الاستعاضة بالأم عند موت الأب، أو العكس. أو الاستعاضة عن فقدان الحنان بقضم الأظافر،...) ولعل الطريقة الأنسب لقياس العمليات النفسية المصاحبة للوضع الطارىء الذي عانى منه الأطفال في زمن الحرب هو العودة إلى التداعيات النفسية التلقائية والتعبير عنها بالرسم وهو الاختبار الطوعي الذي قام به الأطفال بعفوية وحرية، وهذا الاختبار أحاط بكل جوانب المستحدثات النفسية للطفل والتي حكت ألوانها وأشكالها ما يعجز الطفل عن التعبير عنه بالكتابة أو بالكلام، لذا كان لابد من تحليل هذه الرسوم لمعرفة ما يريد الطفل قوله عن الحرب، ولمعرفة مدى تأثير هذه الحرب على أجيال المستقبل، وكيفية تأثيرها على منطق الطفل ومفاهيمه، وتحليل هذه الرموز للوصول إلى المحتوى المعرفي للطفل وتقنياته الدفاعية النفسية والبديلة لبناء ثوابت بين الأشياء والعلاقات والعالم والسببيات، كل هذا في أجواء غير طبيعية بل وفجائية وتشكل حالة من الصدمة النفسية للطفل، لذا أرى أن يطلق على هذه المرحلة لزاماً اسم: ''النمو الصدمي عند الأطفال'' لأنه وإبان عملية النمو الفجائية هذه يستخدم الطفل وحدة الفكر في أبسط درجاته: الملاحظة والتجربة، الحس والحركة ومنها ينتقل إلى أرقى مراحل المقارنة بين الفكر الافتراضي(مايجب أن يكون) = الاستقرار والسلام، و(واقع الحال) = الحرب وهذا مايعبّر عنه بياجيه ''بالثبات'' فهو يعتبر ''... أن المعرفة تتكون عبر الحاجة الإنسانية الدائمة لبناء الثوابت في الأشياء والعلاقات والعالم، في مواجهة تغيرات محددة''. (10)
ففي حالة الثبات ينقل الطفل معارفه بهدوء منهجي ويطورها عبر بعدين: زمني ومكاني (هنا والآن ) معتمداً على تجربتة وخبراته الماضية والحاضرة وموقعه الجغرافي والمعنوي. ويربط في عملية عقلية سريعة بين الزمان والمكان والسببية،ولكن عندما ينفلت الطفل من مقاييس الزمان والمكان والسببية ويجبر على التخلي عن تجربته (هنا والآن) يصل إلى نقطة عدم التوازن اللامركزية على الصعيد التفكيري والتحليلي، وتصبح الأحكام، عنده متحررة من كل المقاييس والأحكام إن على الصعيد الاجتماعي، وإن على الصعيد الذاتي ويفقد التوازن في عملية التفاعل الاجتماعي وينطلق عقله في عملية بناء معرفي حرّ وغير منطقي ليبني عالماً آخر يحمي فيه نفسه من الواقع المرفوض. وهذا مانراه في موضوع الصور المرسومة بحرية الاختيار المطلق إن من حيث الزمان أو المكان والأبعاد (11)
فئة العمر
يتضح لنا من فئة الأعمار أن فئة العمر من ١١ إلى ١٤ سنه كانت الأكثر إقبالاً على استخدام الرسم كوسيلة تعبيرية عما تريد قوله (٤٨,٢ ٪)، ولتفريغ شحنة الغضب التي رافقت تغيير النمط المعيشي للأطفال، هذا بالإضافة لانعكاس التوترالنفسي للأهل على أطفالهم نتيجة الوضع المتأزم أثناء عملية الإجلاء رغم العناية العالية النوعية التي رافقت هذه العملية، إلاّ أن الشعور بعدم الاستقرار والخوف من المجهول والرعب حملوه في طيات وجدانهم بعد ماعانوا ماعانوه قبل وصولهم إلى برّ الأمان.
أما إقبال الأطفال على الرسم من عمر ٥ إلى ٧ سنوات فكان بنسبة ١٥،٧ ٪وهذا يدل على أن أطفال لبنان غير ملمين بالرسم، إما نتيجة خطأ تربوي - مدرسي وإما نتيجة نهج إجتماعي تقليدي مفاده أن الرسم مضيعة للوقت نتيجة لمردوده المادي الضحل...والنسبة القصوى تمثلت بالفئة من ١١ إلى ١٤ سنه إذ شكلت هذه الفئة نسبة ٤٨،٢ ٪، وهي الفئة التي وعت الرسم كهواية جميلة متداخلة مع الألوان نتيجة خبره معيشة: التأمل، مشاهدة التلفزيون، صور الكتاب المدرسي وهذه الفئة عملت وبشكل فردي وشخصي على صقل هذه الناحية الفنية، من خلال نشاط حر في البيت أو مع الأصدقاء، لأن الطفل في هذه المرحلة غير مقيد تماما بنشاطات من حوله حتى في المدرسة هو يستطيع الانفلات بطرقه أو بأخرى من الروتين اليومي. لذا عبّر عن ارتباط انطباعات مشاعره الحسية (المشاهدة والرؤية) وعلاقته بالموقف الفردي المتواجد فيه، وأكثر الصور انطباعاً في ذهنه كانت المواقف المفاجئة والصعبة التي أثرت على نفسيته وطبعت إنتاجه بصبغتها. أما الفئة العمرية من ٨ إلى ١٠ سنوات والتي شكلت نسبة ٣٦،٧ ٪ فإنها بالإضافة للفئة الأولى (من عمر ٥ إلى ٧سنوات) فهي الفئة التي لاتعرف أبعاد اللون والشكل، ولا الاحتواء بين المجموعات المتعلقة بالموضوع واكتفت من الرسوم بإظهار الفجائية المعرفية التي تلقتها أثناء الحرب وأثناء عملية الإجلاء، فجاءت المشاركة بعدد أقل من المتوقع.(12)
الرسم وسيلة للتعبير عن الارتباط المكاني
لايريد الطفل أن يدرك أسباب العلاقة بين وضعه المتردي وغير المستقر، ولم يصنف وضعه في خانة الطوارىء، بل عمد إلى المقارنة بين الواقع المتردي والذكريات التي يحملها في ذهنه إما بالمعايشة الفعلية وإما بالتواتر، والتي تحمل صورة الاستقرار والأمان، فعمد فوراً إلى استبدال الواقع الصعب بالمرتجى. وبذكاء فطري رسم الأطفال الوطن بأشكال الحرب والدماء بنسبة ٢٥ ٪ ورسموا الوطن البديل بصفات الجمال بنسبة ٧٥ ٪. شكلت هذه النسبة القوة القصوى للفئة التي استقرت بالرأي على استبدال الواقع بالمأمول، كما حملت النسبة الدنيا ٢٥ ٪ الأخرى آثار الحرب في رسومها ولم يأت الأطفال على ذكر شجرة خضراء في وطنهم الأم. وشكلت هذه النسبة مفصلاً مهماً في التعبير عن مفهوم الاحتواء والعلاقة المتبادلة في عامل الارتباط بين الوطن والحرب، وبين الارتباط بين الوطن البديل والاستقرار بنسبة مرتفعة.
الرسم وسيلة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس
- أطفال لبنان يلفهم الحزن :إذ شكلت نسبة الشعور بالحزن لدى الأطفال (الكآبة) نسبة تساوي 58.1 ٪ وهي صفة بارزة في رسومهم خصوصاً تلك الفئة العمرية من ١١ إلى ١٤ سنه وقد ظهر مؤشر جديد لفئة العمر من ١١ إلى ١٤ سنه وهي أن نسبة مشاعر الفرح تجلت بنسبة 27.1 ٪ إنما ترمز إلى الفرح المرتقب في بلد الإجلاء وليس في الوطن أو وبأحسن الظن ترمز هذه النسبة إلى الفرح الناتج عن الخلاص من أرض الحرب.
سلم القيم عند الأطفال :الحرب والسلم
يظهر واضحاً أن الفئة العمرية من ٥ إلى ٧ سنوات لاتفقه معنى الحرب، والانطباعات لديها تدور حول متطلباتها الحياتية من أكل وتوفير مساحات لنشاطاتها العضلية(اللعب) وبالدرجة الأولى الأمان وهي تربط بين صفة الحرب والخوف والدمار والدم، وتربطها بأصوات القذائف والرصاص ووجودها في الوطن. كما أن الطفل في هذه المرحلة العمرية ٨٨ ٪ إلاّ من خلال الاكتفاء.
أما الفئة العمرية من ١١ إلى ١٤ سنه فإن نسبة ١٠٠ ٪ منها تعرف معنيي الحرب والسلم وتربط الحرب بالشر وتربط عند الأطفال السلم بالخير. فالمصفوفات التقييمية(matrices) عند الأطفال ناتجة عن مصدرين على الأقل: الأمن والاكتفاء( ١٢ )، وهذا التصنيف يتطلب مقارنة بين معطيين حسيين، اللذين توفرا على شكل إلغاء للواقع المؤلم بنظيره المستقر والجميل والآمن. فمفهومي الحرب والسلم عند الأطفال كوّنا تصوراً عاماً لخبرة مؤثرة استخرج الطفل منها قانوناً صادر من خلاله مفهوم الوطن لصالح الأمان والاكتفاء والاستقرار، فالبنية العامة لمفهوم السلم هي المفهوم العلائقي المتبادل بين حاجاته والواقع، والسلوك هو السلوك المعرفي المتبادل بين الطفل والبيئة، والنشاط الذهني هو التفاعل الوظيفي بين تراكمات الذاكرة والمؤثرات الخارجية المؤثرة على هذا السلوك. ١٣
مفهوم الموت والحياة
إن هذا المفهوم عام ومتحرك، وخصوصاً أن معظم الأطفال الذين طالهم الإختبار هم من أبناء القرى التي تضررت أثناء الحرب، والكثير منهم شاهد أو سمع عن أقارب قضوا أو تضرروا منها. وإذا استثنينا فئة العمر من ٥ إلى ٧ سنوات الذين عبروا عن الموت بالخوف واللون الأسود والأحمر أو الخربشة غير الهادفة فإن تمزيق الورقة التي كانوا يرسمون عليها كانت الجواب. أما الأطفال من الفئة العمرية ٨ إلى ١٠ سنوات فإنهم ربطوا مفهوم الموت برسم البيت في القرية ورسموا مفهوم الحياة مرتبطاً ببيئة وطن الملجأ. أما الأطفال من عمر ١١ إلى ١٤ سنة فإنهم أكدوا في رسومهم معنى الحياة بأنها حيث هم ذاهبون إلى وطنهم الثاني.
مفهوم الإستقرار والتهجير
لقد جاءت نتيجة استقراء رسوم الأطفال وإحصاءاتها عن مفهوم التهجير وعدم الاستقرار ١٠٠ ٪ فالأطفال وعددهم ٢٨٠ طفلاً أجابوا بالتداعي النفسي الذي أجري عليهم ومن خلال رسوماتهم، فالاستقرار مطلب أساسي للطفل والتكيف الذي يتعايش معه في الأوقات غير الطبيعية(الحرب) أو (الكوارث الطبيعية) هو تعايش واعٍ ومفتعل لتمرير وضعيات آنية ومختلفة عن المألوف، وكل رسم إنما يرمز في طرفه إلى التوق لمستقر يشعر فيه بالأمان، وهذا مدرج في البنى الذهنية التي عايشها مسبقاً، وبوعي مسبق لتجربته يعتبر وضعية التهجير هذه وضعية آنية وآداة للوصول إلى ماهو أفضل من دون مناقشة الجزئيات، خصوصاً أن ما يعايشه أثناء عملية الإجلاء هو هذا المستوى الراقي إن على صعيد المستوى المعيشي وإن على مستوى الأمن. فظل ذلك واضحاً في رسومه بتمثيلات تترابط مع الشعور بالاستقرار في الوطن البديل، وإشارة مشوشة للوطن المجلى عنه. لأن التوازن النفسي الذي خلق عند الطفل يقع في أساسه كتنظيم بيولوجي ونفسي منسلخ من التربية ومن التجرية ومرتبط باستيعاب وضعية معينة (الحرب) آملا إلى الأفضل إذاً هو تمثيل ذهني
إجرائي حمل معه مرحلة نفسية متعبة ومتأثرة وهي خاصية تنظيم الوقائع التي يختزنها الطفل من العالم الواقعي من حوله بحيث يمكن استعمالها بشكل إنتقائي لتقبل الواقع الجديد وتكمن خطورة هذه الحالة أنها :
١- يمكن كبتها مرحلياً مع حفظ مؤثراتها السلبية مستقبلاً.
٢- يمكن عكس هذه المؤثرات بتمظهر مختلف، وخطورة هذه المرحلة تكمن بأنها تظهر بشخصية متخفية...شخصية الطفل الهادىء أو اللامبالي.
مفهوم الوطن
عبرت نتائج إلإحصاءات والتحليلات بأن مفهوم الوطن عند الأطفال لفئة العمر من ٥ إلى ٧ سنوات غير واضح، لأن الوطن في مفهوم الطفل هو الأمان والبيت والمدرسة وهذا ما لم يتوافر له الاّ في ما ندر وبشروط قاسية، المسافة البعيدة التي تفصل المدرسة عن البيت، وسوء وسائل الإنتقال، وعدم توافر وسائل التعليم، وسوء العلاقة مع المدرسين الذين تركوا انطباع الخوف لدى التلامذة، كل هذا ارتبط بمفهوم الوطن الذي يسعى الطفل المجلى إلى التخلص منه بالحلم بالوطن الجديد.
بالنسبة لفئة العمر من ٨ إلى ١٠ سنوات فإن نسبة ١٠،٧ ٪عبّر عن معنى الوطن بالألم وعدم رسمه أو برسمه بشكل قاتم. بالإضافة إلى أن نسبة ١٥,٧ ٪ من هذه الشريحة لا يدرك معنى الوطن أي أكثر من الثلثين. أما فئة العمر من ١١ إلى ١٤ سنة فلا يوجد علاقة تكوينية بين الموجود والضرورة، فالمعنى المنطقي لمفهوم الوطن في البناء الذهني للطفل ضاع بين بنية الفرد الذهنية الداخلية ومستوى هذه البنية في التجربة على أرض الواقع من خلال المعاناة الشخصية.
درجة تكيف الطفل مع الواقع
تكيف الطفل مع الواقع هي عملية تنظيم داخلية يلعب فيها العقل الدور البيولوجي، ويتمظهرطوال الحياة في شتى تصرفاته وهو عامل التنظيم بين التطور والبناء الفكري الموصل إلى التوازن النفسي الذي يعطي الطفل القدرة على المواجهة والتحدي تجاه الطوارىء والمفاجآت الظرفية، أما من ناحية الرد عليها فهو إما أن يكون مباشراً بتصرف مثلي ومشابه (الضرب يقابل بالضرب المماثل) أويكون بالتحدي اللفظي أوبالتعويض التمظهري (Refoulement ) ويعود هذا إلى التوازن النفسي لدى الطفل الناتج عن التكوين النفسي التراكمي مع المحدثات الجديدة.هذا التوازن هوالوسيط لتبادل التفاع بين البنى الذهنية الداخلية وبين البيئة المحيطة عبر تتابع عمليتي الاستيعاب والملاءمة.
بناءً على ماسبق من شرح لهذه الناحية وبناءً على النتائج الإحصائية لتحليل رسوم فإن الشريحة العمرية من عمر ٥ إلى ١٤ سنة رفضت تواجدها في ظروف خطرة وطارئة ومهينة بنسبة ١٠٠ ٪ وكانت تتطلع إلى عملية الإجلاء على أنها البداية للوصول إلى واقع مريح.
رفض الحرب
الحرب عند الأطفال، الخوف وعدم الاستقرار وعدم الاكتفاء وكل المعاني السلبية الضاغطة للحياة. النتائج الإحصائية للتحليل جاءت ناطقة ومشابهة لدرجة التكيف عند الطفل مع الواقع الرافض له، لذا فإن نسبة ١٠٠ ٪من ألأطفال رفضوا فكرة الحرب من دون أن يذكروا الأسباب، ففكرة الحرب بحد ذاتها مرفوضة في مفهوم الطفل.
الحالة النفسية للطفل أثناء ألإجلاء
جاءت النتيجة الإجمالية لفئة العمر من ٥ إلى ١٤ سنة وبنسبة ٧٥ ٪ راجحة لجهة الأمل في الشعور بالاستقرار في بلد الإجلاء، ورفض العودة إلى الوطن الذي لايحمل في ٪ ذاكرته عنه سوى آثار الحرب، أما النسبة المتبقية وهي ٢٥ فكانوا يعانون من أثر الصدمة ولا يودون حتى الحديث عن المكان الذي تخلوا عنه.
ثقافة الألوان عند الأطفال
الطفل اللبناني أميّ في معرفة الألوان، معظم الأطفال من عمر ٥ إلى ١٠ سنوات لايعرفون الهدف من الألوان، بمعنى أن الطفل لايملك ثقافة الألوان والفن حتى أن بعض الأطفال لم يمارس الرسم في ما سبق. ومع ذلك ربط الطفل الألوان بالحرب التي ما وعى غيرها... أما فئة العمر من ١١ إلى ١٤ سنة فإن الأطفال استخدموا الألوان بأهدافها (الأخضر=شجرة والأحمر=الدم والحرب، ولكن أحداً من الأطفال لم يرسم قريته أو بيته أو وطنه.
الاسقاط النفسي وعملية الاستبدال للمفاهيم
استبدال مفهوم الوطن الأول بالوطن الثاني وعملية تفضيل الوطن البديل وقد سمّي وأشير إليه بأكثر من مكان في الرسم على أنه الوطن الحلم والمنشود، وبنتيجة تساوي ٧٣،٥ ٪رسم الأطفال البيت الأميركي أو البيت الأوروبي على أنه الوطن وهو عامل الارتباط بين الواقع والحنين إلى العودة إلى عالم الطفولة عالمه الأساسي، فجاء الرسم عملية استدخال نشاط إجرائي انطلاقاً من معطيات الواقع وتحويله إلى بنية ذهنية ومخزون مستقبلي يبني عليه نشاطه.
خلاصة الدراسة
- إن عالم الطفل اللبناني فيه الكثير من الخيال والتناقضات، هو نموذج هشّ وفريد، وهذا مانقرأه في نتائج الإحصاءات التي تؤشر إلى التغيير السريع الذي يصل إلى درجة الإلغاء للوطن واستبداله بالوطن الملجأ.
- إن ذاكرة الطفل اللبناني وإن بدت في تمظهرها الأساسي تبحث عن الحاجات الأساسية: الأمن الاستقرار، ألاّ أنها في بحث دائم عن المستوى الإنساني لجوانب العلاقات الطبيعية والواقعية والمنطقية، التي يبني الطفل من خلالها البعد العلائقي الاجتماعي لأن بنية الطفل الذهنية لا يمكن فصلها عن بنيته الاجتماعية والبيئية، وإلاّ تكونت لديه حالة مرضية أقرب إلى الفصام.
- نخلص من هذه الدراسة إلى تصورعام للطفل اللبناني، فهو الطفل المرتبط ارتباطاً وثيقاً وجاداً بالأنا وبالآخر وفق أصول منطقية ألغت معاني لم يكن لها أساس بنيوي قوي (الوطن)بعملية تبادلية جدلية بينما هو مرفوض (الحرب) وبين ما هو آمن (وطن اللجوء).
- من الملاحظ أن أكثر المقبلين على الرسم هم فئة العمر من ١٠ إلى ١٤ سنة مع العلم أن القاعدة تفترض أن يكون المقبلين على الرسم هم الأصغر سناً وهذا مؤشر إلى أن أطفال لبنان هم أطفال كبار تعدوا يفاعة السن، أما من هم من فئة العمر الأقل من ١٠ إلى ١٤ سنة فهم بحالة طفولية مشتتة وحادة لم تسمح لهم بالتعبير عن مشاعرهم حتى بالرسم.
- إن مهمتنا التربوية صعبة وحرجة، نحن بحاجة لاستراتيجية محكمة لإعادة خلق معانٍ وطنية طعمها السلام ورائحتها تراب الوطن وشمسها العدالة، واسمها لبنان.
ملحق : استبيان تفريغ رسوم الأطفال أثناء عملية الإجلاء
١- سلّم الأعمار.
٢- سلّم تنوّع الرسوم : الحرب، السلم، الوطن.
٣- الرسم كوسيلة لتفريغ شحنات الكبت، أو كوسيلة سهلة للتعبير.
٤- قدرة الطفل على إدراك مفهومي الحرب والسلم.
٥- قدرة الطفل على إدراك مفهومي الموت والحياة.
٦- قدرة الطفل على استيعاب مفهوم الإنتقال والإجلاء.
٧- إدراك الطفل لمفهوم الوطن.
٨- درجة تكيف الطفل مع الواقع.
٩- قوّة درجة رفض الحرب عند الأطفال.
١٠ -قوّة درجة تعلّق الطفل بمعنى الوطن.
١١ - مدى حاجة الطفل إلى الاستقرار.
١٢ - كيفية استخدام الطفل للألوان، هادفة، غير هادفة.
١٣ - مؤشرات إسقاطات الأطفال
هوامش:
- شجرة الجماليا Geranuim
- حمّامات الستّوتة Colombe
- ترجمة عن قصة Antoine D e Saint- Exupery,P:20
- الإجلاء:Evacuation
- بياجيه، النمو النفسي للطفل، ترجمة: غسان بعقون، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1973.
- الرمز: Indicateur
- الثابت: Conservation
- إدراك الكلي عند الطفل، كمال دسوقي، دار المعارف، مصر
- مشروع العلاج النفسي لأولاد الجنوب، اليونيسيف
- تطور الطفل ص 67
- , La Formation Du Symbole chez l'Enfant,(Piaget) Academique Presse, 1971, P: 310
- فيرنون، ضرورة المنطق وأهميته عند الطفل، دار المعارف، مصر
- بياجيه، تطور الطفل