التداعيات النفسية والتربوية على التعليم الرسمي في لبنان

التداعيات النفسية والتربوية
على التعليم الرسمي في لبنان بعد عام و نصف على حرب تموز ٢٠٠٦

 


الدكتور فوزي أيوب باحث وأستاذ في كلية التربية في الجامعة البنانيةبعد حوالى سنة و نصف على الحرب المدمرة التي ضربت لبنان في تموز ٢٠٠٦ وعرضته لمحنة قاسية، يبدو من المهم لنا أن نتساءل عن الانعكاسات النفسية و التربوية لهذه الحرب على الواقع التعليمي اللبناني بوجه عام، وعلى واقع المدرسة الرسمية بوجه خاص، وذلك من خلال تسليط الضوء على البصمات التي تركتها الحرب في شخصية التلميذ اللبناني وتحصيله الدراسي.

 

 

التلميذ اللبناني وصدمة الحرب

إنطلاقاً من إجمالي عدد القتلى والجرحى الذين سقطوا خلال حرب تموز ٢٠٠٦ ، وإذا إعتبرنا أن ثلث ضحايا الحرب، من زاوية ديموغرافية، هم من الصغار والفتيان، فإن من المرجح أن يكون حوالى خمسمئة من هؤلاء قد إستشهدوا، فضلاً عن ألف وخمسمئة من الجرحى أو المصابين. ومن الطبيعي، في حالة كهذه، أن تفضي الخسائر البشرية للحرب إلى ''إصابات نفسية'' موازية لها مفاعيلها بين أطفال لبنان وتلاميذه، وهذه الإصابات تقوى كلما كانت الخسائر البشرية أكبر، وكلما كان حجم الدمار والنزوح عالياً. وبحسب الدكتور عدنان حب لله رئيس المركز العربي للدراسات النفسية والتحليلية والذي أدار مركزاً للعلاج النفسي في مدينة صور عقب الحرب، فإن حوالى ثلث الشعب اللبناني عانى من حالة عصاب اكتئابي وخوف وقلق بعد الحرب، كما أن معظم سكان جنوب لبنان ( حوالى مليون شخص ) تعرّض لتأثيرات الحرب وصدمتها بهذا القدر أو ذاك تبعاً لدرجة القرب من ساحة الحرب أو البعد عنها.١
وكانت دراسات الحروب والكوارث (Rubonis & Bickman 1991 ) قد بيّنت عالمياً أن الاضطرابات النفسية ترتفع بنسبة ١٧ ٪ بعد الأحداث الصادمة، وتتخذ أشكالاً متنوعة بحسب شدة التعرّض للخطر. وقد أظهرت عمليات الدعم والعلاج النفسي بعد الحرب أن الصغار كانوا هم الفئة الأكثر تضرراً من الناحية السيكولوجية، وظهرت لدى الكثيرين منهم ما يمكن تسميته ''بعقدة الطائرة'' في مناطق القتال. إن الطفل لايمتلك المفاهيم والكلمات اللازمة لإدراك معنى الحرب (ترميزها) وتحليل أبعادها، ولذلك كان من الطبيعي أن يتعرض الكثير من الأطفال والتلاميذ و الافراد عموماً في لبنان لضغوط ما بعد  صدمة الحرب (post trauma stress disorder ) إضافة إلى اضطرابات نفسية أخرى نذكر منها ما يأتي:
- الخواف أي الخوف الذي ليس له موضوع فعلي (phobie)
- القلق العام.
- الاكتئاب والشعور بالضيق والتبرم.
- الشرود الذهني وقلة التركيز.
- الانطواء على الذات.
- العدوانية تجاه الآخر أو تجاه الذات.
- فقدان الشهية للأكل.
- ارتفاع ضغط الدم وضيق التنفس ورعشة اليد ذات المنشأ النفسي...الخ.

 

هذه الحالات النفسية المرضية يمكن ملاحظتها في البيوت والمدارس والمراكز العلاجية كما في حالة فتاة جنوبية مراهقة استشهدت أمها في الحرب فاستولت عليها كوابيس الفاجعة العائلية وصارت تعاني من رجفة وتشنج واضطراب في النوم حتى أصبحت غير قادرة على الدرس وهي عرضة للرسوب والفشل الدراسي ما لم تجد مخرجاً من أزمتها ٢ ولعل ما يخفف من التبعات النفسية السلبية لحرب تموز ٢٠٠٦ ظهور حالة استثنائية من الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي. فقد لاحظ أكثر من فريق نفسي متخصص أن تجربة اللبنانيين مع الحرب كانت مختلفة نسبياً من ''الناحية النفسية'' بفضل استبسال المقاومة وتضامن اللبنانيين، ما أدى إلى التخفيف من وطأة الحرب وصدمتها وشكّل تعويضاً معنوياً (استعادة الكرامة) لولاه لكانت المصيبة أكبر. ويبدو في هذا السياق ثقافة الصمود والتضامن التي رافقت الحرب قد لعبت دوراً مهماً في استيعاب عوارض الصدمة الناجمة عنها، وهو ما رفدته الثقافة الدينية التي شدت من أزر أهل الجنوب اللبناني في وجه العدوان ورفعت معنوياتهم. فمجالس العزاء الحسينية تركت اّثاراً إيجابية مهدئة للنفوس التي لفها الحزن. والعبرة الصريحة من تلك المجالس هي أنه لا سقف للعذاب أعلى من سقف مأساة كربلاء، وكل ما دون ذلك يهون حتى عندما يصل إلى الاستشهاد والموت٣
ولكن مهما تكن قوة العوامل المخففة لصدمة الحرب فقد كان لابد من تقديم العون النفسي للحالات المصدومة عبر وسائل متنوعة منها الوسائل التفريجية القائمة على تفريغ شحنة الحرب من داخل التلاميذ، والوسائل العلاجية النفسية، والوسائل الطبية الدوائية. وتبعاً للوسيلة المستخدمة برزت الحاجة إلى تدخل كل من الطبيب النفسي (Psychiatre) والمعالج النفسي ( Psychologue) والأخصائي النفسي ( Psychologue)، والمرشد النفسي المدرسي( Psychologue scolaire)
إن العلاج النفسي التفريجي هو أكثر وسائل الدعم النفسي شيوعاً في لبنان. وتعتمد عملية تفريغ توتر الحرب من وجدان التلاميذ والصغار عموماً على حوالى عشرين تقنية لا مجال لذكرها الآن. أما العلاج الدوائي الطبي فإنه يتركز على البالغين أساساً، والمراهقين أحياناً ولا يتم استخدامه عند الأطفال إلا في الحالات القصوى. وأكثر أدوية الأعصاب استخداماً في الوقت الحاضر هي المهدئات في حوالى ٦٠ ٪ من حالات العلاج تليها أدوية الاسترخاء المضادة للتوتر النفسي حوالى ٢٠ ٪ وصولاً إلى أدوية الإكتئاب حوالى ٢٠٪

وفي مواجهة المشكلات النفسية المرتبطة بحرب تموز ٢٠٠٦ الماضية شهد لبنان حملة دعم نفسي واسعة النطاق للأطفال والمراهقين والتلاميذ شاركت فيه جمعيات ومؤسسات خاصة ورسمية لبنانية ودولية مع تفاوت كبير في حجم الدعم ونوعيته. بعض الهيئات تدخل بصورة مؤقتة وأنهى عمله قبل نهاية ٢٠٠٦ ، وبعضها كان تدخله متوسط الأهمية، بينما
تدخلت هيئات أخرى بصورة فعالة وخاصة منظمة اليونسيف، ومكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في بيروت، ووزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، ووزارة الشؤون الإجتماعية، والجامعة اليسوعية، وجمعية المبرات الخيرية، والمجلس الأعلى للطفولة، ومجموعة صامدون وغيرها كثير.

أثار العدوان على مدرسة الخيام الرسمية.

التأثيرات التربوية للحرب على التلميذ اللبناني
إذا كان الأطفال والمراهقون قد دفعوا فاتورة حرب تموز ٢٠٠٦ من صحتهم النفسية، فإنهم يدفعون فاتورتها أيضاً من تحصيلهم الدراسي لهذا العام وربما لسنوات لاحقة خاصة وأن معظم مدارس لبنان لا يوجد فيها متخصصون في الإرشاد النفسي-المدرسي يمكن أن يساعدوا في تدارك التداعيات الدراسية السلبية للحرب. فكثير من أطفال الروضة وتلامذة التعليم العام والجامعة استشهدوا في الحرب أو أصيبوا بجروح أو إعاقات شكلت صدمة لإخوتهم وزملائهم قد تصرفهم عن التركيز على عملية التعلم. وتلامذة اّخرون دمرت مدارسهم أو انتقلوا إلى مدارس أخرى جديدة. وبحسب الإحصاءات المتداولة فإن الحرب أدت إلى تدمير كلي لأربعين مدرسة كما  تضررت منها أكثر من ٣٠٠ مدرسة أخرى٤
وتظهر نتائج التلامذة في امتحانات السنة الدراسية الماضية أن هناك تراجعاً في مستوى العلامات يتركز خصوصاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية، أي بين صفوف المراهقين والمراهقات من تلامذة لبنان. وبسبب التوتر السياسي الداخلي وانعكاساته السلبية على الأسر اللبنانية، فإن درجة إقبال التلميذ على التعلم لابد أن تتراجع ويقل معها اهتمامه بشرح الدروس، ولا مناص تبعاً لذلك من تراجع قليل أو كثير في العلامات التي يحصل عليها ٥
بدأت الآثار المدرسية للحرب تظهر على التلامذة منذ بداية العام الدراسي السابق (٢٠٠٦-٢٠٠٧ ) عندما لاحظ المعلمون  مشاكل عديدة لدى التلميذ لم تكن مألوفة سابقاً. فبعد مرور حوالى ثلاثة شهور على ابتداء العام الدراسي بدأت تظهر آثار دراسية مباشرة على التلاميذ تمثلت بتراجع في التحصيل العلمي مقارنة مع ما كانوا عليه في الفترة نفسها من العام السابق وقد ظهرت هذه الآثار على عدد كبير من التلاميذ بمن فيهم المتفوقون ما يشكل ظاهرة تسترعي انتباه العديد من الأساتذة والمعلمين. وفي هذا المجال تقول إحدى التلميذات من المرحلة الثانوية: ''اليأس مازال مسيطراً علينا، ولم نعد نهتم كثيراً بالدرس.كأننا خائفون أو ننتظر حرباً جديدة''.
وما بدا غير مألوف في كثير من المدارس تراجع مستوى مشاركة التلامذة داخل الصف، وضعف تركيزهم إلا على موضوعات محددة تتعلق بالحرب والجدوى من الدراسة والعلم خصوصاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية. وللتأكد من طبيعة الانعكاسات الدراسية للحرب قمنا باستطلاع آراء مجموعة لابأس بها من مديري ومعلمي المدارس الرسمية الثانوية، فضلاً عن أساتذة في كلية التربية في الجامعة البنانية. وقد شملت العّينة المختارة عشرين مدير مدرسة ثانوية رسمية، وثلاثين معلماً في مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت و بعلبك والهرمل وجنوب لبنان. أما أساتذة كلية التربية في الجامعة البنانية المستفتون فقد بلغ عددهم ٢٤ أستاذاً من مختلف التخصصات الدراسية.
اقتصرت بنود الإستبانة المستخدمة على أربعة أسئلة أساسية تتمحور حول المواد والمقررات الدراسية التي تأثر تحصيل التلامذة فيها بالحرب أو هو لم يتأثر. أما السؤال الأخير فهو يتعلق بكيفية تأثير الحرب وتداعياتها على المتعلمين والتعليم بوجه عام. وبعد تحليل الإجابات عن أسئلة الاستبانة جاءت النتائج وفق ما يأتي:

أ- بالنسبة للسؤال الأول حول وجود تراجع في التحصيل الدراسي للتلميذ اللبناني عقب حرب تموز ٢٠٠٦ لاحظ أغلب المديرين والمعلمين الثانويين وجود تراجع دراسي وقالت الغالبية العظمى من أساتذة الجامعة بذلك كما يظهر من الجدول الآتي:

جدول رقم ١: توزيع الإجابات حول وجود تراجع في التحصيل الدراسي للتلميذ اللبناني


يشير الجدول الأول إلى أن غالبية مديري ومعلمي المدارس الثانوية في العينة يقرون بوجود تراجع دراسي ملحوظ( ٧٦ ٪). تضاف إليهم نسبة ١٦ ٪ ممن لاحظوا تراجعاً قليلاً في التحصيل التعلمي. أما أساتذة الجامعة فقد أقرت أغلبية ساحقة منهم ( ٩٢ ٪)بوجود تراجع في مستوى التحصيل الدراسي للطلاب.

 

ب- بالنسبة للسؤال الثاني حول ربط التراجع الدراسي بالحرب، أظهرت النتائج أن ٧٢ ٪ من مديري المدارس الثانوية الرسمية ومعلميها عزوا التراجع إلى حالة الحرب، بينما قال ٢٠ ٪ منهم إن التراجع التحصيلي يرجع إلى الخلافات السياسية الحادة التي أعقبت حرب تموز ٢٠٠٦ الماضية، وأفاد ٨٪ فقط إنه لا يوجد تراجع أساساً، وليس للحرب من أثر على التحصيل الدراسي تبعاً لذلك. أما في الجامعة فكان الربط بين تراجع التحصيل والحرب أعلى مما هي عليه الحال في التعليم الثانوي ٪ ووصل إلى ٨٣ ٪ من الأساتذة الجامعيين مقابل ٨٪ ممن ربطوا التراجع بالخلاف السياسي الداخلي التالي للحرب، و ٨ ممن قالوا إنه لايوجد تراجع دراسي أصلاً وإن الحرب لم تفضِ إلى انعكاسات سلبية كما يظهر ذلك في الجدول الآتي:

جدول رقم ٢: توزيع الإجابات حول مدى ارتباط التراجع الدراسي بالحرب وما تلاها من أزمة سياسية


ج- بالنسبة للسؤال الثالث حول المواد الدراسية التي حصل تراجع في تحصيلها قال حوالي نصف المديرين والمعلمين الثانويين إن التراجع طاول المواد الدراسية كافة، مقابل الثلث ممن قالوا بذلك في المستوى الجامعي. وجاءت خريطة التراجع في تحصيل المواد الدراسية، مجتمعة ومنفردة، وفق ما يلي:

 

جدول رقم ٣: توزيع الإجابات بشأن التراجع في تحصيل المواد والمقررات الدراسية عقب الحرب

يتبين من الجدول الثالث أن نصف المديرين والمعلمين يرون أنه حصل تراجع في كل المواد الدراسية في التعليم الثانوي بينما قال ٨٪ منهم إنه لايوجد تراجع في مستوى التحصيل، وقال ١٢ ٪ إن التراجع طال تحصيل التلاميذ في اللغة العربية و آدابها مقابل ٨٪ ممن لاحظوا تراجعاً في مواد العلوم والرياضيات ثم في اللغة الأجنبية والاجتماعيات.مدرسة الطيبة الابتدائية - قضاء مرجعيون.
أما في المستوى الجامعي فقد كان تحديد المقررات الدراسية التي تأثر التحصيل فيها أكثر تفصيلاً، واقتصر الحديث على الأثر السلبي الذي طاول المقررات كافة على حوالى ثلث أفراد العينة الجامعية. وأكثر الجوانب تأثراً كانت الأبحاث العلمية المرتبطة بهذا المقرر الدراسي أو ذاك ( ١٧ ٪ من أفراد العينة تحدثوا عن ذلك ) لتأتي بعد ذلك سلسلة مقررات شهدت تراجعاً في تحصيلها عند ٨,٣ ٪ من الأساتذة المستفتين وهي تباعاً مقررات العلوم والرياضيات، واللغة العربية، والاجتماعيات، والمعلوماتية، والمواد التطبيقية، بينما قال ٨,٣ ٪ من أفراد العينة الجامعية إنه لم يحصل تراجع في تحصيل الطلاب في أي مقرر دراسي.
د- بالنسبة للسؤال الرابع عن كيفية تأثير الحرب وتداعياتها الداخلية على تلامذة المدرسة الرسمية الثانوية وطلاب الجامعة في لبنان جاءت ردود المديرين والمعلمين والأساتذة وفق ما يظهره الجدول الآتي:

 

جدول رقم ٤: كيفية تأثير الحرب وتداعياتها الداخلية على شخصية التلميذ اللبناني وسلوكه في المدرسة مدرسة الطيبة الابتدائية - قضاء مرجعيون.


يتبين من الجدول الرابع أن هنالك إجماعاً بين مديري ومعلمي الثانويات الرسمية في لبنان على وجود تأثيرات سلبية على شخصية التلميذ وسلوكه المدرسي بعد حرب تموز ٢٠٠٦ وما تبعها من أزمة داخلية مفتوحة. فلم يتواتر الحديث عن تأثير إيجابي لهذه الحرب سوى مرتين(٦) يضاف إليهما حديث عن عدم وجود آثار سلبية للحرب، تكرر مرتين أيضاً. وأكثر ما لاحظه المديرون والمعلمون في الثانويات الرسمية كان الميل للفوضى والسلوك غير المنضبط عند التلاميذ ( ٣٢ مرة) يليها عدم الاهتمام بالدراسة والعلم ( ١٩ مرة) ثم المشكلات النفسية للتلاميذ (٩ مرات). بعد ذلك يبرز الاعتقاد بأن الدراسة يمكن أن تتوقف أو أنه سوف يتم إلغاء الامتحانات ( ٧ مرات)، تلي ذلك حالة فقدان الثقة بالدولة والوطن ( ٦ مرات) ثم التغيب والتسرب المدرسي أثناء العام الدراسي ( ٣ مرات) وصولاً إلى حالة الخوف من وقوع حرب جديدة، وحالة الخوف من وقوع الأهل في البطالة بسبب الحرب، وحالة التوتر بين التلامذة في المدرسة (مرتان لكل حالة) مع إشارة يتيمة إلى خطر الهجرة وترك البلد.
وفي الجامعة اللبنانية تتصدر حالة الخوف والقلق على المستقبل قائمة التأثيرات السلبية للحرب على الطلاب (تتكرر هذه الحالة ٢٤ مرة) بينما لم يظهر القول بعدم وجود أثر سيئ للحرب على سلوك التلامذة سوى مرتين فقط، ولم يقل أحد من الأساتذة أن هنالك آثاراً إيجابية للحرب على التلاميذ. بعد قلق المستقبل تبرز حالة عدم الاهتمام بالدراسة والعلم ( ٩ مرات) تليها حالة الفوضى والسلوك غير المنضبط (٨ مرات) ثم المشكلات النفسية ( ٧ مرات) وحالات التّغيب والتسرب(٥ مرات). وفي المرتبة  السادسة داخل قائمة ردود الأساتذة نجد قلة التركيز في الصف(٣ مرات) ثم ازدهار الشائعات والميل إلى تصديقها ( ٣ مرات ) أيضاًبعد ذلك تظهر حالات الاهتمام المفرط بالسياسة داخل الجامعة، ثم التوتر بين الطلاب، وصولاً إلى موضوع الهجرة إلى خارج لبنان وذلك بتواتر يبلغ مرتين في كل حالة.
لقد طاولت التأثيرات السلبية للحرب تحصيل التلاميذ
اللبنانيين وسلوكهم معاً. وتشير المعطيات التي تضمنتها الجداول الأربعة الواردة في هذه الدراسة إلى أن الحرب قد تركت بصماتها على التلميذ اللبناني رغم أنه من المتوقع أن يتراجع التأثير النفسي والتربوي للحرب مع مرور الوقت ومع عودة الهدوء والاستقرار إلى لبنان. ولكن إذا لم يسترجع اللبنانيون حياتهم الطبيعية بعد التوتر السياسي الداخلي الذي جاء متصلاً بالحرب وتداعياتها، فإن الضغوط النفسية عليهم سوف تزداد وقد تتحول عندهم إلى حالات مزمنة وكأنهم ما يزالون في حالة حرب مستمرة. فالخوف من الفتنة والحروب الداخلية لا يقل خطورة عن الخوف من الحرب الخارجية، وهو يؤدي إلى قلق مصيري وجودي شامل. ومع أن الجهود التي جرت لاحتواء الصدمة النفسية للحرب كانت كبيرة وفعالة في كثير من الحالات فإن معظم هذه الجهود توقف مع بداية ٢٠٠٧ ، بينما تزداد الحاجة إلى تفعيل جدي لدور جهاز التوجيه التربوي والإرشاد النفسي في وزارة التربية والتعليم بحيث تتولى عناصره عمليات تدريب المعلمين على اكتشاف الحالات النفسية الصعبة وحالات التعثر الدراسي في المدارس تمهيداً لتحويلها إلى مراكز العلاج أو معالجتها على يد المرشدين النفسيين والتربويين أنفسهم.
وفي ختام هذه المقالة الخاصة بالتأثيرات التربوية والنفسية لحرب تموز ٢٠٠٦ الماضية، يهمنا إيراد الملاحظات المنهجية الآتية حول الموضوع المطروح، توخياً للموضوعية والأمانة في معالجة مسألة الحرب ومفاعيلها:

 

  1.  أن حجم العينة الخاصة بالاستبانة المستخدمة من الدراسة لا يسمح بالقول إن كل المدارس الرسمية والخاصة في لبنان تعاني، وبالدرجة نفسها، من تداعيات الحرب الأخيرة. فمن الملاحظ أن التأثير السلبي للحرب يظهر في المدرسة الرسمية أكثر من المدرسة الخاصة بوجه عام. ولكن ثمة فروقات أيضاً بين مدرسة رسمية وأخرى في احتواء مفاعيل الحرب، والشيء نفسه يقال عن فروقات كبيرة بين مدرسة خاصة وأخرى في التعامل مع هذه المفاعيل.

وعلى سبيل المثال فإن مدارس جمعية المبرات الخيرية بادرت إلى التعامل مع الانعكاسات السلبية لحرب تموز ٢٠٠٦ على تلاميذها ومعلميها، ما إن وضعت الحرب أوزارها، ونجحت الجمعية في توفير دعم نفسي- تربوي مناسب للمعلمين العاملين في مدارسها كافة، ثم قدمت هذا الدعم لتلاميذها بالتعاون مع اليونسيف واليونسكو خصوصاً. إن هذه الفروقات بين مدرسة وأخرى ترجع أساساً إلى إدارة المدرسة ومستوى المعلمين والإمكانيات المادية المتاحة للمدرسة. لذلك كله فإن الانعكاسات التربوية للحرب قليلة أو شبه معدومة في بعض المدارس، بينما هي كبيرة في مدارس أخرى.هكذا بدت مدرسة بنت جبيل بعد العدوان.

  1. ثمة ميل لدى الأحزاب اللبنانية إلى التحرك في المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية والقيام بإضرابات ومظاهرات وندوات في قطاع التعليم الرسمي، بينما تحرص هذه الأحزاب على تجنيب المدارس والجامعات التابعة لها، تبعات أي تحرك سياسي.
  2. كلما ابتعدنا عن حقبة الحرب الساخنة يميل عموم الناس إلى نسيان جراحات الحرب وأضرارها، بينما يعمد السياسيون المحترفون إلى تناسي تلك الجراحات التي لحقت بالمجتمع. أما العائلات والأفراد الذين اكتووا بنار الحرب وما استولدته من أزمة سياسية مستعصية، فإنهم يغالبون معاناتهم النفسية بحسب الظروف المحيطة بهم: بعضهم يحصل على الرعاية والتضامن والدعم النفسي، وبعضهم الآخر لايجد من يعترف بمأساته ومعاناته النفسية أصلاً.
  3.  إن التأثيرات النفسية والتربوية للحروب تظهر بوضوح  أحياناً، وقد تحتاج إلى ملاحظة دقيقة لاكتشافها في أحيان أخرى. فسكوت الولد وهدوءه لايعني أنه بعيد عن صدمة الحرب بالرغم من الخطاب الرائج عن أن اللبنانيين كلهم ''أبطال'' ولا تهز الحروب مشاعرهم مهما تكن الظروف والأحوال.

ما تبقى من ملعب مدرسة كونين الرسمية.في هذا السياق كثيراً ما يستغرب أصحاب الخطاب الإيديولوجي أن يكون مئات الأطفال والمراهقين واللبنانيين عموماً قد عانوا نفسياً من الحرب ومصائبها على أساس أن اللبناني لا يهاب الموت! وهذه التصورات ليست في الحقيقة سوى أوهام أيديولوجية يتم إسقاطها على الناس من علٍ. أما في الواقع فإن الناس يتألمون ويعانون في السر، إن لم يعانوا في العلن. وكما أن الطبيب وحده هو الذي يعالج المشكلات الصحية للفرد، فإن الأخصائي النفسي وحده هو الذي يجب أن
يتعامل مع المشكلات النفسية لهذا الفرد أو ذاك.
لقد كان العام الدراسي (
٢٠٠٦ -٢٠٠٧) عاماً للتحصيل الدراسي المنخفض في التعليم الرسمي اللبناني قد يؤسس لسنوات دراسية عجاف مقبلة علينا ما لم يتم تدارك الأمور والخروج من الأزمة التي يعاني منها لبنان في وقت قريب.
 

هوامش:

  1.  راجع في هذا الصدد جريدة السفير عدد ٢٠ تشرين الأول ٢٠٠٦
  2.  هذا المثال مأخوذ من ''برنامج التدخل النفسي- التربوي لمعالجة اّثار الحرب عند الأطفال''، وهي دراسة من إعداد اليونسيف وجمعية المبرات الخيرية صدرت عقب حرب تموز ٢٠٠٦
  3. إن فكرة الشهادة دفاعاً عن الوطن أو الأرض يمكن أن تعزز القدرة على مواجهة مخاطر الحروب. وقد أظهرت أطروحة للدكتورة فاطمة هاشم عن الأطفال  والحرب الأهلية في لبنان (نوقشت في جامعة مونبيليه في فرنسا سنة ١٩٨٣)  أن القدرة على مواجهة صدمة الحرب في بيئة تسودها حالة إيمانية دينية هي أعلى من نظيرتها في البيئات الأخرى.
  4. من المنطقي الافتراض أنه توجد في الظروف الراهنة نسبة لا بأس بها من الأهل لم تعد قادرة، بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية في الحرب وما بعدها، على دفع الأقساط المدرسية لأولادهم ما يربك التلميذ نفسياً ولا يوفر له جواً من الاستقرار التعليمي.
  5.  تتأثر المدارس الرسمية بالحرب، وما يتبعها من توتر سياسي داخلي وتحركات في الشارع، أكثر مما تتأثر المدارس الخاصة بذلك. وداخل القطاع الخاص، من المرجح أن تكون المدارس الخاصة الراقية أكثر قدرة على استيعاب الإنعكاسات المدرسية السلبية للحرب من المدارس الخاصة الأقل مستوى.
  6. إن عدد الإجابات عن السؤال الرابع مفتوح لأن كل أستاذ يمكن أن يورد أكثر من تأثير واحد للحرب وتداعياتها، ولذلك فإن عدد الإجابات كان ضعف عدد الأساتذة المستفتين تقريباً.

التداعيات النفسية والتربوية على التعليم الرسمي في لبنان

التداعيات النفسية والتربوية
على التعليم الرسمي في لبنان بعد عام و نصف على حرب تموز ٢٠٠٦

 


الدكتور فوزي أيوب باحث وأستاذ في كلية التربية في الجامعة البنانيةبعد حوالى سنة و نصف على الحرب المدمرة التي ضربت لبنان في تموز ٢٠٠٦ وعرضته لمحنة قاسية، يبدو من المهم لنا أن نتساءل عن الانعكاسات النفسية و التربوية لهذه الحرب على الواقع التعليمي اللبناني بوجه عام، وعلى واقع المدرسة الرسمية بوجه خاص، وذلك من خلال تسليط الضوء على البصمات التي تركتها الحرب في شخصية التلميذ اللبناني وتحصيله الدراسي.

 

 

التلميذ اللبناني وصدمة الحرب

إنطلاقاً من إجمالي عدد القتلى والجرحى الذين سقطوا خلال حرب تموز ٢٠٠٦ ، وإذا إعتبرنا أن ثلث ضحايا الحرب، من زاوية ديموغرافية، هم من الصغار والفتيان، فإن من المرجح أن يكون حوالى خمسمئة من هؤلاء قد إستشهدوا، فضلاً عن ألف وخمسمئة من الجرحى أو المصابين. ومن الطبيعي، في حالة كهذه، أن تفضي الخسائر البشرية للحرب إلى ''إصابات نفسية'' موازية لها مفاعيلها بين أطفال لبنان وتلاميذه، وهذه الإصابات تقوى كلما كانت الخسائر البشرية أكبر، وكلما كان حجم الدمار والنزوح عالياً. وبحسب الدكتور عدنان حب لله رئيس المركز العربي للدراسات النفسية والتحليلية والذي أدار مركزاً للعلاج النفسي في مدينة صور عقب الحرب، فإن حوالى ثلث الشعب اللبناني عانى من حالة عصاب اكتئابي وخوف وقلق بعد الحرب، كما أن معظم سكان جنوب لبنان ( حوالى مليون شخص ) تعرّض لتأثيرات الحرب وصدمتها بهذا القدر أو ذاك تبعاً لدرجة القرب من ساحة الحرب أو البعد عنها.١
وكانت دراسات الحروب والكوارث (Rubonis & Bickman 1991 ) قد بيّنت عالمياً أن الاضطرابات النفسية ترتفع بنسبة ١٧ ٪ بعد الأحداث الصادمة، وتتخذ أشكالاً متنوعة بحسب شدة التعرّض للخطر. وقد أظهرت عمليات الدعم والعلاج النفسي بعد الحرب أن الصغار كانوا هم الفئة الأكثر تضرراً من الناحية السيكولوجية، وظهرت لدى الكثيرين منهم ما يمكن تسميته ''بعقدة الطائرة'' في مناطق القتال. إن الطفل لايمتلك المفاهيم والكلمات اللازمة لإدراك معنى الحرب (ترميزها) وتحليل أبعادها، ولذلك كان من الطبيعي أن يتعرض الكثير من الأطفال والتلاميذ و الافراد عموماً في لبنان لضغوط ما بعد  صدمة الحرب (post trauma stress disorder ) إضافة إلى اضطرابات نفسية أخرى نذكر منها ما يأتي:
- الخواف أي الخوف الذي ليس له موضوع فعلي (phobie)
- القلق العام.
- الاكتئاب والشعور بالضيق والتبرم.
- الشرود الذهني وقلة التركيز.
- الانطواء على الذات.
- العدوانية تجاه الآخر أو تجاه الذات.
- فقدان الشهية للأكل.
- ارتفاع ضغط الدم وضيق التنفس ورعشة اليد ذات المنشأ النفسي...الخ.

 

هذه الحالات النفسية المرضية يمكن ملاحظتها في البيوت والمدارس والمراكز العلاجية كما في حالة فتاة جنوبية مراهقة استشهدت أمها في الحرب فاستولت عليها كوابيس الفاجعة العائلية وصارت تعاني من رجفة وتشنج واضطراب في النوم حتى أصبحت غير قادرة على الدرس وهي عرضة للرسوب والفشل الدراسي ما لم تجد مخرجاً من أزمتها ٢ ولعل ما يخفف من التبعات النفسية السلبية لحرب تموز ٢٠٠٦ ظهور حالة استثنائية من الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي. فقد لاحظ أكثر من فريق نفسي متخصص أن تجربة اللبنانيين مع الحرب كانت مختلفة نسبياً من ''الناحية النفسية'' بفضل استبسال المقاومة وتضامن اللبنانيين، ما أدى إلى التخفيف من وطأة الحرب وصدمتها وشكّل تعويضاً معنوياً (استعادة الكرامة) لولاه لكانت المصيبة أكبر. ويبدو في هذا السياق ثقافة الصمود والتضامن التي رافقت الحرب قد لعبت دوراً مهماً في استيعاب عوارض الصدمة الناجمة عنها، وهو ما رفدته الثقافة الدينية التي شدت من أزر أهل الجنوب اللبناني في وجه العدوان ورفعت معنوياتهم. فمجالس العزاء الحسينية تركت اّثاراً إيجابية مهدئة للنفوس التي لفها الحزن. والعبرة الصريحة من تلك المجالس هي أنه لا سقف للعذاب أعلى من سقف مأساة كربلاء، وكل ما دون ذلك يهون حتى عندما يصل إلى الاستشهاد والموت٣
ولكن مهما تكن قوة العوامل المخففة لصدمة الحرب فقد كان لابد من تقديم العون النفسي للحالات المصدومة عبر وسائل متنوعة منها الوسائل التفريجية القائمة على تفريغ شحنة الحرب من داخل التلاميذ، والوسائل العلاجية النفسية، والوسائل الطبية الدوائية. وتبعاً للوسيلة المستخدمة برزت الحاجة إلى تدخل كل من الطبيب النفسي (Psychiatre) والمعالج النفسي ( Psychologue) والأخصائي النفسي ( Psychologue)، والمرشد النفسي المدرسي( Psychologue scolaire)
إن العلاج النفسي التفريجي هو أكثر وسائل الدعم النفسي شيوعاً في لبنان. وتعتمد عملية تفريغ توتر الحرب من وجدان التلاميذ والصغار عموماً على حوالى عشرين تقنية لا مجال لذكرها الآن. أما العلاج الدوائي الطبي فإنه يتركز على البالغين أساساً، والمراهقين أحياناً ولا يتم استخدامه عند الأطفال إلا في الحالات القصوى. وأكثر أدوية الأعصاب استخداماً في الوقت الحاضر هي المهدئات في حوالى ٦٠ ٪ من حالات العلاج تليها أدوية الاسترخاء المضادة للتوتر النفسي حوالى ٢٠ ٪ وصولاً إلى أدوية الإكتئاب حوالى ٢٠٪

وفي مواجهة المشكلات النفسية المرتبطة بحرب تموز ٢٠٠٦ الماضية شهد لبنان حملة دعم نفسي واسعة النطاق للأطفال والمراهقين والتلاميذ شاركت فيه جمعيات ومؤسسات خاصة ورسمية لبنانية ودولية مع تفاوت كبير في حجم الدعم ونوعيته. بعض الهيئات تدخل بصورة مؤقتة وأنهى عمله قبل نهاية ٢٠٠٦ ، وبعضها كان تدخله متوسط الأهمية، بينما
تدخلت هيئات أخرى بصورة فعالة وخاصة منظمة اليونسيف، ومكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في بيروت، ووزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، ووزارة الشؤون الإجتماعية، والجامعة اليسوعية، وجمعية المبرات الخيرية، والمجلس الأعلى للطفولة، ومجموعة صامدون وغيرها كثير.

أثار العدوان على مدرسة الخيام الرسمية.

التأثيرات التربوية للحرب على التلميذ اللبناني
إذا كان الأطفال والمراهقون قد دفعوا فاتورة حرب تموز ٢٠٠٦ من صحتهم النفسية، فإنهم يدفعون فاتورتها أيضاً من تحصيلهم الدراسي لهذا العام وربما لسنوات لاحقة خاصة وأن معظم مدارس لبنان لا يوجد فيها متخصصون في الإرشاد النفسي-المدرسي يمكن أن يساعدوا في تدارك التداعيات الدراسية السلبية للحرب. فكثير من أطفال الروضة وتلامذة التعليم العام والجامعة استشهدوا في الحرب أو أصيبوا بجروح أو إعاقات شكلت صدمة لإخوتهم وزملائهم قد تصرفهم عن التركيز على عملية التعلم. وتلامذة اّخرون دمرت مدارسهم أو انتقلوا إلى مدارس أخرى جديدة. وبحسب الإحصاءات المتداولة فإن الحرب أدت إلى تدمير كلي لأربعين مدرسة كما  تضررت منها أكثر من ٣٠٠ مدرسة أخرى٤
وتظهر نتائج التلامذة في امتحانات السنة الدراسية الماضية أن هناك تراجعاً في مستوى العلامات يتركز خصوصاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية، أي بين صفوف المراهقين والمراهقات من تلامذة لبنان. وبسبب التوتر السياسي الداخلي وانعكاساته السلبية على الأسر اللبنانية، فإن درجة إقبال التلميذ على التعلم لابد أن تتراجع ويقل معها اهتمامه بشرح الدروس، ولا مناص تبعاً لذلك من تراجع قليل أو كثير في العلامات التي يحصل عليها ٥
بدأت الآثار المدرسية للحرب تظهر على التلامذة منذ بداية العام الدراسي السابق (٢٠٠٦-٢٠٠٧ ) عندما لاحظ المعلمون  مشاكل عديدة لدى التلميذ لم تكن مألوفة سابقاً. فبعد مرور حوالى ثلاثة شهور على ابتداء العام الدراسي بدأت تظهر آثار دراسية مباشرة على التلاميذ تمثلت بتراجع في التحصيل العلمي مقارنة مع ما كانوا عليه في الفترة نفسها من العام السابق وقد ظهرت هذه الآثار على عدد كبير من التلاميذ بمن فيهم المتفوقون ما يشكل ظاهرة تسترعي انتباه العديد من الأساتذة والمعلمين. وفي هذا المجال تقول إحدى التلميذات من المرحلة الثانوية: ''اليأس مازال مسيطراً علينا، ولم نعد نهتم كثيراً بالدرس.كأننا خائفون أو ننتظر حرباً جديدة''.
وما بدا غير مألوف في كثير من المدارس تراجع مستوى مشاركة التلامذة داخل الصف، وضعف تركيزهم إلا على موضوعات محددة تتعلق بالحرب والجدوى من الدراسة والعلم خصوصاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية. وللتأكد من طبيعة الانعكاسات الدراسية للحرب قمنا باستطلاع آراء مجموعة لابأس بها من مديري ومعلمي المدارس الرسمية الثانوية، فضلاً عن أساتذة في كلية التربية في الجامعة البنانية. وقد شملت العّينة المختارة عشرين مدير مدرسة ثانوية رسمية، وثلاثين معلماً في مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت و بعلبك والهرمل وجنوب لبنان. أما أساتذة كلية التربية في الجامعة البنانية المستفتون فقد بلغ عددهم ٢٤ أستاذاً من مختلف التخصصات الدراسية.
اقتصرت بنود الإستبانة المستخدمة على أربعة أسئلة أساسية تتمحور حول المواد والمقررات الدراسية التي تأثر تحصيل التلامذة فيها بالحرب أو هو لم يتأثر. أما السؤال الأخير فهو يتعلق بكيفية تأثير الحرب وتداعياتها على المتعلمين والتعليم بوجه عام. وبعد تحليل الإجابات عن أسئلة الاستبانة جاءت النتائج وفق ما يأتي:

أ- بالنسبة للسؤال الأول حول وجود تراجع في التحصيل الدراسي للتلميذ اللبناني عقب حرب تموز ٢٠٠٦ لاحظ أغلب المديرين والمعلمين الثانويين وجود تراجع دراسي وقالت الغالبية العظمى من أساتذة الجامعة بذلك كما يظهر من الجدول الآتي:

جدول رقم ١: توزيع الإجابات حول وجود تراجع في التحصيل الدراسي للتلميذ اللبناني


يشير الجدول الأول إلى أن غالبية مديري ومعلمي المدارس الثانوية في العينة يقرون بوجود تراجع دراسي ملحوظ( ٧٦ ٪). تضاف إليهم نسبة ١٦ ٪ ممن لاحظوا تراجعاً قليلاً في التحصيل التعلمي. أما أساتذة الجامعة فقد أقرت أغلبية ساحقة منهم ( ٩٢ ٪)بوجود تراجع في مستوى التحصيل الدراسي للطلاب.

 

ب- بالنسبة للسؤال الثاني حول ربط التراجع الدراسي بالحرب، أظهرت النتائج أن ٧٢ ٪ من مديري المدارس الثانوية الرسمية ومعلميها عزوا التراجع إلى حالة الحرب، بينما قال ٢٠ ٪ منهم إن التراجع التحصيلي يرجع إلى الخلافات السياسية الحادة التي أعقبت حرب تموز ٢٠٠٦ الماضية، وأفاد ٨٪ فقط إنه لا يوجد تراجع أساساً، وليس للحرب من أثر على التحصيل الدراسي تبعاً لذلك. أما في الجامعة فكان الربط بين تراجع التحصيل والحرب أعلى مما هي عليه الحال في التعليم الثانوي ٪ ووصل إلى ٨٣ ٪ من الأساتذة الجامعيين مقابل ٨٪ ممن ربطوا التراجع بالخلاف السياسي الداخلي التالي للحرب، و ٨ ممن قالوا إنه لايوجد تراجع دراسي أصلاً وإن الحرب لم تفضِ إلى انعكاسات سلبية كما يظهر ذلك في الجدول الآتي:

جدول رقم ٢: توزيع الإجابات حول مدى ارتباط التراجع الدراسي بالحرب وما تلاها من أزمة سياسية


ج- بالنسبة للسؤال الثالث حول المواد الدراسية التي حصل تراجع في تحصيلها قال حوالي نصف المديرين والمعلمين الثانويين إن التراجع طاول المواد الدراسية كافة، مقابل الثلث ممن قالوا بذلك في المستوى الجامعي. وجاءت خريطة التراجع في تحصيل المواد الدراسية، مجتمعة ومنفردة، وفق ما يلي:

 

جدول رقم ٣: توزيع الإجابات بشأن التراجع في تحصيل المواد والمقررات الدراسية عقب الحرب

يتبين من الجدول الثالث أن نصف المديرين والمعلمين يرون أنه حصل تراجع في كل المواد الدراسية في التعليم الثانوي بينما قال ٨٪ منهم إنه لايوجد تراجع في مستوى التحصيل، وقال ١٢ ٪ إن التراجع طال تحصيل التلاميذ في اللغة العربية و آدابها مقابل ٨٪ ممن لاحظوا تراجعاً في مواد العلوم والرياضيات ثم في اللغة الأجنبية والاجتماعيات.مدرسة الطيبة الابتدائية - قضاء مرجعيون.
أما في المستوى الجامعي فقد كان تحديد المقررات الدراسية التي تأثر التحصيل فيها أكثر تفصيلاً، واقتصر الحديث على الأثر السلبي الذي طاول المقررات كافة على حوالى ثلث أفراد العينة الجامعية. وأكثر الجوانب تأثراً كانت الأبحاث العلمية المرتبطة بهذا المقرر الدراسي أو ذاك ( ١٧ ٪ من أفراد العينة تحدثوا عن ذلك ) لتأتي بعد ذلك سلسلة مقررات شهدت تراجعاً في تحصيلها عند ٨,٣ ٪ من الأساتذة المستفتين وهي تباعاً مقررات العلوم والرياضيات، واللغة العربية، والاجتماعيات، والمعلوماتية، والمواد التطبيقية، بينما قال ٨,٣ ٪ من أفراد العينة الجامعية إنه لم يحصل تراجع في تحصيل الطلاب في أي مقرر دراسي.
د- بالنسبة للسؤال الرابع عن كيفية تأثير الحرب وتداعياتها الداخلية على تلامذة المدرسة الرسمية الثانوية وطلاب الجامعة في لبنان جاءت ردود المديرين والمعلمين والأساتذة وفق ما يظهره الجدول الآتي:

 

جدول رقم ٤: كيفية تأثير الحرب وتداعياتها الداخلية على شخصية التلميذ اللبناني وسلوكه في المدرسة مدرسة الطيبة الابتدائية - قضاء مرجعيون.


يتبين من الجدول الرابع أن هنالك إجماعاً بين مديري ومعلمي الثانويات الرسمية في لبنان على وجود تأثيرات سلبية على شخصية التلميذ وسلوكه المدرسي بعد حرب تموز ٢٠٠٦ وما تبعها من أزمة داخلية مفتوحة. فلم يتواتر الحديث عن تأثير إيجابي لهذه الحرب سوى مرتين(٦) يضاف إليهما حديث عن عدم وجود آثار سلبية للحرب، تكرر مرتين أيضاً. وأكثر ما لاحظه المديرون والمعلمون في الثانويات الرسمية كان الميل للفوضى والسلوك غير المنضبط عند التلاميذ ( ٣٢ مرة) يليها عدم الاهتمام بالدراسة والعلم ( ١٩ مرة) ثم المشكلات النفسية للتلاميذ (٩ مرات). بعد ذلك يبرز الاعتقاد بأن الدراسة يمكن أن تتوقف أو أنه سوف يتم إلغاء الامتحانات ( ٧ مرات)، تلي ذلك حالة فقدان الثقة بالدولة والوطن ( ٦ مرات) ثم التغيب والتسرب المدرسي أثناء العام الدراسي ( ٣ مرات) وصولاً إلى حالة الخوف من وقوع حرب جديدة، وحالة الخوف من وقوع الأهل في البطالة بسبب الحرب، وحالة التوتر بين التلامذة في المدرسة (مرتان لكل حالة) مع إشارة يتيمة إلى خطر الهجرة وترك البلد.
وفي الجامعة اللبنانية تتصدر حالة الخوف والقلق على المستقبل قائمة التأثيرات السلبية للحرب على الطلاب (تتكرر هذه الحالة ٢٤ مرة) بينما لم يظهر القول بعدم وجود أثر سيئ للحرب على سلوك التلامذة سوى مرتين فقط، ولم يقل أحد من الأساتذة أن هنالك آثاراً إيجابية للحرب على التلاميذ. بعد قلق المستقبل تبرز حالة عدم الاهتمام بالدراسة والعلم ( ٩ مرات) تليها حالة الفوضى والسلوك غير المنضبط (٨ مرات) ثم المشكلات النفسية ( ٧ مرات) وحالات التّغيب والتسرب(٥ مرات). وفي المرتبة  السادسة داخل قائمة ردود الأساتذة نجد قلة التركيز في الصف(٣ مرات) ثم ازدهار الشائعات والميل إلى تصديقها ( ٣ مرات ) أيضاًبعد ذلك تظهر حالات الاهتمام المفرط بالسياسة داخل الجامعة، ثم التوتر بين الطلاب، وصولاً إلى موضوع الهجرة إلى خارج لبنان وذلك بتواتر يبلغ مرتين في كل حالة.
لقد طاولت التأثيرات السلبية للحرب تحصيل التلاميذ
اللبنانيين وسلوكهم معاً. وتشير المعطيات التي تضمنتها الجداول الأربعة الواردة في هذه الدراسة إلى أن الحرب قد تركت بصماتها على التلميذ اللبناني رغم أنه من المتوقع أن يتراجع التأثير النفسي والتربوي للحرب مع مرور الوقت ومع عودة الهدوء والاستقرار إلى لبنان. ولكن إذا لم يسترجع اللبنانيون حياتهم الطبيعية بعد التوتر السياسي الداخلي الذي جاء متصلاً بالحرب وتداعياتها، فإن الضغوط النفسية عليهم سوف تزداد وقد تتحول عندهم إلى حالات مزمنة وكأنهم ما يزالون في حالة حرب مستمرة. فالخوف من الفتنة والحروب الداخلية لا يقل خطورة عن الخوف من الحرب الخارجية، وهو يؤدي إلى قلق مصيري وجودي شامل. ومع أن الجهود التي جرت لاحتواء الصدمة النفسية للحرب كانت كبيرة وفعالة في كثير من الحالات فإن معظم هذه الجهود توقف مع بداية ٢٠٠٧ ، بينما تزداد الحاجة إلى تفعيل جدي لدور جهاز التوجيه التربوي والإرشاد النفسي في وزارة التربية والتعليم بحيث تتولى عناصره عمليات تدريب المعلمين على اكتشاف الحالات النفسية الصعبة وحالات التعثر الدراسي في المدارس تمهيداً لتحويلها إلى مراكز العلاج أو معالجتها على يد المرشدين النفسيين والتربويين أنفسهم.
وفي ختام هذه المقالة الخاصة بالتأثيرات التربوية والنفسية لحرب تموز ٢٠٠٦ الماضية، يهمنا إيراد الملاحظات المنهجية الآتية حول الموضوع المطروح، توخياً للموضوعية والأمانة في معالجة مسألة الحرب ومفاعيلها:

 

  1.  أن حجم العينة الخاصة بالاستبانة المستخدمة من الدراسة لا يسمح بالقول إن كل المدارس الرسمية والخاصة في لبنان تعاني، وبالدرجة نفسها، من تداعيات الحرب الأخيرة. فمن الملاحظ أن التأثير السلبي للحرب يظهر في المدرسة الرسمية أكثر من المدرسة الخاصة بوجه عام. ولكن ثمة فروقات أيضاً بين مدرسة رسمية وأخرى في احتواء مفاعيل الحرب، والشيء نفسه يقال عن فروقات كبيرة بين مدرسة خاصة وأخرى في التعامل مع هذه المفاعيل.

وعلى سبيل المثال فإن مدارس جمعية المبرات الخيرية بادرت إلى التعامل مع الانعكاسات السلبية لحرب تموز ٢٠٠٦ على تلاميذها ومعلميها، ما إن وضعت الحرب أوزارها، ونجحت الجمعية في توفير دعم نفسي- تربوي مناسب للمعلمين العاملين في مدارسها كافة، ثم قدمت هذا الدعم لتلاميذها بالتعاون مع اليونسيف واليونسكو خصوصاً. إن هذه الفروقات بين مدرسة وأخرى ترجع أساساً إلى إدارة المدرسة ومستوى المعلمين والإمكانيات المادية المتاحة للمدرسة. لذلك كله فإن الانعكاسات التربوية للحرب قليلة أو شبه معدومة في بعض المدارس، بينما هي كبيرة في مدارس أخرى.هكذا بدت مدرسة بنت جبيل بعد العدوان.

  1. ثمة ميل لدى الأحزاب اللبنانية إلى التحرك في المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية والقيام بإضرابات ومظاهرات وندوات في قطاع التعليم الرسمي، بينما تحرص هذه الأحزاب على تجنيب المدارس والجامعات التابعة لها، تبعات أي تحرك سياسي.
  2. كلما ابتعدنا عن حقبة الحرب الساخنة يميل عموم الناس إلى نسيان جراحات الحرب وأضرارها، بينما يعمد السياسيون المحترفون إلى تناسي تلك الجراحات التي لحقت بالمجتمع. أما العائلات والأفراد الذين اكتووا بنار الحرب وما استولدته من أزمة سياسية مستعصية، فإنهم يغالبون معاناتهم النفسية بحسب الظروف المحيطة بهم: بعضهم يحصل على الرعاية والتضامن والدعم النفسي، وبعضهم الآخر لايجد من يعترف بمأساته ومعاناته النفسية أصلاً.
  3.  إن التأثيرات النفسية والتربوية للحروب تظهر بوضوح  أحياناً، وقد تحتاج إلى ملاحظة دقيقة لاكتشافها في أحيان أخرى. فسكوت الولد وهدوءه لايعني أنه بعيد عن صدمة الحرب بالرغم من الخطاب الرائج عن أن اللبنانيين كلهم ''أبطال'' ولا تهز الحروب مشاعرهم مهما تكن الظروف والأحوال.

ما تبقى من ملعب مدرسة كونين الرسمية.في هذا السياق كثيراً ما يستغرب أصحاب الخطاب الإيديولوجي أن يكون مئات الأطفال والمراهقين واللبنانيين عموماً قد عانوا نفسياً من الحرب ومصائبها على أساس أن اللبناني لا يهاب الموت! وهذه التصورات ليست في الحقيقة سوى أوهام أيديولوجية يتم إسقاطها على الناس من علٍ. أما في الواقع فإن الناس يتألمون ويعانون في السر، إن لم يعانوا في العلن. وكما أن الطبيب وحده هو الذي يعالج المشكلات الصحية للفرد، فإن الأخصائي النفسي وحده هو الذي يجب أن
يتعامل مع المشكلات النفسية لهذا الفرد أو ذاك.
لقد كان العام الدراسي (
٢٠٠٦ -٢٠٠٧) عاماً للتحصيل الدراسي المنخفض في التعليم الرسمي اللبناني قد يؤسس لسنوات دراسية عجاف مقبلة علينا ما لم يتم تدارك الأمور والخروج من الأزمة التي يعاني منها لبنان في وقت قريب.
 

هوامش:

  1.  راجع في هذا الصدد جريدة السفير عدد ٢٠ تشرين الأول ٢٠٠٦
  2.  هذا المثال مأخوذ من ''برنامج التدخل النفسي- التربوي لمعالجة اّثار الحرب عند الأطفال''، وهي دراسة من إعداد اليونسيف وجمعية المبرات الخيرية صدرت عقب حرب تموز ٢٠٠٦
  3. إن فكرة الشهادة دفاعاً عن الوطن أو الأرض يمكن أن تعزز القدرة على مواجهة مخاطر الحروب. وقد أظهرت أطروحة للدكتورة فاطمة هاشم عن الأطفال  والحرب الأهلية في لبنان (نوقشت في جامعة مونبيليه في فرنسا سنة ١٩٨٣)  أن القدرة على مواجهة صدمة الحرب في بيئة تسودها حالة إيمانية دينية هي أعلى من نظيرتها في البيئات الأخرى.
  4. من المنطقي الافتراض أنه توجد في الظروف الراهنة نسبة لا بأس بها من الأهل لم تعد قادرة، بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية في الحرب وما بعدها، على دفع الأقساط المدرسية لأولادهم ما يربك التلميذ نفسياً ولا يوفر له جواً من الاستقرار التعليمي.
  5.  تتأثر المدارس الرسمية بالحرب، وما يتبعها من توتر سياسي داخلي وتحركات في الشارع، أكثر مما تتأثر المدارس الخاصة بذلك. وداخل القطاع الخاص، من المرجح أن تكون المدارس الخاصة الراقية أكثر قدرة على استيعاب الإنعكاسات المدرسية السلبية للحرب من المدارس الخاصة الأقل مستوى.
  6. إن عدد الإجابات عن السؤال الرابع مفتوح لأن كل أستاذ يمكن أن يورد أكثر من تأثير واحد للحرب وتداعياتها، ولذلك فإن عدد الإجابات كان ضعف عدد الأساتذة المستفتين تقريباً.

التداعيات النفسية والتربوية على التعليم الرسمي في لبنان

التداعيات النفسية والتربوية
على التعليم الرسمي في لبنان بعد عام و نصف على حرب تموز ٢٠٠٦

 


الدكتور فوزي أيوب باحث وأستاذ في كلية التربية في الجامعة البنانيةبعد حوالى سنة و نصف على الحرب المدمرة التي ضربت لبنان في تموز ٢٠٠٦ وعرضته لمحنة قاسية، يبدو من المهم لنا أن نتساءل عن الانعكاسات النفسية و التربوية لهذه الحرب على الواقع التعليمي اللبناني بوجه عام، وعلى واقع المدرسة الرسمية بوجه خاص، وذلك من خلال تسليط الضوء على البصمات التي تركتها الحرب في شخصية التلميذ اللبناني وتحصيله الدراسي.

 

 

التلميذ اللبناني وصدمة الحرب

إنطلاقاً من إجمالي عدد القتلى والجرحى الذين سقطوا خلال حرب تموز ٢٠٠٦ ، وإذا إعتبرنا أن ثلث ضحايا الحرب، من زاوية ديموغرافية، هم من الصغار والفتيان، فإن من المرجح أن يكون حوالى خمسمئة من هؤلاء قد إستشهدوا، فضلاً عن ألف وخمسمئة من الجرحى أو المصابين. ومن الطبيعي، في حالة كهذه، أن تفضي الخسائر البشرية للحرب إلى ''إصابات نفسية'' موازية لها مفاعيلها بين أطفال لبنان وتلاميذه، وهذه الإصابات تقوى كلما كانت الخسائر البشرية أكبر، وكلما كان حجم الدمار والنزوح عالياً. وبحسب الدكتور عدنان حب لله رئيس المركز العربي للدراسات النفسية والتحليلية والذي أدار مركزاً للعلاج النفسي في مدينة صور عقب الحرب، فإن حوالى ثلث الشعب اللبناني عانى من حالة عصاب اكتئابي وخوف وقلق بعد الحرب، كما أن معظم سكان جنوب لبنان ( حوالى مليون شخص ) تعرّض لتأثيرات الحرب وصدمتها بهذا القدر أو ذاك تبعاً لدرجة القرب من ساحة الحرب أو البعد عنها.١
وكانت دراسات الحروب والكوارث (Rubonis & Bickman 1991 ) قد بيّنت عالمياً أن الاضطرابات النفسية ترتفع بنسبة ١٧ ٪ بعد الأحداث الصادمة، وتتخذ أشكالاً متنوعة بحسب شدة التعرّض للخطر. وقد أظهرت عمليات الدعم والعلاج النفسي بعد الحرب أن الصغار كانوا هم الفئة الأكثر تضرراً من الناحية السيكولوجية، وظهرت لدى الكثيرين منهم ما يمكن تسميته ''بعقدة الطائرة'' في مناطق القتال. إن الطفل لايمتلك المفاهيم والكلمات اللازمة لإدراك معنى الحرب (ترميزها) وتحليل أبعادها، ولذلك كان من الطبيعي أن يتعرض الكثير من الأطفال والتلاميذ و الافراد عموماً في لبنان لضغوط ما بعد  صدمة الحرب (post trauma stress disorder ) إضافة إلى اضطرابات نفسية أخرى نذكر منها ما يأتي:
- الخواف أي الخوف الذي ليس له موضوع فعلي (phobie)
- القلق العام.
- الاكتئاب والشعور بالضيق والتبرم.
- الشرود الذهني وقلة التركيز.
- الانطواء على الذات.
- العدوانية تجاه الآخر أو تجاه الذات.
- فقدان الشهية للأكل.
- ارتفاع ضغط الدم وضيق التنفس ورعشة اليد ذات المنشأ النفسي...الخ.

 

هذه الحالات النفسية المرضية يمكن ملاحظتها في البيوت والمدارس والمراكز العلاجية كما في حالة فتاة جنوبية مراهقة استشهدت أمها في الحرب فاستولت عليها كوابيس الفاجعة العائلية وصارت تعاني من رجفة وتشنج واضطراب في النوم حتى أصبحت غير قادرة على الدرس وهي عرضة للرسوب والفشل الدراسي ما لم تجد مخرجاً من أزمتها ٢ ولعل ما يخفف من التبعات النفسية السلبية لحرب تموز ٢٠٠٦ ظهور حالة استثنائية من الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي. فقد لاحظ أكثر من فريق نفسي متخصص أن تجربة اللبنانيين مع الحرب كانت مختلفة نسبياً من ''الناحية النفسية'' بفضل استبسال المقاومة وتضامن اللبنانيين، ما أدى إلى التخفيف من وطأة الحرب وصدمتها وشكّل تعويضاً معنوياً (استعادة الكرامة) لولاه لكانت المصيبة أكبر. ويبدو في هذا السياق ثقافة الصمود والتضامن التي رافقت الحرب قد لعبت دوراً مهماً في استيعاب عوارض الصدمة الناجمة عنها، وهو ما رفدته الثقافة الدينية التي شدت من أزر أهل الجنوب اللبناني في وجه العدوان ورفعت معنوياتهم. فمجالس العزاء الحسينية تركت اّثاراً إيجابية مهدئة للنفوس التي لفها الحزن. والعبرة الصريحة من تلك المجالس هي أنه لا سقف للعذاب أعلى من سقف مأساة كربلاء، وكل ما دون ذلك يهون حتى عندما يصل إلى الاستشهاد والموت٣
ولكن مهما تكن قوة العوامل المخففة لصدمة الحرب فقد كان لابد من تقديم العون النفسي للحالات المصدومة عبر وسائل متنوعة منها الوسائل التفريجية القائمة على تفريغ شحنة الحرب من داخل التلاميذ، والوسائل العلاجية النفسية، والوسائل الطبية الدوائية. وتبعاً للوسيلة المستخدمة برزت الحاجة إلى تدخل كل من الطبيب النفسي (Psychiatre) والمعالج النفسي ( Psychologue) والأخصائي النفسي ( Psychologue)، والمرشد النفسي المدرسي( Psychologue scolaire)
إن العلاج النفسي التفريجي هو أكثر وسائل الدعم النفسي شيوعاً في لبنان. وتعتمد عملية تفريغ توتر الحرب من وجدان التلاميذ والصغار عموماً على حوالى عشرين تقنية لا مجال لذكرها الآن. أما العلاج الدوائي الطبي فإنه يتركز على البالغين أساساً، والمراهقين أحياناً ولا يتم استخدامه عند الأطفال إلا في الحالات القصوى. وأكثر أدوية الأعصاب استخداماً في الوقت الحاضر هي المهدئات في حوالى ٦٠ ٪ من حالات العلاج تليها أدوية الاسترخاء المضادة للتوتر النفسي حوالى ٢٠ ٪ وصولاً إلى أدوية الإكتئاب حوالى ٢٠٪

وفي مواجهة المشكلات النفسية المرتبطة بحرب تموز ٢٠٠٦ الماضية شهد لبنان حملة دعم نفسي واسعة النطاق للأطفال والمراهقين والتلاميذ شاركت فيه جمعيات ومؤسسات خاصة ورسمية لبنانية ودولية مع تفاوت كبير في حجم الدعم ونوعيته. بعض الهيئات تدخل بصورة مؤقتة وأنهى عمله قبل نهاية ٢٠٠٦ ، وبعضها كان تدخله متوسط الأهمية، بينما
تدخلت هيئات أخرى بصورة فعالة وخاصة منظمة اليونسيف، ومكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في بيروت، ووزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، ووزارة الشؤون الإجتماعية، والجامعة اليسوعية، وجمعية المبرات الخيرية، والمجلس الأعلى للطفولة، ومجموعة صامدون وغيرها كثير.

أثار العدوان على مدرسة الخيام الرسمية.

التأثيرات التربوية للحرب على التلميذ اللبناني
إذا كان الأطفال والمراهقون قد دفعوا فاتورة حرب تموز ٢٠٠٦ من صحتهم النفسية، فإنهم يدفعون فاتورتها أيضاً من تحصيلهم الدراسي لهذا العام وربما لسنوات لاحقة خاصة وأن معظم مدارس لبنان لا يوجد فيها متخصصون في الإرشاد النفسي-المدرسي يمكن أن يساعدوا في تدارك التداعيات الدراسية السلبية للحرب. فكثير من أطفال الروضة وتلامذة التعليم العام والجامعة استشهدوا في الحرب أو أصيبوا بجروح أو إعاقات شكلت صدمة لإخوتهم وزملائهم قد تصرفهم عن التركيز على عملية التعلم. وتلامذة اّخرون دمرت مدارسهم أو انتقلوا إلى مدارس أخرى جديدة. وبحسب الإحصاءات المتداولة فإن الحرب أدت إلى تدمير كلي لأربعين مدرسة كما  تضررت منها أكثر من ٣٠٠ مدرسة أخرى٤
وتظهر نتائج التلامذة في امتحانات السنة الدراسية الماضية أن هناك تراجعاً في مستوى العلامات يتركز خصوصاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية، أي بين صفوف المراهقين والمراهقات من تلامذة لبنان. وبسبب التوتر السياسي الداخلي وانعكاساته السلبية على الأسر اللبنانية، فإن درجة إقبال التلميذ على التعلم لابد أن تتراجع ويقل معها اهتمامه بشرح الدروس، ولا مناص تبعاً لذلك من تراجع قليل أو كثير في العلامات التي يحصل عليها ٥
بدأت الآثار المدرسية للحرب تظهر على التلامذة منذ بداية العام الدراسي السابق (٢٠٠٦-٢٠٠٧ ) عندما لاحظ المعلمون  مشاكل عديدة لدى التلميذ لم تكن مألوفة سابقاً. فبعد مرور حوالى ثلاثة شهور على ابتداء العام الدراسي بدأت تظهر آثار دراسية مباشرة على التلاميذ تمثلت بتراجع في التحصيل العلمي مقارنة مع ما كانوا عليه في الفترة نفسها من العام السابق وقد ظهرت هذه الآثار على عدد كبير من التلاميذ بمن فيهم المتفوقون ما يشكل ظاهرة تسترعي انتباه العديد من الأساتذة والمعلمين. وفي هذا المجال تقول إحدى التلميذات من المرحلة الثانوية: ''اليأس مازال مسيطراً علينا، ولم نعد نهتم كثيراً بالدرس.كأننا خائفون أو ننتظر حرباً جديدة''.
وما بدا غير مألوف في كثير من المدارس تراجع مستوى مشاركة التلامذة داخل الصف، وضعف تركيزهم إلا على موضوعات محددة تتعلق بالحرب والجدوى من الدراسة والعلم خصوصاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية. وللتأكد من طبيعة الانعكاسات الدراسية للحرب قمنا باستطلاع آراء مجموعة لابأس بها من مديري ومعلمي المدارس الرسمية الثانوية، فضلاً عن أساتذة في كلية التربية في الجامعة البنانية. وقد شملت العّينة المختارة عشرين مدير مدرسة ثانوية رسمية، وثلاثين معلماً في مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت و بعلبك والهرمل وجنوب لبنان. أما أساتذة كلية التربية في الجامعة البنانية المستفتون فقد بلغ عددهم ٢٤ أستاذاً من مختلف التخصصات الدراسية.
اقتصرت بنود الإستبانة المستخدمة على أربعة أسئلة أساسية تتمحور حول المواد والمقررات الدراسية التي تأثر تحصيل التلامذة فيها بالحرب أو هو لم يتأثر. أما السؤال الأخير فهو يتعلق بكيفية تأثير الحرب وتداعياتها على المتعلمين والتعليم بوجه عام. وبعد تحليل الإجابات عن أسئلة الاستبانة جاءت النتائج وفق ما يأتي:

أ- بالنسبة للسؤال الأول حول وجود تراجع في التحصيل الدراسي للتلميذ اللبناني عقب حرب تموز ٢٠٠٦ لاحظ أغلب المديرين والمعلمين الثانويين وجود تراجع دراسي وقالت الغالبية العظمى من أساتذة الجامعة بذلك كما يظهر من الجدول الآتي:

جدول رقم ١: توزيع الإجابات حول وجود تراجع في التحصيل الدراسي للتلميذ اللبناني


يشير الجدول الأول إلى أن غالبية مديري ومعلمي المدارس الثانوية في العينة يقرون بوجود تراجع دراسي ملحوظ( ٧٦ ٪). تضاف إليهم نسبة ١٦ ٪ ممن لاحظوا تراجعاً قليلاً في التحصيل التعلمي. أما أساتذة الجامعة فقد أقرت أغلبية ساحقة منهم ( ٩٢ ٪)بوجود تراجع في مستوى التحصيل الدراسي للطلاب.

 

ب- بالنسبة للسؤال الثاني حول ربط التراجع الدراسي بالحرب، أظهرت النتائج أن ٧٢ ٪ من مديري المدارس الثانوية الرسمية ومعلميها عزوا التراجع إلى حالة الحرب، بينما قال ٢٠ ٪ منهم إن التراجع التحصيلي يرجع إلى الخلافات السياسية الحادة التي أعقبت حرب تموز ٢٠٠٦ الماضية، وأفاد ٨٪ فقط إنه لا يوجد تراجع أساساً، وليس للحرب من أثر على التحصيل الدراسي تبعاً لذلك. أما في الجامعة فكان الربط بين تراجع التحصيل والحرب أعلى مما هي عليه الحال في التعليم الثانوي ٪ ووصل إلى ٨٣ ٪ من الأساتذة الجامعيين مقابل ٨٪ ممن ربطوا التراجع بالخلاف السياسي الداخلي التالي للحرب، و ٨ ممن قالوا إنه لايوجد تراجع دراسي أصلاً وإن الحرب لم تفضِ إلى انعكاسات سلبية كما يظهر ذلك في الجدول الآتي:

جدول رقم ٢: توزيع الإجابات حول مدى ارتباط التراجع الدراسي بالحرب وما تلاها من أزمة سياسية


ج- بالنسبة للسؤال الثالث حول المواد الدراسية التي حصل تراجع في تحصيلها قال حوالي نصف المديرين والمعلمين الثانويين إن التراجع طاول المواد الدراسية كافة، مقابل الثلث ممن قالوا بذلك في المستوى الجامعي. وجاءت خريطة التراجع في تحصيل المواد الدراسية، مجتمعة ومنفردة، وفق ما يلي:

 

جدول رقم ٣: توزيع الإجابات بشأن التراجع في تحصيل المواد والمقررات الدراسية عقب الحرب

يتبين من الجدول الثالث أن نصف المديرين والمعلمين يرون أنه حصل تراجع في كل المواد الدراسية في التعليم الثانوي بينما قال ٨٪ منهم إنه لايوجد تراجع في مستوى التحصيل، وقال ١٢ ٪ إن التراجع طال تحصيل التلاميذ في اللغة العربية و آدابها مقابل ٨٪ ممن لاحظوا تراجعاً في مواد العلوم والرياضيات ثم في اللغة الأجنبية والاجتماعيات.مدرسة الطيبة الابتدائية - قضاء مرجعيون.
أما في المستوى الجامعي فقد كان تحديد المقررات الدراسية التي تأثر التحصيل فيها أكثر تفصيلاً، واقتصر الحديث على الأثر السلبي الذي طاول المقررات كافة على حوالى ثلث أفراد العينة الجامعية. وأكثر الجوانب تأثراً كانت الأبحاث العلمية المرتبطة بهذا المقرر الدراسي أو ذاك ( ١٧ ٪ من أفراد العينة تحدثوا عن ذلك ) لتأتي بعد ذلك سلسلة مقررات شهدت تراجعاً في تحصيلها عند ٨,٣ ٪ من الأساتذة المستفتين وهي تباعاً مقررات العلوم والرياضيات، واللغة العربية، والاجتماعيات، والمعلوماتية، والمواد التطبيقية، بينما قال ٨,٣ ٪ من أفراد العينة الجامعية إنه لم يحصل تراجع في تحصيل الطلاب في أي مقرر دراسي.
د- بالنسبة للسؤال الرابع عن كيفية تأثير الحرب وتداعياتها الداخلية على تلامذة المدرسة الرسمية الثانوية وطلاب الجامعة في لبنان جاءت ردود المديرين والمعلمين والأساتذة وفق ما يظهره الجدول الآتي:

 

جدول رقم ٤: كيفية تأثير الحرب وتداعياتها الداخلية على شخصية التلميذ اللبناني وسلوكه في المدرسة مدرسة الطيبة الابتدائية - قضاء مرجعيون.


يتبين من الجدول الرابع أن هنالك إجماعاً بين مديري ومعلمي الثانويات الرسمية في لبنان على وجود تأثيرات سلبية على شخصية التلميذ وسلوكه المدرسي بعد حرب تموز ٢٠٠٦ وما تبعها من أزمة داخلية مفتوحة. فلم يتواتر الحديث عن تأثير إيجابي لهذه الحرب سوى مرتين(٦) يضاف إليهما حديث عن عدم وجود آثار سلبية للحرب، تكرر مرتين أيضاً. وأكثر ما لاحظه المديرون والمعلمون في الثانويات الرسمية كان الميل للفوضى والسلوك غير المنضبط عند التلاميذ ( ٣٢ مرة) يليها عدم الاهتمام بالدراسة والعلم ( ١٩ مرة) ثم المشكلات النفسية للتلاميذ (٩ مرات). بعد ذلك يبرز الاعتقاد بأن الدراسة يمكن أن تتوقف أو أنه سوف يتم إلغاء الامتحانات ( ٧ مرات)، تلي ذلك حالة فقدان الثقة بالدولة والوطن ( ٦ مرات) ثم التغيب والتسرب المدرسي أثناء العام الدراسي ( ٣ مرات) وصولاً إلى حالة الخوف من وقوع حرب جديدة، وحالة الخوف من وقوع الأهل في البطالة بسبب الحرب، وحالة التوتر بين التلامذة في المدرسة (مرتان لكل حالة) مع إشارة يتيمة إلى خطر الهجرة وترك البلد.
وفي الجامعة اللبنانية تتصدر حالة الخوف والقلق على المستقبل قائمة التأثيرات السلبية للحرب على الطلاب (تتكرر هذه الحالة ٢٤ مرة) بينما لم يظهر القول بعدم وجود أثر سيئ للحرب على سلوك التلامذة سوى مرتين فقط، ولم يقل أحد من الأساتذة أن هنالك آثاراً إيجابية للحرب على التلاميذ. بعد قلق المستقبل تبرز حالة عدم الاهتمام بالدراسة والعلم ( ٩ مرات) تليها حالة الفوضى والسلوك غير المنضبط (٨ مرات) ثم المشكلات النفسية ( ٧ مرات) وحالات التّغيب والتسرب(٥ مرات). وفي المرتبة  السادسة داخل قائمة ردود الأساتذة نجد قلة التركيز في الصف(٣ مرات) ثم ازدهار الشائعات والميل إلى تصديقها ( ٣ مرات ) أيضاًبعد ذلك تظهر حالات الاهتمام المفرط بالسياسة داخل الجامعة، ثم التوتر بين الطلاب، وصولاً إلى موضوع الهجرة إلى خارج لبنان وذلك بتواتر يبلغ مرتين في كل حالة.
لقد طاولت التأثيرات السلبية للحرب تحصيل التلاميذ
اللبنانيين وسلوكهم معاً. وتشير المعطيات التي تضمنتها الجداول الأربعة الواردة في هذه الدراسة إلى أن الحرب قد تركت بصماتها على التلميذ اللبناني رغم أنه من المتوقع أن يتراجع التأثير النفسي والتربوي للحرب مع مرور الوقت ومع عودة الهدوء والاستقرار إلى لبنان. ولكن إذا لم يسترجع اللبنانيون حياتهم الطبيعية بعد التوتر السياسي الداخلي الذي جاء متصلاً بالحرب وتداعياتها، فإن الضغوط النفسية عليهم سوف تزداد وقد تتحول عندهم إلى حالات مزمنة وكأنهم ما يزالون في حالة حرب مستمرة. فالخوف من الفتنة والحروب الداخلية لا يقل خطورة عن الخوف من الحرب الخارجية، وهو يؤدي إلى قلق مصيري وجودي شامل. ومع أن الجهود التي جرت لاحتواء الصدمة النفسية للحرب كانت كبيرة وفعالة في كثير من الحالات فإن معظم هذه الجهود توقف مع بداية ٢٠٠٧ ، بينما تزداد الحاجة إلى تفعيل جدي لدور جهاز التوجيه التربوي والإرشاد النفسي في وزارة التربية والتعليم بحيث تتولى عناصره عمليات تدريب المعلمين على اكتشاف الحالات النفسية الصعبة وحالات التعثر الدراسي في المدارس تمهيداً لتحويلها إلى مراكز العلاج أو معالجتها على يد المرشدين النفسيين والتربويين أنفسهم.
وفي ختام هذه المقالة الخاصة بالتأثيرات التربوية والنفسية لحرب تموز ٢٠٠٦ الماضية، يهمنا إيراد الملاحظات المنهجية الآتية حول الموضوع المطروح، توخياً للموضوعية والأمانة في معالجة مسألة الحرب ومفاعيلها:

 

  1.  أن حجم العينة الخاصة بالاستبانة المستخدمة من الدراسة لا يسمح بالقول إن كل المدارس الرسمية والخاصة في لبنان تعاني، وبالدرجة نفسها، من تداعيات الحرب الأخيرة. فمن الملاحظ أن التأثير السلبي للحرب يظهر في المدرسة الرسمية أكثر من المدرسة الخاصة بوجه عام. ولكن ثمة فروقات أيضاً بين مدرسة رسمية وأخرى في احتواء مفاعيل الحرب، والشيء نفسه يقال عن فروقات كبيرة بين مدرسة خاصة وأخرى في التعامل مع هذه المفاعيل.

وعلى سبيل المثال فإن مدارس جمعية المبرات الخيرية بادرت إلى التعامل مع الانعكاسات السلبية لحرب تموز ٢٠٠٦ على تلاميذها ومعلميها، ما إن وضعت الحرب أوزارها، ونجحت الجمعية في توفير دعم نفسي- تربوي مناسب للمعلمين العاملين في مدارسها كافة، ثم قدمت هذا الدعم لتلاميذها بالتعاون مع اليونسيف واليونسكو خصوصاً. إن هذه الفروقات بين مدرسة وأخرى ترجع أساساً إلى إدارة المدرسة ومستوى المعلمين والإمكانيات المادية المتاحة للمدرسة. لذلك كله فإن الانعكاسات التربوية للحرب قليلة أو شبه معدومة في بعض المدارس، بينما هي كبيرة في مدارس أخرى.هكذا بدت مدرسة بنت جبيل بعد العدوان.

  1. ثمة ميل لدى الأحزاب اللبنانية إلى التحرك في المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية والقيام بإضرابات ومظاهرات وندوات في قطاع التعليم الرسمي، بينما تحرص هذه الأحزاب على تجنيب المدارس والجامعات التابعة لها، تبعات أي تحرك سياسي.
  2. كلما ابتعدنا عن حقبة الحرب الساخنة يميل عموم الناس إلى نسيان جراحات الحرب وأضرارها، بينما يعمد السياسيون المحترفون إلى تناسي تلك الجراحات التي لحقت بالمجتمع. أما العائلات والأفراد الذين اكتووا بنار الحرب وما استولدته من أزمة سياسية مستعصية، فإنهم يغالبون معاناتهم النفسية بحسب الظروف المحيطة بهم: بعضهم يحصل على الرعاية والتضامن والدعم النفسي، وبعضهم الآخر لايجد من يعترف بمأساته ومعاناته النفسية أصلاً.
  3.  إن التأثيرات النفسية والتربوية للحروب تظهر بوضوح  أحياناً، وقد تحتاج إلى ملاحظة دقيقة لاكتشافها في أحيان أخرى. فسكوت الولد وهدوءه لايعني أنه بعيد عن صدمة الحرب بالرغم من الخطاب الرائج عن أن اللبنانيين كلهم ''أبطال'' ولا تهز الحروب مشاعرهم مهما تكن الظروف والأحوال.

ما تبقى من ملعب مدرسة كونين الرسمية.في هذا السياق كثيراً ما يستغرب أصحاب الخطاب الإيديولوجي أن يكون مئات الأطفال والمراهقين واللبنانيين عموماً قد عانوا نفسياً من الحرب ومصائبها على أساس أن اللبناني لا يهاب الموت! وهذه التصورات ليست في الحقيقة سوى أوهام أيديولوجية يتم إسقاطها على الناس من علٍ. أما في الواقع فإن الناس يتألمون ويعانون في السر، إن لم يعانوا في العلن. وكما أن الطبيب وحده هو الذي يعالج المشكلات الصحية للفرد، فإن الأخصائي النفسي وحده هو الذي يجب أن
يتعامل مع المشكلات النفسية لهذا الفرد أو ذاك.
لقد كان العام الدراسي (
٢٠٠٦ -٢٠٠٧) عاماً للتحصيل الدراسي المنخفض في التعليم الرسمي اللبناني قد يؤسس لسنوات دراسية عجاف مقبلة علينا ما لم يتم تدارك الأمور والخروج من الأزمة التي يعاني منها لبنان في وقت قريب.
 

هوامش:

  1.  راجع في هذا الصدد جريدة السفير عدد ٢٠ تشرين الأول ٢٠٠٦
  2.  هذا المثال مأخوذ من ''برنامج التدخل النفسي- التربوي لمعالجة اّثار الحرب عند الأطفال''، وهي دراسة من إعداد اليونسيف وجمعية المبرات الخيرية صدرت عقب حرب تموز ٢٠٠٦
  3. إن فكرة الشهادة دفاعاً عن الوطن أو الأرض يمكن أن تعزز القدرة على مواجهة مخاطر الحروب. وقد أظهرت أطروحة للدكتورة فاطمة هاشم عن الأطفال  والحرب الأهلية في لبنان (نوقشت في جامعة مونبيليه في فرنسا سنة ١٩٨٣)  أن القدرة على مواجهة صدمة الحرب في بيئة تسودها حالة إيمانية دينية هي أعلى من نظيرتها في البيئات الأخرى.
  4. من المنطقي الافتراض أنه توجد في الظروف الراهنة نسبة لا بأس بها من الأهل لم تعد قادرة، بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية في الحرب وما بعدها، على دفع الأقساط المدرسية لأولادهم ما يربك التلميذ نفسياً ولا يوفر له جواً من الاستقرار التعليمي.
  5.  تتأثر المدارس الرسمية بالحرب، وما يتبعها من توتر سياسي داخلي وتحركات في الشارع، أكثر مما تتأثر المدارس الخاصة بذلك. وداخل القطاع الخاص، من المرجح أن تكون المدارس الخاصة الراقية أكثر قدرة على استيعاب الإنعكاسات المدرسية السلبية للحرب من المدارس الخاصة الأقل مستوى.
  6. إن عدد الإجابات عن السؤال الرابع مفتوح لأن كل أستاذ يمكن أن يورد أكثر من تأثير واحد للحرب وتداعياتها، ولذلك فإن عدد الإجابات كان ضعف عدد الأساتذة المستفتين تقريباً.