ذاكرة المجلة

العدد الثاني ١ ٨ ٩ ١

 

جبران في ذروته

 

وهذه الصرخات تعلو وتهبط، وتمتد وتنكمش، وتلتهب وتخبو على قدر ما يكون الوجع الذي تنطلق منه جسيماً أو خفيفاً. فهي حيناً ثورة جامحة، وحيناً تبكيت لطيف. وآناً شكوى مريرة، وآونة بث يكاد يكون همساً.فما أكثر ما ثار جبران في بدء حياته الأدبية على أوضاع الناس من دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية. وما أكثر ما ندّد بخمولهم وخنوعهم وعبودياتهم للتافه والخسيس فيهم، وبتعاميهم عن الجليل والنبيل في حياتهم. وما أكثر ما شكا غربته ووحدته ووحشيته بينهم. ثم ما أكثر ما عاذ الى نفسه يعزيها بالحديث عن الحب والحق والجمال عما تلاقيه في دنيا الناس من كره وباطل وبشاعة. وكان حديثه أبداً عذباً، سواء أضحك أم بكى، وثار أم سكن، وندّد أم تودّد، وتفجع أم تأسى. فالأسلوب الذي اختاره للإفصاح عما كان يعانيه من كآبة ومرارة ووحدة ووحشة في تفتيشه المحموم عن هدفه خلف الضباب كان أسلوباً جديداً وفريداً في عالم الأدب العربي. فهو أسلوب يمور بالألوان الحية، ويعدّ بالأنغام الشجية، ويتوهج صدقاً وإيماناً، ويتنكب كل مألوف من الاستعارات والكنايات. انه نسيج وحده. ولا عجب أن غدا معروفاً بالأسلوب الجبراني.

تاه جبران طويلاً في المناقضات – مفازة الخير والشر. وقد خيّل اليه وهو يتلمس طريقه للافلات من قبضة الشران في استطاعته القضاء عليه بتوجيه ضربة محكمة الى يافوخه. فضرب وضرب وضرب. ولكن الشر ما برح يجول ويصول في الأرض. فلا الظلم باد، ولا الدعارة امّحقت ، ولا الرياء ثل عرشه، ولا البشاعة يشتى وجوهها اندثرت، ولا أصبح الحب والحق والحرية والجمال أسياداً مطلقين في قلوب الناس وأفكارهم. فأين المخرج من المأزق؟ وكيف النجاة من مفازة الخير والشر التي تبدو كما لو كانت بغير بداية أو نهاية؟

 

 

 

 

 

 

 

تشكر إدارة "المجلة التربوية" الأستاذ نعيمه الذي خصّها بهذا المقال غير المنشور في أيّ من كتبه الإفرادية.

 

ما كان يدري جبران، وهو يفتش من خلال الضباب عن طريق الى القمة التي لمحها باكراً بخياله، ان تلك المفازة كانت الطريق، وان ذلك الضباب كان الدليل. فلولا تلك المفازة، ولولا ذلك الضباب لما أدرك القمة التي كان يبحث عنها، ولا أبصر النور المتلألئ في أعاليها. وإذ ذاك لما كان لنا "النبي". ولا كانت لنا "أورفليس". ويقيني ان جبران نحت هذه الكلمة الأخيرة من كلمة Orphan الانكليزية، ومعناها اليتيم. فأورفليس هي المدينة اليتيمة التي فقدت النور بفقد نبيها فعادت تغرق في الضباب.

وما هو النور الذي أبصره جبران على القمة؟

انه نور المحبة التي تحتضن الخير والشر فينقف منهما شيء عجيب لا هو بالخير ولا هو بالشر. ولكنه فوقهما. أو هو الاثنان معاً وقد توحدا في كينونة شاملة، صافية، لا متناهية:

" يا أهل أورفليس ...

" الحب يجمعكم اليه كما يجمع الحاصد السنابل.

ثم يدرسكم ليعرّيكم،

ثم يطحنكم طحناً،

ثم يعجنكم عجناً،

ومن بعدها يتعهد كم بناره المقدسة كيما يجعل منكم خبزاً مقدساً لوليمة الله السرية المقدسة.

... إذا أحبّ أحدكم فلا يقولنّ: ان الله في قلبي. وليقل بالأحرى: انني في قلب الله".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذلك هو النور الذب كشح الضباب من أمام عيني جبران وقدميه. فأبصر طريقه جلياً، ومشى فيه بخطوات ثابتة حتى أدرك القمة التي لمحها من قبل لمحاً بخياله. وإذ أدركها انقلبت مرارته حلاوة، ووحشته أُنساً، وقلقه طمأنينة، وثورته سكينة وسلاما. وذلك ما عناه بقوله فيما بعد:

"عندما طرحني الله حصاة في بحرة الحياة العجيبة أحدثتُ على سطحها دوائر لا تحصى. إلا أنني من بعد أن بلغت القاع أصبحت هادئاً".

ان يكن "النبي" التي بلغها جبران في حياته الأدبية ففي الكتاب نواتئ بارزة اعتبارها ذروة الذروة، إذا جاز التعبير. مثال ذلك فصله في "العطاء" حيث يقول:

"هنالك من يعطي القليل من الكثير الذي لديه، ويعطي طمعاً بالظهور. فهذا تفسد شهوته الخفيفة عطاءه.

وهنالك مَن يملك القليل ولكنه يعطي جميع ما يملك.

ذلك شأن المؤمنين بالحياة وُجود الحياة. فخزانات هؤلاء لن تفرغ أبداً.

وهناك هم الذين يعطون وهم جذلون. فجذلهم ثوابهم.

 

ذاكرة المجلة

العدد الثاني ١ ٨ ٩ ١

 

جبران في ذروته

 

وهذه الصرخات تعلو وتهبط، وتمتد وتنكمش، وتلتهب وتخبو على قدر ما يكون الوجع الذي تنطلق منه جسيماً أو خفيفاً. فهي حيناً ثورة جامحة، وحيناً تبكيت لطيف. وآناً شكوى مريرة، وآونة بث يكاد يكون همساً.فما أكثر ما ثار جبران في بدء حياته الأدبية على أوضاع الناس من دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية. وما أكثر ما ندّد بخمولهم وخنوعهم وعبودياتهم للتافه والخسيس فيهم، وبتعاميهم عن الجليل والنبيل في حياتهم. وما أكثر ما شكا غربته ووحدته ووحشيته بينهم. ثم ما أكثر ما عاذ الى نفسه يعزيها بالحديث عن الحب والحق والجمال عما تلاقيه في دنيا الناس من كره وباطل وبشاعة. وكان حديثه أبداً عذباً، سواء أضحك أم بكى، وثار أم سكن، وندّد أم تودّد، وتفجع أم تأسى. فالأسلوب الذي اختاره للإفصاح عما كان يعانيه من كآبة ومرارة ووحدة ووحشة في تفتيشه المحموم عن هدفه خلف الضباب كان أسلوباً جديداً وفريداً في عالم الأدب العربي. فهو أسلوب يمور بالألوان الحية، ويعدّ بالأنغام الشجية، ويتوهج صدقاً وإيماناً، ويتنكب كل مألوف من الاستعارات والكنايات. انه نسيج وحده. ولا عجب أن غدا معروفاً بالأسلوب الجبراني.

تاه جبران طويلاً في المناقضات – مفازة الخير والشر. وقد خيّل اليه وهو يتلمس طريقه للافلات من قبضة الشران في استطاعته القضاء عليه بتوجيه ضربة محكمة الى يافوخه. فضرب وضرب وضرب. ولكن الشر ما برح يجول ويصول في الأرض. فلا الظلم باد، ولا الدعارة امّحقت ، ولا الرياء ثل عرشه، ولا البشاعة يشتى وجوهها اندثرت، ولا أصبح الحب والحق والحرية والجمال أسياداً مطلقين في قلوب الناس وأفكارهم. فأين المخرج من المأزق؟ وكيف النجاة من مفازة الخير والشر التي تبدو كما لو كانت بغير بداية أو نهاية؟

 

 

 

 

 

 

 

تشكر إدارة "المجلة التربوية" الأستاذ نعيمه الذي خصّها بهذا المقال غير المنشور في أيّ من كتبه الإفرادية.

 

ما كان يدري جبران، وهو يفتش من خلال الضباب عن طريق الى القمة التي لمحها باكراً بخياله، ان تلك المفازة كانت الطريق، وان ذلك الضباب كان الدليل. فلولا تلك المفازة، ولولا ذلك الضباب لما أدرك القمة التي كان يبحث عنها، ولا أبصر النور المتلألئ في أعاليها. وإذ ذاك لما كان لنا "النبي". ولا كانت لنا "أورفليس". ويقيني ان جبران نحت هذه الكلمة الأخيرة من كلمة Orphan الانكليزية، ومعناها اليتيم. فأورفليس هي المدينة اليتيمة التي فقدت النور بفقد نبيها فعادت تغرق في الضباب.

وما هو النور الذي أبصره جبران على القمة؟

انه نور المحبة التي تحتضن الخير والشر فينقف منهما شيء عجيب لا هو بالخير ولا هو بالشر. ولكنه فوقهما. أو هو الاثنان معاً وقد توحدا في كينونة شاملة، صافية، لا متناهية:

" يا أهل أورفليس ...

" الحب يجمعكم اليه كما يجمع الحاصد السنابل.

ثم يدرسكم ليعرّيكم،

ثم يطحنكم طحناً،

ثم يعجنكم عجناً،

ومن بعدها يتعهد كم بناره المقدسة كيما يجعل منكم خبزاً مقدساً لوليمة الله السرية المقدسة.

... إذا أحبّ أحدكم فلا يقولنّ: ان الله في قلبي. وليقل بالأحرى: انني في قلب الله".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذلك هو النور الذب كشح الضباب من أمام عيني جبران وقدميه. فأبصر طريقه جلياً، ومشى فيه بخطوات ثابتة حتى أدرك القمة التي لمحها من قبل لمحاً بخياله. وإذ أدركها انقلبت مرارته حلاوة، ووحشته أُنساً، وقلقه طمأنينة، وثورته سكينة وسلاما. وذلك ما عناه بقوله فيما بعد:

"عندما طرحني الله حصاة في بحرة الحياة العجيبة أحدثتُ على سطحها دوائر لا تحصى. إلا أنني من بعد أن بلغت القاع أصبحت هادئاً".

ان يكن "النبي" التي بلغها جبران في حياته الأدبية ففي الكتاب نواتئ بارزة اعتبارها ذروة الذروة، إذا جاز التعبير. مثال ذلك فصله في "العطاء" حيث يقول:

"هنالك من يعطي القليل من الكثير الذي لديه، ويعطي طمعاً بالظهور. فهذا تفسد شهوته الخفيفة عطاءه.

وهنالك مَن يملك القليل ولكنه يعطي جميع ما يملك.

ذلك شأن المؤمنين بالحياة وُجود الحياة. فخزانات هؤلاء لن تفرغ أبداً.

وهناك هم الذين يعطون وهم جذلون. فجذلهم ثوابهم.

 

ذاكرة المجلة

العدد الثاني ١ ٨ ٩ ١

 

جبران في ذروته

 

وهذه الصرخات تعلو وتهبط، وتمتد وتنكمش، وتلتهب وتخبو على قدر ما يكون الوجع الذي تنطلق منه جسيماً أو خفيفاً. فهي حيناً ثورة جامحة، وحيناً تبكيت لطيف. وآناً شكوى مريرة، وآونة بث يكاد يكون همساً.فما أكثر ما ثار جبران في بدء حياته الأدبية على أوضاع الناس من دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية. وما أكثر ما ندّد بخمولهم وخنوعهم وعبودياتهم للتافه والخسيس فيهم، وبتعاميهم عن الجليل والنبيل في حياتهم. وما أكثر ما شكا غربته ووحدته ووحشيته بينهم. ثم ما أكثر ما عاذ الى نفسه يعزيها بالحديث عن الحب والحق والجمال عما تلاقيه في دنيا الناس من كره وباطل وبشاعة. وكان حديثه أبداً عذباً، سواء أضحك أم بكى، وثار أم سكن، وندّد أم تودّد، وتفجع أم تأسى. فالأسلوب الذي اختاره للإفصاح عما كان يعانيه من كآبة ومرارة ووحدة ووحشة في تفتيشه المحموم عن هدفه خلف الضباب كان أسلوباً جديداً وفريداً في عالم الأدب العربي. فهو أسلوب يمور بالألوان الحية، ويعدّ بالأنغام الشجية، ويتوهج صدقاً وإيماناً، ويتنكب كل مألوف من الاستعارات والكنايات. انه نسيج وحده. ولا عجب أن غدا معروفاً بالأسلوب الجبراني.

تاه جبران طويلاً في المناقضات – مفازة الخير والشر. وقد خيّل اليه وهو يتلمس طريقه للافلات من قبضة الشران في استطاعته القضاء عليه بتوجيه ضربة محكمة الى يافوخه. فضرب وضرب وضرب. ولكن الشر ما برح يجول ويصول في الأرض. فلا الظلم باد، ولا الدعارة امّحقت ، ولا الرياء ثل عرشه، ولا البشاعة يشتى وجوهها اندثرت، ولا أصبح الحب والحق والحرية والجمال أسياداً مطلقين في قلوب الناس وأفكارهم. فأين المخرج من المأزق؟ وكيف النجاة من مفازة الخير والشر التي تبدو كما لو كانت بغير بداية أو نهاية؟

 

 

 

 

 

 

 

تشكر إدارة "المجلة التربوية" الأستاذ نعيمه الذي خصّها بهذا المقال غير المنشور في أيّ من كتبه الإفرادية.

 

ما كان يدري جبران، وهو يفتش من خلال الضباب عن طريق الى القمة التي لمحها باكراً بخياله، ان تلك المفازة كانت الطريق، وان ذلك الضباب كان الدليل. فلولا تلك المفازة، ولولا ذلك الضباب لما أدرك القمة التي كان يبحث عنها، ولا أبصر النور المتلألئ في أعاليها. وإذ ذاك لما كان لنا "النبي". ولا كانت لنا "أورفليس". ويقيني ان جبران نحت هذه الكلمة الأخيرة من كلمة Orphan الانكليزية، ومعناها اليتيم. فأورفليس هي المدينة اليتيمة التي فقدت النور بفقد نبيها فعادت تغرق في الضباب.

وما هو النور الذي أبصره جبران على القمة؟

انه نور المحبة التي تحتضن الخير والشر فينقف منهما شيء عجيب لا هو بالخير ولا هو بالشر. ولكنه فوقهما. أو هو الاثنان معاً وقد توحدا في كينونة شاملة، صافية، لا متناهية:

" يا أهل أورفليس ...

" الحب يجمعكم اليه كما يجمع الحاصد السنابل.

ثم يدرسكم ليعرّيكم،

ثم يطحنكم طحناً،

ثم يعجنكم عجناً،

ومن بعدها يتعهد كم بناره المقدسة كيما يجعل منكم خبزاً مقدساً لوليمة الله السرية المقدسة.

... إذا أحبّ أحدكم فلا يقولنّ: ان الله في قلبي. وليقل بالأحرى: انني في قلب الله".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذلك هو النور الذب كشح الضباب من أمام عيني جبران وقدميه. فأبصر طريقه جلياً، ومشى فيه بخطوات ثابتة حتى أدرك القمة التي لمحها من قبل لمحاً بخياله. وإذ أدركها انقلبت مرارته حلاوة، ووحشته أُنساً، وقلقه طمأنينة، وثورته سكينة وسلاما. وذلك ما عناه بقوله فيما بعد:

"عندما طرحني الله حصاة في بحرة الحياة العجيبة أحدثتُ على سطحها دوائر لا تحصى. إلا أنني من بعد أن بلغت القاع أصبحت هادئاً".

ان يكن "النبي" التي بلغها جبران في حياته الأدبية ففي الكتاب نواتئ بارزة اعتبارها ذروة الذروة، إذا جاز التعبير. مثال ذلك فصله في "العطاء" حيث يقول:

"هنالك من يعطي القليل من الكثير الذي لديه، ويعطي طمعاً بالظهور. فهذا تفسد شهوته الخفيفة عطاءه.

وهنالك مَن يملك القليل ولكنه يعطي جميع ما يملك.

ذلك شأن المؤمنين بالحياة وُجود الحياة. فخزانات هؤلاء لن تفرغ أبداً.

وهناك هم الذين يعطون وهم جذلون. فجذلهم ثوابهم.