متحف التراث اللبناني'' صرح ثقافي في خدمة التربية
''متحف التراث اللبناني''
صرح ثقافي في خدمة التربية
بعد تصنيفه من قبل وزارتي الثقافة والسياحة صرحاً ثقافياً وسياحياً من الدرجة الأولى، وبعد إدراجه من قبل وزارة التربية والتعليم العالي ضمن البرامج والزيارات التربوية الإلزامية للمدارس اللبنانية، وبعد إدراجه في سجل ''الايكوم اونيسكو'' لكونه مركزاً تراثياً يجمع بين التاريخ والتربية والثقافة، وهو مؤسسة غير حكومية لا تبغي الربح، وتشجيعاً لقيام هكذا مؤسسات ثقافية وتراثية وتربوية تعنى بالجانب المعرفي لدى التلميذ والمواطن، وتسهم في توسيع آفاقه، نخصص هذا المقال للإضاءة على هذا المتحف. ايماناً منا بالدور الأساس الذي يمكن أن تسهم به الجمعيات الأهلية والمبادرات الخاصة ذات المنحى الثقافي والعلمي والتربوي في خدمة الوطن والمواطن.
على مساحة ٧٨٠ متراً مربعاً تمّ إنشاء ''متحف التراث اللبناني'' في مدينة جونيه بتاريخ ١٨ تموز ٢٠٠٣ ، بهدف إبراز وجه لبنان الثقافي والحضاري من خلال عرض المراحل التاريخية التي مرّ بها لبنان بدءاً من الفينيقيين وصولاً الى العصر الحالي. ويتألف المتحف من خمس صالات رئيسة تحتضن ثماني حقبات تاريخية وهي موزعة على الشكل الآتي:
الصالة الأولى:
وفيها تحكى حكاية تاريخ لبنان كشاهد على العصور، البلد الصغير الشامخ بأرزه والكبير بثقافته، وفي هذه الصالة نتعرف الى:
١- الحقبة الفينيقية (١٣٠٠ ق.م - ٣٣٠ ق.م)
وفيها نشاهد الصناعات والحرف اليدوية كالفخار والزجاج والحلي وزخرفة بيوض النعام والعاج المستوردة من بلاد بعيدة، ونتعرف الى حياة المزارعين والتجار من الفينيقيين، وحياة البحر والملاحة والمقايضة والتبادل التجاري الذي كان الشغل الشاغل للفينيقيين الذين جالوا البحر الابيض المتوسط بطوله وعرضه الى حد اعتقاد بعض المؤرخين انهم اكتشفوا اميركا قبل اكتشافها من قبل كريستوف كولومبوس بقرون عديدة. ونتعرف الى أهم إنجاز قام به الفينيقيون وهو اختراع الابجدية.
الى ذلك تحتوي القاعة تماثيل فخارية تمثل آلهة الخصب والجمال (اسمها بعلط) التي تم العثور عليها مؤخراً في قعر البحر الأبيض المتوسط، وأدوات للدفاع عن النفس كالخنجر والحربة وبعض الأدوات الطبية، إضافة الى عدد من الحلى كالذهب والأقراط واحجار الفيروز المنحوتة على شكل خنفساء، كما يوجد ايضاً عقود فينيقية مصنوعة من الزجاج المنفوخ الذي برع فيه الفينيقيون وتفننوا في اشكاله والوانه وشكل مصدراً مهماً لتجارتهم الخارجية.
٢- الحقبة الهيلنستية (٣٣٠ ق.م - ٦٤ ق.م)
في هذه الحقبة نلاحظ مدى تأثير الحضارة الاغريقية التي بدأت مع فتوحات الاسكندر المقدوني للشرق، ويظهر هذا التأثير من خلال الفسيفساء والتماثيل الحجرية والنواويس المحفورة والمزخرفة على الطريقة الهيلنستية.
٣- الحقبة الرومانية (٦٤ ق.م - ٣٣٠ م)
وفيها نشاهد ملامح تأثّر الهندسة الرومانية بالفن المعماري الاسيوي، ونتعرف الى تقنية النحت على الاحجار الصغيرة، المجوهرات، الزجاجيات والفخاريات، والى تقنية اضاءة السُرُج الفخارية بواسطة زيت الزيتون واستخدام ''الفتيل''. اضافة الى عرض خواتم وتماثيل لآلهة مختلفة من البرونز، وعدّة وأوانٍ منزلية مختلفة.
ونتعرف الى خصائص الهندسة الرومانية التي تميزت ببناء العقد (السقف المقوس)، والعمارات الضخمة ذات التأثير الاسيوي، والبناء السريع والاقتصادي الذي يرتكز على الحجر غير المنحوت ''الدبش''. وفي هذه القاعة نشاهد بعض الأعمدة والتيجان الرومانية. وللتماثيل الرومانية حيز مهم في هذه القاعة، فنشاهد التماثيل النصفية او تماثيل الوجوه والرؤوس، والكثير من التماثيل التي تمثل القضاة الرومان.
٤- الحقبة البيزنطية (٣٣٠ م - ٦٣١ م)
بعد اعتناق الرومان الديانة المسيحية وتمركز الحكم في بيزنطية (اسطنبول) حصل تحول نحو الفن البيزنطي الذي تركز على بناء وزخرفة الكاتدرائيات والكنائس والمقابر ورسم الايقونات. وفي هذه الحقبة نشاهد الفسيفساء والتيجان التي عليها صلبان، او نرى باب مدفن، ومطاحن حبوب واجراناً ومذبحاً صغيراً يحمل كتابة يونانية، وقواعد حجرية وأعمدة ونقوداً قديمة.
الصالة الثانية:
وفيها نتعرف الى الحقبة الاسلامية التي شهدت في بداياتها تأثراً بالفن البيزنطي من ناحية زخرفة البناء وفن العمارة في القصور والمساجد وبناء المدن، تم ما لبث ان تحول هذا التأثر الى فن قائم بذاته عرف في التاريخ بالفن الاسلامي، خاصة في مجالات الزخرفة الهندسية التي عرفت هندسياً بمصطلح ''ارابسك'' الذي يعني زخرفة وتزيين الاحجار والاعمدة والتيجان بالكتابة بالحرف العربي، فضلاً عن اشكال السيراميك وتزيينها بالخطوط العربية (الكوفي، الرقعي، الريحاني والنسخي) والتي ظهرت باشكال فنية ملفتة على النوافذ واقواس المداخل وقناطر الشرفات والمشربيات والعتبات وسقوف الابواب التي حملت بغالبيتها آيات قرآنية كريمة. كذلك تميزت هذه الحقبة بالرسم الزيتي على الزجاج ذات الخلفية من الورق الفضي التي تضمنت ايضاً آيات من القرآن الكريم. كما نتعرف في هذه الحقبة على الرسومات التي ادخلت الى القرآن الكريم وكان الايرانيون القاطنون بلاد فارس هم اول من ابدع في هذا المجال .
الصالة الثالثة:
ونصل في هذه الصالة الى تاريخ لبنان خلال حقبة الحكم العثماني وخاصة في القرن التاسع عشر. وتتضمن هذه الصالة أحجاراً وأصفاداً لليدين، كذلك مجموعة فريدة من المجوهرات والحلى المصنوعة من الفضة المزخرفة بأيادي الصاغة الماهرين، وهي في غالبيتها زينة للسيدات الثريات اللواتي عشن في تلك الحقبة. إضافة الى ذلك نجد المزخرفات والأحجار الكريمة الملونة التي كانت تستعمل لزينة الخيول الخاصة بالأمراء والأعيان والقادة العسكريين والنافذين في المجتمع. ونتعرف الى أنواع من الأحجار الكريمة الخاصة بالزينة كالمرجان والعنبر والكهرمان والفيروز وغيرها.
والصناعة اليدوية الخاصة بالزينة الشخصية لها موقعها في هذه الصالة، فهناك مجموعة جميلة من الزنانير الفضية المزخرفة يدوياً والمطعّمة بالمينة او الأحجار الكريمة التي كانت تلبسها العروس وتحملها معها دائماً لتدل على انتمائها الى القبيلة او العشيرة. كما نرى الزنانير المصنوعة من الجلد المزين بالقطع الفضية التي كان يرتديها كبار الضباط ويعلقون فيها السيوف والخناجر.
وفي زاوية خاصة نشاهد غرفة المتصرف داوود باشا (١٨٦٠ - ١٨٦٧) وهي مصنوعة من الحرير المطرز بخيوط ذهبية (صرماء).
الصالة الرابعة:
نشاهد في هذه الصالة الأسلحة والألبسة والصور والوثائق الأصلية التي تعود الى يوسف بك كرم من عام ١٨٢٣ وحتى عام ١٨٨٩.
الصالة الخامسة:
وفيها نتعرف الى تاريخ لبنان في القرن العشرين وهي تتضمن:
١- اكسسوارات وازياء تضم قباقيب للعرائس وللحمام مطعمة بالصدف والخيوط الفضية، ومكاويَ على الفحم واوعية لتحميص البن يدوياً، وعجلات لعربات الخيل، ومنفخاً للنار، وميزان قبان، وكلها باقية على حالتها الاصلية.
٢- مكتبة للشيخ سمعان خازن الاهدني (١٨٩٨ - ١٩٧٣) تتضمن الأوسمة والكتب التاريخية والاغراض الشخصية (الاقلام، المكتب، بدلة القاضي، مسابح، نقود معدنية من مختلف البلدان) وغيرها من المقتنيات الاثرية.
٣- مكتبة العلاّمَة جواد بولس (١٩٠٠ - ١٩٨٢) وفيها العديد من مؤلفاته المنشورة وبعض المخطوطات غير المنشورة وبعض الصحف اللبنانية النادرة الصادرة خلال حياته اضافة الى بعض الأوسمة.
٤- لوحات فنية لبعض رواد الفن التشكيلي في لبنان كداوود قرم، حبيب سرور، خليل صليبي، قيصر الجميل، ومجموعة من لوحات الفنان اللبناني العالمي صليبا الدويهي اضافة الى ارشيفه الخاص.
''متحف التراث اللبناني'' واحد من المراكز الثقافية التراثية في لبنان، متميز بمضمونه، وفريد من نوعه كونه يجمع بين عراقة التاريخ وجمالية الفن الأصيل والإفادة التربوية.
د. هشام زين الدين
اخصائي الفنون الجميلة
المركز التربوي للبحوث والانماء