بناء التعليم الأساسي
بناء التعليم الأساسي
يدل تعبير ''التعليم الأساسي'' في لبنان على جزء من هيكلية التعليم العام الذي يتوافق عموماً مع المرحلة العمرية الممتدة من ٦ سنوات تامة الى ١٦ سنة تامة. إنه تعليم نظامي يتم ضمن مؤسسة المدرسة. يسبقه تعليم خاص يُسمى في لبنان ''مرحلة الروضة'' وتتعدد أسماؤه في بلدان أخرى. ويعقبه تعليم موجه نحو التخصص هو إما التعليم الثانوي العام (وفروعه أربعة في لبنان) أو التعليم المهني (وفروعه متعددة ومتجددة بحسب حاجات سوق العمل). وهو تعليم إلزامي في الكثير من دول العالم أما في لبنان فإلزاميته واقع فعلي غير مقنن.
ينقسم التعليم الأساسي الى ثلاث حلقات تتطابق مع المراحل الثلاث للإنبناء المعرفي عند الانسان كما يصفها علم النفس التكويني ولا سيما مدرسة جان بياجه (J. piaget). تسمى الحلقتان الأوليان مجتمعتان المرحلة الابتدائية، أما الثالثة فتسمى المرحلة المتوسطة.
أُنشئت مناهج سنة ١٩٩٧ وفاق متطلبات الأهداف العامة التي رسمتها خطة النهوض التربوي وتم النُصح فيها بطرائق تدريس مناسبة وأُلّفِت كتب مدرسية شتى في القطاعين العام والخاص ودُرّبِ المعلمون تأهيلاً لهم أو شحذاً لقدراتهم. فأحدثت المناهج نقلة نوعية في قطاع التربية ورُفع لواء التجدّد عالياً. إلا أن الشكوى تبلورت بالترافق مع الوعي التربوي الجديد وتركزت غالباً على المعلم (غير المؤهل) وعلى المحتوى المعرفي (المكثّف) وعلى أنماط التقييم المحدثة (غير الواضحة بأهدافها وسياقها) وعلى التقييم نفسه (كالترفيع الآلي والترفيع الميسّر).
أجزم بأن مسألة المعلم مسألة ادارية سياسية في القطاعين العام (بوجه خاص) والخاص (بوجه عام). أما الثانية فمحصلة لارادة مكتبية ضمّنَت المناهج مواضيع إما غير متناسبة مع أعمار الأولاد أو بالغت في الاستزادة من الإعطاء. وكلا الأمرين مرّ عاقبته ضياع المعلم والمتعلم بين ما هو أصيل وما هو رديف. وقد رأيت من المفيد أن أتكلم على هذا الموضوع الأخير مسهباً تاركا مسألة المعلم الى مطالعة أخرى وعالماً أن مسألة الترفيع موقف تربوي - إنساني يرتبط بحقوق الطفل واحترامه. لذلك ينحصر حديثي أدناه في السبيل القويم لتأسيس المناهج التعليمية على ركائز متينة مناسبة.
أركان بناء منهج للتعليم الأساسي
هدف كل تربية إعداد الأولاد للحياة؛ لحياتهم المستقبلية كما يقول جبران وكل المفكرين الانسانيين (Humanistes). وعليه فالتربية ليست تلقيناً للحاضر (لأنه قد لا يستمر في المستقبل) ولا تدريباً على نماذج محدّدة ومحدودة (لأنها في تحوّل مستدام)، بل هي مساعدة للمتعلم في انماء قدراته الجسدية والذهنية والوجدانية والاجتماعية (بحيث ينمو باتزان ويعيش بسعادة مع غيره ومع ذاته) وهي توجيه في اكتشاف سبل التعلّم الذاتي (بحيث ينمو مطرداً ويحل مشاكل تعترض طريقه).
التعليم هو الوجه المؤسساتي للتربية؛ دوره يقضي بتحقيق أهدافها عن طريق بلورتها عملاً مبرمجاً دؤوباً يمتد في الزمن من يوم دخول المتعلم الى المدرسة وحتى خروجه منها أو حتى تتحقق الغايات المرجوة.
ما هي إذاً الأسس التي سيعتمدها منهج التعليم من أجل تحقيق أهداف التربية في بناء انسان المستقبل؟
رأيت أن أقسّمِ هذه الأسس الى بابين؛ أولهما اجتماعي ويتعلق بما ينقله المجتمع الى الولد منذ ولادته وفيه التنشئة (الصحية، الجسدية، الوجدانية، العلاقات الاجتماعية، الوطنية الخ...) والمعارف (وهي مجموعات تفسيرية للظواهر البيئية وما إليها) والتواصل اللغوي (الذي هو السبيل الأنسب لإقامة علاقات تفاعل اجتماعية)؛ وثانيهما ذاتي وفيه الخبرة (وهي ما يتعلمه المرء من تجارب الحياة) والنشاط الذهني (وهو مجموعة العمليات القائمة على إنشاء علاقات بين الأشياء ومعالجتها أمحسوسة كانت أم في البصيرة).
وهكذا يقوم التعليم على أركان مترابطة في وحدة خماسية متماسكة بحيث يتعذر إلغاء أحدها دون أن يَفرط عقدها وهي:
١- التنشئة
٢- المعارف
٣- التواصل اللغوي
٤- النشاط الذهني
٥- الخبرة
١. التنشئة
التنشئة هي تدريب المتعلم على تنفيذ إرادة الراشدين (الأهل والمدرسة وغيرهما) في أمور يعتقد هؤلاء بأنها تساهم إيجابياً في إدارة حياة المتعلم وتجعله يسير على الصراط القويم.
وهي جسدية (كالإنماء المتوازن للجسم واحترامه والمحافظة عليه وتسهيل عمل وظائفه) وفيها الرياضة البدنية بأنواعها والتربية الصحية والغذائية. وهي أخلاقية، بمعنى نقل القيم الاجتماعية أو الدينية (أو العقائدية عامة). وهي فنية كالتدريب على الموسيقى والرسم ومختلف أنواع التعبير غير اللغوي. وهي اجتماعية ووطنية تنظّم علاقات الولد بمجتمعه على مستوى الأهل فالجماعة فالوطن.
٢. المعارف
المعارف مجموعات من المعلومات التي تفسّرِ الظواهر البيئية كالعلوم الاختبارية بمختلف أنواعها أو علم الفلك أو علم المناخ، الخ... وتلك المتعلقة بالجغرافيا وعلم الاجتماع أو الاقتصاد أو التطور التاريخي للمجتمعات.
٣. التواصل اللغوي
التواصل اللغوي هو أهم سبيل لاتصال الناس فيما بينهم ويكون مباشراً كالمحادثة أو غير مباشر كالكتابة.
يقوم التواصل على إرسال إشارات من فرد من الجماعة الى فرد آخر قادر على تلقّيِها. تحمل الإشارة المرسلة معنى معيناً يدركه المرسل إليه. والجسد هو في الحالتين آلة الارسال وآلة التلقي. في التواصل أنواع مختلفة تتعامل بها الكائنات الحية ولعل أسماها وأرقاها التواصل اللغوي. ويأخذ التواصل اللغوي اشكالاً متنوعة فهو محادثة أو قراءة أو كتابة وما يُستنتج من هذه وتلك من كفايات متنوعة كاللفظ وحسن الاداء والفهم وحسن الخط والتأليف. ويرتبط الاداء المسرحي ارتباطاً وثيقاً بالتواصل اللغوي.
لعل لبنان، من البلدان القليلة التي يدرَّب فيها الاولاد منذ صغرهم على التواصل اللغوي بلغتين مختلفتين إحداهما العربية.
٤. النشاط الذهني
النشاط الذهني هو مجمل ما يقوم به الفرد على مدركاته الذهنية. يبدأ هذا النشاط طبيعياً مع بداية الحياة كما النشاط الجسدي وينمو بالتوازي مع النمو الجسدي حتى يبلغ قمته عند اكتمال نمو الدماغ البشري في السادسة عشرة من العمر. هذا النشاط وظيفي في بدايته أي أنه يُنَفّذ تلقائيا كما تفعل المعدة إذا وصلها الغذاء. ويتدرج في كثافته وتشعبه حتى يصبح إرادياً في مستواه الأعلى ويسمى ''العمليات العقلية'' في بعض مراجع علم النفس.
كنه النشاط الذهني اكتشاف علاقات بين الأشياء ثم العمل عليها تصنيفاً وترتيباً وتجريداً وتعميماً، الخ... وأهم ظواهر هذا النشاط اكتشاف الكثرة فالعدد وما ينفذه عليه الولد من عمليات كالعطف والتفريق والاستكمال، الخ...
٥. الخبرة
الخبرة هي ما يكتسبه المرء (والمعني هنا الولد) من سلوك (بسيط أو معقّد) أو يبنيه من أداء أو يكتنزه من معرفة. وهي حاجة أساسية في بناء علم أو معرفة. فالمرء يتعلم (بالتخصيص) من تجاربه في بيئته وفي الحياة عامة. وهذا التعلّم ليس اكتساباً للواقع فقط بل اكتساباً منه إذ يتجاوزه المرء غالباً الى طرح تساؤلٍ أو مسألة وبالتالي محاولة الإجابة عنه أو عنها؛ فإذا تم له الأمر وحل المسألة يكون قد خطا خطوة الى الأمام باتجاه التطور.
تأتي الخبرة إما عفواً نتيجة ممارسة أنماط عادية من السلوك (وتسمى هذه الممارسة اللعب الطبيعي) وإما استجابة لطلب محدّد أثار عند المرء فضولاً أو رغبة أو استجابة لميلٍ طبيعي.
تمارس الخبرة على وجه العموم إما فردياً او جماعياً:
- فردياً، كالرياضة البدنية والتصرف بآلات ووسائل (حرتقة) أو إنتاج هذه الوسائل أو تأليف قصص وحكايات أو رسوم أو حتى الاختبارات العلمية.
- جماعياً، كالمشاريع المشتركة أو الرحلات الاستكشافية.
ويطول الحديث عن الخبرة لأنها عنصر في اكتساب المعرفة وسبيل مؤكد لتثبيتها في الذات وتحويلها الى ذخيرة مستقبلية نستخدمها متى ينبغي أو نشاء.
انشاء برامج التعليم
تلك كانت الأركان الخمسة لبناء منهج تعليمي. وهي مترابطة دون تعاقب ومتعاونة دون أفضلية. أي ركن من الأركان لا يمكن شرحه أو تفسير دوره إلا من خلال الأركان الأخرى. وكل تعليم هادف ولا سيما التعليم الأساسي يجب أن يسعى الى تضافر هذه الأركان فيما بينها وتنميتها المتوازنة لأن في تكاملها تكويناً لشخصية الولد المتكاملة. وكل حديث على إنماء ركن من الأركان على حساب آخر هو باب من ابواب الانحراف عن المسار القويم وتشويه لشخصية المتعلم.
بعد هذا الكلام لا بد من انشاء برنامج يدرّج المعرفة وفاق أعمار المتعلمين وحاجاتهم ورغبتهم وقدرتهم. ففي مرحلة الروضة يُثار اهتمام الطفل باللعب ويُصار الى إغناء خبرته على الأشياء. ويكون للمحادثة دورها الفاعل في تنظيم العلاقات بين المعلم والطفل. في هذا الجو ينمو التواصل اللغوي ويُمارس النشاط الذهني بما يكون الطفل قادراً عليه ويكتسب هذا الأخير المعارف الضرورية المناسبة ويتم تدريبه وتنشئته من مختلف النواحي.
أما في الحلقة الأولى من التعليم الأساسي فيجري التركيز على التواصل اللغوي محادثة (باستمرار مرحلة الروضة) وقراءة وخطاً. على ان تجري المحادثة على مواضيع تحمل في طياتها معارف وصيغاً مستنتجة من الألعاب المختلفة وتدريباً على تنفيذ أنماط من السلوك الموصوف بالحسن في باب التنشئة. يترافق هذا التعليم مع إنماء خبرة المتعلم على اكتشاف العلاقات وإغناء سلسلة الأعداد وتطبيق العمليات عليها تكراراً كالعطف والجمع أو التجميع أو الإضافة والتكرار حتى الضرب، الخ... وبهذا تُغنى مفرداته اللغوية كما وتتحسّن لغته إذ تُعطى المعاني السليمة للكلمات الواصفة للنشاط الذهني. وهكذا يكون التواصل اللغوي والنشاط الذهني هما رُكنا التعليم في الحلقة الأولى.
أما في الحلقة الثانية فيبدأ التأكيد على بناء لغة سليمة وعلى توسيع سلسلة الأعداد وما يقتضيه ذلك من نشاطات فكرية متقدمة وتتوجه جميع القدرات لإنماء معارف الولد في الحقول المتنوعة.
أما الحلقة الثالثة فهي الخاتمة لكل ما سبقها ودعم لمختلف الأركان حتى تتساوى وتنتج مواطناً متوازناً واعياً يعرف كيف يختار طريق الصواب والخير.