اوجه الشمول في التربية الكلية ٤/١

اوجه الشمول في التربية الكلية  ١/٤

 

وجه الشخصية البشرية

 

جورج فرج خبير تربوي المدرسة الوطنية الأرثوذكسية- الميناء

ان علم الرمز والدلالة، وهو أحد العلوم التي تتداخل فيما بينها، وتتقاطع مع غيرها لتتكامل وتؤدي دورا ً ''فاعلا'' في إنجاح العملية التربوية بكل أبعادها. هذا العلم يعتبر ان كل كلمة نقرأها هي رمز لدلالة او عدة دلالات، وان هذه الدلالة سابقة في الواقع للرمز. فالطاولة والشجرة والجبل وغيرها موجودة فعلاً وواقعاً، يعرفها الإنسان ويستعملها لمصلحته قبل ان يطلق عليها هذه التسميات.
لذلك سنسعى، قبل كل معالجة، ان نحدد لغوياً دلالات الكلمات الدالة على مفاهيم تربوية، مستعينين بالقواميس العربية، وخصوصاً لسان العرب، وبالقرآن الكريم اذا وردت فيه هذه الكلمات: نهج الامر وانهج : بيّن، وضح، طريق نهج : واضح. المنهج والمنهاج والنهج بمعنى واحد، هو الطريق او السبيل او الشرعة او الخطة، على ان تكون: واضحة، مستقيمة، مضيئة. يقال فلان يستنهج طريق فلان، أي يسلك مسلكه ويخطو خطوه.

 

وقد وردت هذه الكلمات في القرآن الكريم في آية واحدة تقول ''لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً. ولو شاء لله لجعلكم امة واحدة'' (١). المعنى واضح اننا جعلنا لكل أمة منكم شريعة واضحة وطريقاً مستقيماً إلى الكمال. ونحن نرى في المقابل ان افضل طريق وخير أسلوب، هما اللذان يوصلان المعارف الى أذهان المتعلمين ''بيسر ووضوح''. ومن هذا المنطلق، سنحاول ان نكون في مقالنا هذا واقعيين واضحين، فكل ما نقوله ونكتبه يصلح لان يطبق مبتعدين عن النظريات المعقدة وغير القابلة للتحقيق.
اما التربية في اللغة، ففي عملية اشتقاق لجذرها وهو الثلاثي ''ربا'' يتبين ما يأتي: ربا الشيء يربو ربوا: زاد ونما. اربيته : نميته.
ربوت او ربيت في منزل فلان: نشأت وترعرعت ونموت وكبرت، يقول الشاعر:
''فمن يك سائلاً عني فاني         بمكة منزلي وبها ربيت''
ربّيٌَت فلاناً وربيته : غذوته، لينمو ويكبر.


فإذا ما رصدنا الأسماء والأفعال المتولدة من هذا الجذر نجد: الرب، الربو، الربوة، الرابية، والربا ... كلها تتشارك في معنى واحد هو : الارتفاع والزيادة والنماء. حتى الرّبِا، وهو المال الزائد عن رأسمال الدائن وقد وردت الكلمة في آية كريمة تقول: ''وما آتيتم من رِباً ليربُوَا في أموال الناس فلا يربُوْا عند لله'' (٢).
بما ان التربية تعني النماء والإنماء، فمن الطبيعي ان يكون نماءً مكتملاً وشاملاً وهذا ما نقع عليه في الهدف الأقصى للتربية، كما عده الدكتور حنا غالب في كتابه'' مواد وطرائق التعليم في التربية المتجددة''، اذ جاء فيه: ''اكتمال النماء الشامل للشخصية البشرية''، نحلل كلمات هذا التعريف لهدف التربية، ونفك رموزه شارحين دلالات كل رمز، نطرح الأسئلة الآتية، مبتدئين من آخر التعريف. مَن المقصود بالشخصية البشرية؟ مّم تتكون عناصر هذه الشخصية؟ كيف نسعى الى إنمائها؟ ما المقصود بشمولية النماء او النماء الشامل؟ ما المقصود باكتمال النماء؟ من يقوم بهذه العملية التربوية الكبيرة؟ وها نحن نجيب عن هذه الأسئلة بطريقة تحليلية:


أ- الشخصية البشرية هي الانسان عموماً، لان الانسان أي انسان يتعلم في الحياة ويتربى فيستفيد من تجاربه ويصحح اخطاءه اذا اخطأ وفشل، لكن الهدف التربوي هنا موجه الى التربية النظامية، والمطلوب انماؤه هنا هو الطفل في الروضة والتلميذ في المدرسة الابتدائية والمتوسطة (التعليم الاساسي) والطالب في الجامعة.
ب- تتكون الشخصية البشرية المطلوب انماؤها من ثلاثة عناصر اساسية هي: الجسد، والعقل او الفكر او الذهن، والجهاز العصبي والدماغ (المخ)، وتلحق بها ابعاد اخرى ترتبط بها وتدور في فلكها، وخصوصاً العقل الذي يجد بعضهم انه هو الروح والنفس. هذه الابعاد تتمثل في: البعد النفسي، والروحي والعاطفي الانفعالي والسلوكي والاخلاقي والاجتماعي، وكلها تؤلف كفايات تكوينية انمائية للناشئ تتكامل مع الكفايات الاجرائية المعرفية (كما سنرى).
اذا كنا قد حللنا او جزأنا الشخصية البشرية وسميّنا اجزاءها فما ذلك الا للتعريف، الا اننا نعود وننظر الى هذه العناصر الاساسية والاجزاء المرتبطة بها على انها وحدة مترابطة ترابطاً وثيقاً، ومتكاملة. فكما الحياة وحدة لا تتجزأ، وكما الكون وحدة لا يتجزأ، كذلك شخصية الانسان، ابالغاً كان ام طفلاً، فالجسم فيه، والعقل والجهاز العصبي، ثلاث نواح لحياة واحدة ولوجود واحد.
اما عن الترابط بين هذه العناصر وما يتفرع عنها من ابعاد، وتأثير كل منها على الآخر، فاليكم بعض الامثلة الواقعية: من المسلّم به، ان هناك اعمالاً حسية مادية وهي المسماة اعمالاً جسدية، واعمالاً اخرى معنوية نسميها عقلية او فكرية، وان هناك رابطاً متيناً بين هذه وتلك فلا يصدر عمل عقلي الا وتصحبه نتيجة تنعكس على الجسد سلباً او ايجاباً، كما انه لا يصدر عن شخص عمل جسدي الا ويكون له اثر عقلي فمثلاً: التفكير بعمق مدة طويلة من الزمن يتعب العقل، فيعقبه صداع قد يؤدي الى مرض جسدي، وان خبراً مفرحاً قد يشفي عليلاً، في حين ان آخر سيئاً قد يسبب له المرض. وان الأمراض العقلية تسبب النحول والمرض الجسدي وعدم قيام الأجهزة بوظائفها، وبالمقابل فان التعب الجسدي الناشئ عن إجهاد العضلات، يضعف استعداد الإنسان لمعالجة المسائل العقلية، وان تنشق الهواء الفاسد يؤدي الى الكسل الذهني كما يؤدي الى فقر في الدم. وهنا نستنتج فنقول: ''انا أفكر جيداً فأنا بصحة جيدة'' والعكس صحيح.
ومن جهة ثانية فان التطور العقلي يتبع دائماً التطور العصبي، ولا سيما تطور الدماغ. والمخ هو مركز الأعمال العقلية والجسدية، من طريق الأعصاب، فقد ثبت أن في الدماغ مليار عصب موزعة بوساطة الجهاز العصبي على جميع اعضاء الجسم، وان لكل حاسة من الحواس الخمس مركزاً في الدماغ يقوى بتنمية هذه الحاسة، وان أي خلل يحدث في مركز من هذه المراكز يصحبه خلل في الحاسة المرتبطة به، فاي ضربة تصيب مركزاً من مراكز الحواس في الدماغ، تفقد الانسان هذه الحاسة، فقد يعمى او يصاب بفقدان الشم او غيرها، او قد يصاب بشلل في القوى العقلية وان اصابة المخ بورم ما في منطقة معينة، سيصيب عضواً في الجسد له ارتباط في المنطقة المصابة في المخ.
هذه الحقائق وامثالها تثبت ان المخ هو العضو المسيطر على جميع اجزاء الجسم، وهو الذي يؤثر فيها كلها بواسطة الاعصاب المليار الموزعة على جميع هذه الاجزاء، وتوصل أوامره اليها، وهذه الأعصاب تصل الى العقل ناقلة اليه الأوامر، ومتلقية منه المعلومات والمعارف لتنقلها الى الدماغ ليخزّنها فيه، فهو يستطيع ان يخزّن مليون معلومة، كم هو شبيه بالكومبيوتر، الانسان.
لذلك ونتيجة لهذا الترابط، فان أي عمل تؤديه حواس الطفل سواء اكان لوناً بالنظر او شكلاً باللمس او رائحة بالشم ... يصبح اكثر رسوخاً في الدماغ واكثر ديمومة، حين يصل عن طريق أعصاب الجهاز العصبي، كما يمكن استرجاعه من الدماغ عن طريق أعصاب الحس وذلك بإغماض العينين والاكتفاء بالحاسة الأساسية التي نقلته الى الدماغ، كان يميز التفاحة من الليمونة استناداً الى حاسة الشم او الذوق.
بعد ان اثبتنا الروابط الوثيقة بين العناصر التي تتكون منها شخصية الناشئ، نجيب عن السؤال الآتي: ما النماء الشامل؟ هو الذي يشمل كافة العناصر التي تتكون منها شخصيته، والنظر اليها على انها كل مترابط، فكل ما يضر احدها يضر العناصر الأخرى وينعكس سلباً على الطفل، وكل ما ينفع احدها ينفع العناصر الاخرى وينعكس ايجاباً على صاحبها. لذلك لا يجوز الفصل بين التربية الجسدية والتربية العقلية والتربية النفسية، بل يجب التوازي بينها في الرعاية والاهتمام، وخير الأنشطة وافضلها هي تلك التي تعمل العناصر الثلاثة في تنفيذها وهي المعروفة بالأنشطة البسيكوحركية (Psycomoteur) او النفس حركية. من هنا نستطرد قليلاً لنقول: لا مسوّغ للمعلم- تحت أي حجة - ان يستعمل القسوة مع التلميذ سواء اكان ذلك بضرب جسدي او بقسوة كلامية جارحة، لما يمكن ان يلحق من جراء هذه القسوة الضرر بالتلميذ جسدياً وفكرياً ونفسياً، وكم من تلميذ دفعته هذه القسوة الى هجر المدرسة وتفضيله الامية مع الكرامة والحرية.

والاكتمال في النماء الذي ورد في الهدف التربوي يقضي بالا يقتصر النماء الشامل للناشئين على سنة معينة من سني دراستهم، ولا على مرحلة خاصة، بل يجب ان تحتل مقامها في المنهج التربوي، بدءاً من اصغر عمر يبدأ فيه الطفل بالتعلم، مروراً بالمراحل التعلمية الاخرى، وصولاً الى الجامعة من دون أي انقطاع. ولقد كان التثبت من الروابط السابقة بين عناصر الشخصية البشرية ان اوجب المربون ما يأتي:
- تنمية الحواس وتقويتها كي يؤدي ذلك الى تقوية العقل وانمائه، والى تقوية الجهاز العصبي ومراكز الحواس في الدماغ، وقد ثبت ان الجنين في بطن امه، نستطيع، بل يجب ان ننمي حاسة سمعه.
- تحسين بيئة النشء المادية، اذا اريد انماء عقولهم، لذلك لا بد من ان نوفر لهم المقدار الكافي من الطعام المغذي والماء النظيف والملابس الصحية والهواء النقي والالعاب الرياضية المنظمة والهادفة. كل ذلك لكي تقوى اجسادهم فتقوى عقولهم وهنا يصدق القول المأثور ''العقل السليم في الجسم السليم''. وهناك فريق آخر من علماء التربية يرى ان التربية يجب ان تتكون من تزويد النشء بالافكار الصحيحة، وهو ما يؤدي الى سلامة عقولهم، وهذه السلامة تنعكس على اجسادهم. وهذا الفريق يميل الى ان يجعل الفكر يسبق الجسد في السلامة، فيقولون:''الجسم
السليم يتبع العقل السليم''. وان كنا نفضل الرأي الاول لانه اوضح واقرب الى التطبيق، فاننا نرى في النظريتين توافقاً مع ما ذكرنا سابقاً من وثوق الترابط بين عناصر الشخصية البشرية، مستندين الى القول: ''اننا لا نربي العقل، ولا نُربي الجسم، لكننا نربي انساناً''.
وهكذا نجد انفسنا امام ورشة ضخمة تستغرق امداً طويلاً، ولا نرى ان المعلم وحده يستطيع ان ينفذها ولا حتى المدرسة وان كان لهما دور اساسي في تحقيقها، انما يجب ان نشير الى فئات كثيرة تسهم في هذه التربية الشاملة للناشئين نذكر منها:
- الدولة التي يجب ان توفر: المدارس الملائمة، الامن، الطرق المعبدة، الإنارة الكهربائية الدائمة، المياه الصافية، البيئة النظيفة غير الملوثة، الهواء النقي، ونعلم ان بعض الدول تقدم الى الأطفال في مدارسهم وجبة حليب يومياً.
- الاسرة والحياة العائلية: يأتي دورها ثانياً بعد المدرسة في التربية الشمولية، لان الاطفال فيها يكتسبون كثيراً من العادات الاخلاقية، ويكتسبون معظم قاموسهم اللغوي. من هنا تأتي اهمية التعاون الحقيقي بين المدرسة والاسرة واطلاع الاهل على المناهج المتبعة.
- الجمعيات الاهلية: من اندية رياضية وجمعيات خيرية او رعوية او كشفية، كلها اذا احسن توجيهها واعدت لها برامج هادفة، تتحول الى رديف للمدرسة في العطلة الصيفية وايام العطل الأسبوعية والاعياد.
- وسائل الاعلام المختلفة: السمعية والبصرية تمد الناشئ بكثير من المفردات والعبارات والأفكار والثقافات عبر البرامج التي تقدمها خصوصاً برامج الأطفال، اننا نهيب بمعدي هذه البرامج ومقدميها ان يعتنوا بلغتهم، فيصقلوها لتصبح صالحة للاكتساب والافادة.
- البناء المدرسي المكتمل المواصفات الصحية والتربوية بالاضافة الى التجهيزات المختلفة كلها ركيزة اساسية من ركائز التربية الشمولية.
لا نستطيع الاسهاب في هذه المواضيع لان هدف المقال الاساسي هو وجوه التربية الشاملة، وقد انجزنا وجهاً يتعلق بشخصية الناشئ وقبل ان ننتقل الى الوجوه الاخرى ، نطرح الاسئلة الاتية منهين بها هذا الجزء من الدراسة تاركين للقارئ ان يجيب عنها، وهي بصيغة الاستفهام الانكاري ... ايمكن ان يفكر تفكيراً سليماً ويستوعب ما يلقى عليه من كان مريضاً؟ ام جائعاً؟ ام حزيناً كئيباً؟ ام خائفاً مذعوراً؟ ام مهاناً بكرامته؟ ام مضطرباً مشوش الفكر؟ ام مجهد العضلات؟ لنعمل على ازالة هذه العوائق كي نجعل الناشئين يفكرون ويدركون ويستوعبون.
من حق القارئ علينا، وخصوصاً المعلم ان يتساءل ويسأل: لماذا هذا الاصرار والتركيز على الشمولية والكلية في العمل التربوي؟ وما الاهداف المرجوة من هذا المنهج؟ يجب ان نعترف بالروابط الوثيقة بين عملية التعليم من جهة، والتربية وعلم النفس العام، والتربوي خاصة من جهة ثانية، ونعترف ان التربية بأوسع معانيها عملية بسيكولوجية نفسية ترمي في جوهرها الى احداث اعمق ما يمكن من التغيير في طبيعة الانسان الاولية.
فالطفل من طريق التربية العامة يحصل على اكبر قسط من المعلومات النافعة، ويكتسب الكثير من المهارات العقلية والنفسية والعاطفية والانفعالية والبدنية العضلية، فالتربية تسعى الى ان يتحكم الطفل بانفعالاته ويهذب عواطفه. وما دامت التربية قادرة على أحداث هذا التغيير في طبيعة الطفل، فمن الواجب ان نبدأ بدراسة هذه الطبيعة، فنتعرف الى عقلية الطفل ورغباته ونفسيته، حتى نستطيع ان نبني عملنا المدرسي ويأتي منسجماً مع هذه النفسية. ونختصر فنقول: ''لا نستطيع ان نعلم الطفل على اكمل وجه الا اذا درسنا نفسيته'' واستناداً الى هذه النفسية والعقلية، تتكشف لنا الطرائق والاساليب الكفيلة بايصال المعلومات اليه بيسر ووضوح.
لقد كان المعلمون يعلّمون الاطفال بالطريقة التركيبية التي تدعو الى الانتقال من الجزء الى الكل أي من الحرف الى الكلمة الى الجملة. وفي اواخر القرن التاسع عشر استطاعت مجموعة من علماء النفس في المانيا عرفت باسم مدرسة ال ''الجشتالت'' ان تثبت ان تفكير الانسان عموماً تفكير شمولي كلي، فالطفل وهو في الشهر السادس من عمره، اذا كان نائماً في سريره ودخلت امه الى غرفته، تراه يرفع يديه نحوها، فتفهم الام انه يريد ان ينهض من السرير، فترفعه وتحمله، بعد قليل يلتفت نحو الباب ويمد يديه، ويرمي بجسمه فتفهم من سياق الحركة انه يريد ان يخرج من الغرفة فتلبي رغبته وتخرجه. فالاشارات المعبرة هي لغة في علم النفس. وعندما يبدأ بالكلام تكفي كلمة واحدة منه كأن يقول: ''نني'' او نبو'' او ''ماما'' هذه الكلمات كافية كي تعبر عن جمل في فكر الطفل تدل على انه جائع ويريد ان يأكل او انه يريد ان يشرب او يريد امه. كما انه يتلفظ بكلمة ''ماما او بابا'' قبل ان يعرف احرفها، فهو ينتقل بذلك من الكل الى الجزء وهذا مثل آخر: ترى انساناً قادماً من بعيد فتعرف انه انسان، وليس أي شيء آخر، تتقدم نحوه فتعرف انه رجل وليس امرأة، تتقدم قليلاً فيتبين لك انه طويل وليس قصيراً، ثم تكتشف لون بشرته ولون شعره وملامح وجهه، يتكلم امامك فتكتشف من لجهته مكان قدومه، تتحادثان فتعرف من خلال حديثه وجهة رحيله الخ...، كل ما قمت به كان تحليلاً لشخصية هذا الرجل وبذلك تنتقل من الكل الى الجزء، ثم تستجمع هذه الاجزاء، في عملية تركيبية، لتستنتج وتقول هذا الرجل اسمه كذا فتصفه وصفاً خارجياً وهو قادم من مكان كذا وذاهب الى مكان كذا الخ...
يجب ان نؤكد ان الجزء لا يدرك الا عبر الكل، وان الكل لا يستوعب جيداً الا اذا ادرك الجزء، فغصن الشجرة لا يدرك الا اذا كان معلقاً بأمه ومن خلالها، وان الشجرة لا تدرك الا اذا ادركت اجزاءها، اغصانها واوراقها واثمارها وجذعها وجذورها. بعد هذه الدراسات النفسية التي اجرتها جماعة الـ ''الجشتالت'' نشأت نظرية: الكلية والاجمالية والشمولية، وظهرت الطريقة الاجمالية في تعليم الأطفال الحرف والقراءة.
ومن مظاهر التفكير الكلي او الشمولي عند الطفل، التعميم في تسمية الأشخاص والحيوانات والأشياء التي تحيط به، فيطلق كلمة ''عمو'' قاصداً جميع الرجال الذين يراهم، ويطلق''كاكا'' على الدجاجة والبطة والاوزة والديك، ويطلق صوت الخروف ''ماع'' على جميع الحيوانات التي يراها حول منزله. يفترض هنا ان ندفع الطفل نحو التخصيص، وذلك باظهار اوجه التشابه، واوجه التضاد بين العنصرين او العناصر التي يلتبس عليه امرها، ويساوي بينها على انها واحد، وكأننا بذلك عدنا الى التجزئة التي رأيناها سابقاً في عناصر الشخصية البشرية، وسنراها لاحقاً في الكفايات المعرفية، ونثبت ذلك استناداً الى فقرة وردت في المنهجية التربوية الشمولية(٣) الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والانماء ومنظمة الامم المتحدة للطفولة ''يونيسف'' جاء فيها:
''يتمحور التعلم الشمولي حول الإنسان ووعيه أهمية الكوكب الذي يعيش عليه، ووعيه قضاياه. فهو يرتكز على المبدأ القائل بأن وعي الإنسان لذاته واستكشاف قدراته يمران عبر وعيه العالم وتفاعله معه. فتفّهم المتعلم مشاكل العالم وقضاياه بصورة شاملة، يمكّنه من الوصول الى فهم عميق للذات، وفهم الذات هذا يساعد على فهم قضايا العالم بصورة اشمل واوسع، لان الرحلة الخارجية نحو العالم، هي ايضاً رحلة داخلية الى الذات كما ان العكس صحيح في هذا المجال''.


هوامش:
١- سورة المائدة
٢- سورة الروم
٣- المنهجية التربوية الشمولية (منظمة الامم المتحدة للطفولة - يونيسف) لبنان ١٩٩٧

 

من اعمال الفنان صليبا الدويهي

اوجه الشمول في التربية الكلية ٤/١

اوجه الشمول في التربية الكلية  ١/٤

 

وجه الشخصية البشرية

 

جورج فرج خبير تربوي المدرسة الوطنية الأرثوذكسية- الميناء

ان علم الرمز والدلالة، وهو أحد العلوم التي تتداخل فيما بينها، وتتقاطع مع غيرها لتتكامل وتؤدي دورا ً ''فاعلا'' في إنجاح العملية التربوية بكل أبعادها. هذا العلم يعتبر ان كل كلمة نقرأها هي رمز لدلالة او عدة دلالات، وان هذه الدلالة سابقة في الواقع للرمز. فالطاولة والشجرة والجبل وغيرها موجودة فعلاً وواقعاً، يعرفها الإنسان ويستعملها لمصلحته قبل ان يطلق عليها هذه التسميات.
لذلك سنسعى، قبل كل معالجة، ان نحدد لغوياً دلالات الكلمات الدالة على مفاهيم تربوية، مستعينين بالقواميس العربية، وخصوصاً لسان العرب، وبالقرآن الكريم اذا وردت فيه هذه الكلمات: نهج الامر وانهج : بيّن، وضح، طريق نهج : واضح. المنهج والمنهاج والنهج بمعنى واحد، هو الطريق او السبيل او الشرعة او الخطة، على ان تكون: واضحة، مستقيمة، مضيئة. يقال فلان يستنهج طريق فلان، أي يسلك مسلكه ويخطو خطوه.

 

وقد وردت هذه الكلمات في القرآن الكريم في آية واحدة تقول ''لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً. ولو شاء لله لجعلكم امة واحدة'' (١). المعنى واضح اننا جعلنا لكل أمة منكم شريعة واضحة وطريقاً مستقيماً إلى الكمال. ونحن نرى في المقابل ان افضل طريق وخير أسلوب، هما اللذان يوصلان المعارف الى أذهان المتعلمين ''بيسر ووضوح''. ومن هذا المنطلق، سنحاول ان نكون في مقالنا هذا واقعيين واضحين، فكل ما نقوله ونكتبه يصلح لان يطبق مبتعدين عن النظريات المعقدة وغير القابلة للتحقيق.
اما التربية في اللغة، ففي عملية اشتقاق لجذرها وهو الثلاثي ''ربا'' يتبين ما يأتي: ربا الشيء يربو ربوا: زاد ونما. اربيته : نميته.
ربوت او ربيت في منزل فلان: نشأت وترعرعت ونموت وكبرت، يقول الشاعر:
''فمن يك سائلاً عني فاني         بمكة منزلي وبها ربيت''
ربّيٌَت فلاناً وربيته : غذوته، لينمو ويكبر.


فإذا ما رصدنا الأسماء والأفعال المتولدة من هذا الجذر نجد: الرب، الربو، الربوة، الرابية، والربا ... كلها تتشارك في معنى واحد هو : الارتفاع والزيادة والنماء. حتى الرّبِا، وهو المال الزائد عن رأسمال الدائن وقد وردت الكلمة في آية كريمة تقول: ''وما آتيتم من رِباً ليربُوَا في أموال الناس فلا يربُوْا عند لله'' (٢).
بما ان التربية تعني النماء والإنماء، فمن الطبيعي ان يكون نماءً مكتملاً وشاملاً وهذا ما نقع عليه في الهدف الأقصى للتربية، كما عده الدكتور حنا غالب في كتابه'' مواد وطرائق التعليم في التربية المتجددة''، اذ جاء فيه: ''اكتمال النماء الشامل للشخصية البشرية''، نحلل كلمات هذا التعريف لهدف التربية، ونفك رموزه شارحين دلالات كل رمز، نطرح الأسئلة الآتية، مبتدئين من آخر التعريف. مَن المقصود بالشخصية البشرية؟ مّم تتكون عناصر هذه الشخصية؟ كيف نسعى الى إنمائها؟ ما المقصود بشمولية النماء او النماء الشامل؟ ما المقصود باكتمال النماء؟ من يقوم بهذه العملية التربوية الكبيرة؟ وها نحن نجيب عن هذه الأسئلة بطريقة تحليلية:


أ- الشخصية البشرية هي الانسان عموماً، لان الانسان أي انسان يتعلم في الحياة ويتربى فيستفيد من تجاربه ويصحح اخطاءه اذا اخطأ وفشل، لكن الهدف التربوي هنا موجه الى التربية النظامية، والمطلوب انماؤه هنا هو الطفل في الروضة والتلميذ في المدرسة الابتدائية والمتوسطة (التعليم الاساسي) والطالب في الجامعة.
ب- تتكون الشخصية البشرية المطلوب انماؤها من ثلاثة عناصر اساسية هي: الجسد، والعقل او الفكر او الذهن، والجهاز العصبي والدماغ (المخ)، وتلحق بها ابعاد اخرى ترتبط بها وتدور في فلكها، وخصوصاً العقل الذي يجد بعضهم انه هو الروح والنفس. هذه الابعاد تتمثل في: البعد النفسي، والروحي والعاطفي الانفعالي والسلوكي والاخلاقي والاجتماعي، وكلها تؤلف كفايات تكوينية انمائية للناشئ تتكامل مع الكفايات الاجرائية المعرفية (كما سنرى).
اذا كنا قد حللنا او جزأنا الشخصية البشرية وسميّنا اجزاءها فما ذلك الا للتعريف، الا اننا نعود وننظر الى هذه العناصر الاساسية والاجزاء المرتبطة بها على انها وحدة مترابطة ترابطاً وثيقاً، ومتكاملة. فكما الحياة وحدة لا تتجزأ، وكما الكون وحدة لا يتجزأ، كذلك شخصية الانسان، ابالغاً كان ام طفلاً، فالجسم فيه، والعقل والجهاز العصبي، ثلاث نواح لحياة واحدة ولوجود واحد.
اما عن الترابط بين هذه العناصر وما يتفرع عنها من ابعاد، وتأثير كل منها على الآخر، فاليكم بعض الامثلة الواقعية: من المسلّم به، ان هناك اعمالاً حسية مادية وهي المسماة اعمالاً جسدية، واعمالاً اخرى معنوية نسميها عقلية او فكرية، وان هناك رابطاً متيناً بين هذه وتلك فلا يصدر عمل عقلي الا وتصحبه نتيجة تنعكس على الجسد سلباً او ايجاباً، كما انه لا يصدر عن شخص عمل جسدي الا ويكون له اثر عقلي فمثلاً: التفكير بعمق مدة طويلة من الزمن يتعب العقل، فيعقبه صداع قد يؤدي الى مرض جسدي، وان خبراً مفرحاً قد يشفي عليلاً، في حين ان آخر سيئاً قد يسبب له المرض. وان الأمراض العقلية تسبب النحول والمرض الجسدي وعدم قيام الأجهزة بوظائفها، وبالمقابل فان التعب الجسدي الناشئ عن إجهاد العضلات، يضعف استعداد الإنسان لمعالجة المسائل العقلية، وان تنشق الهواء الفاسد يؤدي الى الكسل الذهني كما يؤدي الى فقر في الدم. وهنا نستنتج فنقول: ''انا أفكر جيداً فأنا بصحة جيدة'' والعكس صحيح.
ومن جهة ثانية فان التطور العقلي يتبع دائماً التطور العصبي، ولا سيما تطور الدماغ. والمخ هو مركز الأعمال العقلية والجسدية، من طريق الأعصاب، فقد ثبت أن في الدماغ مليار عصب موزعة بوساطة الجهاز العصبي على جميع اعضاء الجسم، وان لكل حاسة من الحواس الخمس مركزاً في الدماغ يقوى بتنمية هذه الحاسة، وان أي خلل يحدث في مركز من هذه المراكز يصحبه خلل في الحاسة المرتبطة به، فاي ضربة تصيب مركزاً من مراكز الحواس في الدماغ، تفقد الانسان هذه الحاسة، فقد يعمى او يصاب بفقدان الشم او غيرها، او قد يصاب بشلل في القوى العقلية وان اصابة المخ بورم ما في منطقة معينة، سيصيب عضواً في الجسد له ارتباط في المنطقة المصابة في المخ.
هذه الحقائق وامثالها تثبت ان المخ هو العضو المسيطر على جميع اجزاء الجسم، وهو الذي يؤثر فيها كلها بواسطة الاعصاب المليار الموزعة على جميع هذه الاجزاء، وتوصل أوامره اليها، وهذه الأعصاب تصل الى العقل ناقلة اليه الأوامر، ومتلقية منه المعلومات والمعارف لتنقلها الى الدماغ ليخزّنها فيه، فهو يستطيع ان يخزّن مليون معلومة، كم هو شبيه بالكومبيوتر، الانسان.
لذلك ونتيجة لهذا الترابط، فان أي عمل تؤديه حواس الطفل سواء اكان لوناً بالنظر او شكلاً باللمس او رائحة بالشم ... يصبح اكثر رسوخاً في الدماغ واكثر ديمومة، حين يصل عن طريق أعصاب الجهاز العصبي، كما يمكن استرجاعه من الدماغ عن طريق أعصاب الحس وذلك بإغماض العينين والاكتفاء بالحاسة الأساسية التي نقلته الى الدماغ، كان يميز التفاحة من الليمونة استناداً الى حاسة الشم او الذوق.
بعد ان اثبتنا الروابط الوثيقة بين العناصر التي تتكون منها شخصية الناشئ، نجيب عن السؤال الآتي: ما النماء الشامل؟ هو الذي يشمل كافة العناصر التي تتكون منها شخصيته، والنظر اليها على انها كل مترابط، فكل ما يضر احدها يضر العناصر الأخرى وينعكس سلباً على الطفل، وكل ما ينفع احدها ينفع العناصر الاخرى وينعكس ايجاباً على صاحبها. لذلك لا يجوز الفصل بين التربية الجسدية والتربية العقلية والتربية النفسية، بل يجب التوازي بينها في الرعاية والاهتمام، وخير الأنشطة وافضلها هي تلك التي تعمل العناصر الثلاثة في تنفيذها وهي المعروفة بالأنشطة البسيكوحركية (Psycomoteur) او النفس حركية. من هنا نستطرد قليلاً لنقول: لا مسوّغ للمعلم- تحت أي حجة - ان يستعمل القسوة مع التلميذ سواء اكان ذلك بضرب جسدي او بقسوة كلامية جارحة، لما يمكن ان يلحق من جراء هذه القسوة الضرر بالتلميذ جسدياً وفكرياً ونفسياً، وكم من تلميذ دفعته هذه القسوة الى هجر المدرسة وتفضيله الامية مع الكرامة والحرية.

والاكتمال في النماء الذي ورد في الهدف التربوي يقضي بالا يقتصر النماء الشامل للناشئين على سنة معينة من سني دراستهم، ولا على مرحلة خاصة، بل يجب ان تحتل مقامها في المنهج التربوي، بدءاً من اصغر عمر يبدأ فيه الطفل بالتعلم، مروراً بالمراحل التعلمية الاخرى، وصولاً الى الجامعة من دون أي انقطاع. ولقد كان التثبت من الروابط السابقة بين عناصر الشخصية البشرية ان اوجب المربون ما يأتي:
- تنمية الحواس وتقويتها كي يؤدي ذلك الى تقوية العقل وانمائه، والى تقوية الجهاز العصبي ومراكز الحواس في الدماغ، وقد ثبت ان الجنين في بطن امه، نستطيع، بل يجب ان ننمي حاسة سمعه.
- تحسين بيئة النشء المادية، اذا اريد انماء عقولهم، لذلك لا بد من ان نوفر لهم المقدار الكافي من الطعام المغذي والماء النظيف والملابس الصحية والهواء النقي والالعاب الرياضية المنظمة والهادفة. كل ذلك لكي تقوى اجسادهم فتقوى عقولهم وهنا يصدق القول المأثور ''العقل السليم في الجسم السليم''. وهناك فريق آخر من علماء التربية يرى ان التربية يجب ان تتكون من تزويد النشء بالافكار الصحيحة، وهو ما يؤدي الى سلامة عقولهم، وهذه السلامة تنعكس على اجسادهم. وهذا الفريق يميل الى ان يجعل الفكر يسبق الجسد في السلامة، فيقولون:''الجسم
السليم يتبع العقل السليم''. وان كنا نفضل الرأي الاول لانه اوضح واقرب الى التطبيق، فاننا نرى في النظريتين توافقاً مع ما ذكرنا سابقاً من وثوق الترابط بين عناصر الشخصية البشرية، مستندين الى القول: ''اننا لا نربي العقل، ولا نُربي الجسم، لكننا نربي انساناً''.
وهكذا نجد انفسنا امام ورشة ضخمة تستغرق امداً طويلاً، ولا نرى ان المعلم وحده يستطيع ان ينفذها ولا حتى المدرسة وان كان لهما دور اساسي في تحقيقها، انما يجب ان نشير الى فئات كثيرة تسهم في هذه التربية الشاملة للناشئين نذكر منها:
- الدولة التي يجب ان توفر: المدارس الملائمة، الامن، الطرق المعبدة، الإنارة الكهربائية الدائمة، المياه الصافية، البيئة النظيفة غير الملوثة، الهواء النقي، ونعلم ان بعض الدول تقدم الى الأطفال في مدارسهم وجبة حليب يومياً.
- الاسرة والحياة العائلية: يأتي دورها ثانياً بعد المدرسة في التربية الشمولية، لان الاطفال فيها يكتسبون كثيراً من العادات الاخلاقية، ويكتسبون معظم قاموسهم اللغوي. من هنا تأتي اهمية التعاون الحقيقي بين المدرسة والاسرة واطلاع الاهل على المناهج المتبعة.
- الجمعيات الاهلية: من اندية رياضية وجمعيات خيرية او رعوية او كشفية، كلها اذا احسن توجيهها واعدت لها برامج هادفة، تتحول الى رديف للمدرسة في العطلة الصيفية وايام العطل الأسبوعية والاعياد.
- وسائل الاعلام المختلفة: السمعية والبصرية تمد الناشئ بكثير من المفردات والعبارات والأفكار والثقافات عبر البرامج التي تقدمها خصوصاً برامج الأطفال، اننا نهيب بمعدي هذه البرامج ومقدميها ان يعتنوا بلغتهم، فيصقلوها لتصبح صالحة للاكتساب والافادة.
- البناء المدرسي المكتمل المواصفات الصحية والتربوية بالاضافة الى التجهيزات المختلفة كلها ركيزة اساسية من ركائز التربية الشمولية.
لا نستطيع الاسهاب في هذه المواضيع لان هدف المقال الاساسي هو وجوه التربية الشاملة، وقد انجزنا وجهاً يتعلق بشخصية الناشئ وقبل ان ننتقل الى الوجوه الاخرى ، نطرح الاسئلة الاتية منهين بها هذا الجزء من الدراسة تاركين للقارئ ان يجيب عنها، وهي بصيغة الاستفهام الانكاري ... ايمكن ان يفكر تفكيراً سليماً ويستوعب ما يلقى عليه من كان مريضاً؟ ام جائعاً؟ ام حزيناً كئيباً؟ ام خائفاً مذعوراً؟ ام مهاناً بكرامته؟ ام مضطرباً مشوش الفكر؟ ام مجهد العضلات؟ لنعمل على ازالة هذه العوائق كي نجعل الناشئين يفكرون ويدركون ويستوعبون.
من حق القارئ علينا، وخصوصاً المعلم ان يتساءل ويسأل: لماذا هذا الاصرار والتركيز على الشمولية والكلية في العمل التربوي؟ وما الاهداف المرجوة من هذا المنهج؟ يجب ان نعترف بالروابط الوثيقة بين عملية التعليم من جهة، والتربية وعلم النفس العام، والتربوي خاصة من جهة ثانية، ونعترف ان التربية بأوسع معانيها عملية بسيكولوجية نفسية ترمي في جوهرها الى احداث اعمق ما يمكن من التغيير في طبيعة الانسان الاولية.
فالطفل من طريق التربية العامة يحصل على اكبر قسط من المعلومات النافعة، ويكتسب الكثير من المهارات العقلية والنفسية والعاطفية والانفعالية والبدنية العضلية، فالتربية تسعى الى ان يتحكم الطفل بانفعالاته ويهذب عواطفه. وما دامت التربية قادرة على أحداث هذا التغيير في طبيعة الطفل، فمن الواجب ان نبدأ بدراسة هذه الطبيعة، فنتعرف الى عقلية الطفل ورغباته ونفسيته، حتى نستطيع ان نبني عملنا المدرسي ويأتي منسجماً مع هذه النفسية. ونختصر فنقول: ''لا نستطيع ان نعلم الطفل على اكمل وجه الا اذا درسنا نفسيته'' واستناداً الى هذه النفسية والعقلية، تتكشف لنا الطرائق والاساليب الكفيلة بايصال المعلومات اليه بيسر ووضوح.
لقد كان المعلمون يعلّمون الاطفال بالطريقة التركيبية التي تدعو الى الانتقال من الجزء الى الكل أي من الحرف الى الكلمة الى الجملة. وفي اواخر القرن التاسع عشر استطاعت مجموعة من علماء النفس في المانيا عرفت باسم مدرسة ال ''الجشتالت'' ان تثبت ان تفكير الانسان عموماً تفكير شمولي كلي، فالطفل وهو في الشهر السادس من عمره، اذا كان نائماً في سريره ودخلت امه الى غرفته، تراه يرفع يديه نحوها، فتفهم الام انه يريد ان ينهض من السرير، فترفعه وتحمله، بعد قليل يلتفت نحو الباب ويمد يديه، ويرمي بجسمه فتفهم من سياق الحركة انه يريد ان يخرج من الغرفة فتلبي رغبته وتخرجه. فالاشارات المعبرة هي لغة في علم النفس. وعندما يبدأ بالكلام تكفي كلمة واحدة منه كأن يقول: ''نني'' او نبو'' او ''ماما'' هذه الكلمات كافية كي تعبر عن جمل في فكر الطفل تدل على انه جائع ويريد ان يأكل او انه يريد ان يشرب او يريد امه. كما انه يتلفظ بكلمة ''ماما او بابا'' قبل ان يعرف احرفها، فهو ينتقل بذلك من الكل الى الجزء وهذا مثل آخر: ترى انساناً قادماً من بعيد فتعرف انه انسان، وليس أي شيء آخر، تتقدم نحوه فتعرف انه رجل وليس امرأة، تتقدم قليلاً فيتبين لك انه طويل وليس قصيراً، ثم تكتشف لون بشرته ولون شعره وملامح وجهه، يتكلم امامك فتكتشف من لجهته مكان قدومه، تتحادثان فتعرف من خلال حديثه وجهة رحيله الخ...، كل ما قمت به كان تحليلاً لشخصية هذا الرجل وبذلك تنتقل من الكل الى الجزء، ثم تستجمع هذه الاجزاء، في عملية تركيبية، لتستنتج وتقول هذا الرجل اسمه كذا فتصفه وصفاً خارجياً وهو قادم من مكان كذا وذاهب الى مكان كذا الخ...
يجب ان نؤكد ان الجزء لا يدرك الا عبر الكل، وان الكل لا يستوعب جيداً الا اذا ادرك الجزء، فغصن الشجرة لا يدرك الا اذا كان معلقاً بأمه ومن خلالها، وان الشجرة لا تدرك الا اذا ادركت اجزاءها، اغصانها واوراقها واثمارها وجذعها وجذورها. بعد هذه الدراسات النفسية التي اجرتها جماعة الـ ''الجشتالت'' نشأت نظرية: الكلية والاجمالية والشمولية، وظهرت الطريقة الاجمالية في تعليم الأطفال الحرف والقراءة.
ومن مظاهر التفكير الكلي او الشمولي عند الطفل، التعميم في تسمية الأشخاص والحيوانات والأشياء التي تحيط به، فيطلق كلمة ''عمو'' قاصداً جميع الرجال الذين يراهم، ويطلق''كاكا'' على الدجاجة والبطة والاوزة والديك، ويطلق صوت الخروف ''ماع'' على جميع الحيوانات التي يراها حول منزله. يفترض هنا ان ندفع الطفل نحو التخصيص، وذلك باظهار اوجه التشابه، واوجه التضاد بين العنصرين او العناصر التي يلتبس عليه امرها، ويساوي بينها على انها واحد، وكأننا بذلك عدنا الى التجزئة التي رأيناها سابقاً في عناصر الشخصية البشرية، وسنراها لاحقاً في الكفايات المعرفية، ونثبت ذلك استناداً الى فقرة وردت في المنهجية التربوية الشمولية(٣) الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والانماء ومنظمة الامم المتحدة للطفولة ''يونيسف'' جاء فيها:
''يتمحور التعلم الشمولي حول الإنسان ووعيه أهمية الكوكب الذي يعيش عليه، ووعيه قضاياه. فهو يرتكز على المبدأ القائل بأن وعي الإنسان لذاته واستكشاف قدراته يمران عبر وعيه العالم وتفاعله معه. فتفّهم المتعلم مشاكل العالم وقضاياه بصورة شاملة، يمكّنه من الوصول الى فهم عميق للذات، وفهم الذات هذا يساعد على فهم قضايا العالم بصورة اشمل واوسع، لان الرحلة الخارجية نحو العالم، هي ايضاً رحلة داخلية الى الذات كما ان العكس صحيح في هذا المجال''.


هوامش:
١- سورة المائدة
٢- سورة الروم
٣- المنهجية التربوية الشمولية (منظمة الامم المتحدة للطفولة - يونيسف) لبنان ١٩٩٧

 

من اعمال الفنان صليبا الدويهي

اوجه الشمول في التربية الكلية ٤/١

اوجه الشمول في التربية الكلية  ١/٤

 

وجه الشخصية البشرية

 

جورج فرج خبير تربوي المدرسة الوطنية الأرثوذكسية- الميناء

ان علم الرمز والدلالة، وهو أحد العلوم التي تتداخل فيما بينها، وتتقاطع مع غيرها لتتكامل وتؤدي دورا ً ''فاعلا'' في إنجاح العملية التربوية بكل أبعادها. هذا العلم يعتبر ان كل كلمة نقرأها هي رمز لدلالة او عدة دلالات، وان هذه الدلالة سابقة في الواقع للرمز. فالطاولة والشجرة والجبل وغيرها موجودة فعلاً وواقعاً، يعرفها الإنسان ويستعملها لمصلحته قبل ان يطلق عليها هذه التسميات.
لذلك سنسعى، قبل كل معالجة، ان نحدد لغوياً دلالات الكلمات الدالة على مفاهيم تربوية، مستعينين بالقواميس العربية، وخصوصاً لسان العرب، وبالقرآن الكريم اذا وردت فيه هذه الكلمات: نهج الامر وانهج : بيّن، وضح، طريق نهج : واضح. المنهج والمنهاج والنهج بمعنى واحد، هو الطريق او السبيل او الشرعة او الخطة، على ان تكون: واضحة، مستقيمة، مضيئة. يقال فلان يستنهج طريق فلان، أي يسلك مسلكه ويخطو خطوه.

 

وقد وردت هذه الكلمات في القرآن الكريم في آية واحدة تقول ''لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً. ولو شاء لله لجعلكم امة واحدة'' (١). المعنى واضح اننا جعلنا لكل أمة منكم شريعة واضحة وطريقاً مستقيماً إلى الكمال. ونحن نرى في المقابل ان افضل طريق وخير أسلوب، هما اللذان يوصلان المعارف الى أذهان المتعلمين ''بيسر ووضوح''. ومن هذا المنطلق، سنحاول ان نكون في مقالنا هذا واقعيين واضحين، فكل ما نقوله ونكتبه يصلح لان يطبق مبتعدين عن النظريات المعقدة وغير القابلة للتحقيق.
اما التربية في اللغة، ففي عملية اشتقاق لجذرها وهو الثلاثي ''ربا'' يتبين ما يأتي: ربا الشيء يربو ربوا: زاد ونما. اربيته : نميته.
ربوت او ربيت في منزل فلان: نشأت وترعرعت ونموت وكبرت، يقول الشاعر:
''فمن يك سائلاً عني فاني         بمكة منزلي وبها ربيت''
ربّيٌَت فلاناً وربيته : غذوته، لينمو ويكبر.


فإذا ما رصدنا الأسماء والأفعال المتولدة من هذا الجذر نجد: الرب، الربو، الربوة، الرابية، والربا ... كلها تتشارك في معنى واحد هو : الارتفاع والزيادة والنماء. حتى الرّبِا، وهو المال الزائد عن رأسمال الدائن وقد وردت الكلمة في آية كريمة تقول: ''وما آتيتم من رِباً ليربُوَا في أموال الناس فلا يربُوْا عند لله'' (٢).
بما ان التربية تعني النماء والإنماء، فمن الطبيعي ان يكون نماءً مكتملاً وشاملاً وهذا ما نقع عليه في الهدف الأقصى للتربية، كما عده الدكتور حنا غالب في كتابه'' مواد وطرائق التعليم في التربية المتجددة''، اذ جاء فيه: ''اكتمال النماء الشامل للشخصية البشرية''، نحلل كلمات هذا التعريف لهدف التربية، ونفك رموزه شارحين دلالات كل رمز، نطرح الأسئلة الآتية، مبتدئين من آخر التعريف. مَن المقصود بالشخصية البشرية؟ مّم تتكون عناصر هذه الشخصية؟ كيف نسعى الى إنمائها؟ ما المقصود بشمولية النماء او النماء الشامل؟ ما المقصود باكتمال النماء؟ من يقوم بهذه العملية التربوية الكبيرة؟ وها نحن نجيب عن هذه الأسئلة بطريقة تحليلية:


أ- الشخصية البشرية هي الانسان عموماً، لان الانسان أي انسان يتعلم في الحياة ويتربى فيستفيد من تجاربه ويصحح اخطاءه اذا اخطأ وفشل، لكن الهدف التربوي هنا موجه الى التربية النظامية، والمطلوب انماؤه هنا هو الطفل في الروضة والتلميذ في المدرسة الابتدائية والمتوسطة (التعليم الاساسي) والطالب في الجامعة.
ب- تتكون الشخصية البشرية المطلوب انماؤها من ثلاثة عناصر اساسية هي: الجسد، والعقل او الفكر او الذهن، والجهاز العصبي والدماغ (المخ)، وتلحق بها ابعاد اخرى ترتبط بها وتدور في فلكها، وخصوصاً العقل الذي يجد بعضهم انه هو الروح والنفس. هذه الابعاد تتمثل في: البعد النفسي، والروحي والعاطفي الانفعالي والسلوكي والاخلاقي والاجتماعي، وكلها تؤلف كفايات تكوينية انمائية للناشئ تتكامل مع الكفايات الاجرائية المعرفية (كما سنرى).
اذا كنا قد حللنا او جزأنا الشخصية البشرية وسميّنا اجزاءها فما ذلك الا للتعريف، الا اننا نعود وننظر الى هذه العناصر الاساسية والاجزاء المرتبطة بها على انها وحدة مترابطة ترابطاً وثيقاً، ومتكاملة. فكما الحياة وحدة لا تتجزأ، وكما الكون وحدة لا يتجزأ، كذلك شخصية الانسان، ابالغاً كان ام طفلاً، فالجسم فيه، والعقل والجهاز العصبي، ثلاث نواح لحياة واحدة ولوجود واحد.
اما عن الترابط بين هذه العناصر وما يتفرع عنها من ابعاد، وتأثير كل منها على الآخر، فاليكم بعض الامثلة الواقعية: من المسلّم به، ان هناك اعمالاً حسية مادية وهي المسماة اعمالاً جسدية، واعمالاً اخرى معنوية نسميها عقلية او فكرية، وان هناك رابطاً متيناً بين هذه وتلك فلا يصدر عمل عقلي الا وتصحبه نتيجة تنعكس على الجسد سلباً او ايجاباً، كما انه لا يصدر عن شخص عمل جسدي الا ويكون له اثر عقلي فمثلاً: التفكير بعمق مدة طويلة من الزمن يتعب العقل، فيعقبه صداع قد يؤدي الى مرض جسدي، وان خبراً مفرحاً قد يشفي عليلاً، في حين ان آخر سيئاً قد يسبب له المرض. وان الأمراض العقلية تسبب النحول والمرض الجسدي وعدم قيام الأجهزة بوظائفها، وبالمقابل فان التعب الجسدي الناشئ عن إجهاد العضلات، يضعف استعداد الإنسان لمعالجة المسائل العقلية، وان تنشق الهواء الفاسد يؤدي الى الكسل الذهني كما يؤدي الى فقر في الدم. وهنا نستنتج فنقول: ''انا أفكر جيداً فأنا بصحة جيدة'' والعكس صحيح.
ومن جهة ثانية فان التطور العقلي يتبع دائماً التطور العصبي، ولا سيما تطور الدماغ. والمخ هو مركز الأعمال العقلية والجسدية، من طريق الأعصاب، فقد ثبت أن في الدماغ مليار عصب موزعة بوساطة الجهاز العصبي على جميع اعضاء الجسم، وان لكل حاسة من الحواس الخمس مركزاً في الدماغ يقوى بتنمية هذه الحاسة، وان أي خلل يحدث في مركز من هذه المراكز يصحبه خلل في الحاسة المرتبطة به، فاي ضربة تصيب مركزاً من مراكز الحواس في الدماغ، تفقد الانسان هذه الحاسة، فقد يعمى او يصاب بفقدان الشم او غيرها، او قد يصاب بشلل في القوى العقلية وان اصابة المخ بورم ما في منطقة معينة، سيصيب عضواً في الجسد له ارتباط في المنطقة المصابة في المخ.
هذه الحقائق وامثالها تثبت ان المخ هو العضو المسيطر على جميع اجزاء الجسم، وهو الذي يؤثر فيها كلها بواسطة الاعصاب المليار الموزعة على جميع هذه الاجزاء، وتوصل أوامره اليها، وهذه الأعصاب تصل الى العقل ناقلة اليه الأوامر، ومتلقية منه المعلومات والمعارف لتنقلها الى الدماغ ليخزّنها فيه، فهو يستطيع ان يخزّن مليون معلومة، كم هو شبيه بالكومبيوتر، الانسان.
لذلك ونتيجة لهذا الترابط، فان أي عمل تؤديه حواس الطفل سواء اكان لوناً بالنظر او شكلاً باللمس او رائحة بالشم ... يصبح اكثر رسوخاً في الدماغ واكثر ديمومة، حين يصل عن طريق أعصاب الجهاز العصبي، كما يمكن استرجاعه من الدماغ عن طريق أعصاب الحس وذلك بإغماض العينين والاكتفاء بالحاسة الأساسية التي نقلته الى الدماغ، كان يميز التفاحة من الليمونة استناداً الى حاسة الشم او الذوق.
بعد ان اثبتنا الروابط الوثيقة بين العناصر التي تتكون منها شخصية الناشئ، نجيب عن السؤال الآتي: ما النماء الشامل؟ هو الذي يشمل كافة العناصر التي تتكون منها شخصيته، والنظر اليها على انها كل مترابط، فكل ما يضر احدها يضر العناصر الأخرى وينعكس سلباً على الطفل، وكل ما ينفع احدها ينفع العناصر الاخرى وينعكس ايجاباً على صاحبها. لذلك لا يجوز الفصل بين التربية الجسدية والتربية العقلية والتربية النفسية، بل يجب التوازي بينها في الرعاية والاهتمام، وخير الأنشطة وافضلها هي تلك التي تعمل العناصر الثلاثة في تنفيذها وهي المعروفة بالأنشطة البسيكوحركية (Psycomoteur) او النفس حركية. من هنا نستطرد قليلاً لنقول: لا مسوّغ للمعلم- تحت أي حجة - ان يستعمل القسوة مع التلميذ سواء اكان ذلك بضرب جسدي او بقسوة كلامية جارحة، لما يمكن ان يلحق من جراء هذه القسوة الضرر بالتلميذ جسدياً وفكرياً ونفسياً، وكم من تلميذ دفعته هذه القسوة الى هجر المدرسة وتفضيله الامية مع الكرامة والحرية.

والاكتمال في النماء الذي ورد في الهدف التربوي يقضي بالا يقتصر النماء الشامل للناشئين على سنة معينة من سني دراستهم، ولا على مرحلة خاصة، بل يجب ان تحتل مقامها في المنهج التربوي، بدءاً من اصغر عمر يبدأ فيه الطفل بالتعلم، مروراً بالمراحل التعلمية الاخرى، وصولاً الى الجامعة من دون أي انقطاع. ولقد كان التثبت من الروابط السابقة بين عناصر الشخصية البشرية ان اوجب المربون ما يأتي:
- تنمية الحواس وتقويتها كي يؤدي ذلك الى تقوية العقل وانمائه، والى تقوية الجهاز العصبي ومراكز الحواس في الدماغ، وقد ثبت ان الجنين في بطن امه، نستطيع، بل يجب ان ننمي حاسة سمعه.
- تحسين بيئة النشء المادية، اذا اريد انماء عقولهم، لذلك لا بد من ان نوفر لهم المقدار الكافي من الطعام المغذي والماء النظيف والملابس الصحية والهواء النقي والالعاب الرياضية المنظمة والهادفة. كل ذلك لكي تقوى اجسادهم فتقوى عقولهم وهنا يصدق القول المأثور ''العقل السليم في الجسم السليم''. وهناك فريق آخر من علماء التربية يرى ان التربية يجب ان تتكون من تزويد النشء بالافكار الصحيحة، وهو ما يؤدي الى سلامة عقولهم، وهذه السلامة تنعكس على اجسادهم. وهذا الفريق يميل الى ان يجعل الفكر يسبق الجسد في السلامة، فيقولون:''الجسم
السليم يتبع العقل السليم''. وان كنا نفضل الرأي الاول لانه اوضح واقرب الى التطبيق، فاننا نرى في النظريتين توافقاً مع ما ذكرنا سابقاً من وثوق الترابط بين عناصر الشخصية البشرية، مستندين الى القول: ''اننا لا نربي العقل، ولا نُربي الجسم، لكننا نربي انساناً''.
وهكذا نجد انفسنا امام ورشة ضخمة تستغرق امداً طويلاً، ولا نرى ان المعلم وحده يستطيع ان ينفذها ولا حتى المدرسة وان كان لهما دور اساسي في تحقيقها، انما يجب ان نشير الى فئات كثيرة تسهم في هذه التربية الشاملة للناشئين نذكر منها:
- الدولة التي يجب ان توفر: المدارس الملائمة، الامن، الطرق المعبدة، الإنارة الكهربائية الدائمة، المياه الصافية، البيئة النظيفة غير الملوثة، الهواء النقي، ونعلم ان بعض الدول تقدم الى الأطفال في مدارسهم وجبة حليب يومياً.
- الاسرة والحياة العائلية: يأتي دورها ثانياً بعد المدرسة في التربية الشمولية، لان الاطفال فيها يكتسبون كثيراً من العادات الاخلاقية، ويكتسبون معظم قاموسهم اللغوي. من هنا تأتي اهمية التعاون الحقيقي بين المدرسة والاسرة واطلاع الاهل على المناهج المتبعة.
- الجمعيات الاهلية: من اندية رياضية وجمعيات خيرية او رعوية او كشفية، كلها اذا احسن توجيهها واعدت لها برامج هادفة، تتحول الى رديف للمدرسة في العطلة الصيفية وايام العطل الأسبوعية والاعياد.
- وسائل الاعلام المختلفة: السمعية والبصرية تمد الناشئ بكثير من المفردات والعبارات والأفكار والثقافات عبر البرامج التي تقدمها خصوصاً برامج الأطفال، اننا نهيب بمعدي هذه البرامج ومقدميها ان يعتنوا بلغتهم، فيصقلوها لتصبح صالحة للاكتساب والافادة.
- البناء المدرسي المكتمل المواصفات الصحية والتربوية بالاضافة الى التجهيزات المختلفة كلها ركيزة اساسية من ركائز التربية الشمولية.
لا نستطيع الاسهاب في هذه المواضيع لان هدف المقال الاساسي هو وجوه التربية الشاملة، وقد انجزنا وجهاً يتعلق بشخصية الناشئ وقبل ان ننتقل الى الوجوه الاخرى ، نطرح الاسئلة الاتية منهين بها هذا الجزء من الدراسة تاركين للقارئ ان يجيب عنها، وهي بصيغة الاستفهام الانكاري ... ايمكن ان يفكر تفكيراً سليماً ويستوعب ما يلقى عليه من كان مريضاً؟ ام جائعاً؟ ام حزيناً كئيباً؟ ام خائفاً مذعوراً؟ ام مهاناً بكرامته؟ ام مضطرباً مشوش الفكر؟ ام مجهد العضلات؟ لنعمل على ازالة هذه العوائق كي نجعل الناشئين يفكرون ويدركون ويستوعبون.
من حق القارئ علينا، وخصوصاً المعلم ان يتساءل ويسأل: لماذا هذا الاصرار والتركيز على الشمولية والكلية في العمل التربوي؟ وما الاهداف المرجوة من هذا المنهج؟ يجب ان نعترف بالروابط الوثيقة بين عملية التعليم من جهة، والتربية وعلم النفس العام، والتربوي خاصة من جهة ثانية، ونعترف ان التربية بأوسع معانيها عملية بسيكولوجية نفسية ترمي في جوهرها الى احداث اعمق ما يمكن من التغيير في طبيعة الانسان الاولية.
فالطفل من طريق التربية العامة يحصل على اكبر قسط من المعلومات النافعة، ويكتسب الكثير من المهارات العقلية والنفسية والعاطفية والانفعالية والبدنية العضلية، فالتربية تسعى الى ان يتحكم الطفل بانفعالاته ويهذب عواطفه. وما دامت التربية قادرة على أحداث هذا التغيير في طبيعة الطفل، فمن الواجب ان نبدأ بدراسة هذه الطبيعة، فنتعرف الى عقلية الطفل ورغباته ونفسيته، حتى نستطيع ان نبني عملنا المدرسي ويأتي منسجماً مع هذه النفسية. ونختصر فنقول: ''لا نستطيع ان نعلم الطفل على اكمل وجه الا اذا درسنا نفسيته'' واستناداً الى هذه النفسية والعقلية، تتكشف لنا الطرائق والاساليب الكفيلة بايصال المعلومات اليه بيسر ووضوح.
لقد كان المعلمون يعلّمون الاطفال بالطريقة التركيبية التي تدعو الى الانتقال من الجزء الى الكل أي من الحرف الى الكلمة الى الجملة. وفي اواخر القرن التاسع عشر استطاعت مجموعة من علماء النفس في المانيا عرفت باسم مدرسة ال ''الجشتالت'' ان تثبت ان تفكير الانسان عموماً تفكير شمولي كلي، فالطفل وهو في الشهر السادس من عمره، اذا كان نائماً في سريره ودخلت امه الى غرفته، تراه يرفع يديه نحوها، فتفهم الام انه يريد ان ينهض من السرير، فترفعه وتحمله، بعد قليل يلتفت نحو الباب ويمد يديه، ويرمي بجسمه فتفهم من سياق الحركة انه يريد ان يخرج من الغرفة فتلبي رغبته وتخرجه. فالاشارات المعبرة هي لغة في علم النفس. وعندما يبدأ بالكلام تكفي كلمة واحدة منه كأن يقول: ''نني'' او نبو'' او ''ماما'' هذه الكلمات كافية كي تعبر عن جمل في فكر الطفل تدل على انه جائع ويريد ان يأكل او انه يريد ان يشرب او يريد امه. كما انه يتلفظ بكلمة ''ماما او بابا'' قبل ان يعرف احرفها، فهو ينتقل بذلك من الكل الى الجزء وهذا مثل آخر: ترى انساناً قادماً من بعيد فتعرف انه انسان، وليس أي شيء آخر، تتقدم نحوه فتعرف انه رجل وليس امرأة، تتقدم قليلاً فيتبين لك انه طويل وليس قصيراً، ثم تكتشف لون بشرته ولون شعره وملامح وجهه، يتكلم امامك فتكتشف من لجهته مكان قدومه، تتحادثان فتعرف من خلال حديثه وجهة رحيله الخ...، كل ما قمت به كان تحليلاً لشخصية هذا الرجل وبذلك تنتقل من الكل الى الجزء، ثم تستجمع هذه الاجزاء، في عملية تركيبية، لتستنتج وتقول هذا الرجل اسمه كذا فتصفه وصفاً خارجياً وهو قادم من مكان كذا وذاهب الى مكان كذا الخ...
يجب ان نؤكد ان الجزء لا يدرك الا عبر الكل، وان الكل لا يستوعب جيداً الا اذا ادرك الجزء، فغصن الشجرة لا يدرك الا اذا كان معلقاً بأمه ومن خلالها، وان الشجرة لا تدرك الا اذا ادركت اجزاءها، اغصانها واوراقها واثمارها وجذعها وجذورها. بعد هذه الدراسات النفسية التي اجرتها جماعة الـ ''الجشتالت'' نشأت نظرية: الكلية والاجمالية والشمولية، وظهرت الطريقة الاجمالية في تعليم الأطفال الحرف والقراءة.
ومن مظاهر التفكير الكلي او الشمولي عند الطفل، التعميم في تسمية الأشخاص والحيوانات والأشياء التي تحيط به، فيطلق كلمة ''عمو'' قاصداً جميع الرجال الذين يراهم، ويطلق''كاكا'' على الدجاجة والبطة والاوزة والديك، ويطلق صوت الخروف ''ماع'' على جميع الحيوانات التي يراها حول منزله. يفترض هنا ان ندفع الطفل نحو التخصيص، وذلك باظهار اوجه التشابه، واوجه التضاد بين العنصرين او العناصر التي يلتبس عليه امرها، ويساوي بينها على انها واحد، وكأننا بذلك عدنا الى التجزئة التي رأيناها سابقاً في عناصر الشخصية البشرية، وسنراها لاحقاً في الكفايات المعرفية، ونثبت ذلك استناداً الى فقرة وردت في المنهجية التربوية الشمولية(٣) الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والانماء ومنظمة الامم المتحدة للطفولة ''يونيسف'' جاء فيها:
''يتمحور التعلم الشمولي حول الإنسان ووعيه أهمية الكوكب الذي يعيش عليه، ووعيه قضاياه. فهو يرتكز على المبدأ القائل بأن وعي الإنسان لذاته واستكشاف قدراته يمران عبر وعيه العالم وتفاعله معه. فتفّهم المتعلم مشاكل العالم وقضاياه بصورة شاملة، يمكّنه من الوصول الى فهم عميق للذات، وفهم الذات هذا يساعد على فهم قضايا العالم بصورة اشمل واوسع، لان الرحلة الخارجية نحو العالم، هي ايضاً رحلة داخلية الى الذات كما ان العكس صحيح في هذا المجال''.


هوامش:
١- سورة المائدة
٢- سورة الروم
٣- المنهجية التربوية الشمولية (منظمة الامم المتحدة للطفولة - يونيسف) لبنان ١٩٩٧

 

من اعمال الفنان صليبا الدويهي