نحو مقاربة منهجية لمفهوم "اللغة الوظيفية" وطرائق تقييمها في نظام الكفايات

د. عصام قازان مسؤول التدريب للغة العربية في مركز الموارد - دار المعلمين والمعلمات - جونيه

نحو مقاربة منهجية لمفهوم ''اللغة الوظيفية''
د. عصام قازان وطرائق تقييمها في نظام الكفايات

 

 

١- المنطلقات المنهجية
ان النص هو الخطاب اللغوي المثبت في الكتابة. فالكاتب هو الذي يشير الى ذاته قائلاً : ''انا''(١). ومن هذا المنطلق الأساسي للعملية الكتابية، لا يعدو فعل ''الكتابة'' أن يكون نشاطاً انسانياً متمركزاً حول الذات مهما غالى الكاتب بموضوعيته وبتجرده، فهو لن يخرق إطار تجربته الخاصة، كما يؤكد ''جورج مونان''، لكن هذه ''الانا'' بالرغم من فرديتها، تغدو مثالاً مصغراً عن ال ''نحن''. وهنا يتجلى الشرط الإنساني للكتابة وتجذرها في صميم الثقافة كمجسد لنشاط ''التفكير'' عبر أداة ''التعبير''، وصولاً إلى تحقيق الوظيفة المركزية للغة وهي ''التواصل''. ذلك ان ما يطغى اليوم في علوم اللغة أي علم الألسنية او اللسانيات (اللغة = لسان = Langue) هو العلاقة بين نص - قارئ، بعد ان تركّزت لحقبة طويلة في النقد التقليدي على العلاقة بين كاتب - نص، حتى بات يمكننا القول الآن باختصار إن الثقافة تعني ''تواصل''(٢). واكثر من ذلك، فلقد أعلن البنيويون ''موت'' الكاتب و''حياة'' النص من خلال وجود القارئ المتفاعل معه، ككاتب ثانٍ مكمل له، وذلك ان النص يقدم بديلاً عن الحياة المتخيلة بل هو اكثر بنائية من الحياة نفسها(٣)، مع أنه يمتلك في هيكلية بنيته فجوات وثغرات ناشئة اصلاً عن محدودية اللغة على تمثيل حقول الحياة اللامتناهية. وهي ما سيملأه القارئ عند قراءته النصّ.
وهنا يتوضح ابداع الناقد-القارئ كمزامل للكاتب-المبدع. ''النقد اصبح نصاً ابداعياً(٤). ولو ان التفكيكيين، جاؤوا ونعوا ''موت'' النص نفسه، على اساس ان القارئ يكتب نصه الخصوصي وفقاً لخبرته وثقافته وتوقعاته فقالوا ''كل قراءة اساءة لقراءة''، فإننا نتخذ كمبدأ لدراستنا الالسنية- السيميائية للنص موقفاً وسطاً بين تلك النظريات المتطرفة.

كما يظهر في صورة هذا المثلث

 

 

 

 

 

 

 


يُتخذ النص أساساً للدراسة، ككائن لغوي - ثقافي لا يمكن قطعه عن إطار بيئته وشروطها الزمانية- المكانية اذ هي بمنزلة ''المورّثِات'' المنقولة الى نسيجه الحيوي. أليس الأدب كأي فعالية إنسانية اصلاً ابن بيئته، او ليس الأديب هو ''الوالد'' الذي يكتمل ''بوليده'' ناقلاً اليه طوابع شخصيته؟ وهذا ما يرتسم في هذا المثلث الثاني حيث يتزاوج الأديب باللغة في صميم المعاناة الحياتية(٥).
 

 

 

 

 

 

 

كما لا يمكن، في المقابل، الغاء ''القارئ''، والخضوع ''لحتمية'' النص واغلاق منافذه على الخارج، كما ينادي ارباب البنيوية اللغوية الصرفة واعتباره مرجعاً معلقاً في الهواء(٦) ككوكب. فإذا كان ذلك، فاين مصادر الجاذبية التي لا ينفلت النص من مدارها؟ فإذا قلنا اننا نعتمد ''الالسنية'' فذلك لانها دراسة علمية للغات البشرية وتبيان وظيفتها في الحياة، وهي تتميز عن البنيوية بأن الاخيرة هي مدرسة نقدية من مدارس الالسنية او هي منهج من مناهج مقاربة النص تقوم على عزل النصّ عن ذات الكاتب وذات القارئ في آنٍ، فتتجنب الوصف بالجودة او الرداءة وانما ابراز كيفية تركيبه ومواصفات بنيته، فتبدأ بالنص وتنتهي به، وكأن هذا العمل الادبي يُتخذ كالاسطورة أي من دون مؤلف، من اجل عدم الوقوع في الاحكام التقييمية والاكتفاء بالاسباب الوصفية او التقريرية وبكلمة واحدة: ''ان نتحدث عن النص من داخل النص''(٧).عند هذا المستوى، لا احد يرفض هذه المنطلقات بحسب مفهوم البنيان الوظيفي، كما دعا اليه احد البنيويين (اندره مارتينيه)، مركزاً على البعد الوظيفي الاستخدامي للرموز اللغوية(٨). ذلك ان اللغة هي نسق او نظام او بنية من الرموز الاعتباطية او العرفية التي اصطلح الناس على استخدامها في انشطتهم التداولية، بالارتكاز على العلامات وهي ادوات دالّة على مدلولات أي مسمّيَات. ولكن الشيء المثير الذي روجت له هذه الدراسات النقدية الحديثة هو وحدة الدّال والمدلول المتحدَين في كيان اللفظة كوجهي عملة واحدة، التي تؤخذ كذات او جوهر رمزي يتجسد بالنطق وبالكتابة على السواء. وهذا البناء الرموزي ''المرصوص'' هو الشيء الجديد الذي اتت به الالسنية وهو ما تُحمد عليه لانه شكل نقلة نوعية في ''مقاربة'' النص مقاربة موضوعية منهجية الغت الفعل المصطنع والمغلوط بين المعنى والمبنى لئلا تتحول ''المقاربة'' الى ''مفارقة'' كمن يحاول الفصل بين الجسد والروح او بين الغيمة والمطر، او بين اضواء الطيف الشمسي ... ذلك ان هناك حقيقتين في ''النص'': حقيقة ''معرفية'' هي المحتوى او (هي ''المعنى'' عن العالم الذي تقدمه القصيدة باللغة)، وحقيقة اخرى هي الحقيقة التركيبية كما تشكل في البنية (او هي ''المعنى'' الذي تقدمه القصيدة عن اللغة باللغة). وهذا ما تصحّ تسميته بشكل المعنى(٩)، وهو السياق المركب الذي تجري فيه المُتتالية اللفظية، بكل عناصرها، فما اعتيد على تسميته اسلوباً هو جزء من اجزاء الجوهر عينه، حتى اننا نستطيع القول: ان المضمون والشكل لهما نفس الطبيعة، لان المضمون يكتسب واقعه من البنية. وما يسمى ''بالشكل'' ليس سوى تشكيل هذه البنية من ابنية اخرى تشكل فكرة المضمون نفسها. فنقول المضمون والشكل هما هيكل النص ونسيجه، دمًا وعظماً وعصباً وحياةً، ولذلك اصبح مطلوباً التدرج افقياً وعمودياً في الغوص على
طبقات النص، فلا تعود اللغة اداة لنقل الفكرة، وانما هي عنصر جوهري في تشكيل المعنى ذي الدلالة المركبة من مستويات عدة، لكل منها نصيبه من الدلالة المتماوجة والمتداخلة كالالوان المتناغمة في اللوحة.
وتسمى هذه المستويات مجتمعةً باسم الطيف اللغوي، فيصبح المعنى مشققاً كما توضحه هذه الصورة(١٠).

 

 

 

 


 

 

 

وهذه ''الجديلة'' في النص الكتابي، كما سماها رولان بارت، تحدد شرطين اساسيين في مقاربة النص، حيث لكل شيء فيه ''مكان'' و ''معنى'' (١١)، من دون أي زوائد، تماماً كالآلة الباردة التي لا تعرف العاطفة. فالقصيدة آلة صغيرة مصنوعة من الكلمات حيث لكل جزء السنيّ
منها، مهما كان صغيراً، وجوده الفعال طالما أن له وظيفة، كعلامات الوقف او الاعراب او العنوان او أي اختلاف مهما كان بسيطاً بين العناصر المكونة للنص او وحداته عملاً بمبدأ الثنائية (الائتلاف- الاختلاف) الذي يبرر المماثلة والتنوع بين ما يوجد داخل فضاء النص او طبقاته، وما يوجد في ذهن القارئ من احتمالات تأويل واجتهادات يتحدد من خلالها انجذاب هذا القارئ الى ما يقرأ او نفوره منه: محاكاة، تخطياً، او ابداعاً ذاتياً. وهذا ما يسمى ''معاهدة القراءة''.
ونبدأ بعملية ''تفسير النص'' بإضاءة تحدد موقعه ضمن الاثر الادبي الكامل للمؤلف، أي ان ننطلق مما يحيط بجسد النص المدون على الورقة. فاذا دخلنا الى ''فضاء'' النص يمكننا بحركة ارتدادية وعند الضرورة الاستضاءة بما في الخارج لانارة بعض الزوايا المظلمة في البناء النصي وليس العكس. بذلك نستبعد الاسقاطات المسبقة والجاهزة. ولكن يجب ان نضع نصب اعيننا ثلاث وظائف اساسية تقوم عليها عملية ''التواصل'' الاساسية التي اندمجت بفعل ''الجمال'' حتى باتت ''جمالية التلقي'' تشكل ثورة في الدراسات الادبية، من حيث اقتران وظيفة الاتصال اللغوي الى عقل القارئ بأسلوب فني جميل(١٢) ذلك ان لكل نص هدفاً اتصالياً يجعله يحمل مرسلة معينة ذات مضمون معين ينتقل من المرسل الى المرسل اليه (١٣).
ولذلك، فقد أصبحت ''التواصلية'' هي اساس الثورة في الألسنية الحديثة، حتى عندما يفكر الإنسان، فإنه يتواصل مع ذاته متظاهراً بأنه اثنان، فكيف اذاً كانت ''الدلائلية'' المعاصرة تقوم على قانون ''الاقتصاد اللغوي''، ''اقتصادية النص'' وفقاً لضرورة ابلاغ الكاتب مقصده بأفضل نموذج لغوي شكلي موظف في خدمة المعنى، وبالأكثر في عصر السرعة والمعلوماتية، حيث للنص غائية اساسية بات يطلق عليها من باب أوسع ''الوظيفة التداولية''. وهنا يتجلى مفهوم ''الكتابة اللغوية'' كنشاط سلوكي في الحياة باستخدام اللغة أداة فهم وإفهام، كنتاج للمجتمع ومحوّل له في آن واحد. وطالما كان ''الاقناع'' مطلباً اساسياً في اللغة التداولية او النفعية(١٤)، لذا اضحت الكفاية الاقناعية او الجدلية، هي السمة البارزة في شخصية الانسان الذي لا يعدو كونه كائناً بلاغياً يعتمد القيم والبناء الترتيبي في كلامه مع الآخرين لأن الخطاب اللغوي أساساً هو فعل وانفعال وعملية اتصال وتواصل( ١٥)، ومن هنا يبرز المعنى المستحدث لمفهوم ''اللغة الوظيفية''.

 

٢- الغايات المتوقعة:
ينطلق تدريس اللغة من اتخاذ ''النص'' وحدة استثمارية، تندرج في نطاقها مختلف العناصر اللغوية المطلوب تدريسها وفقا للرسم البياني الآتي:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وبذلك تتحقق الاهداف المنتظرة من تدريس اللغة، والتي تشكل مقدمة لنظام التقييم الذاتي لدى المتعلم، وذلك عبر عمليات مستمرة ومتواصلة، وعلى صعيدي ''التواصل'' الشفوي والكتابي إذ إن المهارات اللغوية المطلوبة، لا تتم ولا تكتمل بين فصل دراسي وآخر، ولا حتى بين عام دراسي وآخر، إذ إن هذه المهارات تقوم على التدريب والتدرب والتقنيات المدروسة ، ونحن سنورد هذه الاهداف من دون ترتيب او تبويب على الشكل التالي(١٦)، وهي متركزة على المتعلم:
- التدرب على تحليل النصوص الكتابية.
- التدرب على تحليل الوثائق السمعية - المرئية.
- التدرب على البحث عن ''افكار'' النص، ايجاد افكار وتقديمها.
- التعلم على التأمل والتفكير.
- التدريب على القراءة السليمة والكتابة السليمة.
- الحث على ''خلق'' اعمال شخصية (قصائد، قصص ...)
- التعلم على تذوق جمال الاثر.
- التعلم على تكوين رأي شخصي ابعد من فكرة مطروحة.
- التعلم على تبادل الآراء وتغييرها اذا لزم، او تأكيدها، والعمل على تعديل آراء الآخرين بالمناقشة والمناظرة والمحاضرة.
- التأمل بقضايا الحياة الكبرى كالحب والعمل والموت والدين والسياسة والفن ...
- التأمل بمسائل الحياة المعاصرة (الذرة، البيئة، الاقتصاد، المعلوماتية ...)
- السعي الى تكوين معنى للحياة.
- المشاركة بفاعلية في تفتح الشخصية ونموها على الصعيد الشخصي (بالمشاركة مع المعلم).
- المشاركة بفعالية في توجيه الحياة في قنوات النشاطات اليومية.
- القدرة على تدبر امره الذاتي بصورة ايجابية.
- الاستعداد الفعال لامتحانات التقييم والاختبارات.
- تأمين ترقية مهنية واجتماعية.
- الجرأة في التكلم عن الذات ومشاكلها والتعبير عن الانفعالات.
- التعلم على التصرف باستقامة ودقة في التعامل مع ''النص'' او مع ''الاحداث''.
- التعلم على ان يكون موضوعياً، حذراً من الاحكام المسبقة والاسقاطات الخارجة عن صلب الموضوع.
- تنمية روح النقد والتحليل لديه.
- تنمية قدرته على التحليل والتركيب في العمليات الفكرية...


يتبين من ذلك الجدول المتنوع والكامل بالأهداف المنتظرة من عملية التعلم، والتي تكون ''اللغة'' في صميم شخصية الإنسان، بوصفها اكثر من اداة تواصل او فهم وإفهام، لتكون النسيج الأساسي في صياغة هذه الشخصية وتأهيلها للاندماج في عملية الحياة ذاتها، على أساس انها الشرط الجوهري للقيام بالتفكير والتعبير والتواصل في آن واحد، وبذلك تكون اللغة مؤسسة ثقافية كبرى تضم في هيكليتها العنصر البشري بالدرجة الأولى، والذي يتمتع بما يسمى السمات الخمس الكبرى (Big 5) للشخصية الإنسانية، وهي لا يمكن أن تظهر خارج إطار ''المنظومة اللغوية'':


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فإذا نظرنا الى الجدول اعلاه، نستطيع ان نستشف منه أن تلك الاهداف إذا تحققت، ومن خلال اكتساب المهارة اللغوية اللازمة، تسهم في ابراز كينونة الانسان، وشخصيته المستقلة، على اساس استخدامه ''للتراث اللغوي'' الذي يتميز به ''الكائن العاقل'' الذي هو الانسان، كما يقول أحد علماء النفس ''ان كل اوجه الشخصية الانسانية، سواء كانت مهمة ام مثيرة للاهتمام، ام نافعة ام كانت كذلك في السابق، وجدت لنفسها منذ زمن صدىً في صلب اللغة'' (١٧).
وهكذا من خلال هذا المنظور العام والجوهري تولدت مفاهيم ''الكفاية'' اللغوية التي تقوم على مبدأ اساسي هو توظيف اللغة، كنشاط السني، قولاً وكتابةً، في وجود الانسان لاثبات ذاته، حيث إن ''الكفاية التعليمية'' تشير إلى وجود ما يكفي من عناصر ومكونات ونشاطات تعلمية متدامجة في ما بينها(١٨) لتأدية ثلاثة أنواع من ''الأهداف المركبة'' لعملية التعلم اللغوي والتي تترجم في سياق محدد بصورة قابلة للقياس العلمي(١٩). وهذه الأهداف هي:
أ- المعارف النظرية وهي تتم بالفهم والاكتساب للقدرات اللغوية وغيرها من قبل التلميذ سواء بالاستيعاب أو الاختبار(مثلاً اكتساب قواعد تحويل الصرف والتركيب).
ب- المهارات العملية وهي تتم باستخدام مهارات القول والكتابة لتحويل المعرفة النظرية إلى مهارة تطبيقية مثلا: تحويل تلك المعارف النظرية في القواعد والنحو والصرف والاشتقاق أو الصور البلاغية إلى مقومات أساسية في عملية التحليل النصي أو التعبير الإنشائي أو التشكيل الأسلوبي، وذلك داخل المدرسة الحديثة التي يجب أن تقدم بديلاً مصغرا عن البيئة الخارجية من خلال التقييم التكويني المستمرّ الذي يقدم نماذج جاهزة للمحاكاة.
ج- المواقف السلوكية او الانفعالية، بحسب الموقف المستجدّ حيث المتعلم الذي طبّق، حَلّل، رَكّب، قارن، فضلاً عما يسمى السلوكات الصغيرة: تلقى، ناقش، حاجّ، يجد نفسه فيه، فيتكيف معه على مستوى الاختراع، وذلك باستخدام ما اكتسبه وما تدرب عليه حتى حدود المهارة التقنية، كأن يكتب مثلاً رسالة اخوانية او ادارية، او يقدم بطاقة مهنية او يدخل في نقاش. ولا يكون التقييم الختامي او التقريري هنا سوى اجازة او جواز مرور يشهدان بما اصبح المتعلم كفياً له على صعيد الكفايات التعلمية اللغوية، وهذا ما يسهم في النهاية في اعطاء بعض السمات لشخصية المتعلم، ولكن شرط عدم الخلط بين الطوابع النفسية التي لا تنتج مباشرة في عملية التعلم والاجراءات التنفيذية. فالكفاية والمهارة لا يمكن ان تقاسا مباشرة، اذ كيف نقيس مقدار ما يعرف من معلومات (Le savoir)؟ وكيف نقيس درجة إتقان عمله او تطبيقيه (Le savoir-faire) خارج دائرة العمل التطبيقي؟ ذلك أن ما سبق لا يتم ملاحظته او قياسه الا من خلال الاداء الذي يتجلى في سلوكيات أو عمليات إجرائية دقيقة، فعلى سبيل المثال:

١- بعد انشطة مختلفة في الصف في عملية القراءة، عليّ كمعلم ان أقيّم المعارف والمهارات لتلامذتي في ما يخص الفهم المجمل او الكلي للنص المكتوب. فأوزع شبكة تقييم ذاتي عليهم، مع توجيه بان يضعوا علامة × مقابل المعلومة المذكورة اذا كانت خطأ في عمود ''الخطا'' وذا كانت صحيحة في عمود ''الصحيح''، واذا لم تكن واردة في النص في عمود ''لا نستطيع القول''.
وهكذا فان علامة × تشكل ظاهرة قابلة للملاحظة، سواء اكانت في موقعها الصحيح ام لا، المهم انني استطيع قياس تحصيل المتعلم قياساً ملحوظاً.
٢- في نهاية حصص تعلمية معلومة وبعد تنفيذ عدد من هذه الانشطة المماثلة في الصف فان المتعلم سيقدر، وفي وقت محدد، ومن دون الاستعانة بأي مستندات، القيام بتوجيه بطاقة بريدية لصديقه يراعي فيها النقاط الآتية:
- عدم نسيان المقدمة او الديباجة المعهودة، مع التحيات الختامية.
- ايراد جملة للاطمئنان على الصحة (بالتتالي: المرسل والمرسل اليه).
- ايراد جملة عن احوال الطقس.
- ايراد جملة عما قاما به في الامسية السابقة.
- ايراد جملة عما سيقومان به في الغد.
هذا النوع من التقييم الاجرائي يلتحم عضوياً بعملية التعلم التي تتمكن فيها أهداف عملانية ذات دلالة خاصة، سواء في المرحلة الثانية من التقييم (التكويني) او المرحلة الثالثة (الختامي).
وتبقى المرحلة الاولى وهي التقييم التشخيصي الذي يتم في بداية عملية التعلم من قبل المعلم الذي يحدد وضعية المتعلم بالنسبة الى الكفاية التي يزمع التمرن عليها، كالطبيب الذي يحدد مكمن الداء (داء الجهل) قبل المباشرة بالعلاج.
اما ما يسمى محكات التقييم
(Critères d'évaluation)، فهي الاسس او المقاييس المدروسة التي على اساسها يبنى ميزان العلامات. فلنأخذ كفاية ''القراءة الجهيرة'' وهي المدخل الصحيح الى فهم النص وتحليله، ولا سيما انها تمتلك صفات عدة: الاقناع، القراءة بذكاء، الإحساس بالمقروء، الايحاء بالمعنى بطريقة او بأخرى. وهذه المحكات النوعية تتألف من تضافر مبينات عدة تتجسد تطبيقاً بالاسئلة والاختبارات المطروحة. وغالباً ما يجري دمج مفهوم ''المبينات'' (Indicateurs) في مفهوم ''المحكّات'' تسريعاً، حتى بتنا نستخدم  مصطلح ''عناصر'' الكفاية للتدليل عليها تسريعاً لعمل التقييم. فمثلاً : ان محك صحة ''الكتابة'' في ''كفاية كتابة رسالة'' يتضمن مبيّنِين أساسيين هما: مراعاة قواعد النحو والصرف، ومراعاة قواعد وحسن الترتيب ومراعاة نظام الفقر وسلامة استخدام علامة الوقف. ويقام ميزان العلامات على توزيع العلامة بصورة ملائمة على تلك العناصر.
ففي مادة القراءة، مثلا، يمكننا تعداد ''مبينات'' كفاية القراءة أو عناصرها الأساسية والتي تعتمد في عملية قياس التقييم، ولاسيما في مرحلة التعليم الاساسي، وذلك على الشكل الآتي:
- اللفظ الصحيح للأصوات في إطار ترابطها الصحيح داخل الكلمات.
- احترام السرعة المناسبة لاستيعاب السامع.
- رفع الصوت إلى درجة كافية.
- مراعاة التوقف عند علامات الوقف.
- التلفظ بجميع كلمات النص.
- مراعاة النغم والإيقاع المرافق للمعنى.
- تغيير النبرة والنغم.
- النظر الى المستمع من وقت الى آخر.
- استكمال القراءة عند قلب الورقة.
- استخدام نغم معَّين بحسب كل شخص يتوجه إليه الكلام.
- استخدام الصوت لإبراز بنية النص.
يمكننا التمييز بين نوعين أساسيين من التقييم: التقييم التكويني، وفي خلاله تطرح اسئلة وموضوعات منفصلة ومتشعبة بعد اتمام الوحدات الدراسية (محاور او فصول): كالقواعد المعيارية والوظيفية، البلاغة النظرية وتطبيقاتها، والمحسنات البديعة ودلالتها، الايقاع، علم العروض الشعري وانسجامه مع الحالة الشعورية، دلالات الالفاظ والعبارات ... اما في التقييم الختامي القائم على نظام الكفايات، فلا يجوز تصنيف هذه الاسئلة بحسب فئات تقليدية كالمعاني والدلالات، في القواعد والبلاغة والعروض، من وحي النص ... وذلك لان الاسئلة المطروحة هي لقياس الكفايات اللغوية المكتسبة والتي تتكون من كفايات اساسية او مجموعة عناصر منها، بحسب الفئات التقليدية، وكانت تقوم اساساً على نظام التقييم بحسب محتوى المنهج لا نظام الكفايات المعتمد حالياً. فعلى سبيل المثال، فان كفاية فهم النص تجمع في حقلها: المعنى مع الصياغة التركيبية للجملة مع توظيف القواعد او الصورة المجازية او مواصفات النمط ... وهكذا دواليك.
وختاما، وكما تبين لنا، فان هناك نظرية عامة وعميقة تتحكم بمنهجيتها الصارمة ورؤيتها الاستراتيجية الى وظيفة اللغة في الحياة (في عملية التقييم للكفاية اللغوية)، انطلاقاً من استثمار موجودات النص بمستوياته المختلفة، وصولاً الى معالجة هذه النتائج في عملية تقييم مكتسبات المتعلم، ولا سيما، اذا كانت هذه العملية دائمة ومستمرة وهدفها مزدوج: تقييم المتعلم لذاته وهو الهدف الأهم، والتقييم الذاتي المشترك بين المتعلم والمعلم لتحديد الأرصدة التي اكتسبها الأول بهدف تصويب المسار واعادة المحاولة باتباع خطة موضوعية يبرز فيها القصد - القياس - الحكم - القرار(٢٠).

الهوامش:

١- بول ريكور، ''ما هو النص'' ، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد ١٢ ، خريف ١٩٩٠ ترجمة عبد لله عازار، ص.ص. ٦٦-٧٠

٢- كريستيان فابر بول وبايلون ، مدخل الى الألسنية ، المركز الثقافي العربي، ببيروت ط١ ،  ١٩٩٢، ترجمة طلال وهبه ، ص . ٣٥

٣- عبد العزيز حموده، المرايا المحدبة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد ٢٣٢، نيسان ١٩٩٨ ، ص ٣٣٢
٤- مصطفى ناصيف، اللغة والتفسير والتواصل، سلسلة عالم المعرفة، عدد ١٩٣، كانون الثاني ١٩٩٥
٥- مصطفى ناصيف، اللغة والتفسير والتواصل، سلسلة عالم المعرفة، عدد ١٩٣ ، كانون الثاني ١٩٩٥
٦- بول ريكور، النص والتأويل ، مجلة العرب والفكر العالمي، عدد ٣، ترجمة منصف عبد الحق، ص. ٣٩
٧- محمد خير البقاعي، تلقي رولان بارت في الخطاب العربي ...، مجلة عالم الفكر، المجلد ٢٧ ، العدد ١، يوليو ١٩٩٨ ، ص. ٢٥
٨- انطوان صياح، دراسات في اللغة العربية الفصحى وطرائق تعليمها، دار الفكر اللبناني، ط ١، ١٩٩٥ ، ص. ٢٩٤

٩- K. Jakobson, essais de linguistique générale, collection points, Editions de Minuit, 1962, p. 221
١٠ - د. تمام حسان، اللغة بين المعيارية والوصفية، دار الثقافة، الرباط (المغرب)، ١٩٨٠ ، ص. ١١٨
١١- Sylvie Rosé, l'explication de textes à l oral, collection synthèse, Paris, p.6
١٢- د. محمد خير البقاعي ، مرجع سابق ، ص. ٢٥-٢٦
١٣- K. Jakobson, essais de linguistique generale, collection points, Paris p.214
١٤ - د. محمد سالم الامين، مفهوم الحجاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد ٢٨، العدد ٣، يناير/مارس ٢٠٠٠، ص.ص : ٥٣-٩٧
١٥- فاطمة الطبّال بركة، النظرية الألسنية عند رومان ياكوبسون، المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر، بيروت، ط ١، ١٩٩٣، ص. ٦٥-٦٧.
١٦- André de perechi - Encyclopedie de l'évaluation en formation et en éducation ESF, Editeurs p. 199-200, Guide pratique, 1998
١٧ - يوخن باولوس، ''الاسس الحقيقة للشخصية''، ترجمة محمد المهذبي، مجلة الثقافة العالمية، عدد ١٠٥ ، السنة ٢٠ ، مارس - ابريل ٢٠٠١ ، ص.ص. ١٢١-١٣١
١٨- Christine Tagliante, l'évaluation, Clé-Paris, 1991 p.124
١٩- Le petit dictionnaire de la formation - ESF Editeurs, Paris, 1996 p. 54
٢٠- Denise Lussiers, Evaluer les apprentissages, Paris , Hachette, 1992, p.24

 

نحو مقاربة منهجية لمفهوم "اللغة الوظيفية" وطرائق تقييمها في نظام الكفايات

د. عصام قازان مسؤول التدريب للغة العربية في مركز الموارد - دار المعلمين والمعلمات - جونيه

نحو مقاربة منهجية لمفهوم ''اللغة الوظيفية''
د. عصام قازان وطرائق تقييمها في نظام الكفايات

 

 

١- المنطلقات المنهجية
ان النص هو الخطاب اللغوي المثبت في الكتابة. فالكاتب هو الذي يشير الى ذاته قائلاً : ''انا''(١). ومن هذا المنطلق الأساسي للعملية الكتابية، لا يعدو فعل ''الكتابة'' أن يكون نشاطاً انسانياً متمركزاً حول الذات مهما غالى الكاتب بموضوعيته وبتجرده، فهو لن يخرق إطار تجربته الخاصة، كما يؤكد ''جورج مونان''، لكن هذه ''الانا'' بالرغم من فرديتها، تغدو مثالاً مصغراً عن ال ''نحن''. وهنا يتجلى الشرط الإنساني للكتابة وتجذرها في صميم الثقافة كمجسد لنشاط ''التفكير'' عبر أداة ''التعبير''، وصولاً إلى تحقيق الوظيفة المركزية للغة وهي ''التواصل''. ذلك ان ما يطغى اليوم في علوم اللغة أي علم الألسنية او اللسانيات (اللغة = لسان = Langue) هو العلاقة بين نص - قارئ، بعد ان تركّزت لحقبة طويلة في النقد التقليدي على العلاقة بين كاتب - نص، حتى بات يمكننا القول الآن باختصار إن الثقافة تعني ''تواصل''(٢). واكثر من ذلك، فلقد أعلن البنيويون ''موت'' الكاتب و''حياة'' النص من خلال وجود القارئ المتفاعل معه، ككاتب ثانٍ مكمل له، وذلك ان النص يقدم بديلاً عن الحياة المتخيلة بل هو اكثر بنائية من الحياة نفسها(٣)، مع أنه يمتلك في هيكلية بنيته فجوات وثغرات ناشئة اصلاً عن محدودية اللغة على تمثيل حقول الحياة اللامتناهية. وهي ما سيملأه القارئ عند قراءته النصّ.
وهنا يتوضح ابداع الناقد-القارئ كمزامل للكاتب-المبدع. ''النقد اصبح نصاً ابداعياً(٤). ولو ان التفكيكيين، جاؤوا ونعوا ''موت'' النص نفسه، على اساس ان القارئ يكتب نصه الخصوصي وفقاً لخبرته وثقافته وتوقعاته فقالوا ''كل قراءة اساءة لقراءة''، فإننا نتخذ كمبدأ لدراستنا الالسنية- السيميائية للنص موقفاً وسطاً بين تلك النظريات المتطرفة.

كما يظهر في صورة هذا المثلث

 

 

 

 

 

 

 


يُتخذ النص أساساً للدراسة، ككائن لغوي - ثقافي لا يمكن قطعه عن إطار بيئته وشروطها الزمانية- المكانية اذ هي بمنزلة ''المورّثِات'' المنقولة الى نسيجه الحيوي. أليس الأدب كأي فعالية إنسانية اصلاً ابن بيئته، او ليس الأديب هو ''الوالد'' الذي يكتمل ''بوليده'' ناقلاً اليه طوابع شخصيته؟ وهذا ما يرتسم في هذا المثلث الثاني حيث يتزاوج الأديب باللغة في صميم المعاناة الحياتية(٥).
 

 

 

 

 

 

 

كما لا يمكن، في المقابل، الغاء ''القارئ''، والخضوع ''لحتمية'' النص واغلاق منافذه على الخارج، كما ينادي ارباب البنيوية اللغوية الصرفة واعتباره مرجعاً معلقاً في الهواء(٦) ككوكب. فإذا كان ذلك، فاين مصادر الجاذبية التي لا ينفلت النص من مدارها؟ فإذا قلنا اننا نعتمد ''الالسنية'' فذلك لانها دراسة علمية للغات البشرية وتبيان وظيفتها في الحياة، وهي تتميز عن البنيوية بأن الاخيرة هي مدرسة نقدية من مدارس الالسنية او هي منهج من مناهج مقاربة النص تقوم على عزل النصّ عن ذات الكاتب وذات القارئ في آنٍ، فتتجنب الوصف بالجودة او الرداءة وانما ابراز كيفية تركيبه ومواصفات بنيته، فتبدأ بالنص وتنتهي به، وكأن هذا العمل الادبي يُتخذ كالاسطورة أي من دون مؤلف، من اجل عدم الوقوع في الاحكام التقييمية والاكتفاء بالاسباب الوصفية او التقريرية وبكلمة واحدة: ''ان نتحدث عن النص من داخل النص''(٧).عند هذا المستوى، لا احد يرفض هذه المنطلقات بحسب مفهوم البنيان الوظيفي، كما دعا اليه احد البنيويين (اندره مارتينيه)، مركزاً على البعد الوظيفي الاستخدامي للرموز اللغوية(٨). ذلك ان اللغة هي نسق او نظام او بنية من الرموز الاعتباطية او العرفية التي اصطلح الناس على استخدامها في انشطتهم التداولية، بالارتكاز على العلامات وهي ادوات دالّة على مدلولات أي مسمّيَات. ولكن الشيء المثير الذي روجت له هذه الدراسات النقدية الحديثة هو وحدة الدّال والمدلول المتحدَين في كيان اللفظة كوجهي عملة واحدة، التي تؤخذ كذات او جوهر رمزي يتجسد بالنطق وبالكتابة على السواء. وهذا البناء الرموزي ''المرصوص'' هو الشيء الجديد الذي اتت به الالسنية وهو ما تُحمد عليه لانه شكل نقلة نوعية في ''مقاربة'' النص مقاربة موضوعية منهجية الغت الفعل المصطنع والمغلوط بين المعنى والمبنى لئلا تتحول ''المقاربة'' الى ''مفارقة'' كمن يحاول الفصل بين الجسد والروح او بين الغيمة والمطر، او بين اضواء الطيف الشمسي ... ذلك ان هناك حقيقتين في ''النص'': حقيقة ''معرفية'' هي المحتوى او (هي ''المعنى'' عن العالم الذي تقدمه القصيدة باللغة)، وحقيقة اخرى هي الحقيقة التركيبية كما تشكل في البنية (او هي ''المعنى'' الذي تقدمه القصيدة عن اللغة باللغة). وهذا ما تصحّ تسميته بشكل المعنى(٩)، وهو السياق المركب الذي تجري فيه المُتتالية اللفظية، بكل عناصرها، فما اعتيد على تسميته اسلوباً هو جزء من اجزاء الجوهر عينه، حتى اننا نستطيع القول: ان المضمون والشكل لهما نفس الطبيعة، لان المضمون يكتسب واقعه من البنية. وما يسمى ''بالشكل'' ليس سوى تشكيل هذه البنية من ابنية اخرى تشكل فكرة المضمون نفسها. فنقول المضمون والشكل هما هيكل النص ونسيجه، دمًا وعظماً وعصباً وحياةً، ولذلك اصبح مطلوباً التدرج افقياً وعمودياً في الغوص على
طبقات النص، فلا تعود اللغة اداة لنقل الفكرة، وانما هي عنصر جوهري في تشكيل المعنى ذي الدلالة المركبة من مستويات عدة، لكل منها نصيبه من الدلالة المتماوجة والمتداخلة كالالوان المتناغمة في اللوحة.
وتسمى هذه المستويات مجتمعةً باسم الطيف اللغوي، فيصبح المعنى مشققاً كما توضحه هذه الصورة(١٠).

 

 

 

 


 

 

 

وهذه ''الجديلة'' في النص الكتابي، كما سماها رولان بارت، تحدد شرطين اساسيين في مقاربة النص، حيث لكل شيء فيه ''مكان'' و ''معنى'' (١١)، من دون أي زوائد، تماماً كالآلة الباردة التي لا تعرف العاطفة. فالقصيدة آلة صغيرة مصنوعة من الكلمات حيث لكل جزء السنيّ
منها، مهما كان صغيراً، وجوده الفعال طالما أن له وظيفة، كعلامات الوقف او الاعراب او العنوان او أي اختلاف مهما كان بسيطاً بين العناصر المكونة للنص او وحداته عملاً بمبدأ الثنائية (الائتلاف- الاختلاف) الذي يبرر المماثلة والتنوع بين ما يوجد داخل فضاء النص او طبقاته، وما يوجد في ذهن القارئ من احتمالات تأويل واجتهادات يتحدد من خلالها انجذاب هذا القارئ الى ما يقرأ او نفوره منه: محاكاة، تخطياً، او ابداعاً ذاتياً. وهذا ما يسمى ''معاهدة القراءة''.
ونبدأ بعملية ''تفسير النص'' بإضاءة تحدد موقعه ضمن الاثر الادبي الكامل للمؤلف، أي ان ننطلق مما يحيط بجسد النص المدون على الورقة. فاذا دخلنا الى ''فضاء'' النص يمكننا بحركة ارتدادية وعند الضرورة الاستضاءة بما في الخارج لانارة بعض الزوايا المظلمة في البناء النصي وليس العكس. بذلك نستبعد الاسقاطات المسبقة والجاهزة. ولكن يجب ان نضع نصب اعيننا ثلاث وظائف اساسية تقوم عليها عملية ''التواصل'' الاساسية التي اندمجت بفعل ''الجمال'' حتى باتت ''جمالية التلقي'' تشكل ثورة في الدراسات الادبية، من حيث اقتران وظيفة الاتصال اللغوي الى عقل القارئ بأسلوب فني جميل(١٢) ذلك ان لكل نص هدفاً اتصالياً يجعله يحمل مرسلة معينة ذات مضمون معين ينتقل من المرسل الى المرسل اليه (١٣).
ولذلك، فقد أصبحت ''التواصلية'' هي اساس الثورة في الألسنية الحديثة، حتى عندما يفكر الإنسان، فإنه يتواصل مع ذاته متظاهراً بأنه اثنان، فكيف اذاً كانت ''الدلائلية'' المعاصرة تقوم على قانون ''الاقتصاد اللغوي''، ''اقتصادية النص'' وفقاً لضرورة ابلاغ الكاتب مقصده بأفضل نموذج لغوي شكلي موظف في خدمة المعنى، وبالأكثر في عصر السرعة والمعلوماتية، حيث للنص غائية اساسية بات يطلق عليها من باب أوسع ''الوظيفة التداولية''. وهنا يتجلى مفهوم ''الكتابة اللغوية'' كنشاط سلوكي في الحياة باستخدام اللغة أداة فهم وإفهام، كنتاج للمجتمع ومحوّل له في آن واحد. وطالما كان ''الاقناع'' مطلباً اساسياً في اللغة التداولية او النفعية(١٤)، لذا اضحت الكفاية الاقناعية او الجدلية، هي السمة البارزة في شخصية الانسان الذي لا يعدو كونه كائناً بلاغياً يعتمد القيم والبناء الترتيبي في كلامه مع الآخرين لأن الخطاب اللغوي أساساً هو فعل وانفعال وعملية اتصال وتواصل( ١٥)، ومن هنا يبرز المعنى المستحدث لمفهوم ''اللغة الوظيفية''.

 

٢- الغايات المتوقعة:
ينطلق تدريس اللغة من اتخاذ ''النص'' وحدة استثمارية، تندرج في نطاقها مختلف العناصر اللغوية المطلوب تدريسها وفقا للرسم البياني الآتي:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وبذلك تتحقق الاهداف المنتظرة من تدريس اللغة، والتي تشكل مقدمة لنظام التقييم الذاتي لدى المتعلم، وذلك عبر عمليات مستمرة ومتواصلة، وعلى صعيدي ''التواصل'' الشفوي والكتابي إذ إن المهارات اللغوية المطلوبة، لا تتم ولا تكتمل بين فصل دراسي وآخر، ولا حتى بين عام دراسي وآخر، إذ إن هذه المهارات تقوم على التدريب والتدرب والتقنيات المدروسة ، ونحن سنورد هذه الاهداف من دون ترتيب او تبويب على الشكل التالي(١٦)، وهي متركزة على المتعلم:
- التدرب على تحليل النصوص الكتابية.
- التدرب على تحليل الوثائق السمعية - المرئية.
- التدرب على البحث عن ''افكار'' النص، ايجاد افكار وتقديمها.
- التعلم على التأمل والتفكير.
- التدريب على القراءة السليمة والكتابة السليمة.
- الحث على ''خلق'' اعمال شخصية (قصائد، قصص ...)
- التعلم على تذوق جمال الاثر.
- التعلم على تكوين رأي شخصي ابعد من فكرة مطروحة.
- التعلم على تبادل الآراء وتغييرها اذا لزم، او تأكيدها، والعمل على تعديل آراء الآخرين بالمناقشة والمناظرة والمحاضرة.
- التأمل بقضايا الحياة الكبرى كالحب والعمل والموت والدين والسياسة والفن ...
- التأمل بمسائل الحياة المعاصرة (الذرة، البيئة، الاقتصاد، المعلوماتية ...)
- السعي الى تكوين معنى للحياة.
- المشاركة بفاعلية في تفتح الشخصية ونموها على الصعيد الشخصي (بالمشاركة مع المعلم).
- المشاركة بفعالية في توجيه الحياة في قنوات النشاطات اليومية.
- القدرة على تدبر امره الذاتي بصورة ايجابية.
- الاستعداد الفعال لامتحانات التقييم والاختبارات.
- تأمين ترقية مهنية واجتماعية.
- الجرأة في التكلم عن الذات ومشاكلها والتعبير عن الانفعالات.
- التعلم على التصرف باستقامة ودقة في التعامل مع ''النص'' او مع ''الاحداث''.
- التعلم على ان يكون موضوعياً، حذراً من الاحكام المسبقة والاسقاطات الخارجة عن صلب الموضوع.
- تنمية روح النقد والتحليل لديه.
- تنمية قدرته على التحليل والتركيب في العمليات الفكرية...


يتبين من ذلك الجدول المتنوع والكامل بالأهداف المنتظرة من عملية التعلم، والتي تكون ''اللغة'' في صميم شخصية الإنسان، بوصفها اكثر من اداة تواصل او فهم وإفهام، لتكون النسيج الأساسي في صياغة هذه الشخصية وتأهيلها للاندماج في عملية الحياة ذاتها، على أساس انها الشرط الجوهري للقيام بالتفكير والتعبير والتواصل في آن واحد، وبذلك تكون اللغة مؤسسة ثقافية كبرى تضم في هيكليتها العنصر البشري بالدرجة الأولى، والذي يتمتع بما يسمى السمات الخمس الكبرى (Big 5) للشخصية الإنسانية، وهي لا يمكن أن تظهر خارج إطار ''المنظومة اللغوية'':


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فإذا نظرنا الى الجدول اعلاه، نستطيع ان نستشف منه أن تلك الاهداف إذا تحققت، ومن خلال اكتساب المهارة اللغوية اللازمة، تسهم في ابراز كينونة الانسان، وشخصيته المستقلة، على اساس استخدامه ''للتراث اللغوي'' الذي يتميز به ''الكائن العاقل'' الذي هو الانسان، كما يقول أحد علماء النفس ''ان كل اوجه الشخصية الانسانية، سواء كانت مهمة ام مثيرة للاهتمام، ام نافعة ام كانت كذلك في السابق، وجدت لنفسها منذ زمن صدىً في صلب اللغة'' (١٧).
وهكذا من خلال هذا المنظور العام والجوهري تولدت مفاهيم ''الكفاية'' اللغوية التي تقوم على مبدأ اساسي هو توظيف اللغة، كنشاط السني، قولاً وكتابةً، في وجود الانسان لاثبات ذاته، حيث إن ''الكفاية التعليمية'' تشير إلى وجود ما يكفي من عناصر ومكونات ونشاطات تعلمية متدامجة في ما بينها(١٨) لتأدية ثلاثة أنواع من ''الأهداف المركبة'' لعملية التعلم اللغوي والتي تترجم في سياق محدد بصورة قابلة للقياس العلمي(١٩). وهذه الأهداف هي:
أ- المعارف النظرية وهي تتم بالفهم والاكتساب للقدرات اللغوية وغيرها من قبل التلميذ سواء بالاستيعاب أو الاختبار(مثلاً اكتساب قواعد تحويل الصرف والتركيب).
ب- المهارات العملية وهي تتم باستخدام مهارات القول والكتابة لتحويل المعرفة النظرية إلى مهارة تطبيقية مثلا: تحويل تلك المعارف النظرية في القواعد والنحو والصرف والاشتقاق أو الصور البلاغية إلى مقومات أساسية في عملية التحليل النصي أو التعبير الإنشائي أو التشكيل الأسلوبي، وذلك داخل المدرسة الحديثة التي يجب أن تقدم بديلاً مصغرا عن البيئة الخارجية من خلال التقييم التكويني المستمرّ الذي يقدم نماذج جاهزة للمحاكاة.
ج- المواقف السلوكية او الانفعالية، بحسب الموقف المستجدّ حيث المتعلم الذي طبّق، حَلّل، رَكّب، قارن، فضلاً عما يسمى السلوكات الصغيرة: تلقى، ناقش، حاجّ، يجد نفسه فيه، فيتكيف معه على مستوى الاختراع، وذلك باستخدام ما اكتسبه وما تدرب عليه حتى حدود المهارة التقنية، كأن يكتب مثلاً رسالة اخوانية او ادارية، او يقدم بطاقة مهنية او يدخل في نقاش. ولا يكون التقييم الختامي او التقريري هنا سوى اجازة او جواز مرور يشهدان بما اصبح المتعلم كفياً له على صعيد الكفايات التعلمية اللغوية، وهذا ما يسهم في النهاية في اعطاء بعض السمات لشخصية المتعلم، ولكن شرط عدم الخلط بين الطوابع النفسية التي لا تنتج مباشرة في عملية التعلم والاجراءات التنفيذية. فالكفاية والمهارة لا يمكن ان تقاسا مباشرة، اذ كيف نقيس مقدار ما يعرف من معلومات (Le savoir)؟ وكيف نقيس درجة إتقان عمله او تطبيقيه (Le savoir-faire) خارج دائرة العمل التطبيقي؟ ذلك أن ما سبق لا يتم ملاحظته او قياسه الا من خلال الاداء الذي يتجلى في سلوكيات أو عمليات إجرائية دقيقة، فعلى سبيل المثال:

١- بعد انشطة مختلفة في الصف في عملية القراءة، عليّ كمعلم ان أقيّم المعارف والمهارات لتلامذتي في ما يخص الفهم المجمل او الكلي للنص المكتوب. فأوزع شبكة تقييم ذاتي عليهم، مع توجيه بان يضعوا علامة × مقابل المعلومة المذكورة اذا كانت خطأ في عمود ''الخطا'' وذا كانت صحيحة في عمود ''الصحيح''، واذا لم تكن واردة في النص في عمود ''لا نستطيع القول''.
وهكذا فان علامة × تشكل ظاهرة قابلة للملاحظة، سواء اكانت في موقعها الصحيح ام لا، المهم انني استطيع قياس تحصيل المتعلم قياساً ملحوظاً.
٢- في نهاية حصص تعلمية معلومة وبعد تنفيذ عدد من هذه الانشطة المماثلة في الصف فان المتعلم سيقدر، وفي وقت محدد، ومن دون الاستعانة بأي مستندات، القيام بتوجيه بطاقة بريدية لصديقه يراعي فيها النقاط الآتية:
- عدم نسيان المقدمة او الديباجة المعهودة، مع التحيات الختامية.
- ايراد جملة للاطمئنان على الصحة (بالتتالي: المرسل والمرسل اليه).
- ايراد جملة عن احوال الطقس.
- ايراد جملة عما قاما به في الامسية السابقة.
- ايراد جملة عما سيقومان به في الغد.
هذا النوع من التقييم الاجرائي يلتحم عضوياً بعملية التعلم التي تتمكن فيها أهداف عملانية ذات دلالة خاصة، سواء في المرحلة الثانية من التقييم (التكويني) او المرحلة الثالثة (الختامي).
وتبقى المرحلة الاولى وهي التقييم التشخيصي الذي يتم في بداية عملية التعلم من قبل المعلم الذي يحدد وضعية المتعلم بالنسبة الى الكفاية التي يزمع التمرن عليها، كالطبيب الذي يحدد مكمن الداء (داء الجهل) قبل المباشرة بالعلاج.
اما ما يسمى محكات التقييم
(Critères d'évaluation)، فهي الاسس او المقاييس المدروسة التي على اساسها يبنى ميزان العلامات. فلنأخذ كفاية ''القراءة الجهيرة'' وهي المدخل الصحيح الى فهم النص وتحليله، ولا سيما انها تمتلك صفات عدة: الاقناع، القراءة بذكاء، الإحساس بالمقروء، الايحاء بالمعنى بطريقة او بأخرى. وهذه المحكات النوعية تتألف من تضافر مبينات عدة تتجسد تطبيقاً بالاسئلة والاختبارات المطروحة. وغالباً ما يجري دمج مفهوم ''المبينات'' (Indicateurs) في مفهوم ''المحكّات'' تسريعاً، حتى بتنا نستخدم  مصطلح ''عناصر'' الكفاية للتدليل عليها تسريعاً لعمل التقييم. فمثلاً : ان محك صحة ''الكتابة'' في ''كفاية كتابة رسالة'' يتضمن مبيّنِين أساسيين هما: مراعاة قواعد النحو والصرف، ومراعاة قواعد وحسن الترتيب ومراعاة نظام الفقر وسلامة استخدام علامة الوقف. ويقام ميزان العلامات على توزيع العلامة بصورة ملائمة على تلك العناصر.
ففي مادة القراءة، مثلا، يمكننا تعداد ''مبينات'' كفاية القراءة أو عناصرها الأساسية والتي تعتمد في عملية قياس التقييم، ولاسيما في مرحلة التعليم الاساسي، وذلك على الشكل الآتي:
- اللفظ الصحيح للأصوات في إطار ترابطها الصحيح داخل الكلمات.
- احترام السرعة المناسبة لاستيعاب السامع.
- رفع الصوت إلى درجة كافية.
- مراعاة التوقف عند علامات الوقف.
- التلفظ بجميع كلمات النص.
- مراعاة النغم والإيقاع المرافق للمعنى.
- تغيير النبرة والنغم.
- النظر الى المستمع من وقت الى آخر.
- استكمال القراءة عند قلب الورقة.
- استخدام نغم معَّين بحسب كل شخص يتوجه إليه الكلام.
- استخدام الصوت لإبراز بنية النص.
يمكننا التمييز بين نوعين أساسيين من التقييم: التقييم التكويني، وفي خلاله تطرح اسئلة وموضوعات منفصلة ومتشعبة بعد اتمام الوحدات الدراسية (محاور او فصول): كالقواعد المعيارية والوظيفية، البلاغة النظرية وتطبيقاتها، والمحسنات البديعة ودلالتها، الايقاع، علم العروض الشعري وانسجامه مع الحالة الشعورية، دلالات الالفاظ والعبارات ... اما في التقييم الختامي القائم على نظام الكفايات، فلا يجوز تصنيف هذه الاسئلة بحسب فئات تقليدية كالمعاني والدلالات، في القواعد والبلاغة والعروض، من وحي النص ... وذلك لان الاسئلة المطروحة هي لقياس الكفايات اللغوية المكتسبة والتي تتكون من كفايات اساسية او مجموعة عناصر منها، بحسب الفئات التقليدية، وكانت تقوم اساساً على نظام التقييم بحسب محتوى المنهج لا نظام الكفايات المعتمد حالياً. فعلى سبيل المثال، فان كفاية فهم النص تجمع في حقلها: المعنى مع الصياغة التركيبية للجملة مع توظيف القواعد او الصورة المجازية او مواصفات النمط ... وهكذا دواليك.
وختاما، وكما تبين لنا، فان هناك نظرية عامة وعميقة تتحكم بمنهجيتها الصارمة ورؤيتها الاستراتيجية الى وظيفة اللغة في الحياة (في عملية التقييم للكفاية اللغوية)، انطلاقاً من استثمار موجودات النص بمستوياته المختلفة، وصولاً الى معالجة هذه النتائج في عملية تقييم مكتسبات المتعلم، ولا سيما، اذا كانت هذه العملية دائمة ومستمرة وهدفها مزدوج: تقييم المتعلم لذاته وهو الهدف الأهم، والتقييم الذاتي المشترك بين المتعلم والمعلم لتحديد الأرصدة التي اكتسبها الأول بهدف تصويب المسار واعادة المحاولة باتباع خطة موضوعية يبرز فيها القصد - القياس - الحكم - القرار(٢٠).

الهوامش:

١- بول ريكور، ''ما هو النص'' ، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد ١٢ ، خريف ١٩٩٠ ترجمة عبد لله عازار، ص.ص. ٦٦-٧٠

٢- كريستيان فابر بول وبايلون ، مدخل الى الألسنية ، المركز الثقافي العربي، ببيروت ط١ ،  ١٩٩٢، ترجمة طلال وهبه ، ص . ٣٥

٣- عبد العزيز حموده، المرايا المحدبة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد ٢٣٢، نيسان ١٩٩٨ ، ص ٣٣٢
٤- مصطفى ناصيف، اللغة والتفسير والتواصل، سلسلة عالم المعرفة، عدد ١٩٣، كانون الثاني ١٩٩٥
٥- مصطفى ناصيف، اللغة والتفسير والتواصل، سلسلة عالم المعرفة، عدد ١٩٣ ، كانون الثاني ١٩٩٥
٦- بول ريكور، النص والتأويل ، مجلة العرب والفكر العالمي، عدد ٣، ترجمة منصف عبد الحق، ص. ٣٩
٧- محمد خير البقاعي، تلقي رولان بارت في الخطاب العربي ...، مجلة عالم الفكر، المجلد ٢٧ ، العدد ١، يوليو ١٩٩٨ ، ص. ٢٥
٨- انطوان صياح، دراسات في اللغة العربية الفصحى وطرائق تعليمها، دار الفكر اللبناني، ط ١، ١٩٩٥ ، ص. ٢٩٤

٩- K. Jakobson, essais de linguistique générale, collection points, Editions de Minuit, 1962, p. 221
١٠ - د. تمام حسان، اللغة بين المعيارية والوصفية، دار الثقافة، الرباط (المغرب)، ١٩٨٠ ، ص. ١١٨
١١- Sylvie Rosé, l'explication de textes à l oral, collection synthèse, Paris, p.6
١٢- د. محمد خير البقاعي ، مرجع سابق ، ص. ٢٥-٢٦
١٣- K. Jakobson, essais de linguistique generale, collection points, Paris p.214
١٤ - د. محمد سالم الامين، مفهوم الحجاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد ٢٨، العدد ٣، يناير/مارس ٢٠٠٠، ص.ص : ٥٣-٩٧
١٥- فاطمة الطبّال بركة، النظرية الألسنية عند رومان ياكوبسون، المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر، بيروت، ط ١، ١٩٩٣، ص. ٦٥-٦٧.
١٦- André de perechi - Encyclopedie de l'évaluation en formation et en éducation ESF, Editeurs p. 199-200, Guide pratique, 1998
١٧ - يوخن باولوس، ''الاسس الحقيقة للشخصية''، ترجمة محمد المهذبي، مجلة الثقافة العالمية، عدد ١٠٥ ، السنة ٢٠ ، مارس - ابريل ٢٠٠١ ، ص.ص. ١٢١-١٣١
١٨- Christine Tagliante, l'évaluation, Clé-Paris, 1991 p.124
١٩- Le petit dictionnaire de la formation - ESF Editeurs, Paris, 1996 p. 54
٢٠- Denise Lussiers, Evaluer les apprentissages, Paris , Hachette, 1992, p.24

 

نحو مقاربة منهجية لمفهوم "اللغة الوظيفية" وطرائق تقييمها في نظام الكفايات

د. عصام قازان مسؤول التدريب للغة العربية في مركز الموارد - دار المعلمين والمعلمات - جونيه

نحو مقاربة منهجية لمفهوم ''اللغة الوظيفية''
د. عصام قازان وطرائق تقييمها في نظام الكفايات

 

 

١- المنطلقات المنهجية
ان النص هو الخطاب اللغوي المثبت في الكتابة. فالكاتب هو الذي يشير الى ذاته قائلاً : ''انا''(١). ومن هذا المنطلق الأساسي للعملية الكتابية، لا يعدو فعل ''الكتابة'' أن يكون نشاطاً انسانياً متمركزاً حول الذات مهما غالى الكاتب بموضوعيته وبتجرده، فهو لن يخرق إطار تجربته الخاصة، كما يؤكد ''جورج مونان''، لكن هذه ''الانا'' بالرغم من فرديتها، تغدو مثالاً مصغراً عن ال ''نحن''. وهنا يتجلى الشرط الإنساني للكتابة وتجذرها في صميم الثقافة كمجسد لنشاط ''التفكير'' عبر أداة ''التعبير''، وصولاً إلى تحقيق الوظيفة المركزية للغة وهي ''التواصل''. ذلك ان ما يطغى اليوم في علوم اللغة أي علم الألسنية او اللسانيات (اللغة = لسان = Langue) هو العلاقة بين نص - قارئ، بعد ان تركّزت لحقبة طويلة في النقد التقليدي على العلاقة بين كاتب - نص، حتى بات يمكننا القول الآن باختصار إن الثقافة تعني ''تواصل''(٢). واكثر من ذلك، فلقد أعلن البنيويون ''موت'' الكاتب و''حياة'' النص من خلال وجود القارئ المتفاعل معه، ككاتب ثانٍ مكمل له، وذلك ان النص يقدم بديلاً عن الحياة المتخيلة بل هو اكثر بنائية من الحياة نفسها(٣)، مع أنه يمتلك في هيكلية بنيته فجوات وثغرات ناشئة اصلاً عن محدودية اللغة على تمثيل حقول الحياة اللامتناهية. وهي ما سيملأه القارئ عند قراءته النصّ.
وهنا يتوضح ابداع الناقد-القارئ كمزامل للكاتب-المبدع. ''النقد اصبح نصاً ابداعياً(٤). ولو ان التفكيكيين، جاؤوا ونعوا ''موت'' النص نفسه، على اساس ان القارئ يكتب نصه الخصوصي وفقاً لخبرته وثقافته وتوقعاته فقالوا ''كل قراءة اساءة لقراءة''، فإننا نتخذ كمبدأ لدراستنا الالسنية- السيميائية للنص موقفاً وسطاً بين تلك النظريات المتطرفة.

كما يظهر في صورة هذا المثلث

 

 

 

 

 

 

 


يُتخذ النص أساساً للدراسة، ككائن لغوي - ثقافي لا يمكن قطعه عن إطار بيئته وشروطها الزمانية- المكانية اذ هي بمنزلة ''المورّثِات'' المنقولة الى نسيجه الحيوي. أليس الأدب كأي فعالية إنسانية اصلاً ابن بيئته، او ليس الأديب هو ''الوالد'' الذي يكتمل ''بوليده'' ناقلاً اليه طوابع شخصيته؟ وهذا ما يرتسم في هذا المثلث الثاني حيث يتزاوج الأديب باللغة في صميم المعاناة الحياتية(٥).
 

 

 

 

 

 

 

كما لا يمكن، في المقابل، الغاء ''القارئ''، والخضوع ''لحتمية'' النص واغلاق منافذه على الخارج، كما ينادي ارباب البنيوية اللغوية الصرفة واعتباره مرجعاً معلقاً في الهواء(٦) ككوكب. فإذا كان ذلك، فاين مصادر الجاذبية التي لا ينفلت النص من مدارها؟ فإذا قلنا اننا نعتمد ''الالسنية'' فذلك لانها دراسة علمية للغات البشرية وتبيان وظيفتها في الحياة، وهي تتميز عن البنيوية بأن الاخيرة هي مدرسة نقدية من مدارس الالسنية او هي منهج من مناهج مقاربة النص تقوم على عزل النصّ عن ذات الكاتب وذات القارئ في آنٍ، فتتجنب الوصف بالجودة او الرداءة وانما ابراز كيفية تركيبه ومواصفات بنيته، فتبدأ بالنص وتنتهي به، وكأن هذا العمل الادبي يُتخذ كالاسطورة أي من دون مؤلف، من اجل عدم الوقوع في الاحكام التقييمية والاكتفاء بالاسباب الوصفية او التقريرية وبكلمة واحدة: ''ان نتحدث عن النص من داخل النص''(٧).عند هذا المستوى، لا احد يرفض هذه المنطلقات بحسب مفهوم البنيان الوظيفي، كما دعا اليه احد البنيويين (اندره مارتينيه)، مركزاً على البعد الوظيفي الاستخدامي للرموز اللغوية(٨). ذلك ان اللغة هي نسق او نظام او بنية من الرموز الاعتباطية او العرفية التي اصطلح الناس على استخدامها في انشطتهم التداولية، بالارتكاز على العلامات وهي ادوات دالّة على مدلولات أي مسمّيَات. ولكن الشيء المثير الذي روجت له هذه الدراسات النقدية الحديثة هو وحدة الدّال والمدلول المتحدَين في كيان اللفظة كوجهي عملة واحدة، التي تؤخذ كذات او جوهر رمزي يتجسد بالنطق وبالكتابة على السواء. وهذا البناء الرموزي ''المرصوص'' هو الشيء الجديد الذي اتت به الالسنية وهو ما تُحمد عليه لانه شكل نقلة نوعية في ''مقاربة'' النص مقاربة موضوعية منهجية الغت الفعل المصطنع والمغلوط بين المعنى والمبنى لئلا تتحول ''المقاربة'' الى ''مفارقة'' كمن يحاول الفصل بين الجسد والروح او بين الغيمة والمطر، او بين اضواء الطيف الشمسي ... ذلك ان هناك حقيقتين في ''النص'': حقيقة ''معرفية'' هي المحتوى او (هي ''المعنى'' عن العالم الذي تقدمه القصيدة باللغة)، وحقيقة اخرى هي الحقيقة التركيبية كما تشكل في البنية (او هي ''المعنى'' الذي تقدمه القصيدة عن اللغة باللغة). وهذا ما تصحّ تسميته بشكل المعنى(٩)، وهو السياق المركب الذي تجري فيه المُتتالية اللفظية، بكل عناصرها، فما اعتيد على تسميته اسلوباً هو جزء من اجزاء الجوهر عينه، حتى اننا نستطيع القول: ان المضمون والشكل لهما نفس الطبيعة، لان المضمون يكتسب واقعه من البنية. وما يسمى ''بالشكل'' ليس سوى تشكيل هذه البنية من ابنية اخرى تشكل فكرة المضمون نفسها. فنقول المضمون والشكل هما هيكل النص ونسيجه، دمًا وعظماً وعصباً وحياةً، ولذلك اصبح مطلوباً التدرج افقياً وعمودياً في الغوص على
طبقات النص، فلا تعود اللغة اداة لنقل الفكرة، وانما هي عنصر جوهري في تشكيل المعنى ذي الدلالة المركبة من مستويات عدة، لكل منها نصيبه من الدلالة المتماوجة والمتداخلة كالالوان المتناغمة في اللوحة.
وتسمى هذه المستويات مجتمعةً باسم الطيف اللغوي، فيصبح المعنى مشققاً كما توضحه هذه الصورة(١٠).

 

 

 

 


 

 

 

وهذه ''الجديلة'' في النص الكتابي، كما سماها رولان بارت، تحدد شرطين اساسيين في مقاربة النص، حيث لكل شيء فيه ''مكان'' و ''معنى'' (١١)، من دون أي زوائد، تماماً كالآلة الباردة التي لا تعرف العاطفة. فالقصيدة آلة صغيرة مصنوعة من الكلمات حيث لكل جزء السنيّ
منها، مهما كان صغيراً، وجوده الفعال طالما أن له وظيفة، كعلامات الوقف او الاعراب او العنوان او أي اختلاف مهما كان بسيطاً بين العناصر المكونة للنص او وحداته عملاً بمبدأ الثنائية (الائتلاف- الاختلاف) الذي يبرر المماثلة والتنوع بين ما يوجد داخل فضاء النص او طبقاته، وما يوجد في ذهن القارئ من احتمالات تأويل واجتهادات يتحدد من خلالها انجذاب هذا القارئ الى ما يقرأ او نفوره منه: محاكاة، تخطياً، او ابداعاً ذاتياً. وهذا ما يسمى ''معاهدة القراءة''.
ونبدأ بعملية ''تفسير النص'' بإضاءة تحدد موقعه ضمن الاثر الادبي الكامل للمؤلف، أي ان ننطلق مما يحيط بجسد النص المدون على الورقة. فاذا دخلنا الى ''فضاء'' النص يمكننا بحركة ارتدادية وعند الضرورة الاستضاءة بما في الخارج لانارة بعض الزوايا المظلمة في البناء النصي وليس العكس. بذلك نستبعد الاسقاطات المسبقة والجاهزة. ولكن يجب ان نضع نصب اعيننا ثلاث وظائف اساسية تقوم عليها عملية ''التواصل'' الاساسية التي اندمجت بفعل ''الجمال'' حتى باتت ''جمالية التلقي'' تشكل ثورة في الدراسات الادبية، من حيث اقتران وظيفة الاتصال اللغوي الى عقل القارئ بأسلوب فني جميل(١٢) ذلك ان لكل نص هدفاً اتصالياً يجعله يحمل مرسلة معينة ذات مضمون معين ينتقل من المرسل الى المرسل اليه (١٣).
ولذلك، فقد أصبحت ''التواصلية'' هي اساس الثورة في الألسنية الحديثة، حتى عندما يفكر الإنسان، فإنه يتواصل مع ذاته متظاهراً بأنه اثنان، فكيف اذاً كانت ''الدلائلية'' المعاصرة تقوم على قانون ''الاقتصاد اللغوي''، ''اقتصادية النص'' وفقاً لضرورة ابلاغ الكاتب مقصده بأفضل نموذج لغوي شكلي موظف في خدمة المعنى، وبالأكثر في عصر السرعة والمعلوماتية، حيث للنص غائية اساسية بات يطلق عليها من باب أوسع ''الوظيفة التداولية''. وهنا يتجلى مفهوم ''الكتابة اللغوية'' كنشاط سلوكي في الحياة باستخدام اللغة أداة فهم وإفهام، كنتاج للمجتمع ومحوّل له في آن واحد. وطالما كان ''الاقناع'' مطلباً اساسياً في اللغة التداولية او النفعية(١٤)، لذا اضحت الكفاية الاقناعية او الجدلية، هي السمة البارزة في شخصية الانسان الذي لا يعدو كونه كائناً بلاغياً يعتمد القيم والبناء الترتيبي في كلامه مع الآخرين لأن الخطاب اللغوي أساساً هو فعل وانفعال وعملية اتصال وتواصل( ١٥)، ومن هنا يبرز المعنى المستحدث لمفهوم ''اللغة الوظيفية''.

 

٢- الغايات المتوقعة:
ينطلق تدريس اللغة من اتخاذ ''النص'' وحدة استثمارية، تندرج في نطاقها مختلف العناصر اللغوية المطلوب تدريسها وفقا للرسم البياني الآتي:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وبذلك تتحقق الاهداف المنتظرة من تدريس اللغة، والتي تشكل مقدمة لنظام التقييم الذاتي لدى المتعلم، وذلك عبر عمليات مستمرة ومتواصلة، وعلى صعيدي ''التواصل'' الشفوي والكتابي إذ إن المهارات اللغوية المطلوبة، لا تتم ولا تكتمل بين فصل دراسي وآخر، ولا حتى بين عام دراسي وآخر، إذ إن هذه المهارات تقوم على التدريب والتدرب والتقنيات المدروسة ، ونحن سنورد هذه الاهداف من دون ترتيب او تبويب على الشكل التالي(١٦)، وهي متركزة على المتعلم:
- التدرب على تحليل النصوص الكتابية.
- التدرب على تحليل الوثائق السمعية - المرئية.
- التدرب على البحث عن ''افكار'' النص، ايجاد افكار وتقديمها.
- التعلم على التأمل والتفكير.
- التدريب على القراءة السليمة والكتابة السليمة.
- الحث على ''خلق'' اعمال شخصية (قصائد، قصص ...)
- التعلم على تذوق جمال الاثر.
- التعلم على تكوين رأي شخصي ابعد من فكرة مطروحة.
- التعلم على تبادل الآراء وتغييرها اذا لزم، او تأكيدها، والعمل على تعديل آراء الآخرين بالمناقشة والمناظرة والمحاضرة.
- التأمل بقضايا الحياة الكبرى كالحب والعمل والموت والدين والسياسة والفن ...
- التأمل بمسائل الحياة المعاصرة (الذرة، البيئة، الاقتصاد، المعلوماتية ...)
- السعي الى تكوين معنى للحياة.
- المشاركة بفاعلية في تفتح الشخصية ونموها على الصعيد الشخصي (بالمشاركة مع المعلم).
- المشاركة بفعالية في توجيه الحياة في قنوات النشاطات اليومية.
- القدرة على تدبر امره الذاتي بصورة ايجابية.
- الاستعداد الفعال لامتحانات التقييم والاختبارات.
- تأمين ترقية مهنية واجتماعية.
- الجرأة في التكلم عن الذات ومشاكلها والتعبير عن الانفعالات.
- التعلم على التصرف باستقامة ودقة في التعامل مع ''النص'' او مع ''الاحداث''.
- التعلم على ان يكون موضوعياً، حذراً من الاحكام المسبقة والاسقاطات الخارجة عن صلب الموضوع.
- تنمية روح النقد والتحليل لديه.
- تنمية قدرته على التحليل والتركيب في العمليات الفكرية...


يتبين من ذلك الجدول المتنوع والكامل بالأهداف المنتظرة من عملية التعلم، والتي تكون ''اللغة'' في صميم شخصية الإنسان، بوصفها اكثر من اداة تواصل او فهم وإفهام، لتكون النسيج الأساسي في صياغة هذه الشخصية وتأهيلها للاندماج في عملية الحياة ذاتها، على أساس انها الشرط الجوهري للقيام بالتفكير والتعبير والتواصل في آن واحد، وبذلك تكون اللغة مؤسسة ثقافية كبرى تضم في هيكليتها العنصر البشري بالدرجة الأولى، والذي يتمتع بما يسمى السمات الخمس الكبرى (Big 5) للشخصية الإنسانية، وهي لا يمكن أن تظهر خارج إطار ''المنظومة اللغوية'':


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فإذا نظرنا الى الجدول اعلاه، نستطيع ان نستشف منه أن تلك الاهداف إذا تحققت، ومن خلال اكتساب المهارة اللغوية اللازمة، تسهم في ابراز كينونة الانسان، وشخصيته المستقلة، على اساس استخدامه ''للتراث اللغوي'' الذي يتميز به ''الكائن العاقل'' الذي هو الانسان، كما يقول أحد علماء النفس ''ان كل اوجه الشخصية الانسانية، سواء كانت مهمة ام مثيرة للاهتمام، ام نافعة ام كانت كذلك في السابق، وجدت لنفسها منذ زمن صدىً في صلب اللغة'' (١٧).
وهكذا من خلال هذا المنظور العام والجوهري تولدت مفاهيم ''الكفاية'' اللغوية التي تقوم على مبدأ اساسي هو توظيف اللغة، كنشاط السني، قولاً وكتابةً، في وجود الانسان لاثبات ذاته، حيث إن ''الكفاية التعليمية'' تشير إلى وجود ما يكفي من عناصر ومكونات ونشاطات تعلمية متدامجة في ما بينها(١٨) لتأدية ثلاثة أنواع من ''الأهداف المركبة'' لعملية التعلم اللغوي والتي تترجم في سياق محدد بصورة قابلة للقياس العلمي(١٩). وهذه الأهداف هي:
أ- المعارف النظرية وهي تتم بالفهم والاكتساب للقدرات اللغوية وغيرها من قبل التلميذ سواء بالاستيعاب أو الاختبار(مثلاً اكتساب قواعد تحويل الصرف والتركيب).
ب- المهارات العملية وهي تتم باستخدام مهارات القول والكتابة لتحويل المعرفة النظرية إلى مهارة تطبيقية مثلا: تحويل تلك المعارف النظرية في القواعد والنحو والصرف والاشتقاق أو الصور البلاغية إلى مقومات أساسية في عملية التحليل النصي أو التعبير الإنشائي أو التشكيل الأسلوبي، وذلك داخل المدرسة الحديثة التي يجب أن تقدم بديلاً مصغرا عن البيئة الخارجية من خلال التقييم التكويني المستمرّ الذي يقدم نماذج جاهزة للمحاكاة.
ج- المواقف السلوكية او الانفعالية، بحسب الموقف المستجدّ حيث المتعلم الذي طبّق، حَلّل، رَكّب، قارن، فضلاً عما يسمى السلوكات الصغيرة: تلقى، ناقش، حاجّ، يجد نفسه فيه، فيتكيف معه على مستوى الاختراع، وذلك باستخدام ما اكتسبه وما تدرب عليه حتى حدود المهارة التقنية، كأن يكتب مثلاً رسالة اخوانية او ادارية، او يقدم بطاقة مهنية او يدخل في نقاش. ولا يكون التقييم الختامي او التقريري هنا سوى اجازة او جواز مرور يشهدان بما اصبح المتعلم كفياً له على صعيد الكفايات التعلمية اللغوية، وهذا ما يسهم في النهاية في اعطاء بعض السمات لشخصية المتعلم، ولكن شرط عدم الخلط بين الطوابع النفسية التي لا تنتج مباشرة في عملية التعلم والاجراءات التنفيذية. فالكفاية والمهارة لا يمكن ان تقاسا مباشرة، اذ كيف نقيس مقدار ما يعرف من معلومات (Le savoir)؟ وكيف نقيس درجة إتقان عمله او تطبيقيه (Le savoir-faire) خارج دائرة العمل التطبيقي؟ ذلك أن ما سبق لا يتم ملاحظته او قياسه الا من خلال الاداء الذي يتجلى في سلوكيات أو عمليات إجرائية دقيقة، فعلى سبيل المثال:

١- بعد انشطة مختلفة في الصف في عملية القراءة، عليّ كمعلم ان أقيّم المعارف والمهارات لتلامذتي في ما يخص الفهم المجمل او الكلي للنص المكتوب. فأوزع شبكة تقييم ذاتي عليهم، مع توجيه بان يضعوا علامة × مقابل المعلومة المذكورة اذا كانت خطأ في عمود ''الخطا'' وذا كانت صحيحة في عمود ''الصحيح''، واذا لم تكن واردة في النص في عمود ''لا نستطيع القول''.
وهكذا فان علامة × تشكل ظاهرة قابلة للملاحظة، سواء اكانت في موقعها الصحيح ام لا، المهم انني استطيع قياس تحصيل المتعلم قياساً ملحوظاً.
٢- في نهاية حصص تعلمية معلومة وبعد تنفيذ عدد من هذه الانشطة المماثلة في الصف فان المتعلم سيقدر، وفي وقت محدد، ومن دون الاستعانة بأي مستندات، القيام بتوجيه بطاقة بريدية لصديقه يراعي فيها النقاط الآتية:
- عدم نسيان المقدمة او الديباجة المعهودة، مع التحيات الختامية.
- ايراد جملة للاطمئنان على الصحة (بالتتالي: المرسل والمرسل اليه).
- ايراد جملة عن احوال الطقس.
- ايراد جملة عما قاما به في الامسية السابقة.
- ايراد جملة عما سيقومان به في الغد.
هذا النوع من التقييم الاجرائي يلتحم عضوياً بعملية التعلم التي تتمكن فيها أهداف عملانية ذات دلالة خاصة، سواء في المرحلة الثانية من التقييم (التكويني) او المرحلة الثالثة (الختامي).
وتبقى المرحلة الاولى وهي التقييم التشخيصي الذي يتم في بداية عملية التعلم من قبل المعلم الذي يحدد وضعية المتعلم بالنسبة الى الكفاية التي يزمع التمرن عليها، كالطبيب الذي يحدد مكمن الداء (داء الجهل) قبل المباشرة بالعلاج.
اما ما يسمى محكات التقييم
(Critères d'évaluation)، فهي الاسس او المقاييس المدروسة التي على اساسها يبنى ميزان العلامات. فلنأخذ كفاية ''القراءة الجهيرة'' وهي المدخل الصحيح الى فهم النص وتحليله، ولا سيما انها تمتلك صفات عدة: الاقناع، القراءة بذكاء، الإحساس بالمقروء، الايحاء بالمعنى بطريقة او بأخرى. وهذه المحكات النوعية تتألف من تضافر مبينات عدة تتجسد تطبيقاً بالاسئلة والاختبارات المطروحة. وغالباً ما يجري دمج مفهوم ''المبينات'' (Indicateurs) في مفهوم ''المحكّات'' تسريعاً، حتى بتنا نستخدم  مصطلح ''عناصر'' الكفاية للتدليل عليها تسريعاً لعمل التقييم. فمثلاً : ان محك صحة ''الكتابة'' في ''كفاية كتابة رسالة'' يتضمن مبيّنِين أساسيين هما: مراعاة قواعد النحو والصرف، ومراعاة قواعد وحسن الترتيب ومراعاة نظام الفقر وسلامة استخدام علامة الوقف. ويقام ميزان العلامات على توزيع العلامة بصورة ملائمة على تلك العناصر.
ففي مادة القراءة، مثلا، يمكننا تعداد ''مبينات'' كفاية القراءة أو عناصرها الأساسية والتي تعتمد في عملية قياس التقييم، ولاسيما في مرحلة التعليم الاساسي، وذلك على الشكل الآتي:
- اللفظ الصحيح للأصوات في إطار ترابطها الصحيح داخل الكلمات.
- احترام السرعة المناسبة لاستيعاب السامع.
- رفع الصوت إلى درجة كافية.
- مراعاة التوقف عند علامات الوقف.
- التلفظ بجميع كلمات النص.
- مراعاة النغم والإيقاع المرافق للمعنى.
- تغيير النبرة والنغم.
- النظر الى المستمع من وقت الى آخر.
- استكمال القراءة عند قلب الورقة.
- استخدام نغم معَّين بحسب كل شخص يتوجه إليه الكلام.
- استخدام الصوت لإبراز بنية النص.
يمكننا التمييز بين نوعين أساسيين من التقييم: التقييم التكويني، وفي خلاله تطرح اسئلة وموضوعات منفصلة ومتشعبة بعد اتمام الوحدات الدراسية (محاور او فصول): كالقواعد المعيارية والوظيفية، البلاغة النظرية وتطبيقاتها، والمحسنات البديعة ودلالتها، الايقاع، علم العروض الشعري وانسجامه مع الحالة الشعورية، دلالات الالفاظ والعبارات ... اما في التقييم الختامي القائم على نظام الكفايات، فلا يجوز تصنيف هذه الاسئلة بحسب فئات تقليدية كالمعاني والدلالات، في القواعد والبلاغة والعروض، من وحي النص ... وذلك لان الاسئلة المطروحة هي لقياس الكفايات اللغوية المكتسبة والتي تتكون من كفايات اساسية او مجموعة عناصر منها، بحسب الفئات التقليدية، وكانت تقوم اساساً على نظام التقييم بحسب محتوى المنهج لا نظام الكفايات المعتمد حالياً. فعلى سبيل المثال، فان كفاية فهم النص تجمع في حقلها: المعنى مع الصياغة التركيبية للجملة مع توظيف القواعد او الصورة المجازية او مواصفات النمط ... وهكذا دواليك.
وختاما، وكما تبين لنا، فان هناك نظرية عامة وعميقة تتحكم بمنهجيتها الصارمة ورؤيتها الاستراتيجية الى وظيفة اللغة في الحياة (في عملية التقييم للكفاية اللغوية)، انطلاقاً من استثمار موجودات النص بمستوياته المختلفة، وصولاً الى معالجة هذه النتائج في عملية تقييم مكتسبات المتعلم، ولا سيما، اذا كانت هذه العملية دائمة ومستمرة وهدفها مزدوج: تقييم المتعلم لذاته وهو الهدف الأهم، والتقييم الذاتي المشترك بين المتعلم والمعلم لتحديد الأرصدة التي اكتسبها الأول بهدف تصويب المسار واعادة المحاولة باتباع خطة موضوعية يبرز فيها القصد - القياس - الحكم - القرار(٢٠).

الهوامش:

١- بول ريكور، ''ما هو النص'' ، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد ١٢ ، خريف ١٩٩٠ ترجمة عبد لله عازار، ص.ص. ٦٦-٧٠

٢- كريستيان فابر بول وبايلون ، مدخل الى الألسنية ، المركز الثقافي العربي، ببيروت ط١ ،  ١٩٩٢، ترجمة طلال وهبه ، ص . ٣٥

٣- عبد العزيز حموده، المرايا المحدبة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد ٢٣٢، نيسان ١٩٩٨ ، ص ٣٣٢
٤- مصطفى ناصيف، اللغة والتفسير والتواصل، سلسلة عالم المعرفة، عدد ١٩٣، كانون الثاني ١٩٩٥
٥- مصطفى ناصيف، اللغة والتفسير والتواصل، سلسلة عالم المعرفة، عدد ١٩٣ ، كانون الثاني ١٩٩٥
٦- بول ريكور، النص والتأويل ، مجلة العرب والفكر العالمي، عدد ٣، ترجمة منصف عبد الحق، ص. ٣٩
٧- محمد خير البقاعي، تلقي رولان بارت في الخطاب العربي ...، مجلة عالم الفكر، المجلد ٢٧ ، العدد ١، يوليو ١٩٩٨ ، ص. ٢٥
٨- انطوان صياح، دراسات في اللغة العربية الفصحى وطرائق تعليمها، دار الفكر اللبناني، ط ١، ١٩٩٥ ، ص. ٢٩٤

٩- K. Jakobson, essais de linguistique générale, collection points, Editions de Minuit, 1962, p. 221
١٠ - د. تمام حسان، اللغة بين المعيارية والوصفية، دار الثقافة، الرباط (المغرب)، ١٩٨٠ ، ص. ١١٨
١١- Sylvie Rosé, l'explication de textes à l oral, collection synthèse, Paris, p.6
١٢- د. محمد خير البقاعي ، مرجع سابق ، ص. ٢٥-٢٦
١٣- K. Jakobson, essais de linguistique generale, collection points, Paris p.214
١٤ - د. محمد سالم الامين، مفهوم الحجاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد ٢٨، العدد ٣، يناير/مارس ٢٠٠٠، ص.ص : ٥٣-٩٧
١٥- فاطمة الطبّال بركة، النظرية الألسنية عند رومان ياكوبسون، المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر، بيروت، ط ١، ١٩٩٣، ص. ٦٥-٦٧.
١٦- André de perechi - Encyclopedie de l'évaluation en formation et en éducation ESF, Editeurs p. 199-200, Guide pratique, 1998
١٧ - يوخن باولوس، ''الاسس الحقيقة للشخصية''، ترجمة محمد المهذبي، مجلة الثقافة العالمية، عدد ١٠٥ ، السنة ٢٠ ، مارس - ابريل ٢٠٠١ ، ص.ص. ١٢١-١٣١
١٨- Christine Tagliante, l'évaluation, Clé-Paris, 1991 p.124
١٩- Le petit dictionnaire de la formation - ESF Editeurs, Paris, 1996 p. 54
٢٠- Denise Lussiers, Evaluer les apprentissages, Paris , Hachette, 1992, p.24