المدرسة الرحبانية في المسرح الغنائي دعوة عريقة لثقافة السّلام
المدرسة الرحبانية في المسرح الغنائي
دعوة عريقة لثقافة السّلام
أوّل وميض لالتقاء عبقريّتين فذّتين في "المسرح الغنائي"، عاصي ومنصور الرحباني، كان في: "البعلبكية" أو "رحيل الآلهة"، وقد سبقها "موسم العز"، تجربتهما الأولى في المسرح الغنائي، التي جاءت تتويجاً لسلسلة من مقطوعات مسرحية "غنائية" قصيرة (اسكيتشات) سبق أن أذيعت بالراديو.
بعد مقدمة موسيقية أوركسترالية: يتهادى إلى مسامعنا صوت:
"بعلبك تهدَّمت، والآلهة رح يهجروها"
"والرحلة عم تنده"
ويبدأ حزيناً مشهد نزاع هادئ بين الآلهة والناس، الآلهة، قبيل مغادرتها بعلبك إثر الدمار الّذي أصابها، تدعو الصبية البعلبكية لتأخذها معها، فتغدق عليها الوعود بالحياة الرغيدة في دنيا النجوم، والناس، أبناء بعلبك، الذين ليس لديهم ما يقدّمونه لإغراء الصبية بالبقاء سوى نداء الحب والحنين إلى الأرض والإخلاص لمرابع الطفولة:
الآلهة: وإنتي يا بعلبكية صوتك غنيـه
رح ناخدك معنا برحلتنا البهيه
الناس: (باستعطاف) خلّوها
الآلهة: (بحزم) بدنا ناخدها
الناس: منحلِّفكن بِمحبِّتنا إلكن
بالشمس اللّي إنتو منها بالرهبة اللّي بهياكلكن
الآلهة: رح ناخدها ذكر من الأرض ونسعدها
بِقصور من المرمر بِنهورة الكوثر
الناس:بس هيي هون ربْيِتْ عَ البيادر
صوتها من لون فيّة القناطر
الآلهة: (وقد نفذ صبرها) بعلبك تعبتْ، ضجرتْ، وقعتْ
وابراجا ركعتْ
غير أنّ الآلهة لا تدرك أنّ الأبراج إذا ركعت لا تجعل الناس يركعون ما دامت الحناجر قادرة على أن تطلق الكلمة، الصوت الذي نسمعه صادرا من أعماق ضمير الناس الجمعي:
الصوت: بس الكلمة الـ بتغنّي بِتْرَجِّع مجد بعلبك
الغنية بتخلّي الحجار مَنَّا حجار
وظيفة الكلمة زَرع الأمل بدل اليأس والحياة حتى في الحجارة، وهي رسالة العقل إلى القلوب لترتفع بعلبك، غدا، فوق الشمس. ويكمل الصوت:
الصوت: رحلتها أحلى هون رحلة عَ بيوت الناس
رحلة عَ قلوب الناس
ونشيل بعلبك من أمس ونشقعها فوق الشمس
لكنّ الآلهة في بعلبك إذا نفذ صبرها، ليس لها أن تغضب، و ليس لها أن تبطش كما آلهة اليونان، بل تحسم الجدل القائم بأن تترك للصبية أن تختار:
الآلهة:إنتي الـ بتقولي، قولي،
بتروحي معنا؟
الناس: خلّيكي عنّا،
الآلهة: (بلهجة من نفذ صبره) قولي،
الناس: (بلهجة الاستعطاف) قولي،
فينتقل الصراع الذي كان بين الآلهة والناس إلى ضمير الصبية التي سرعان ما يشدّها قلبها المتعلّق بهذه الأرض وناسها، وتصدح من أعماق القلب الذي تتجاذبه الأهواء معبّرة عمّا في جميع القلوب:
البعلبكية: بعلـبـــــك أنا شمعة على دراجـك
وردة على سياجك أنا نقطة زيت بسراجك
............. ................
هون رح نبقى نسعـد ونشقى
نزرع السجرة وحَدَّا الغنية
وللدّني نحكي حكاية إلهيّة
تختار البعلبكية الأرض والناس من أجل النهوض والعمل والفرح، لكن تبقى "الحكاية الإلهية"! أهي إلهية لأنّها مِن وضْع الآلهةَ أم أنّ محبة الناس هي التي تجعلها في ذاك المقام الرفيع؟! يصح الوجهان، فمنذ البداية لم يكن صراع حياة أو موت، بل بين الدعوة إلى الهجرة أو التمسك بالأصول.
هذا الصراع يستحضر صراعاً آخرا يكمن خلف النص الرحباني وفي عمق المفهوم المسرحي، فالمسرح هو أحد أشكال العرض، وهو، في المفهوم السائد، يعود إلى الأصول اليونانية كما عرّفه "أرسطوطالس" في القرن الخامس قبل المسيح. بعد أن ترسّختْ المدينة الدولة وجب عليها أن تنشر ثقافتها الجديدة، وأن تضع حدّاً فاصلاً للجاهلية القبلية القائمة على ثقافة الأساطير القديمة، التي جعلَتْ، مثلا، من "أوديب" مجرماً يرتكب أبشع الموبقات، فيقتل أباه ويتزوج أمه، دون أن يكون على علمٍ بأمره.
السلطة الجديدة تعرض الثقافة القديمة مجسّدة عارية على المسرح، والمسرح وقتها كان وسيلة الإعلام الوحيدة، لتسخر وتتهكّم وتهشّم، فتحوّلها سماداً عضويّاً للثقافة الجديدة الصاعدة والمؤسطرة بالأسلوب الملائم للشكل الجديد للسلطة. ولم يجد المسرح بعد ذلك، بالمفهوم اليوناني "الأرسطوطالسي"، منبتاَ له أو انبعاثاً، في الشرق أم في الغرب، إلاّ على أطلال ثقافة تغرب وأخرى تشرق.
كل الظروف، في لبنان بعد الاستقلال، كانت مؤاتية لانبثاق ثقافة جديدة على أنقاض ثقافة عاجزة غاربة، لكنّ النص الرحباني مختلف، ويكمن الإختلاف في الطابع الإنساني الراقي الذي ينضح به، إنّه وليد صادق نبيل لعصور من التجارب في البغض والمحبة والتعثّر والإرتقاء، ليس في "البعلبكية" فقط، بل في كل ما سبقها وما سوف يأتي بعدها. فهو عندما يتناول الآخر الخصم، لا يحرّض على الكره ولا يدعو إلى التهشيم، بل يقبل الآخر المختلف ويحترمه ولا يخلو حتّى من نقد الذات والاعتراف بالخطأ بصراحة وجرأة، يرفض البغض ويدعو إلى الحوار. وكم احترنا في داخلنا بالتعاطف في المسرحية الرحبانية مع هذا الطرف أو ذاك، لأنّ النص لا يتّهم بمقدار ما يناقش والأيدي دائما ممدودة والقلب منفتح.
"بو رافع" في "جسر القمر" يتحدّث إلى "هيفا" التي طلبت منه أن يصف لها الخصوم:
سواعد إلهن وزنود الواحد متل النمر
هنّي قوايـــــا ونحنا قوايـــا
تعدّو علينــــا ونحنـا تعدّينــا
منعنـــا الميّـه عــن رزقاتـن
صارو يسبّونــا بسهراتــــن
قصة تبدأ مع صبيّة "جسر القمر" المسحورة، وسرعان ما تصل العقدة إلى أوجها حين يأتي "صالح"، ابن مختار "القاطع"، إلى ساحة "جسر القمر" مع ثلاثة شبان، متحدّياً وبعيونه شر، كما تقول "هيفا"، ابنة "جسر القمر" التي تواجهه بالكلمة. هذا الخصم جاء يطالب بحصة "القاطع" من السقي، وإذ تحذّره "هيفا" من "شبلي" ابن "شيخ المشايخ" مهدّدة، يردُّ عليها:
ان كان بيّو شيخ، ورافع للعز بنود
بيّي مختار القاطع وضياع الجـود
"صالح"، حتى في وقت التحدّي والانفعال، لا يحتقر الآخر، لا يشتمه، بل يقارن، وإذ يعترف بأنّ خصمه "رافع للعز بنود" يكفيه التذكير بأنّه، هو نفسه، لا يقلّ نبلاً وشرفاً، فهو ابن "مختار القاطع وضياع الجود".
وتظهر في مشهد آخر علاقات القربى بين الضيعتين: "جميلة" تخاطر بالمجيء من "القاطع" إلى "جسر القمر" لتحمل الشال هدية إلى "وردة" من عمّتها المتزوجة في "القاطع"، وتشكو شحّ الماء في "القاطع"، فتجيبها وردة بعطف ومحبة:
وردة: والمي هوني رايحة عَ الأرض أيمتى رح نخلص من البغض؟
ويجتمع أبناء "جسر القمر" وشيخهم يستحضرون صبيّة الجسر للبحث في حقيقة أمرها:
الكل: بدنا نعرف
نحنا جينا تَ نعرف
تحضر الصبيّة وتحدّثهم عن البغض الّذي حبسها مرصودة على الجسر:
الصبية: وسمعتهن عم يبغضو بعضــن وتْفَرَّقوا بهالكـــون
وهوني حبسني عَ الجسر بغضن ورَح ضل وحدي هون
تَ الحب يجمعهن
فيحدِّثونها عن الكنز، المال والذهب:
شباب: وفينا نعرف يا صبية كيف بدنا نلاقي الكنز
ولا تيأس من الاختلاف في الرؤية وتؤكد الأمل على التلاقي في يوم قادم حتماً، ليجدوا الكنز الثروة التي لا تُقَدَّر، الكامنة في المحبة والتعاون والتفاهم ونبذ البغض:
الصبية: شي ليلة من هالليالي رح يظهر الكنز الغالي
البنات: قولك حرزان هالكنز
الصبية: أكتر من دهب أكتر
تشتدّ الأزمة وتتواجه عصي أهل الجسر وفراريع أهل القاطع، فتظهر الصبيّة لتدلّهم على الكنز المفقود الذي يتطلّب، للحصول عليه، معاول بدلا من السلاح:
الصبيّة: شيلو يللّي بإيدكــن وتطلّعوا حواليكــن
مليانة هالأرض معاول والكنز بيظهر عليكن
يرمون السلاح ويأخذون المعاول من الأرض ويتلاقون، وتنهي الصبيّة بالقول:
الصبيّة: وكل ضيعة
بينها وبين الدني جسر القمر
وما زال فيه جسوره بهالأرض مشروره
بدّن يضلّو النــاس يجو لعند النــاس
وتزورنا الدنيي...ونزورا
فالجسر ليس جسراً فقط، إنه الكلمة، الفكر الذي يُسقط الأوهام وحكايات الجن ويقيم علاقات الودّ مع الآخر ويجمع على الخير المشترك. جسر القمر ليس جسراً واحداً نحو "القاطع"، هو كل الكلمات وكل الجسور.
بعد "جسر القمر" يرتقي المسرح الغنائي الرحباني تكاملاً ونضوجاً، فتأخذ المفاهيم بالتبلور على مختلف أصعدة الرؤية النقدية والفكرية والفنية والتقنية. تتعدَد الشخصيات وتتعقد العلاقات في ما بينها وتصبح المعالجة أكثر تشعّباً وأكثر ميلاً إلى الحوار منها إلى الأغنية، ويأخذ الرمز حجماً هلاميّاً مطواعا لكل الاشكال والثغر، فيتعمّق الحوار بعد أن تكون قد تحدّدت الأهداف: إسقاط المفاهيم القبليّة الفاسدة والمتخلّفة السائدة لدى الطبقات العليا من المجتمع وتمجيد الحرية، والعدالة، والنزاهة الحاضنة للإنسان النبيل الصادق الصدوق، والدفاع عن المقهورين.
ولئن كانت "الليل والقنديل"، صراع الظلمة والنور، وعلاقة معقدة بين قوى الخير وقوى الشر على خلفية العمل الإجتماعي المشترك والغلة المشتركة، يسرقها قاطعو الطرق، "هولو" و"خاطر"، فتهدد بانهيار الكتلة المجتمعية، لكن هولو يستسلم، ليس لقوة اليد التي تشهر السيف، بل عرفاناً بالجميل في يقظة للضمير أوحى بها الحب ونقاء موقف الخصم، فيعيد الغلة إلى أصحابها.
بعد "الليل والقنديل" يقدم الرحبانيان "بيّاع الخواتم" التي يبلغان بها مرتبة متقدمة جدّاً، من حيث الشكل: لجهة الحبكة المسرحية وتعزيزها بالموسيقى التصويرية كي لا يبقى الحوار منكفئاً أمام هيمنة الأغنية. ومن حيث المضمون: لجهة تغلغل القصة في الحياة الاجتماعية والسياسية والإدارية، فهي تخلق أسطورة "راجح" التي تصبح على كل شفة ولسان ولا تنتهي إلاّ و"راجح" مجسِّداً إنساناً طيباً "له أم وأب وعنده ثلاثة أولاد"، آتياً ليطلب "ريما" عروساً لابنه. عبر ذلك نستكشف سهرات الضيعة مع المختار وعلاقة الضيعة بالسلطة الممثلة بالشاويش ومهندس البلدية وسرقة أموال زبيدة والصيد والعيد والخطبة...
وتتوالى بعد ذلك أعمال الرحابنة: دواليب الهوى، هالة والملك، أيام فخر الدين، الشخص، يعيش يعيش، جبال الصوان، صح النوم، ناس من ورق، ناطورة المفاتيح، المحطة، قصيدة حب، لولو، ميس الريم، بترا، المؤامرة مستمرة، الربيع السابع. ويغيب عاصي غيبته، فهل يحلّق منصور بجناح واحد؟!. عاد عام 1987 في "صيف 840" محلّقا كما يعود الفينيق! وتبدأ معالم جديدة تتبلور: تتركّز الرؤية ويتقلّص الرمز، ويترسّخ النوع الفني الرحباني في أذهان الناس كل الناس على امتدادات الوطن والعالم العربي على اسس متينة واضحة في الشكل والمضمون:
في الشكل هو مسرح غنائي فني كبير، فيه، الى العناصر المسرحية المعروفة من تمثيل ونص، غِنىً بالموسيقى والأغاني والرقص والديكور...، ويشغل في المكان حيّزاً واسعاً وعميقاً يفرضه التنوع في الفنون المنضوية فيه، فضلاً عن تشعّب الموضوع. وهو لا ينتمي لأيٍّ من الأنواع الأخرى المعروفة قبله وإن كان يستعين بها جميعا.
في المضمون يستجيب للمسرح الملحمي الذي رسم معالمه "بريخت" من حيث انه يقدم للمشاهد المتعة والتسلية والدرس أو الأمثولة والتحريض على التفكّير بمصادر سعادة الانسان وطمأنينته، خصوصًا في نهايات بعض المسرحيات التي غالبا مالا تستجيب لرغبة المشاهد فتحرّضه على البحث عن النهاية المناسبة، لكنه قبل ذلك كان قد رسم هو لنفسه خطوطاً توجيهية أهمها:
-
خط بياني في موضوعات العمل المسرحي يتصاعد في حركة جدلية من الخاص إلى العام فإلى الخاص من جديد: حب العاشقين المنبثق من قصة حب الأرض والناس، إلى قضايا وطنية وإنسانية كبرى (اوجها في اساطير الآلهة- البعلبكية..) واستحضار واستلهام احداث التاريخ، (فخر الدين، بترا، صيف 840، آخر أيّام سقراط، ملوك الطوائف، زنوبيا، عودة الفينيق)، فالعودة الى الدخول في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية بتعمق اكثر ورؤية أوضح وبالاسلوب الرمزي ثم الواقعي المباشر: (الشخص، يعيش يعيش، لولو، المؤامرة مستمرة....).
-
الدعوة إلى ثقافة جديدة في رؤية مختلفة لدور الآلهة وطباعها وتدخلها في شؤون الناس، رؤية أكثر إنسانية وأقل استهتاراً بالإنسان، متميزة بذلك عن المفهوم اليوناني الموازي لها، كما رأينا في ''البعلبكية''.
-
إبداع أساطير في رؤية مستقبلية لمعضلة قائمة: "جبال الصوان"للأخوين رحباني، و"آخر ايام سقراط" و"عودة الفينيق" لمنصور الرحباني:
في "آخر أيام سقراط" حيث يظهر الفينيقيون يصفقون للحاكم ثم للّذي يأتي يالانقلاب عليه.
وفي "عودة الفينيق"، يقول رميا لابنه: "يا ابني نحن شعب تزقيف وتجارة"
-
الاحتفاظ دائما بالرمز المفعم بالمعاني السياسية والانسانية، بحيث يتعذّر فهم النص من دون إدراك الرمز الذي ينسحب إلى كل الشخصيات والمواقع تقريباً، فيأخذ في البدايات شكلاً هلاميّاً مرنا قادرا على ملء أي فراغ، ثم يتطوّر الى شكل مركّز ومحدد خصوصًا "منصور" الذي يتخلّى احيانا عن الرمز ليسمّي الأشياء بأسمائها بجرأة وأناقة معاً:
"الجسر" و"الصبيّة" و"الكنز" في مسرحية "جسر القمر" هي رموز تتداخل مع الشخصيات وتتكامل فيها.
"القنديل" و"كيس الغلّة" و"منتورة" و"هولو" في "الليل والقنديل"، رموز تغوص في عمق الموضوع لتطول وسائل الانتاج وأساليب تبادل السلع بين المنتجين.
"عطر الليل" وشخصية "فخر الدين" ذاته الذي يخرج من حقيقته التاريخية بما لها وما عليها ويتجسد في شخصيته الرمزية المرسومة له في "ايام فخر الدين"،
وتصل قوة الرمز الى اوجها في "المحطة" حيث يصعب وضع حدود فاصلة بين الواقع والرمز سواء في الشخصيات او المواقع، ثم يكاد يتلاشى مع "لولو" وما تلاها، حيث يختبىء خلف الشخصيّة، وأحيانا ينكفئ تماما لنرى فساد القضاء وشراسة الطبقة المتنعّمة ونفاق رعاع الناس كما هو ملموس في الواقع على الأرض.
-
الإرتباط بالأرض والناس كما في "البعلبكية":
البعلبكية: هون نحنا هون لوين بدنا نروح
يا قلب يا مشبّك بحجارة بعلبـك
عَ الدهــــر عَ سنين العمر
وفي "هالة والملك"
هالة : "مش رح نام الا فيكي يا درج اللوز
مش رح ضيع الا فيكي يا درج اللوز"
"انا مشدودة بسقف البيت
مسمّرة على خشبة الشباك
عيني على الشباك وع حجارة البيت"
غربة (في "جبال الصوّان"): "لما صار الوقت جيت
صرّخلي التراب، صرّخولي الناس
ندهتني البيوت وجيت"
وزاد الخير (في "ناطورة المفاتيح"):
"انا رح ضل......
يا خوفي كيف بدكن تهجرو؟
وتصير هالدني
طرقات ما عليها حدا
وبيوت ساكنها الصدا"
عبدو (في "جبال الصوان"): "انا ما بهجر هالقناطر"
-
قبول الآخر المختلف واحترامه، كما رأينا في وصف الخصوم على لسان "بو رافع" أو ما جاء على لسان "صالح" متحدثا عن خصمه "شبلي" في اكثر المواقف عنفًا. وكما نرى الاميرة منتهى، خصم فخر الدين اللدود، عندما يسألها حليفها الكجك احمد العثماني:
الكجك: "ما عاد الا الحرب. في الك مطلب من اسطنبول؟"
الأميرة: "مطلبي إنو تلاقو حل ما يخلي ال عندهن عزّه يغرقو بالذل".
وفي جبال الصوان:
قايد ختيار (الى غربة): "جدّك إسمو الكاسر كان، ضربة سيفو تقد الصخر، وانتهى على البوابه"
ديبو: "بيّك، قيدوم الجبال كان، بإيدو يلوي الحديد، ويمسح نقشة العملة. وانتهى ع البوابة"
فاتك: "إنتي يا طفلة ربيتي بالهرب، يا زهرة الضعف، يا أتعس من عشب الحيط، شو راجعة تعملي؟
غربة: "راجعة خلّص الأرض"
-
نقد الذات حتّى أمام الآخرين إذا لزم الأمر: بعد محادثة عابرة بين الأميرة "منتهى" و"عطر الليل" في "أيام فخر الدين":
تعلن الأميرة امام عطر الليل: "إسمنا...
يا بينمحي وما ينكتب او ينكتب بالعار"
وبو رافع (في "جسر القمر"): "تعدّو علينا ونحنا تعدينا
منعنا الميه عن رزقاتن صارو يسبّونا بسهراتن"
-
جعل الحب والعطاء والتضحية مُثُلاً عليا دائمة لا غنى عنها في كل المستويات، كما في "جسر القمر"، و"الليل والقنديل"،
و"بياع الخواتم"، و"قصيدة حب"... و"عودة الفينيق":
زيّون في "ميس الريم": "انا هيك، ما وقع ظلم على انسان بآخر الارض الا وحسبت إنّي انا انظلمت".
في "صح النوم" قرنفل هي الخصم الاكبر للوالي، سرقت منه الختم والسلطة ومع ذلك هو يقول:
الوالي: "جهنم! ايه في جهنم بس يمكن ما فيها حدا
الإنسان أحلى من النار
ولما نزلتي على البير ما عدت تذكرت الختم
ولا خفت على الختم
تذكرتك إنتي وخفت عليكي إنتي
معقول إقتلك يا قرنفل
معقول الإنسان يقتل واحد خاف عليه؟"
-
تصوير فساد الطبقات العليا وأجهزتها في السلطة والحكم وفساد القضاء والناس، وفضح العرّافين والمنافقين وكشف أكاذيبهم ويتجلّى ذلك مثلاً في "الشخص"، وفي "هالة والملك" و"صح النوم" و"لولو" و"المؤامرة مستمرة":
الملك: "إنتي شحادة كمان؟"
هالة : "لأ انا فقيرة افتكروني أميرة
وصار بدن يجوزوني الملك"
الملك: "وليش ما بتاخديه؟"
هالة: "ما بدي إكذب"
الملك: "تجوزيه واستغليه"
هالة: "العرّاف قلّي هيك، والأشراف قالو هيك، والمستشار قلّي هيك".
ويتساءل الملك: "كيف صار بنت بسيطة ما معها الا الصدق غلبت مدينة عايشة عالكذب؟!".
وفي "يعيش يعيش" يسقط الامبراطور بانقلاب على الأمبراطورية فيعود الى السلطة ليمثل الديمقراطية.
-
الدفاع عن الطبقة الدنيا المقهورة من الناس، المفطورة على المحبة والصفاء "أصحاب مملكة الفقر الكبيرة" كما في"هالة والملك":
هالة: "وناس الشعب خبروني انو الملك ما بيعرف شو فيه بالبيوت الفقيرة، بوابها واطية، والملك ع راسو في تاج، ما بيقدر يوطّي راسو أحسن ما يوقّع التاج وما حدا بيخبرو، كلّن بيكذبو عليه".
وفي ''يعيش يعيش'' هيفا تسأل الأمبراطور المخلوع والمتنكّر تحت اسم برهوم:
هيفا: يا برهوم بسأل حالي: إللي بيندفع حقو ناس، ترى هو أغلى من الناس؟
ذلك دون إهمال الإشارة الرشيقة إلى الرعاع في تلك الطبقة: كما في "ايام فخر الدين":
شكري: مين طلع عَ الدرجة ومين نزل عَ الدرجة''
كذلك في "المحطة":
الحرامي: "الناس متل الغنم، دايماً ناطرين راعي
اجت وردة وقالت في محطة، وعنّدت، لحقوها"
-
الإنتظار، الذي يبلور الإرادة ويحثّ على التفكّير فيحوّل الحلم إلى حقيقة: انتظار الناس لـ"غربة" (جبال الصوان)
انتظار الناس لـ"فخر الدين" (أيام فخر الدين)
انتظار القطار القادم إلى المحطة (المحطة)
-
الإخراج المكتوب ضمناً مع النص في ذهن الكاتب. لذلك فإنّ قراءة النص فقط، من دون مشاهدته على المسرح، لاتكفي لفهمه.
بموازاة كل ذلك، حرصٌ على التنبُّه الدائم الى التقويم الذاتي، فكل عمل جديد فيه تصحيح او تجاوز للعمل السابق. وصولاً إلى كمٍّ من الإنتاج تعجز دونه مؤسسات ثقافية كبرى. ذلك يسمح لنا بالقول، بكل اطمئنان، إن ما قدّمه الرحابنة في هذا المضمار يشكّل في المسرح، مدرسة ملتزمة، شكلاً ومضموناً، بقضاياالانسان الذي يطمح، قبل كل شيء، إلى السلام والطمأنينة، هي "المدرسة الرحبانية".
د. هاني رعد
أستاذ في الجامعة اللبنانية