حوار مع منصور الرحباني
حوار مع منصور الرحباني يُنشر لأوّل مرّة
"يسكنني قلقٌ عميق! إنها الغربة والخوف الميتافيزيكي (Métaphysique)"
" الموت جاهزٌ فينا لينقضّ علينا في أية لحظة!"
" تشطير المادّة والذرّة سينهي الإنسان ويدمّر حضارة كوكب الأرض"
طائر الفينيق لملم جناحيه. سافر منصور الرحباني واكتمل عقد اللقاء مع عاصي. صارا في الصمت الأبدي...
منصور الرحباني أصبح حاضراً كما سائر الكبار الراحلين، عبر أعماله ومؤلفاته وكل الوثائق. بعد صدور مجموعتيه الشعريّتين "أنا الغريب الآخر"، و"أسافر وحدي ملكاً" كان هذا الحوار غير المنشور مع منصور الرحباني وفيه يحدّد موقفه من الموت وتجربة الحياة والمسرح الرحباني والعلاقة الثنائية الفريدة مع عاصي والسياسة والشعر وفرح الناس والعدالة وهموم الما بعد...
حصل ذلك ذات أيار من العام 1989 في بيته في إنطلياس...
ميشال معيكي
(ميشال معيكي) سؤال: في غمرة هذه الحرب في لبنان، أنت مقيمُ في الخوف وسط حمم النار، فيما الإبداع يتطلّب مناخاً من الهدوء والسكينة وراحة البال. كيف أنت مستمرّ بهذه العطاءات الإبداعية.
(منصور الرحباني) جواب: عامةً، الخوف يلغي الإبداع. لا نستطيع أن نبدع ضمن مناخ القلق والخوف. في الخوف تستيقظ الغرائز الحيوانية فينا، ونحسّ بالحاجة إلى الهرب، تماماً كما تفعل الحيوانات أمام الخطر. نحن حالياً نبحث عن الأمان من ملجأ إلى آخر.
في هكذا لحظات يتوقّف الإبداع، ينشلّ... إنما خلال فترة الحرب أنتجنا كأخوين رحباني حفلات منوّعة، وقمنا برحلات موسيقية، فكانت "بترا"، "المؤامرة مستمرّة"، "الربيع السابع"، ثم توقّفنا لأسباب أمنيّة. لم تكن الظروف دائماً مؤاتية...
بعد رحيل عاصي، تحيّة له، كتبتُ صيف 840، التي كسرت كلّ الأرقام القياسيّة في العالم العربي بعدد الأشهر التي اشتغلت خلالها وعدد المشاهدين، ولولا الأحداث لكانت استمرّت.
وكنّا نقدّم أعمالنا كلما مال ميزان الحرب نحو الصحو كأننا نختلس الزمن. صيف 840 كتبتها ولحّنتها خلال أربعة أشهر وساعدتني الظروف الأمنيّة لعرضها. حاليّاً أختبىء.
س: الملجأ مكان جغرافي يحميك من خطر الموت، لكنّ المبدع يبحث عن ملجأ غير منظور، من خلاله يسترجع "شتاته" الإنساني التي بعثرها الخوف. أنت يا منصور أين هو ملجأك الروحي؟
ج: ملجئي الروحي هو وطني. أنا لا أشعر بالطمأنينة. أولاً جسدياً. صحيح أنني أجد ملجأ أحمي فيه نفسي في ساعات القصف، يؤرقني الخوف على شعبي وعلى وطني. يقول الناس أننا اخترعنا وطناً رحبانيّاً عسى أن يتحقّق. أنا خائف على الوطن الموجود وعلى الوطن – الحلم معاً. لكنّ ثمّة بصيص أمل في أن يتحقّق الوطن الرحبانيّ. وطن الحقّ والعدالة والمساواة وكرامة الإنسان.
س: قبل فترة أصدرت مجموعتين شعريّتين.
الأولى: "أنا الغريب الآخر". عن أية غربة يتحدّث منصور ومن هو الآخر؟
ج: الإنسان دائماً غريب، حتى بين أهله فهو غريب... بعضهم يشعر بالأمان ويعيش قانعاً وبسعادة. أنا أحسد هؤلاء الناس االبسطاء الطيّبين. أنا أعيش غربة فظيعة بين الناس بين أولادي وعائلتي. لذا أنا دائماً في بغربة. أنا هكذا!!! الإنسان هو أيضاً بغربة في هذا الكون. هو غريب عابر، من الولادة حتى الموت... الإنسان لا يستقرّ إلاّ في الموت. حدثان مهمّان في حياة الإنسان: الولادة والموت، والمسافة التي بينهما، هي حالة انتظار الموت... ولتخفيف ثقل هذا الانتظار نقوم بأمور كثيرة... نتعلّم، نكتب شعراً، نتزوّج، نحبّ، نشتغل في السياسة... كل هذا تخفيفاً من وجع الانتظار!
س: أليس ذلك توغّلاً في التشاؤم؟
ج: إطلاقاً... انا لست متشائماً. أنا أمزح وأضحك وفي اللقاءات أعتبر نفسي صاحب ظرف... من يراني في المجتمع يعتقد أنني سعيد، لكن يسكنني في داخلي قلق عميق إنها الغربة والخوف الماورائي (ميتافيزيكي).
س: كيف يمكن للإنسان أن يعيش حياته وهو في هاجس انتظار الموت!
ج: أنا اعتبر أن الإنسان لا يستطيع أن يكون مبدعاً أو ثائراً أو متمرّداً أو قائداً إلاّ إذا عانى من هذه الأفكار. القناعة لا توصل إلى أي مكان ولا تحقّق شيئاً. المبدع يعيش مع المأساة التي تنتظره بنهاية مشواره. الموت وما وراء الموت. الإنسان جاء ليعرف. ينطح هذا الحائط المسدود ويعرف سلفاً أنه زائل (مائت) لكنه يبقى يتساءل: إلى أين؟
أنا مؤمن جداً، لكنّ الشكّ هو أيضاً طريق الإيمان.
س: منذ ولادتك وحتى اليوم، خلال رحلة العمر ماذا عرفت؟ ماذا فهمت؟ أيّة حقيقية؟
ج: لم أعرف شيئاً!
س: أما زلت تفتّش؟
ج: من زمان، يوم كنت في العشرين من عمري كتبت قصيدة عنوانها: "مولدي" أقول في نهايتها:
"(...) خبّريني عن الغيوب وهاتي
كلّ سرًّ يموج بالمعميات
فأنا أنشد الحقيقة دوماً
واشتياقي يطلّ في نظراتي
وسنّي العشرون ضاعت حنيناً
وإلى الآن لست أعرف ذاتي
كلّ شيء عرفته هو أنّي
شبحُ عابرُ بوادي الحياة
فإذا لمحت ضوءاً ضئيلاً
طلع الفجر وامّحت ذكرياتي".
س: مجموعتك الشعريّة الثانية "أسافر وحدي ملكاً". السفر إلى أين؟ ولماذا "ملكاً"؟
ج: بين العام 1982 و 1988، كتبت هذه المجموعة وهي قصيدة واحدة فيها الكثير من ظلال الحرب وتأثيراتها، أقول فيها: "...أرفضكم واسافر وحدي ملكاً". وأعني أرفض كلّ زعماء الحرب وأسافر وحدي ملكاً، وأرفض كلّ الطفيليات والميليشيات التي تحكّمت بمصائرنا خلال سنوات الحرب والقهر.
س: أعود لتيمة الموت في قصيدة "هواجس ليلة الميلاد" من مجموعتك "أنا الغريب الآخر"، تقول فيها:
"(...) غنّوا يا أطفالي غنّوا
نمشي، يمشي معنا الموت
ننمو، ينمو معنا الموت
يا موتي الحاضر فيّا
يا من ولدته أمّي"...
ج: يا صديقي ميشال. اختيارك لهذا المقطع الذي يجسّد قناعاتي وهو اختيار جيّد لكنّي أخشى أن يتحوّل الحوار إلى "جنازة" وينزعج منّا القارىء أو المستمع!!!
على أيّة حال أنا أتصوّر دائماً، أن الموت يأتي من داخل، أنه فينا! نولد يولد موتنا معنا. عندما أربّي أطفالي، اطعمهم ليكبروا، أطعمهم موتهم في نفس اللحظة! أربّيهم فأربّي موتهم معهم، الموت جاهز فينا لينقضّ علينا في أيّة لحظة!!!
س: منذ بدايات أعمال الأخوين رحباني حتى اليوم، ثمّة فرح كبير في الأغاني والمسرحيات، وفيها ربيع وأزهار وضحك. من أين يجيء الفرح، من أي مصدر؟
ج: إنتاج الأخوين رحباني متنوّع جدّاً، يتنزّه بين الفرح والحزن والمأساويّة والهزلية. عالم واسع، والمواضيع المسرحية التي عالجاها تضجّ بالمتناقضات، أيماناً منّا بأنّ الإنسان صاحب الرسالة والذي يودّ أن يقود جماهيراً، عليه أن يحتفظ بحزنه ومخاوفه وقلقه وأن يعطي الثقة للآخرين.
وكما كان يقول عاصي: "ثمّة أولاد سيولدون ويلعبون تحت الشمس والحياة تغلب الموت"... إذاً فلنكتم الصراخ في أعماقنا ولنعطي الفرح والقوّة والأمل للآخرين... ولأننا أعطينا فرحاً كثيراً للناس خلال هذه السنوات الطويلة، رواسب الحزن التي أختزنها في نفسي، تجمّعت وظهرت في هاتين المجموعتين.
س: "صيف 840" المسرحية التاريخيّة شكّلت تحيّةً لعاصي الرحباني، ولشعب لبنان الذي ناضل من أجل حريّته واستقلاله، اليوم ماذا يجول ببال منصور؟
ج: أفكار كثيرة تدور في رأسي، ربّما أشتغل على حصار صور (الإسكندر).
س: قبل غياب عاصي كنتما تعملان سويّة. أنت اليوم صرت وحيداً. هل أثّر فيك غياب عاصي سلباً أم حرّرك من بعض القيود "قيود" الشراكة؟
ج: صحيح كنّا نعمل معاً، لكن هناك أعمال كتبها عاصي لوحده ولحّنها ووزّعها، كذلك كتبت ولحّنت أعمالاً بمفردي. قبل صدورها كنّا نعقد جلسات نقد ذاتي، ونقوم بمداولات وتشاور، وأحياناً نُجري بعض التعديلات. وهناك أعمال، تبدأ بفكرة من عاصي، أطوّرها أنا والعكس صحيح. كتابة أولى من أحدنا، وكتابة ثانية من الآخر، ثمّ نعيد كتابتها معاً... كان عاصي يختزن طاقة عشرة ملحّنين ومؤلّفين، وكان قادراً بسهولة أن يكون مؤلّفاً وملحّناً بمفرده... وأنا كذلك، ربّما أقلّ من عاصي!!
اشتغلت مع عاصي 40 عاماً ليلاً نهاراً، لم أعد أنا ذاتي ولا عاصي كذلك. صارت أفكارنا متفاعلة مع بعضها، مع التأكيد على خصوصية كل واحد منّا.
س: عاصي حاضر فيك، على ما أعتقد، أحياناً تحكي معه.
ماذا تقول له وكيف تترجم غيابه؟
ج: عاصي يرحل كلّ يوم منّي... ما أقوله له بالتأمّل بيني وبينه وبالتواصل الفكري الذي لا ينقطع.
س: كيف توفّق بين القلق الميتافيزيكي الذي يقضّك وبين كونك إنساناً مؤمناً؟ ألا يريحك الإيمان؟
ج: أنا في الصنفّ المؤمن جداً بخلود النفس وبالله، ولكن أعتقد أيضاً بأن الشكّ هو طريق الإيمان. الإنسان يشكّ كثيراً ويتعذّب حتى يصل. أنا لا زلت على الطريق، طموحي هو الوصول إلى إيمان البساطة، إيمان الرعاة...أنا لم أبلغ بعد هذه البساطة، ما زلت أجادل، أبحث.
س: في مجموعتك "أنا الغريب الآخر" تقول "لأنّك هاربُ فأنت جميل !!!" كيف تفهم جماليّة الزوال؟
ج: الإنسان مهما عاش، يمرّ كالطائر ثم يعبر. في المطلق كل شيء ينتهي، الحجر، القمر، الشمس، كل شيء إلى زوال. في مقاييسنا، يعيش الإنسان حياةً محدودة ثم يزول. الإنسان الذي يحلم بالله، ويحبّ ويقول شعراً ويصنع مجداً، هذا الإنسان هارب لأنه أسمى عطيّة في الوجود. جمال الإنسان في أنه سريع الزوال، ولا يمكث طويلاً كالحجر أو الجبل!
س: وتقول أيضاً في المجموعة ذاتها: "... حين يبدأ الحب أن يكون سعيداً، يبدأ أن لا يكون!!!"
ج: حين يبلغ الحب ذروته يبدأ موته التدريجي، وقد يستغرق ذلك زمناً وهذه حقيقة مُرّة.
س: كيف تفهم هذه الظاهرة؟ هل الفرح مستحيل الديمومة؟
ج: هذه طبيعة الإنسان يا صاحبي! ربما لأن الحب يحب الصعوبة، ربما أيضاً لأن الطاقة تستنفد ذاتها عندما يستكين الإنسان. لذلك يبقى العاشق قلقاً وعندما يطمئن ينتهي الحب. ومن يحب يقف دائماً على رؤوس أصابعه، في حال استنفار...
س: لا أخالك إلاّ قدريّاً؟
ج: صحيح.
س: يعني أنّك تتلقّى ولا تستطيع أن تفعل، أو أن تغيّر في إراداتٍ مفروضة عليك، وكأنّ خطّ قدرك مرسوم لك قبل أن تولد... القدر، الصدفة، إرادة، قرّرت أن تولد في يوم معيّن وترحل في لحظة محدّدة، أنت مجرّد منفّذ!! هل توافق؟
س: هذا ما لا أعرفه. عاصي كان يقول: "أنا في هذه اللحظة إنسان عادي، عندما تحين ولادة فصيدة منّي تأتي من عالم آخر، فأتلقّاها ثمّ أفرغ، أعود إنساناً عادياً وهكذا". وفي ذلك الكثير من الصحّة... أستطيع أن أكون قدريّاً لأنني شرقي والشرقيّون إجمالاً قدريّوين، يؤمنون بالمقدّر. لكنّي أعتقد أن الإنسان يتمتّع بهامش من الإختيار، ويستطيع من خلاله أن يغيّر أحياناً في قدره. لكنّي لا أعرف إذا كلا مقدّراً له أن يغيّر قدره!!! هذه أمور غامضة بالنسبة لي، لا أستطيع أن أجزم بها.
س: هل غيّر منصور الرحباني مسار قدره؟
ج: نعم أنا غيّرت. كان المفروض أن أكون شرطيّاً، لكنّي غيّرت ودرست على نفسي وصرت منصور الرحباني الذي تعرف...
س: من كان ذاك منصور الذي غيّرته؟
ج: كان منصور ابن الضيعة الشرطي العدلي، شقيق عاصي الرحباني الشرطي في بلدية أنطلياس... عاصي وأنا غيّرنا قدرنا، تمرّدنا على واقعنا وصرنا الأخوين رحباني. التمرّد أهمّ ما في حياة الإنسان...
س: المبدعون الكتّاب، الفنّانون هم حالمون كبار. الحلم هو رفض واقع والتطلّع إلى حال أخرى ترضي رغباتهم. أنت كمنصور الرحباني، وهذا تصوّر افتراضي، إذا قُيّد لك أن تجلس على كوكب قصيّ وأن تحقّق كل ما تريد (كما مارد قمقم سليمان) تأمر فتُطاع... ماذا تطلب؟
ج: ليس من الضروري أن يكون الحالم رافضاً كل ما هو حوله، لكنّه يفكّر بكلّ جديد آخر مختلف، لأن الحالم، المبدع هو عالم قائم بذاته. والحلم هو نوع من تحقيق هذه الذات. والحلم عندي هو بداية التحقيق. كل حقيقة تبدأ من حلم ثمّ تتجسّد.
أمّا إذا كنت على كوكب بعيد، آمر فأُطاع. ليس عندي رغبة سوى سعادة الإنسان والحريّة في كل مكان.
س: هل تعتبر أن الإنسان تعيس؟
ج: نعم إنه تعيس وغريب ومعتقل ومقموع في كل أنظمة العالم، حتى في السويد والنروج... في كل مكان. العدالة ليست موجودة. هناك بشر يقمعون بشراً. تحضرني في هذه اللحظة من مسرحيّة "لولو" "كل حكم في الأرض باطل... العدالة كرتون..."
س: اخترع الأخوان رحباني عبر مسرحيّاتهما "وطناً" فضّلاه على وسع الحلم الإنساني وحرّكا شخصيّاته عبر الحوارات والأغاني، كما في "جمهوريّة فاضلة" مخيّلة... ألم تصفعكما الحقيقة؟
ج: صحيح، لكنها بالنتيجة أحلام إنساننا هنا، ونحن عبّرنا عن مشارعه وعواطفه وتمنّياته ومخاوفه وإحباطاته، تكلّمنا بلسانه فقبلنا... نعم، يُحكى الكثير عن "وطن الأخوين رحباني"، بعض الناس لامنا واعتُبرنا مسؤولين عن هذه الحرب، لأننا حلمنا وتكلّمنا على وطن مثالي عظيم ليس موجوداً إلاّ في خيالنا!!! مفارقة مضحكة، مبكية أن نسمع الإذاعات تتحارب بموسيقانا وتتقاصف بكلمات أغانينا... بالنتيجة وطن الفكر والحريّة وكرامة الإنسان لا بدّ أن يتحقّق، طال أم قصر الزمان من مرارة الواقع في كثير من الحالات.
س: في عالم المُثل، تتّسع حدود الإنتماء ويصبح عابراً للجغرافيا.
ج: صحيح أنا إنسان شرقي، أنتمي لهذا الشرق، للبنان، للشام، لبغداد، لفلسطين، لمصر وأنا أتباهى بشرقيّتي.
س: والحضارة الأوروبية، والتكنولوجيا؟ تتكلّم كثيراً عن رفضك لإنجازات العلوم، مع أنّك مستفيد من هذه التكنولوجيا في كل مناحي الحياة. أليس في الأمر تناقض؟
ج: أنا ضدّ الحضارة الأوروربية، ضدّ العلم الذي أوصلنا، وليسامحني الجميع، أنا ضدّ اكتشاف القمر، وضدّ تشطير المادّة والذرّة، لأنها في النتيجة ستنهي الإنسان وستدمّر حضارة كوكب الأرض. بعض العلماء يقول أن دورة حياة سابقة على الأرض وصلت إلى ذروة العلوم والتكنولوجيا، ثمّ دمّرت ذاتها عبر تفجير نووي، ثمّ استغرق الأمر ملايين السنين لولادة الحياة من جديد. لكن لا أريد أن يُفهم من كلامي أنني ضدّ تطوّر العلوم بالمطلق. صحيح انني أستفيد من كل جهات التكنولوجيا المتوافرة ، وأستعمل الأدوية، وأركب السيارة وأستعمل الهاتف... أنا مع العلم المفيد لخير الإنسان وسعادته وصحّته لكنني ضدّ العلم الذي اخترع القنبلة الذريّة وأسلحة الدمار الفتّاكة. السكين ليس خيراً وشرّاً بحد ذاته، وجهة استعماله تحدّد هذا الأمر، كذلك حالنا مع استعمال الذرّة.
س: هذه الأيام ألاحظ طيّارات ورق ملوّنة يلهو بها الأطفال، مربوطة بخيطان غير مرئية، لكننا نرى الطيّارة... ماذا يعني لك هذا المشهد الشاعري، نقيض التكنولوجيا؟
ج: أرجع إلى طفولتي يوم كنّا نلهو بطيّارات الورق والخيطان "واللحلح" في أحراج إنطلياس... أقول لك أكثر. أحياناً كثيرة أشتري لحفيدي سيارة – لعبة، صدّقني ألهو بها أكثر ممّأ يفعل هو... أعود لطفولتي وأستمتع بها. أنا مع الإنسان – الطفل... هكذا!!
س: هل تعتقد أن قاتلاً ما، طالما نحن في زمن حرب، يستطيع أن يلهو بطيّارة ورق؟
ج: لا أعرف إذا كان ضميره يسمح له بذلك. طيّارة الورق تستلزم براءة ما... لكن في قرارة نفسي أعتقد أنه حتى الطاغية والمجرم ، في مكان ما من زوايا شخصيّتهما، ثمّة إيجابيّة يجب أن نتعامل معها. هذه قناعتي.
س: ما هي حدود التسامح عند منصور الرحباني؟
ج: واسعة! أتمنّى أن أستمرّ هكذا. أترك حقوقي للآخرين. أنا قادر أن أعتذر للآخر إذا أسأت إليه أو حتى لو أساء إليّ. لست قادراً على الحقد. أنا مع لاوتسو حين قال: "قابل الخير بالخير ينتج خير، قابل الشرّ بالخير ينتج خير". الخير ينتصر في النهاية.
س: إذاً لماذا نموت؟ إذا اعتبرنا الموت شرّاً؟
ج: أنا لا أعتبر الموت شرّاً. إنه حالة، أو حقيقة. نحن نجتهد لنعرف عن الموت، لكننا نجهله. يمكن بعد الموت ثمّة حالة أفضل من هذه الحياة! ربّما. الدّين يعدنا بالأفضل!
س: من يؤكّد لك ذلك؟
ج: الإيمان. أنت حرّ أن تؤمن أو لا.
س: أنت تدين بثقافتك إلى رافدي ثقافة الشرق الأقصى والإرث الشرقي من فلاسفة العرب وشعراء الإسلام، إلى ثقافة أوروبا. كيف تهضم كل هذه الثقافات المتناقضة أحياناً؟
ج: قرأت كثيراً وبتنوّع. فلاسفة العرب وشعراؤهم أغنوا فكري وشخصيّتي، اطّلعت على فلسفة اليونان إلى جانب الفكر الأوروربي إضافةً إلى حضارة الشرق الأقصى. في قناعتي أن الإرث الحضاري البشري واحد وإن اختلف في الظاهر... نحن بشر... أمّنا واحدة هي الأرض... ولنا إله واحد!!!
أجرى هذا الحوار مع منصور الرحباني
ميشال معيكي