من الفولكوراللبناني في مسرح الأخوين رحباني
صور من الفولكوراللبناني في مسرح الأخوين رحباني
عتابا وميجانا وأبو الزلف!
إن مجرّد كون القرية اللبنانية إطاراً لمجموعة من المسرحيات الرحبانية، يجعل هذا الإطار بالضرورة يحتوي على أشكال من التراث القروي ماضياً وحاضرا. ويجعل، بالتالي، الاستعانة بالرموز الفولكلورية أمراً لا مناص منه. من هنا، تحمل المسرحية الرحبانية في طيّاتها الكثير من هذه الرموز التي تظهر في بعض الألحان والأشعار، كما في بعض العادات والتقاليد والأهازيج في الأعراس والسهرات والحفلات الموسمية.
وكان من ثمار هذا المجهود إعادة إحياء هذه المظاهر التراثية في ذاكرة الأجيال الجديدة. وعندما بدأت مهرجانات بعلبك وبدأت معها النزعة إلى تصوير التراث القروي اللبناني كان الأخوان رحباني في طليعة المبادرين إلى هذه المهمة. فكان عنوان أول عمل لهما سنة ( ١٩٥٧ ) هو ''تقاليد وعادات''، والعمل الثاني ''عرس في الضيعة'' ( ١٩٥٩ ) ثم ''موسم العز'' (١٩٦٠ ). ثم كرّت السبحة في ما بعد أعمالاً ومهرجانات.
ومن خلال عناوين الأعمال الثلاثة الأولى، نستطيع أن نتلمس المناخ القروي الريفي. هذا المناخ الذي كان لا بد أن يحمل معه لغته ومفرداته وهويته واستطراد ألحانه وأشعاره ومواويله ذات المنحى الفولكلوري الواضح الذي ظهر في مجموعة أخرى أيضاً من الأعمال إضافة إلى تلك التي ذكرناها مثل: البعلبكية وجسر القمر والليل والقنديل وبيّاع الخواتم ودواليب الهوا وفخر الدين. والذي يمكن أن نفنده تحت هذه العناوين:
أولاً: الألحان والأشعار الفولكلورية
وهي موضوعة في باقة من الأغاني والمواويل والتراويد والحداء وما يسمّى أيضاً بأنواع العتابا والميجانا وأبو الزّلف وعالماني الماني والغزيّل... وهذه أنواع غنائية أصبحت من التراث تقوم على ألحان وأشعار خفيفة تحفظها الذاكرة الشعبية من دون أن يُعرف مبدعوها.
وقد مال الأخوان رحباني إلى هذا التراث واستعارا منه الألحان وبعض المطالع وأحياناً أصنافاً من عندهما كلاماً على الوزن والإيقاع ذاتهما كما في ''موسم العز'' حيث حافظا على المطلع الأصلي الذي يقول:
على الماني عالماني قتلني وعاود راضاني
بضلّ بحبّك يا أسمر ان عشت وربّيِ خلاّنَي
وفي سياق الحوار الغنائي بين أفراد المجموعة التي كانت ترأسها فيروز ويشاركها عادة نصري شمس الدين وجوزف ناصيف والجوقة، أضاف الأخوان رحباني أشعاراً جديدة.
ويلي هذا اللحن لحن تراثي آخر وفيه:
يا ظريف الطول ويا بو الميجانا
واش علّم الزينات يحقّ الولدنا
يا ظريف الطّول طولك ميّلو
وحيّدو عا بابنا وما ميّلو
اشعلمك تقفل علينا يا حلو
لما عشقت الغير دشرتك أنا
ثم يليه مقطع على لحن الدلعونا الشهير
على دلعونا وعلى دلعونا راحوا الحبايب ما ودّعونا
على دلعونا يمّ الجدايل والشَّلحة الحمرا والخصر مايل
جرحتيلي قلبي وك ما بيسايل قلبي عا حسابك يمّ العيونا
ومن أبو الزلف هذا المطلع المعروف أيضاً والذي يغنيّه اللبناني في ساعات هدوئه وصفائه وفي لحظات مناجاته للطبيعة. وهو أبطأ إيقاعاً من لحن الدلعونا.
هيهات يا بو الزلف عيني يا موليّا
صفصاف لا تستحي شكشك على الميّا
وعلى اللّحن ذاته أضاف الرحبانيان كلاماً من عندهما وفيه:
يا ريت فينا سوى عهد اللّنا نعيدو
كرم الهوى عالهوا ناشر عناقيدو
خوفي يمرّ الهوى ويومي لنا بإيدو
ويشوف كرمو استوى وعادروبنا فيّا
ثانياً: التقاليد
نجد الكثير من العادات والتقاليد القروية ذات الهوية الفولكلورية في المسرحيّات الرحبانية ومنها: رفع القيمة في الساحة وغالباً ما تكون محدلة السطح أو جرن الكبّة، ثم شرب الماء من الإبريق المملوء من العين عادة، ومواسم قطف الحرير وما يرافقها من أغانٍ من وحي المناسبة، وحدل السطح بواسطة المحدلة، والحياكة على المغزل اليدوي، وجرش البرغل، والعيد وسهريّاَت الصيف، وكذلك سهريّاَت الشتاء قرب الموقد وما يرافقها من حكايات عن القباضايات والجن والعفاريت، وتحضير المونة والتبصير وغيرها...
ثالثاً: الأعراس والأعياد
وما يرافقها من مظاهر البهجة التي تتجلّى في رقص الدبكة ولعب السيف والترس والمبارزة بالأشعار الزجلية. والدبكة هي التراث الفولكلوري الأشهر، ليس فقط في المسرح الرحبانيّ، بل في كل المسرحيات التي تحمل الطابع نفسه. ولا تخلو مسرحية غنائية من الدبكة. والدبكة أنواع، ذلك أن راقصها كان يستوحي طبيعة أرضه وبيئته وعاداته. وهي تعبّر عن وحدة الجماعة، لذلك تُؤدّىَ بالمشاركة كتفاً إلى كتف.
ومن مظاهر الأعراس، ''الزلغوطة''، التي هي قرص كل عرس. ومن الزلاغيط ما أبقى الرحبانيان على كلامها القديم ومنها ما أضيف إليها كلام جديد، مثل هذه الزلغوطة في ''موسم العز'' التي تبدو أنها مزيج من الشكلين:
رجالنا روّدت نسواننا غنّت
راياتنا البيض من خلف الجبل طلّتِ
وزهورنا عا شبابيك دارنا حنّت
والسعد وافى وقناطر بيتنا تعلّتِ .... لي لي لي لي
وهذه الزلاغيط كان لها ''نساؤها'' يتبارين بها تباري الزجّالين العتاق وسط هتاف الحاضرين وتشجيعهم.
وإلى جانب ''الزلغوطة''، رفيقة الأعراس، كانت هناك ''الترويدة'' وهي شكل من أشكال الغناء الشعبي يشارك فيها من يشاء من الجمع كهذا المثل:
صوت ١: حي لله
صوت ٢: يا هو
الجميع: هاي (تُغنّى مطوّلة بأعلى صوت)
صوت من أهل العريس: حي لله
صوت آخر: يا هو (تقال بنغمة مطوَّلة أيضاً)
صوت ١: عريسنا يا زينة كل المحاضر
الجميع: هاي
ثم تدور الموسيقى ويعود الهرج والمرج والمسرح إلى حفلة العرس. وبنسبة كثرة الأعراس في المسرح الرحبانيّ تكثر الزلاغيط والتراويد والحِداء وقد يرافق ذلك لعب السيف والترس، الذي هو استذكار لصور البطولة والماضي المجيد. وبالرغم من أن السيف ظهر في المسرحيات الرحبانية إلاّ أنه لم يُستعمل للقتل وسفك الدماء.
رابعاً: الأزياء
نجد في المسرح الرحبانيّ ذكراً للعديد من أنواع الأزياء ذات الطابع القروي عموماً مثل: الشروال والطربوش واللبّادة والشال والزنّار. هذه الأزياء أُلبست لمعظم الشخصيات الرحبانية لتشير إلى هويتها الريفية.
أما الزنّار فهو أكثر من زي، إنه رمز. وهو تارة من حرير وطوراً من ورد وأحياناً من الشَعر ''شَعرا عاخصرا زنّار'' وأحياناً أخرى من العزّ '' ومزنّرَة بالعزّ''.
ومع الزنّار هناك الشال المتعدّد الألوان، والألوان أساس في عالم الأزياء. ولون الشال أو الطرحة يدل على حالة معينة. فطرحة العروس بيضاء، والطرحات المهداة إلى العسكر من حرير أحمر مطرّز باليد(عودة العسكر) وعندما يهدد فاتك المتسلّط غربة في ''جبال الصوّان'' يقول لها:
''اتركيهن وروحي'' بعرض عليكِ تروحي ولا تجعليهن خبز الأرض ويرجع شجركن يزهّر الطرحات السود''.
ومن الصور الفولكلورية أيضاً، بعض أسماء المأكولات الشعبية الواردة في تضاعيف النصوص مثل: الكبة والفتوش والزعتر وخبز الصاج أو التنّور. ثم هناك الشخصيات النموذجية للإنسان القروي مثل المختار والمكاري والفلاح والناطور وغيرهم من النماذج والصور التي استعارها الأخوان رحباني من البيئة اللبنانية الريفية ما ساعد على تجذير مسرحهما في التاريخ والتراث. وإذا أضفنا إلى ذلك كله مجموعة أغانٍ من الألحان المؤداة بصوت فيروز الباهر لاكتملت عندنا ملامح الهوية الفولكلورية في جانب من جوانب المسرح الرحبانيّ، ويبقى الجانب الآخر الذي صوّر من خلاله الرحبانيان مجموعة أخرى من القضايا التي تتعلق بالإنسان وهمومه الوجدانية والسياسية والأخلاقية والإيمانية على هذه البقعة من الأرض الإسمها لبنان.
الدكتور نبيل أبو مراد