الصلاة في أغاني فيروز
الصلاة في أغاني فيروز
يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى عند سماع صوت فيروز، وما يحمله هذا الصوت من حنان ودفىء أن صاحبة هذا الصوت هي في خشوع وتتحضّر للصلاة. وعندما نسمعها تصلّي فعليًّا نجد الأمر في سياقه الطبيعي ضمن ظاهرة الرحابنة. فرحلة العبور والبحث في أغاني فيروز بحدّ ذاتها رحلة صلاة.
بناءً عليه طلبنا من الأب جوزيف عبيد أن يشارك معنا في تحضير العدد الخاص من المجلّة التربوية في إطار تكريم الأخوين رحباني وفيروز، فأجابني أنه لم يعد يستطيع الكتابة عن فيروز لشدّة تأثّره عند مقاربة هذا الموضوع. وأهدانا مشكوراً كتابه "الصلاة في أغاني فيروز". وبدورنا نهدي مقاطع من هذا الكتاب للمعلّمين والطلاّب وكل من أحبّوا فيروز.
المجلة التربوية
صلوات فيروز
يقول الكثيرون: عندما نسمع فيروز تغنّي نحسّ بمناخ قدسيّ يحيط بنا، نشعر بجوّ صلاة يكتنفنا ويخترق ضلوعنا، يلفّنا بقوّة وعنف ويحملنا على الصلاة. ذلك لأنّ الأغنية الفيروزيّة هي، بحدّ ذاتها، صلاة. فعندما تُصغي إلى فيروز "لكأنّك تستمع إلى واحد من عمالقة المتعبّدين ينشر في صومعته إحدى أروع ملاحم التصوّف، أو إلى كاهن قدّيس يستنزل رأفات السماء في حنيّة معبد". ففيروز مؤمنة وتعيش في محيطٍ مؤمن، بين الكنائس والمعابد.
وأحياناً تصعقنا بالصلاة منذ مطلع الأغنية. ثمّ تنتقل إلى موضوع آخر. وتعود لتختم أغنيتها بالصّلاة من جديد، كما في "بعلبك".
"بعلبك أنا شمعه على دراجِك
وردِه على سياجِك
أنا نقطة زيت بسراجِك...
بعلبك يا قصّة عِزّ علياني
وبالبال حلياني
يا معمّره بقلوب وغناني..."
وأحياناً أخرى تصلّي فيروز وهي تغنّي. فترافق أغنيتها بصلاة، وتحمل هذه تلك. إذ نرى الصلاة في مجمل أقسام أغنيتها، كما في "زهرة المدائن":
"لأجلِك يا مدينةَ الصّلاةْ أصلّي...
عُيونُنا إليكِ ترحَلُ كُلّ يوم...
يا ليلة الإسراء، يا دربَ من مرّوا إلى السماء...
الطّفلُ في المَغارَة، وأمّه مريم وجهانِ يبكيان...
الغَضبُ الساطعُ آتٍ... وكوجهِ اللهِ الغامرْ آتٍ...
لن يُقَفلَ بابُ مدينتنا فأنا ذاهبةٌ لأصلّي...
بأيدينا للقدسِ سلامٌ"".
و "يا ساكن العالي":
"يا ساكِن العالي طُلّ من العالي
عينك علينا على أراضينا
رَجّع إخوتنا وأهالينا
من هالسهل الواسِع... إيدينا مرفوعَه صوبَك...
عن عتباتْ بيوتنا مِنندْهلَك تِحمي بيوتنا...
يا ربّ. يا ساكن العالي".
و "عا إسمك غنّيت":
"عا إسمك غنّيت...
رَكَعت وصلّيت والسّما تسمَع منّي
عا تلالَك عا جبالَك رَكَعْت وصلّيت
هَوني السّما قريبي بتسمعنا يا حبيبي...
لضياعنا الخجولِه رَكَعت وصلّيت
للحلى للطفوله رَكَعت وصلّيت..."
وفيروز أيضاً تفضّل الليل للصلاة، حيث الهدوء والخلوة. لأنّ الليل هو ملهم الشعراء وباعث الإيحاءات والرؤى والأحلام السعيدة، وحافز للنفس المؤمنة على الصلاة ومناجاة خالقها. وسرّ ذلك هو أنّ الليل يغمرنا بالهدوء والسكينة، وهما غاية كلّ نفس هادئة آمنة، محبّة للسلام والطمأنينة، غير أنّه يحمل في طيّات ظلماته رهبة مشوبة بالقلق والهواجس والأشباح، وأحياناً، وهذا أيضاً يشدّ بالنفس إلى الصلاة ويدفعها إلى طلب الحماية لذلك تصلّي فيروز في الليل فتقول:
"رَكَعنا بهالليالي صِرنا دَمع الليالي" (يا ساكن العالي)
قلنا إنّ فيروز تعيش واقعها، وتصلّي واقعها. تسمع في المساء حنين الجرس، وفي الصباح صفاء الآذان... ولذا نجد عندها شيئاً من التوازن والتعايش روحًا. لذلك نرى أنّ كلّ تلّة من تلال لبنان وجباله كانت تحمل مقاماً دينيّاً أو قلعة. وهكذا أصبحت تلال لبنان هيكلاً لصلاة فيروز:
"عا تلالَك عا جبالَك رَكَعت وصلّيت" (عا إسمك غنّيت)
"... على تلاّتها الحِلوين" (خدني)
هنا لا بدّ من التساؤل لماذا تصلّي فيروز على جبال لبنان وتلاله؟ الجواب هو أنّ السماء قريبة تسمعها حين تصلّي:
"هَوني السّما قريبي بتسمَعنا يا حبيبي" (عا إسمك غنّيت)
إنّ فيروز تصلّي في رحاب السّهل الواسع...
"إيدَينا مَرفوعَه صَوبَك" (يا ساكن العالي)
تصلّي في البراري:
"مِتل الشّجر العاري اللي ساجِد بالبراري" (يا ساكن العالي)
تصلّي على الأرض التي نشأت فيها. هيكلها أرض لبنان، سماء لبنان الحلوة، كلّ لبنان:
"خِدني ازرعني بأرض لبنانْ...
"خِدني على الأرض اللي ربّتنا...
"واركَع تحت أحلى سَما وصلّي" (خدني)
ولكن ما همّ فيروز، أينما صلّت؟ المهمّ أنّها تصلّي "تحت أحلى سما". إنها تصلّي على "أرض لبنان". وفيروز التي تعيدنا إلى جوّ الصلاة بعد أن نكون قد غرقنا في هموم الحياة، لا بل تعيدنا إلى بيت الصلاة، إلى مدينة الصلاة، وتخلق لنا جوّاً روحيّاً، تحملنا على الدخول فيه وعلى الانسجام مع جوّه القدسيّ ؛ فيروز هذه، هل تكون إلاّ رسولة صلاة؟ هل تكون إلاّ "ملاكاً حارساً" يرافقنا طوال النهار ليذكّرنا بالقيم السماويّة وبالحياة المثلى، بلطف ونعومة همسه. فهي تغنّي كلمتها وترحل، وتعرف ما للأغنية من وقع في النفوس. هل تكون فيروز، والحالة هذه، إلاّ كما قال فيها سعيد عقل وبعده النقّاد الفنيّون والصحافيّون في أكثر من مناسبة: "إنّها سفيرتنا إلى النجوم... سفيرتنا إلى السماء، وسفيرة السماء إلينا"
أمّا ذكر "الله" فيرد كثيراً عند فيروز. ففي "المحبّة" نقرأ:
"أمّا أنتَ إذا أحببتَ فلا تقلْ: الله في قلبي
لكن قُلْ: أنا في قلبِ الله"
الخلاصة:
تكثر الصلاة في أغاني فيروز، وتختلف من حيث موضعها في قلب الأغنية، باختلاف الأغاني. فتجيء أحياناً في مطلع الأغنية، وأحياناً في نهايتها. وأحياناً أخرى ترافق الصلاة كلّ ألفاظ الأغنية، منذ بدايتها حتى النهاية. وأفضل وقتٍ تصلّي فيه فيروز هو الليل حيث الهدوء والسكينة. لا يهمّها مكان الصلاة، لأنّ السكون الواسع أصبح بأسره هيكلاً لصلاتها. تدخله وتقبّل الحيطان. ثمّ تركع رافعةً يديها إلى السماء، والدموع بعينيها، ضارعةً إلى ساكن الأعالي، مصلّيةً لأجل جميع البشر: لحبيبها، للطفل المشرّد، للوطن وأهله، للقدس مدينة الصلاة، للسلام في العالم.
إنّها تصلّي وتبارك الله محور كلّ بركة ليتورجيّة وهدفها. وكذلك تناجيه وتناديه "يا ربّ" وتطلب منه أن يحمي أرضها وأهلها ويعيد المشرّدين منهم إلى ديارهم. وإذا كانت الأرض لسكنى البشر، فهي أيضاً موطىء قدمي العلي، والسماء هي عرشه ومقرّ سكناه. وهذا ما تذكّرنا به فيروز في أغانيها حيث تغنّي وتصلّي، وتجعل الحاضرين يصلّون معها، لا بل تشرك معها الكون بأسره في صلاتها.
من كتاب الأب جوزيف عبيد
"الصلاة في أغاني فيروز"