لله والإيمان في مسرح الأخوين رحباني
الله والإيمان في مسرح الأخوين رحباني
'' الله هو القنديل في اللّيل''
نشاهد مسرحيَّة من مسرحيّات الأخوين رحبانيّ، فيعمر قلبُنا بالفرح أمام هذا المثلَّث الذي يرافقنا منذ البداية إلى النهاية. فنحن بعيدون جدًّا عمّا نعرف من مسرحيّات عالم الغرب، التي تحاول أن تصدم الإنسان العاديّ فتقول له: الله مات. أو: إذا الإنسان موجود فالله لا موجود. واليأس يرتسم على الجباه وعبثيَّة الحياة كما عند سارتر أو كامو أو كافكا (Sartre ou Camus ou Kafka.). كلُّ هذا لا نجده عند الأخوين رحبانيّ.
فالله حاضر، لا في درس لاهوتيّ، ولا في نصٍّ من الكتب المقدَّسة، بل انطلاقًا من الحياة اليوميَّة.
الله هو الذي يبني مع الإنسان بحسب المثل القائل: "قُمْ حتّى أقوم معك". ينطلق شاهين مع أحد الرجال الذين يبنون البيوت فيصل إلى "عمّار العمّارين". هو الذي يعلِّم الباني كيف يبني ولا يهدم. ولا يكتفي ببناء بيت من البيوت، بل يطلبون منه أن "يعمِّر لبنان" بحيث يصل "عَ الغيم البنيان". هذا يعني أنَّ الإنسان يتجاوب مع الله. يتحلّى قلبُه بالإيمان وبالعزم الذي يمنع الخوف. وفي أيِّ حال، إن أنشد اللبنانيّ بلده، يسمع كلام الحبيب إلى حبيبته: "وقوليلهن لبنان. بعد الله يعبدو لبنان".
حين يكون الإيمان حاضرًا، يكون الله حاضرًا في عمل التحرير. إذا كان البشر خُلقوا أحرارًا، فكيف يقبلون أن يستعبدهم أحد؟ مستحيل. ذاك هو موضوع "جبال الصوّان". لا مجال للخوف، لا مجال لليأس، ولهذا "منكمِّل باللي بقيو". ويعود الشاعر إلى الأخبار القديمة: غمر الأرض الطوفان، هدمت الحروب المدن، الظالمون استعبدوا الناس. ولكن هذا لا يدوم. ومن جسَّم هذا الإيمان وهذه الثقة؟ "غربه" اسمها معها. غابت فقالوا في غيابها: "كانت الإيّام تهجر الإيّام، والغنّيَّة اسودّت بشمس الإيّام". خافوا عليها، قلقوا، اشتاقوا. ولمّا وصلت دعتهم للتغلُّب على الموت: "خزّقولي هالتياب السود، خزقولي هالخوف والفرح يرجع". تألَّمت غربه لآلام الناس وحزنت حزنهم على مثال الأمّ: "زمن يضعف ولا أضعفُ أنا؟ ومن يقع وأنا لا أحترقُ من الحزن؟"
في هذا الوضع رفعت صلاتها إلى الله الذي دعَتْه "نبع الينابيع". هو يبرِّد القلوب ويروي العطاش. ودعته: "سيِّد العطايا". هو لا يكون المعطي فقط، ولا سيِّد الذين يعطون، بل سيِّد العطايا. فكلُّ موهبة هي منه وكلُّ عطيَّة. لا للإنسان فقط، بل للطبيعة كلِّها: للعصافير التي تلعب، لليمامة التي تشرب. وشجرة الحورة المقيمة وحدها "تتطلَّع" إلى الله وتنتظر منه المساعدة ببعض الماء. ولكن هل الطيور أهمّ من الإنسان؟ كلاّ. هل الزهور أثمن من الإنسان؟ هذا لا يمكن أن يكون.
وهكذا تنتقل غربه من النبات والحيوان فتصل إلى الإنسان. ضاعوا في الضباب، فوعدهم الربّ. أتُرى لا يفي بمواعيده؟ عاشوا القهر والظلم، وقفوا عند الأبواب كالشحّاذين، وما نالوا شيئًا فرفعوا عيونهم إلى الله وهو القدير الذي صنع السماوات والأرض. بيوتهم هُدمت فمن يبنيها؟ حقولها فرغت وصارت موضعًا تلعب فيها العصافير.
فأنشدت في البداية وفي النهاية: "يا نبع الينابيع، يا سيِّد العطايا، ساعدني، ساعدني".
دورالإنسان كبير وهو يعمل مع الله. هو مُرسل من قبل الله. هكذا كانت غربه محرِّكة الإيمان ومحاربة اليأس. ولو مات الكثيرون، فنحن لا نتراجع، بل نحارب "باللي بقيو". مات متلج ومات كثيرون غيره. وتموت غربه، ولكن في النهاية تنتصر جبال الصوّان.
فالله هو القنديل في قلب الليل. هو نور العالم ومن تبعه لا يمشي في الظلام. لهذا هتفت منتورة: "ضوّي يا هالقنديل عَ بيوت كلّ الناس، عَ ليل كلِّ الناس". ولكن هناك أناسًا يرفضون هذه القناديل التي تفضح أعمالهم السيِّئة. ومنهم هولو: "ما بيقبل يتعلَّق قنديل يضوّي عالمفرق". ولكن منتورة استقبلته في بيتها وبدَّلت له حياته، بالرغم من الخطر الذي تهدَّد حياتها. كان هولو يقول: "ما بحبِّ نور الشمس يوصل عليَّ". وبعد أن أضاء عليه "قنديل منتورة"، هتف: "يا منتورة، صوتك شو بيعمل فيَّي؟"
ولماذا يتطلَّع الإنسان إلى الله؟ لأنَّه ضعيف، ويحتاج إلى الله احتياج الطفل إلى والديه قال منعم لأسما في الربيع السابع: "أنا بعرف يا أسما إنّو الإنسان مثل الزهر بيدبل، سريع العطب". هنا نكتشف لغة الشعراء مثل أيّوب وإشعيا وغيرهما. هذا مع أنَّه يحلم. ويريد لهذا الحلم أن يجعل الناس يعيشون ولو في "بعض الكذب". اخترع المختار قصَّة راجح لأنَّ "الأهالي بدُّن حكاية أنا خلقتلُّن الحكاية". ونقول الشيء عينه عن جسر القمر. فلا مكان لهذا الجسر على الأرض، بل هو جسر يفصل بين حيّ وحيّ في الضيعة، ويجب أن يزول هذا الجسر البشريّ. لهذا قالت الصبيَّة: "وهوني حبسني عَ الجسر بعضُن ورح ضلّ وحدي هون، تَ الحبّ جمعهُن". وكانت النهاية حين "طلّ الحبّ عَ حيِّ ال لنا"، ففهمت الصبيَّة ومعها الناس أنَّ "عصفور الجناين" يحمل معه السلام.
ونقول الشيء عينه عن راجح في بيّاع الخواتم. حسبوا أنّه آتٍ يحمل الموت، لأنَّه رجل شرّير. ولكنَّه لم يكن كذلك، بل أنشد: "أنا جايي بيع هدايا المحبّي". فهتف المختار: "يا جماعة اشكروا الله... إجا راجح المليح، وراجح المعتَّم أخدتو الريح".
والإنسان يصرخ إلى الله لأنَّه يحسّ بالظلم والقهر. ففي ناطورة المفاتيح يقول جاد: "ما بيكفي الناس الضرايب والسخرة والسكوت". وهتفت بيّاعة البندورة: "أنا بيّاعة وبدّي عيش، أهلي فُقَرا ودْراويش.. وهالعربيَّه خلفا آخده طيور زغار وما إلن ريش".
لا بيت للققراء، وتُؤخذ منه سبلُ العيش كما تؤخذ "العربيَّة" من يد بيّاعة البندورة، فلا يبقى لها سوى الصلاة. وهكذا هتفت زاد الخير في ناطورة المفاتيح: "بيتي أنا بيتك وما إلي حدا، من كِتر ما نادَيتَك وسِع المدى. نطرتك عَ بابي وعَ كلّ البواب، كتبتلَّك عذابي عَ شمس الغياب. لا تُهملني، لا تنساني، ما إلي غيرك، لا تنساني". وتتواصل الصلاة: "لا تهملني، لا تنساني يا شمس المساكين، من أرض الخوف منندهلك يا شمس المساكين".
ويحسّ الإنسان بالفراغ، بأنَّ لا شيء لبث ثابتًا. قام بأعمال كبيرة، فماذا بقي من هذه الأعمال؟ لا شيء. أحبّ وضحك، فما الذي بقيَ من هذا الحبّ الضاحك؟ وهكذا نلتقي مع ذاك الفيلسوف الذي يقول أنَّ كلَّ ما في هذه الدنيا باطلٌ ولا قيمة فيه. أنشدت ماريّا في ناس من ورق: "شو بيبقى من الروايه، شو بيبقى من الشجر، شو بيبقى من الشوارع، شو بيبقى من السهر، شو بيبقى من الليل، من الحبّ، من الحكي، من الضحك من البكي". ويواصل الشاعر تصوير بطلان كلّ شيء: لا يبقى شيء من الملاهي، من اللوعه والضجر، من البحر ومن الصيف، من الحزن ومن الرضى. وهنا نعود إلى الفيلسوف:
"لا يبقى سوى مخافة الله". فالله هو في البداية وهو في النهاية. ولا يبقى سوى الصلاة نقرأها في مسرحيَّة المحطَّة:
"إيماني ساطع يا بحر الليل، إيماني الشمس المدى والليل، ما بيتكسَّر إيماني ولا بيتعب إيماني، وإنتَ اللي ما بتنساني. أنا إيماني الفرح الوسيع، ومن خلف العواصف جايي الربيع، إذا كترت أحزاني ونسيني العمر التاني، إنت اللي ما بتنساني".
الخوري بولس الفغالي
دكتوراه في اللاهوت والفلسفة