الأرض والتاريخ والحب في مسرح ''الأخوين رحباني''

الأرض والتاريخ والحب في مسرح "الأخوين رحباني"

منصور الرحبانيانتهت الرحلة... وعاد التراب الى التراب...

رحل الرجلان اللذان ملآ الدنيا فكراً... وأدباً... وفنّاً... وأنغاماً خالدة...

سافر الأوّل وحيداً منذ ثلاثة وعشرين عاماً... ثم غادر الثاني للقائه وهو مثقل بالشوق... والحنين...

لقد استعاد الرجلان اسمهما... وتوقّفت الحكاية...

هما يستريحان فوق... ومن عليائهما ينظران إلينا... نحن الجالسين الى بيادرهما نحسب غلالها... ونبحث فيها عن كنوزها...

بلغ الحصاد المنتهى... بعد اليوم لن ننتظر من " الأخوين رحباني " عملاً جديداً... فأعمالهما دخلت مكتبة التاريخ وصارت إرثاً وطنيّاً وعالميّاً تفخر به الدنيا...

وليس على الباحث، منذ اللّحظة، إلاّ أن يغرف من هذا النتاج الذي شغل الناس كلّهم، بكلّ فئاتهم وانتماءاتهم ومستوياتهم الفكريّة والاجتماعية والعقائدية والإنسانية... نتاج أطلّ على لبنان مع مطلع الستينيّات من القرن السابق، وهو سيبقى أبداً فخراً للأرض التي أحبّها الرحبانيّان الكبيران...وعادا إليها خالدين...

قصّتهما مع الأرض طويلة... وعميقة عمق تجذّرهما فيها... وهما أحبّاها حبّاً خالداً جسّدته مسرحياتّهما الكثيرة والكبيرة... فعاشت الأرض في وجدانهما إبداعاً مسرحيّاً وفكريّاً يستحقّ أن نقف عنده ونتأمّله بهدوء وتهيّب ورهبة...وقد خصّاها بالكثير من المحطّات، إن نذكر بعضها فعلى سبيل المثال لا الحصر...

بدأت بـ "جسر القمر" وعبرت ساحة "الليل والقنديل" وارتقت إلى قمم "جبال الصوّان" واتّسعت مع "أيّام فخر الدين" وقاتلت مع "بترا"... وكانت طوال مسيرتها معهما تشهد نضجاً وتحوّلات كبيرة إنّما في خطّ ارتقاء صعّد نحو الوطن ورسم حدوده... وخاطب الشعوب وأيقظ فيها عشق التحرّر... وطعم الكرامة...  وحلاوة الاستقلال...

فكيف بدت الأرض معهما؟!

وهل من شبه بينهما وبين الإنسان؟!

وماذا تراه يكون الجواب؟!

الإنسان يولد طفلاً صغيراً... لطيفاً... ناعماً... هادئاً... ومسالماً... ثم ينمو... ويكبر ليصير في يوم من الأيّام رجلاً يمسك بيده معولاً... أو منشاراً... أو قلماً... أو بندقية... أو مصير شعبٍ ووطن... أو غير ذلك.

والأرض مع "الأخوين رحباني" ولدت صغيرة في "جسر القمر"... مساحة من التراب والحفافي والجلول... يتقاتل عليها الناس... ملكيّتها فردية... أو عائليّة... وإن اتّسعت تصل إلى المدى الضيّق لقريتين متجاورتين تتنازعان المياه... وتصل العداوة بينهما خطّ رفض المصاهرة... أو إنكار كلّ من يطيح قانون عداوتهما الجائر... لكنّ صبيّة "جسر القمر" أطلّت من حيث هي لتقول:

"القمر بيضوّي عالناس

    والناس بيتقاتلو

ع مزارع الأرض الناس

    ع حجار بيتقاتلو".

كانت تدرك معنى الحبّ... وتزرع المكان بمفاهيم جديدة مرتبطة بالأرض... أخبرت المتقاتلين عن كنز مدفون... وحوّلت المعاول في أيديهم والفراريع عن القتال إلى العمل... لقد أعادت المياه إلى الأرض العطشى... ومحت مساحات الكراهيّة التي امتدّت بين الناس بسبب تراب الأرض.

وأكملت الأرض مسيرة نموّها لتصبح في "الليل والقنديل" ساحة كبيرة... يتوسّطها بئر... وتعلوها خيمة... وتحرس الخيمة صبيّة أخرى اسمها منتورة... الناس فيها يعتاشون من صناعة القناديل... يبيعونها ويجمعون ثمنها في "كيس الغلّة"... ثم يتقاسمونه في العيد...

في ساحة "الليل والقنيدل" اجتمع الناس... بعضهم جاء من السهل والجرد والمزارع... حاملين انتماءاتهم:

"نحنا من السهل وإنتو

نحنا من الجرد

نحنا من صوب المزارع من تلّ الورد

وكيف حال السّهل

قمح وبيادر وغمار وخضرا مزروعه

وكيف حال الجرد

خير وجناين تفّاح وميّه ونبوعه".

آتين من حيث انتهت "جسر القمر"... من الأرض الزراعية... من المحبّة والسلام... من الهدوء والطمأنينة... إلى ساحة ترسم مرحلة جديدة من التطوّر الفكري... والإبداعي...

في هذه الساحة اجتمع الناس حول القناديل... وعملوا للنور... صنعوا له قناديلهم... واهتمّوا بالمسافر والضائع... وفيها هجمت العتمة عليهم... وعلى قناديلهم... عليهم هجم أبناء الظّلمة... هولو وخاطر سرقا غلّتهم... وأطفآ قنديلهم الكبير... فعتّمت الأرض وانتشر البغض...صورة بيت قروي

لكنّ حارسة الخيمة... منتورة الفتاة الطيّبة... حارسة النور... والمؤتمنة على تعب الناس استطاعت كما صبيّة "جسر القمر" أن تعيد النور والغلال... بالحبّ والرحمة فعلت كلّ ذلك...

 وهكذا كانت ساحة "الليل والقنديل" أرضاً لصراع الخير والشّر... والنور والظلمة... لم تعد أرض الزراعة... بل أصبحت أرض الإنسان الممتلىء خيراً أو شرّاً... نوراً أو ظلاماً دامساً... وانتصرت للنور حين عاد كيس الغلّة إلى خيمة منتورة... وحين عاد القنديل الكبير إلى الصخرة العالية "عند ممرق ضهر الشير".

والأرض التي كانت ممرّاً للقضايا الكبرى... أصبحت هي القضيّة.... في "جبال الصوّان" تأخذ الأرض مداها الأكبر... عمقاً واتساعاً... تاريخاً وحدوداً وإنساناً... هويّة وانتماءً... عشقاً واستشهاداً وكونيّة...

"جبال الصوّان" كما تقول "غربة" إبنة "مدلج":

"وطني يا جبل الغيم الأزرق

وطني يا قمر الندي والزنبق

يا بيوت البيحبونا    يا تراب اللي سبقونا

يا زغير ووسع الدني  وسع الدني يا وطني"

إذاً هي وبكل وضوح الأرض = الوطن... التي لا يمكن لإنسان أن يعيش بدونها...

"إذا فيك تعيش بلا اسم

فيك تعيش بلا وطن".

ولأجل ذلك يموت أبناء "جبال الصوّان" دفاعاً عنها... لأن الغاصب المحتلّ قتل "مدلج" و "إخوة مدلج" على البوابة... واستباح الأرض عشر سنوات نسي فيها الناس أسماءهم... نسوا وجودهم وحضورهم وقيمتهم الإنسانية... نسوا انتماءهم... فعادت "غربة" من الغربة لتصرخ فيهم "خزقولي هالتياب السود خزقولي هالخوف"... "بدنا نعمّر وكل ما تعمّرت الأرض

مندافع عنها أكتر وبتصير إلنا أكتر"غابة ارز تنورين

"غربة" نقلت الأرض إلى مرحلة جديدة... رسّختها في الماضي والحاضر والمستقبل... جعلتها وطناً ماتت من أجله... لبست له ثوب عرسها لأبيض... وزفّت إليه على بوابته... سقطت من أجله في ربيعها... لتزهر بعدها الأرض مواسم فرح... وحبّ... وحريّة...

"جبال الصوّان" هي الوطن... بل الأوطان التي يستشهد فيها القادة عن شعوبهم... وهي الأرض التي لا يملك فيها القادة سوى مساحة صغيرة من التراب تغمر أجسادهم لحظة الرحيل... وهي الأرض التي يحسن قادتها الدفاع عنها ولو دفعوا حياتهم ثمناً لحريّتها... وعزّتها... وكرامتها...

وهي الأرض نفسها التي نراها في "أيّام فخر الدين" و "بترا" و "صيف 840"... لقد نضجت الأرض وأصبحت وطناً رحبانيّاً تتوق إليه الشعوب كلّما اتجه إليها غاصب... أو عدوّ... وهي أرض من سلبت أرضه... وأرض الذين نشأوا على كرامة الإنسان وحفظها... أرض الشعب المؤمن بنفسه... وبقدراته... وبحقوقه...

وإن تكن الأرض قد شغلت الرحبانيّين الراحلين... فهي حضنت التاريخ... وضربت في أعماقه المشرقة والحزينة... المنتصرة والمهزومة... المتألّقة والآملة... أخذا من التاريخ أمجاد فخر الدين... القائد الوطني الكبير... من اتّسعت له الأرض جنوباً وشرقاً وشمالاً... الأمير الذي قاد شعبه بحكمة وشجاعة وإقدام... فكان المثال الذي يحلو للرحبانيين الكبيريْن أن يوقظاه من سكون هجعته... ليعيش ويتحرّك ويأمر ويحكم ويعدل ويحارِب ويحارَب فوق خشبة مسرحهما... وكان الرجل الرجل، الذي طبع التاريخ برجولة الحاكم... ورجاحة عقله... وعدالة قراره...

كان ذلك زمن العزّ الأوّل... حيث يستطيع القائد أن يقود شعبه... وحيث يتساوى الوطن والقائد في الحياة والموت... فيحييان معاً أو يموتان معاً... تنتصر القضية بانتصارهما... وتهزم بهزيمتهما...

هذا التاريخ انطلق مع الأخوين رحباني من خلال أعمال لم تكن تاريخبّة بحتة...لأنّ الإبداع شاء أن يزيّن مفاصلها... ويحمّلها أفكار العصر وأحلامه... أن ينثر فوقها عطر الطموحات الكبيرة والرؤى البعيدة... فكانت "أيّام فخر الدين" و "سفر برلك"...

 وبعد رحيل عاصي انفرد منصور بقراءة التاريخ... لقد أبحر في رحابه... ولا أظنّه فعل ذلك لأنّ مخيّلته جفّت... أو لأنّ رياح الإبداع في أعماق روحه دخلت تشرينها...

أظنّه عاد إلى التاريخ لأنّ في التاريخ ما يستحقّ ذلك... فالوطن الرحبانيّ شلّعته الحرب... وأحرقت آماله وتطلّعاته... ومزّقت دفاتره وأوراقه... وجعلت الناس يقرأون في كتب الطغاة والجاحدين...

عندها أحسّ منصور الرحباني بالخطر الداهم فجلس أمام التاريخ... يقرأ فيه عن الناس كلّهم... ويتأمّل فيه أمام الناس كلّهم بحكمة الشعراء والأدباء والمفكّرين والمثقّفين... وكأنّه ضاق ذرعاً بالسائرين السائرين... الذين لا تستوقفهم محطّة... ولا يعنيهم تاريخ...

وللجلوس معه أمام صفحات التاريخ وما تعنيه سنختار ثلاث مسرحيّات له وهي "آخر أيّام سقراط" و "قام في اليوم الثالث" و "أبو الطيّب المتنبّي".

ماذا قال منصور الرحباني فيها؟!

الإله يصلب ويموت... لكنّه يقوم في اليوم الثالث.أعمدة من هياكل بعلبك

الفيلسوف يعدم...

والشاعر يقتل...

الإله والإنسان يقتلان... ومن الفاعل؟

جهلة هذا العالم... جماعات لا تؤمن بالمحبة... ولا تحترم الفكر والإبداع... بشر يخشون على عروشهم ومواقعهم... حاقدون... مفككون... خائفون... الحبّ يخيفهم... والفكر يرعبهم... والأدب يستعصي عليهم...

هؤلاء هم الفاعل...  وما أكثرهم!!

التاريخ يعجّ بأمثالهم... والتاريخ يقف لحظات مجيدة مع ضحاياهم... لكأنّ التاريخ يثار للضحايا بتخليدها فوق صفحاته... ثم يحرق الجاهل بنيران جهله... ومحدوديّة فكره... وبشاعة قلبه...

مع "آخر أيّام سقراط" بدا منصور الرحباني وكأنّه لا يرى سوى النهايات... آخر الطريق لفيلسوف عاش اغتراب فكره وسط جماعة لا تقيم وزناً للفكر... بل تعتبره ضرباً من الجنون المطبق... إنّها نهاية كبير لم يوسع له الناس مكاناً بينهم... لم يوسع له الحكّام مكاناً بينهم...

 ...ثم "وقام في اليوم الثالث"... المسرحية نقلت من الإحباط... لأن الإله ينتصرعلى الموت بالحياة... هو الذي يعطي الحياة... وهو الرجاء والقيامة...

أمّا "أبو الطيّب المتنبّي" فعودة إلى الواقع... إلى الإنسان... إلى المبدع في صراعه مع طموحه وأحلامه... في صراع مع آخرين قيّض لهم أن يتبوّأوا سدّة المسؤولية السياسية...وحكم عليه هو أن يسخّر إبداعه لينشدهم الشعر... ويصوّر أمجادهم... ويتذلّل لهم أحياناً ليحظى بشيء من عطاءاتهم...

ويمشي المتنبّي رحلة قدره... مجرجراً ذيول الخيبة... يُهزم... كبرياؤه تئنّ أمام طبقيّة اجتماعيّة... أو خبث سياسي... أو حقد بشريّ... يمشي في الأرض... وتلاحقه لعنة الإبداع... إلى أن يقتل...

لماذا إذاً النهايات تلك؟!صورة لأعلان عن مسرحية منصور الرحباني (أبو الطيب المتنبي

لقد عرف المسرح الرحبانيّ نهاية الأبطال في "جبال الصوّان" أوّلاًً ثم في مسرحيات عديدة أخرى كـ "صيف 840" و "آخر أيام سقراط"...

ولكن هل أسباب الموت واحدة؟!

وما الذي تغيّر؟!

في البداية كان القائد/البطل يموت فداءً عن شعبه... يموت من أجل قضيّة كبرى... وكان له شرف القيادة... الشعب يحبّه... يحني هامته أمام قيادته الحكيمة... ويحمله في قلبه... ووجدانه... القائد/البطل كان أكثر بني قومه تعقّلاً ورؤيويّة... وهو الذي كان يتبوّأ سدّة المسؤوليات الوطنية... والتاريخيّة...

إذاً فالقائد كان يحبّ شعبه... وشعبه كان يحبّه ويرفعه على قمّة مصيره.. هكذا تكون الأمور في الأزمنة الجيّدة.... أمّا في الأزمنة الرديئة فإن قادة الفكر يُضطهدون... ويُحاربون... ويُقتلون... شعوبهم وطغاتهم ينكّلون بهم... يهدرون دماءهم... يدوسون على مصيرهم... وفكرهم... ورؤاهم...

في الأزمنة الرديئة تُستبعد القيادات النيّرة... وتُحارب... وتُرتهن مصائر الشعوب الجاهلة... القانعة بجهلها... الغريبة عن وعي مصيرها...

فهل أراد منصور الرحباني... المثقل بحصاد عمره... المنحني بتواضع الكبار... أن يصرخ في الناس "كفى... أوقفوا قتل قادتكم... أوقفوا قتل مفكّريكم"...بكلّ المعاني الحقيقية والمجازيّة... أظنه لم يرد غير ذلك... فالتاريخ كان بالنسبة إليه مدرسة كبرى... وكتاباً خالداً... قرأ فيه عنّا ولنا... لنفهم ونتّعظ...

وماذا عن الحب في مسرح الرحابنة؟!

هذا الشعور الرقيق كيف تجلّى في مسرح ملأ الدنيا وشغل الناس؟!

مقاربة الموضوع تفرض علينا قسمة المسرحيات الرحبانية إلى مرحلتين اثنتين:

الأولى مرحلة عاصي ومنصور، والثانية مرحلة منصور.

مع عاصي ومنصور سار الحب في خطّين واضحين: حب يخصّ البطلة وحدها... وحب هو للآخرين، لشخصيّات المسرحيات... حب يعرفه الناس جميعهم... ويعيشونه... ومع منصور استراح الحب نهائياً في واقعه البشري المعيش...

لماذا؟

لأنّ البطلة في زمن عاصي كانت فيروز...

ولأنّ فيروز... كانت تحمل هموماً أخرى... رفعتها بصوتها لتصبح خالدة...

ألم تقل في "أيّام فخر الدين":

"أنا كتبوني عا ورق الغار         أنا حمّلوني هموم كتار"

وفي "المحطّة":

"وأهلي ندروني للشمس           وللطرقات".

وكأنّ قدر فيروز أن تبقى صبيّة "جسر القمر" المرصودة هناك... ومنتورة الوحيدة في "الليل والقنديل"... وغربة/ اللي رجعت تخلّص الأرض/ والتي تموت في ريعان شبابها بفستان عرسها الأبيض على بوابة "جبال الصوّان"... أو ورده الغريبة في السهل بدون تذكرة سفر لتصلّي "إيماني ساطع يا بحر الليل"...

هي... في كلّ مسرحياتها... امرأة تغنّي قيماً إنسانية خالدة... وتغنّي الحب أيضاً... إنّما لحبيب لا يتقاسم معها خشبة المسرح... حبيب يعود إلى ماضيها... إلى طفولتها... أو حبيب ينتظرها فوق الخيمة... أو تعده باللقاء بعد أن ينتهي الموسم "وتفضى للمحبّة" لكنّها لم تجد وقتاً للمحبّة... إذ بقيت دائماً وحيدة... فريدة... يحقّ للآخرين أن يحملوها في قلوبهم... أن يتغيّروا كما تغيّر "هولو" بفعل صوتها واسمها ووجهها... لكنّ مصيرهم سيبقى الرحيل عن المكان حيث هي... تماماً كما رحل "هولو" أمام مدّ النور الذي جسّدته "منتورة"/فيروز المسرح الرحبانيّ.

أمّا الشخصيات الأخرى التي شاركت فيروز اعتلاء خشبة المسرح... فقد تمتّعت بواقعيّة العلاقات العاطفية...أحبّت كما يحبّ الناس كلّهم... التقت... أحسّت بالغيرة... تخاصمت... وتزوّجت... أو أوحت بقرب زواجها... بكلمة لقد عاشت تلك الشخصيات المشاعر كما هي.... في عمقها وبساطتها... في حلاوتها وعفويتها... في نهاياتها السعيدة ونهاياتها الحزينة... وتفاعلت معها بصدقيّة... وبراءة...

هكذا كان الحب إذاً زمن عاصي... لكنّه بعد عاصي أصبح أكثر واقعيّة وتحرّرًاً... حتى أنه لامس حقيقة العلاقات البشريّة... فعشيقة سقراط كانت أكثر حضوراً على المسرح من زوجته... وأكثر تأثيراً... حتى إنّ المشاهد تعاطف معها أكثر بكثير من تعاطفه مع زوجة سقراط... لأنّ الزوجة لم تدرك يوماً أهمية سقراط... ولا عرفت قيمة الفكر وحجم نوره... فيما كانت العشيقة تعرف جيّداً قيمة الرجل الذي أجبّته...

مع منصور الحب لم يعد عذريّاً... أفلاطونيّاً... ليس لأنّ منصور أراده كذلك خروجاً وتمرّداً على الوضع الأوّل... إنّما جاء الأمر منسجماً مع واقعيّة التاريخ.... وتطوّر النظرة... وولادة جيل جديد من الجمهور...

وبطلة حكم الرعيان... حبيبة الراعي الذي تولّى الحكم كانت معه على خشبة المسرح... شاركته الدرب... وأمسكت بيده... وفاقت طموحاتها التسلّطيّة طموحاته... غنّته مشاعرها... وبادلها بمشاعر مثلها... ولم يكن الحب بينهما اشتياقاً... أو تحرّقاًً للقاء...

ومع جبران كانت ماري هاسكل... وغيرها من النساء اللواتي عبرن حياته حيناً... أو تركن فيها محطّات لا يمحوها زمن... ولا يخبّئها غبار تاريخ... هكذا أصبح البطل والبطلة شريكان لا ينفصلان في مسرح منصور... يتقاسمان المكان والزمان والمشاعر... كبشر أسوياء...

 لقد باتت الواقعيّة سيّدة الموقف...المطربة فيروز

لكنّ الذي لم يتغيّر أبداً هو ذلك النبل في مقاربة الأمر... فالحب يبقى حبّاً راقياً... وعلاقة المحبّين كذلك... هي البصمة الرحبانية التي طبعت المسرح اللبناني المشرقي العربي بإبداع قلّ مثيله... فقد يلزمنا الكثير من الوقت لنشهد ولادة "أخوين آخرين" يعملان معاً وقد نسي الواحد منهما اسمه لينصهر في الآخر وجداناًً ووجوداً وخلوداً...

فإلى من رحل تاركاً لنا إرثاً ثقافياً وفنيّاً عظيماً نقول: الحصاد وفير... والغلال تكفي لأجيال وأجيال... وهنيئاً لكلّ مثقّف يبحث في المسرح الرحبانيّ عن موضوع الدراسة... فالحقل واسع... واسع جداً... والثمار وفيرة... شكراً شكراً من العقل والقلب لكما... أيّها الأخوان الكبيران... لقد تركتما لنا نبعاً من ينابيع الفردوس لا تنضب مياهه...

                                                                                                        

                                                                                                                                                         الكاتبة والمفتّشة التربوية

                                                                                                                                                                                                     منى بولس

                       

الأرض والتاريخ والحب في مسرح ''الأخوين رحباني''

الأرض والتاريخ والحب في مسرح "الأخوين رحباني"

منصور الرحبانيانتهت الرحلة... وعاد التراب الى التراب...

رحل الرجلان اللذان ملآ الدنيا فكراً... وأدباً... وفنّاً... وأنغاماً خالدة...

سافر الأوّل وحيداً منذ ثلاثة وعشرين عاماً... ثم غادر الثاني للقائه وهو مثقل بالشوق... والحنين...

لقد استعاد الرجلان اسمهما... وتوقّفت الحكاية...

هما يستريحان فوق... ومن عليائهما ينظران إلينا... نحن الجالسين الى بيادرهما نحسب غلالها... ونبحث فيها عن كنوزها...

بلغ الحصاد المنتهى... بعد اليوم لن ننتظر من " الأخوين رحباني " عملاً جديداً... فأعمالهما دخلت مكتبة التاريخ وصارت إرثاً وطنيّاً وعالميّاً تفخر به الدنيا...

وليس على الباحث، منذ اللّحظة، إلاّ أن يغرف من هذا النتاج الذي شغل الناس كلّهم، بكلّ فئاتهم وانتماءاتهم ومستوياتهم الفكريّة والاجتماعية والعقائدية والإنسانية... نتاج أطلّ على لبنان مع مطلع الستينيّات من القرن السابق، وهو سيبقى أبداً فخراً للأرض التي أحبّها الرحبانيّان الكبيران...وعادا إليها خالدين...

قصّتهما مع الأرض طويلة... وعميقة عمق تجذّرهما فيها... وهما أحبّاها حبّاً خالداً جسّدته مسرحياتّهما الكثيرة والكبيرة... فعاشت الأرض في وجدانهما إبداعاً مسرحيّاً وفكريّاً يستحقّ أن نقف عنده ونتأمّله بهدوء وتهيّب ورهبة...وقد خصّاها بالكثير من المحطّات، إن نذكر بعضها فعلى سبيل المثال لا الحصر...

بدأت بـ "جسر القمر" وعبرت ساحة "الليل والقنديل" وارتقت إلى قمم "جبال الصوّان" واتّسعت مع "أيّام فخر الدين" وقاتلت مع "بترا"... وكانت طوال مسيرتها معهما تشهد نضجاً وتحوّلات كبيرة إنّما في خطّ ارتقاء صعّد نحو الوطن ورسم حدوده... وخاطب الشعوب وأيقظ فيها عشق التحرّر... وطعم الكرامة...  وحلاوة الاستقلال...

فكيف بدت الأرض معهما؟!

وهل من شبه بينهما وبين الإنسان؟!

وماذا تراه يكون الجواب؟!

الإنسان يولد طفلاً صغيراً... لطيفاً... ناعماً... هادئاً... ومسالماً... ثم ينمو... ويكبر ليصير في يوم من الأيّام رجلاً يمسك بيده معولاً... أو منشاراً... أو قلماً... أو بندقية... أو مصير شعبٍ ووطن... أو غير ذلك.

والأرض مع "الأخوين رحباني" ولدت صغيرة في "جسر القمر"... مساحة من التراب والحفافي والجلول... يتقاتل عليها الناس... ملكيّتها فردية... أو عائليّة... وإن اتّسعت تصل إلى المدى الضيّق لقريتين متجاورتين تتنازعان المياه... وتصل العداوة بينهما خطّ رفض المصاهرة... أو إنكار كلّ من يطيح قانون عداوتهما الجائر... لكنّ صبيّة "جسر القمر" أطلّت من حيث هي لتقول:

"القمر بيضوّي عالناس

    والناس بيتقاتلو

ع مزارع الأرض الناس

    ع حجار بيتقاتلو".

كانت تدرك معنى الحبّ... وتزرع المكان بمفاهيم جديدة مرتبطة بالأرض... أخبرت المتقاتلين عن كنز مدفون... وحوّلت المعاول في أيديهم والفراريع عن القتال إلى العمل... لقد أعادت المياه إلى الأرض العطشى... ومحت مساحات الكراهيّة التي امتدّت بين الناس بسبب تراب الأرض.

وأكملت الأرض مسيرة نموّها لتصبح في "الليل والقنديل" ساحة كبيرة... يتوسّطها بئر... وتعلوها خيمة... وتحرس الخيمة صبيّة أخرى اسمها منتورة... الناس فيها يعتاشون من صناعة القناديل... يبيعونها ويجمعون ثمنها في "كيس الغلّة"... ثم يتقاسمونه في العيد...

في ساحة "الليل والقنيدل" اجتمع الناس... بعضهم جاء من السهل والجرد والمزارع... حاملين انتماءاتهم:

"نحنا من السهل وإنتو

نحنا من الجرد

نحنا من صوب المزارع من تلّ الورد

وكيف حال السّهل

قمح وبيادر وغمار وخضرا مزروعه

وكيف حال الجرد

خير وجناين تفّاح وميّه ونبوعه".

آتين من حيث انتهت "جسر القمر"... من الأرض الزراعية... من المحبّة والسلام... من الهدوء والطمأنينة... إلى ساحة ترسم مرحلة جديدة من التطوّر الفكري... والإبداعي...

في هذه الساحة اجتمع الناس حول القناديل... وعملوا للنور... صنعوا له قناديلهم... واهتمّوا بالمسافر والضائع... وفيها هجمت العتمة عليهم... وعلى قناديلهم... عليهم هجم أبناء الظّلمة... هولو وخاطر سرقا غلّتهم... وأطفآ قنديلهم الكبير... فعتّمت الأرض وانتشر البغض...صورة بيت قروي

لكنّ حارسة الخيمة... منتورة الفتاة الطيّبة... حارسة النور... والمؤتمنة على تعب الناس استطاعت كما صبيّة "جسر القمر" أن تعيد النور والغلال... بالحبّ والرحمة فعلت كلّ ذلك...

 وهكذا كانت ساحة "الليل والقنديل" أرضاً لصراع الخير والشّر... والنور والظلمة... لم تعد أرض الزراعة... بل أصبحت أرض الإنسان الممتلىء خيراً أو شرّاً... نوراً أو ظلاماً دامساً... وانتصرت للنور حين عاد كيس الغلّة إلى خيمة منتورة... وحين عاد القنديل الكبير إلى الصخرة العالية "عند ممرق ضهر الشير".

والأرض التي كانت ممرّاً للقضايا الكبرى... أصبحت هي القضيّة.... في "جبال الصوّان" تأخذ الأرض مداها الأكبر... عمقاً واتساعاً... تاريخاً وحدوداً وإنساناً... هويّة وانتماءً... عشقاً واستشهاداً وكونيّة...

"جبال الصوّان" كما تقول "غربة" إبنة "مدلج":

"وطني يا جبل الغيم الأزرق

وطني يا قمر الندي والزنبق

يا بيوت البيحبونا    يا تراب اللي سبقونا

يا زغير ووسع الدني  وسع الدني يا وطني"

إذاً هي وبكل وضوح الأرض = الوطن... التي لا يمكن لإنسان أن يعيش بدونها...

"إذا فيك تعيش بلا اسم

فيك تعيش بلا وطن".

ولأجل ذلك يموت أبناء "جبال الصوّان" دفاعاً عنها... لأن الغاصب المحتلّ قتل "مدلج" و "إخوة مدلج" على البوابة... واستباح الأرض عشر سنوات نسي فيها الناس أسماءهم... نسوا وجودهم وحضورهم وقيمتهم الإنسانية... نسوا انتماءهم... فعادت "غربة" من الغربة لتصرخ فيهم "خزقولي هالتياب السود خزقولي هالخوف"... "بدنا نعمّر وكل ما تعمّرت الأرض

مندافع عنها أكتر وبتصير إلنا أكتر"غابة ارز تنورين

"غربة" نقلت الأرض إلى مرحلة جديدة... رسّختها في الماضي والحاضر والمستقبل... جعلتها وطناً ماتت من أجله... لبست له ثوب عرسها لأبيض... وزفّت إليه على بوابته... سقطت من أجله في ربيعها... لتزهر بعدها الأرض مواسم فرح... وحبّ... وحريّة...

"جبال الصوّان" هي الوطن... بل الأوطان التي يستشهد فيها القادة عن شعوبهم... وهي الأرض التي لا يملك فيها القادة سوى مساحة صغيرة من التراب تغمر أجسادهم لحظة الرحيل... وهي الأرض التي يحسن قادتها الدفاع عنها ولو دفعوا حياتهم ثمناً لحريّتها... وعزّتها... وكرامتها...

وهي الأرض نفسها التي نراها في "أيّام فخر الدين" و "بترا" و "صيف 840"... لقد نضجت الأرض وأصبحت وطناً رحبانيّاً تتوق إليه الشعوب كلّما اتجه إليها غاصب... أو عدوّ... وهي أرض من سلبت أرضه... وأرض الذين نشأوا على كرامة الإنسان وحفظها... أرض الشعب المؤمن بنفسه... وبقدراته... وبحقوقه...

وإن تكن الأرض قد شغلت الرحبانيّين الراحلين... فهي حضنت التاريخ... وضربت في أعماقه المشرقة والحزينة... المنتصرة والمهزومة... المتألّقة والآملة... أخذا من التاريخ أمجاد فخر الدين... القائد الوطني الكبير... من اتّسعت له الأرض جنوباً وشرقاً وشمالاً... الأمير الذي قاد شعبه بحكمة وشجاعة وإقدام... فكان المثال الذي يحلو للرحبانيين الكبيريْن أن يوقظاه من سكون هجعته... ليعيش ويتحرّك ويأمر ويحكم ويعدل ويحارِب ويحارَب فوق خشبة مسرحهما... وكان الرجل الرجل، الذي طبع التاريخ برجولة الحاكم... ورجاحة عقله... وعدالة قراره...

كان ذلك زمن العزّ الأوّل... حيث يستطيع القائد أن يقود شعبه... وحيث يتساوى الوطن والقائد في الحياة والموت... فيحييان معاً أو يموتان معاً... تنتصر القضية بانتصارهما... وتهزم بهزيمتهما...

هذا التاريخ انطلق مع الأخوين رحباني من خلال أعمال لم تكن تاريخبّة بحتة...لأنّ الإبداع شاء أن يزيّن مفاصلها... ويحمّلها أفكار العصر وأحلامه... أن ينثر فوقها عطر الطموحات الكبيرة والرؤى البعيدة... فكانت "أيّام فخر الدين" و "سفر برلك"...

 وبعد رحيل عاصي انفرد منصور بقراءة التاريخ... لقد أبحر في رحابه... ولا أظنّه فعل ذلك لأنّ مخيّلته جفّت... أو لأنّ رياح الإبداع في أعماق روحه دخلت تشرينها...

أظنّه عاد إلى التاريخ لأنّ في التاريخ ما يستحقّ ذلك... فالوطن الرحبانيّ شلّعته الحرب... وأحرقت آماله وتطلّعاته... ومزّقت دفاتره وأوراقه... وجعلت الناس يقرأون في كتب الطغاة والجاحدين...

عندها أحسّ منصور الرحباني بالخطر الداهم فجلس أمام التاريخ... يقرأ فيه عن الناس كلّهم... ويتأمّل فيه أمام الناس كلّهم بحكمة الشعراء والأدباء والمفكّرين والمثقّفين... وكأنّه ضاق ذرعاً بالسائرين السائرين... الذين لا تستوقفهم محطّة... ولا يعنيهم تاريخ...

وللجلوس معه أمام صفحات التاريخ وما تعنيه سنختار ثلاث مسرحيّات له وهي "آخر أيّام سقراط" و "قام في اليوم الثالث" و "أبو الطيّب المتنبّي".

ماذا قال منصور الرحباني فيها؟!

الإله يصلب ويموت... لكنّه يقوم في اليوم الثالث.أعمدة من هياكل بعلبك

الفيلسوف يعدم...

والشاعر يقتل...

الإله والإنسان يقتلان... ومن الفاعل؟

جهلة هذا العالم... جماعات لا تؤمن بالمحبة... ولا تحترم الفكر والإبداع... بشر يخشون على عروشهم ومواقعهم... حاقدون... مفككون... خائفون... الحبّ يخيفهم... والفكر يرعبهم... والأدب يستعصي عليهم...

هؤلاء هم الفاعل...  وما أكثرهم!!

التاريخ يعجّ بأمثالهم... والتاريخ يقف لحظات مجيدة مع ضحاياهم... لكأنّ التاريخ يثار للضحايا بتخليدها فوق صفحاته... ثم يحرق الجاهل بنيران جهله... ومحدوديّة فكره... وبشاعة قلبه...

مع "آخر أيّام سقراط" بدا منصور الرحباني وكأنّه لا يرى سوى النهايات... آخر الطريق لفيلسوف عاش اغتراب فكره وسط جماعة لا تقيم وزناً للفكر... بل تعتبره ضرباً من الجنون المطبق... إنّها نهاية كبير لم يوسع له الناس مكاناً بينهم... لم يوسع له الحكّام مكاناً بينهم...

 ...ثم "وقام في اليوم الثالث"... المسرحية نقلت من الإحباط... لأن الإله ينتصرعلى الموت بالحياة... هو الذي يعطي الحياة... وهو الرجاء والقيامة...

أمّا "أبو الطيّب المتنبّي" فعودة إلى الواقع... إلى الإنسان... إلى المبدع في صراعه مع طموحه وأحلامه... في صراع مع آخرين قيّض لهم أن يتبوّأوا سدّة المسؤولية السياسية...وحكم عليه هو أن يسخّر إبداعه لينشدهم الشعر... ويصوّر أمجادهم... ويتذلّل لهم أحياناً ليحظى بشيء من عطاءاتهم...

ويمشي المتنبّي رحلة قدره... مجرجراً ذيول الخيبة... يُهزم... كبرياؤه تئنّ أمام طبقيّة اجتماعيّة... أو خبث سياسي... أو حقد بشريّ... يمشي في الأرض... وتلاحقه لعنة الإبداع... إلى أن يقتل...

لماذا إذاً النهايات تلك؟!صورة لأعلان عن مسرحية منصور الرحباني (أبو الطيب المتنبي

لقد عرف المسرح الرحبانيّ نهاية الأبطال في "جبال الصوّان" أوّلاًً ثم في مسرحيات عديدة أخرى كـ "صيف 840" و "آخر أيام سقراط"...

ولكن هل أسباب الموت واحدة؟!

وما الذي تغيّر؟!

في البداية كان القائد/البطل يموت فداءً عن شعبه... يموت من أجل قضيّة كبرى... وكان له شرف القيادة... الشعب يحبّه... يحني هامته أمام قيادته الحكيمة... ويحمله في قلبه... ووجدانه... القائد/البطل كان أكثر بني قومه تعقّلاً ورؤيويّة... وهو الذي كان يتبوّأ سدّة المسؤوليات الوطنية... والتاريخيّة...

إذاً فالقائد كان يحبّ شعبه... وشعبه كان يحبّه ويرفعه على قمّة مصيره.. هكذا تكون الأمور في الأزمنة الجيّدة.... أمّا في الأزمنة الرديئة فإن قادة الفكر يُضطهدون... ويُحاربون... ويُقتلون... شعوبهم وطغاتهم ينكّلون بهم... يهدرون دماءهم... يدوسون على مصيرهم... وفكرهم... ورؤاهم...

في الأزمنة الرديئة تُستبعد القيادات النيّرة... وتُحارب... وتُرتهن مصائر الشعوب الجاهلة... القانعة بجهلها... الغريبة عن وعي مصيرها...

فهل أراد منصور الرحباني... المثقل بحصاد عمره... المنحني بتواضع الكبار... أن يصرخ في الناس "كفى... أوقفوا قتل قادتكم... أوقفوا قتل مفكّريكم"...بكلّ المعاني الحقيقية والمجازيّة... أظنه لم يرد غير ذلك... فالتاريخ كان بالنسبة إليه مدرسة كبرى... وكتاباً خالداً... قرأ فيه عنّا ولنا... لنفهم ونتّعظ...

وماذا عن الحب في مسرح الرحابنة؟!

هذا الشعور الرقيق كيف تجلّى في مسرح ملأ الدنيا وشغل الناس؟!

مقاربة الموضوع تفرض علينا قسمة المسرحيات الرحبانية إلى مرحلتين اثنتين:

الأولى مرحلة عاصي ومنصور، والثانية مرحلة منصور.

مع عاصي ومنصور سار الحب في خطّين واضحين: حب يخصّ البطلة وحدها... وحب هو للآخرين، لشخصيّات المسرحيات... حب يعرفه الناس جميعهم... ويعيشونه... ومع منصور استراح الحب نهائياً في واقعه البشري المعيش...

لماذا؟

لأنّ البطلة في زمن عاصي كانت فيروز...

ولأنّ فيروز... كانت تحمل هموماً أخرى... رفعتها بصوتها لتصبح خالدة...

ألم تقل في "أيّام فخر الدين":

"أنا كتبوني عا ورق الغار         أنا حمّلوني هموم كتار"

وفي "المحطّة":

"وأهلي ندروني للشمس           وللطرقات".

وكأنّ قدر فيروز أن تبقى صبيّة "جسر القمر" المرصودة هناك... ومنتورة الوحيدة في "الليل والقنديل"... وغربة/ اللي رجعت تخلّص الأرض/ والتي تموت في ريعان شبابها بفستان عرسها الأبيض على بوابة "جبال الصوّان"... أو ورده الغريبة في السهل بدون تذكرة سفر لتصلّي "إيماني ساطع يا بحر الليل"...

هي... في كلّ مسرحياتها... امرأة تغنّي قيماً إنسانية خالدة... وتغنّي الحب أيضاً... إنّما لحبيب لا يتقاسم معها خشبة المسرح... حبيب يعود إلى ماضيها... إلى طفولتها... أو حبيب ينتظرها فوق الخيمة... أو تعده باللقاء بعد أن ينتهي الموسم "وتفضى للمحبّة" لكنّها لم تجد وقتاً للمحبّة... إذ بقيت دائماً وحيدة... فريدة... يحقّ للآخرين أن يحملوها في قلوبهم... أن يتغيّروا كما تغيّر "هولو" بفعل صوتها واسمها ووجهها... لكنّ مصيرهم سيبقى الرحيل عن المكان حيث هي... تماماً كما رحل "هولو" أمام مدّ النور الذي جسّدته "منتورة"/فيروز المسرح الرحبانيّ.

أمّا الشخصيات الأخرى التي شاركت فيروز اعتلاء خشبة المسرح... فقد تمتّعت بواقعيّة العلاقات العاطفية...أحبّت كما يحبّ الناس كلّهم... التقت... أحسّت بالغيرة... تخاصمت... وتزوّجت... أو أوحت بقرب زواجها... بكلمة لقد عاشت تلك الشخصيات المشاعر كما هي.... في عمقها وبساطتها... في حلاوتها وعفويتها... في نهاياتها السعيدة ونهاياتها الحزينة... وتفاعلت معها بصدقيّة... وبراءة...

هكذا كان الحب إذاً زمن عاصي... لكنّه بعد عاصي أصبح أكثر واقعيّة وتحرّرًاً... حتى أنه لامس حقيقة العلاقات البشريّة... فعشيقة سقراط كانت أكثر حضوراً على المسرح من زوجته... وأكثر تأثيراً... حتى إنّ المشاهد تعاطف معها أكثر بكثير من تعاطفه مع زوجة سقراط... لأنّ الزوجة لم تدرك يوماً أهمية سقراط... ولا عرفت قيمة الفكر وحجم نوره... فيما كانت العشيقة تعرف جيّداً قيمة الرجل الذي أجبّته...

مع منصور الحب لم يعد عذريّاً... أفلاطونيّاً... ليس لأنّ منصور أراده كذلك خروجاً وتمرّداً على الوضع الأوّل... إنّما جاء الأمر منسجماً مع واقعيّة التاريخ.... وتطوّر النظرة... وولادة جيل جديد من الجمهور...

وبطلة حكم الرعيان... حبيبة الراعي الذي تولّى الحكم كانت معه على خشبة المسرح... شاركته الدرب... وأمسكت بيده... وفاقت طموحاتها التسلّطيّة طموحاته... غنّته مشاعرها... وبادلها بمشاعر مثلها... ولم يكن الحب بينهما اشتياقاً... أو تحرّقاًً للقاء...

ومع جبران كانت ماري هاسكل... وغيرها من النساء اللواتي عبرن حياته حيناً... أو تركن فيها محطّات لا يمحوها زمن... ولا يخبّئها غبار تاريخ... هكذا أصبح البطل والبطلة شريكان لا ينفصلان في مسرح منصور... يتقاسمان المكان والزمان والمشاعر... كبشر أسوياء...

 لقد باتت الواقعيّة سيّدة الموقف...المطربة فيروز

لكنّ الذي لم يتغيّر أبداً هو ذلك النبل في مقاربة الأمر... فالحب يبقى حبّاً راقياً... وعلاقة المحبّين كذلك... هي البصمة الرحبانية التي طبعت المسرح اللبناني المشرقي العربي بإبداع قلّ مثيله... فقد يلزمنا الكثير من الوقت لنشهد ولادة "أخوين آخرين" يعملان معاً وقد نسي الواحد منهما اسمه لينصهر في الآخر وجداناًً ووجوداً وخلوداً...

فإلى من رحل تاركاً لنا إرثاً ثقافياً وفنيّاً عظيماً نقول: الحصاد وفير... والغلال تكفي لأجيال وأجيال... وهنيئاً لكلّ مثقّف يبحث في المسرح الرحبانيّ عن موضوع الدراسة... فالحقل واسع... واسع جداً... والثمار وفيرة... شكراً شكراً من العقل والقلب لكما... أيّها الأخوان الكبيران... لقد تركتما لنا نبعاً من ينابيع الفردوس لا تنضب مياهه...

                                                                                                        

                                                                                                                                                         الكاتبة والمفتّشة التربوية

                                                                                                                                                                                                     منى بولس

                       

الأرض والتاريخ والحب في مسرح ''الأخوين رحباني''

الأرض والتاريخ والحب في مسرح "الأخوين رحباني"

منصور الرحبانيانتهت الرحلة... وعاد التراب الى التراب...

رحل الرجلان اللذان ملآ الدنيا فكراً... وأدباً... وفنّاً... وأنغاماً خالدة...

سافر الأوّل وحيداً منذ ثلاثة وعشرين عاماً... ثم غادر الثاني للقائه وهو مثقل بالشوق... والحنين...

لقد استعاد الرجلان اسمهما... وتوقّفت الحكاية...

هما يستريحان فوق... ومن عليائهما ينظران إلينا... نحن الجالسين الى بيادرهما نحسب غلالها... ونبحث فيها عن كنوزها...

بلغ الحصاد المنتهى... بعد اليوم لن ننتظر من " الأخوين رحباني " عملاً جديداً... فأعمالهما دخلت مكتبة التاريخ وصارت إرثاً وطنيّاً وعالميّاً تفخر به الدنيا...

وليس على الباحث، منذ اللّحظة، إلاّ أن يغرف من هذا النتاج الذي شغل الناس كلّهم، بكلّ فئاتهم وانتماءاتهم ومستوياتهم الفكريّة والاجتماعية والعقائدية والإنسانية... نتاج أطلّ على لبنان مع مطلع الستينيّات من القرن السابق، وهو سيبقى أبداً فخراً للأرض التي أحبّها الرحبانيّان الكبيران...وعادا إليها خالدين...

قصّتهما مع الأرض طويلة... وعميقة عمق تجذّرهما فيها... وهما أحبّاها حبّاً خالداً جسّدته مسرحياتّهما الكثيرة والكبيرة... فعاشت الأرض في وجدانهما إبداعاً مسرحيّاً وفكريّاً يستحقّ أن نقف عنده ونتأمّله بهدوء وتهيّب ورهبة...وقد خصّاها بالكثير من المحطّات، إن نذكر بعضها فعلى سبيل المثال لا الحصر...

بدأت بـ "جسر القمر" وعبرت ساحة "الليل والقنديل" وارتقت إلى قمم "جبال الصوّان" واتّسعت مع "أيّام فخر الدين" وقاتلت مع "بترا"... وكانت طوال مسيرتها معهما تشهد نضجاً وتحوّلات كبيرة إنّما في خطّ ارتقاء صعّد نحو الوطن ورسم حدوده... وخاطب الشعوب وأيقظ فيها عشق التحرّر... وطعم الكرامة...  وحلاوة الاستقلال...

فكيف بدت الأرض معهما؟!

وهل من شبه بينهما وبين الإنسان؟!

وماذا تراه يكون الجواب؟!

الإنسان يولد طفلاً صغيراً... لطيفاً... ناعماً... هادئاً... ومسالماً... ثم ينمو... ويكبر ليصير في يوم من الأيّام رجلاً يمسك بيده معولاً... أو منشاراً... أو قلماً... أو بندقية... أو مصير شعبٍ ووطن... أو غير ذلك.

والأرض مع "الأخوين رحباني" ولدت صغيرة في "جسر القمر"... مساحة من التراب والحفافي والجلول... يتقاتل عليها الناس... ملكيّتها فردية... أو عائليّة... وإن اتّسعت تصل إلى المدى الضيّق لقريتين متجاورتين تتنازعان المياه... وتصل العداوة بينهما خطّ رفض المصاهرة... أو إنكار كلّ من يطيح قانون عداوتهما الجائر... لكنّ صبيّة "جسر القمر" أطلّت من حيث هي لتقول:

"القمر بيضوّي عالناس

    والناس بيتقاتلو

ع مزارع الأرض الناس

    ع حجار بيتقاتلو".

كانت تدرك معنى الحبّ... وتزرع المكان بمفاهيم جديدة مرتبطة بالأرض... أخبرت المتقاتلين عن كنز مدفون... وحوّلت المعاول في أيديهم والفراريع عن القتال إلى العمل... لقد أعادت المياه إلى الأرض العطشى... ومحت مساحات الكراهيّة التي امتدّت بين الناس بسبب تراب الأرض.

وأكملت الأرض مسيرة نموّها لتصبح في "الليل والقنديل" ساحة كبيرة... يتوسّطها بئر... وتعلوها خيمة... وتحرس الخيمة صبيّة أخرى اسمها منتورة... الناس فيها يعتاشون من صناعة القناديل... يبيعونها ويجمعون ثمنها في "كيس الغلّة"... ثم يتقاسمونه في العيد...

في ساحة "الليل والقنيدل" اجتمع الناس... بعضهم جاء من السهل والجرد والمزارع... حاملين انتماءاتهم:

"نحنا من السهل وإنتو

نحنا من الجرد

نحنا من صوب المزارع من تلّ الورد

وكيف حال السّهل

قمح وبيادر وغمار وخضرا مزروعه

وكيف حال الجرد

خير وجناين تفّاح وميّه ونبوعه".

آتين من حيث انتهت "جسر القمر"... من الأرض الزراعية... من المحبّة والسلام... من الهدوء والطمأنينة... إلى ساحة ترسم مرحلة جديدة من التطوّر الفكري... والإبداعي...

في هذه الساحة اجتمع الناس حول القناديل... وعملوا للنور... صنعوا له قناديلهم... واهتمّوا بالمسافر والضائع... وفيها هجمت العتمة عليهم... وعلى قناديلهم... عليهم هجم أبناء الظّلمة... هولو وخاطر سرقا غلّتهم... وأطفآ قنديلهم الكبير... فعتّمت الأرض وانتشر البغض...صورة بيت قروي

لكنّ حارسة الخيمة... منتورة الفتاة الطيّبة... حارسة النور... والمؤتمنة على تعب الناس استطاعت كما صبيّة "جسر القمر" أن تعيد النور والغلال... بالحبّ والرحمة فعلت كلّ ذلك...

 وهكذا كانت ساحة "الليل والقنديل" أرضاً لصراع الخير والشّر... والنور والظلمة... لم تعد أرض الزراعة... بل أصبحت أرض الإنسان الممتلىء خيراً أو شرّاً... نوراً أو ظلاماً دامساً... وانتصرت للنور حين عاد كيس الغلّة إلى خيمة منتورة... وحين عاد القنديل الكبير إلى الصخرة العالية "عند ممرق ضهر الشير".

والأرض التي كانت ممرّاً للقضايا الكبرى... أصبحت هي القضيّة.... في "جبال الصوّان" تأخذ الأرض مداها الأكبر... عمقاً واتساعاً... تاريخاً وحدوداً وإنساناً... هويّة وانتماءً... عشقاً واستشهاداً وكونيّة...

"جبال الصوّان" كما تقول "غربة" إبنة "مدلج":

"وطني يا جبل الغيم الأزرق

وطني يا قمر الندي والزنبق

يا بيوت البيحبونا    يا تراب اللي سبقونا

يا زغير ووسع الدني  وسع الدني يا وطني"

إذاً هي وبكل وضوح الأرض = الوطن... التي لا يمكن لإنسان أن يعيش بدونها...

"إذا فيك تعيش بلا اسم

فيك تعيش بلا وطن".

ولأجل ذلك يموت أبناء "جبال الصوّان" دفاعاً عنها... لأن الغاصب المحتلّ قتل "مدلج" و "إخوة مدلج" على البوابة... واستباح الأرض عشر سنوات نسي فيها الناس أسماءهم... نسوا وجودهم وحضورهم وقيمتهم الإنسانية... نسوا انتماءهم... فعادت "غربة" من الغربة لتصرخ فيهم "خزقولي هالتياب السود خزقولي هالخوف"... "بدنا نعمّر وكل ما تعمّرت الأرض

مندافع عنها أكتر وبتصير إلنا أكتر"غابة ارز تنورين

"غربة" نقلت الأرض إلى مرحلة جديدة... رسّختها في الماضي والحاضر والمستقبل... جعلتها وطناً ماتت من أجله... لبست له ثوب عرسها لأبيض... وزفّت إليه على بوابته... سقطت من أجله في ربيعها... لتزهر بعدها الأرض مواسم فرح... وحبّ... وحريّة...

"جبال الصوّان" هي الوطن... بل الأوطان التي يستشهد فيها القادة عن شعوبهم... وهي الأرض التي لا يملك فيها القادة سوى مساحة صغيرة من التراب تغمر أجسادهم لحظة الرحيل... وهي الأرض التي يحسن قادتها الدفاع عنها ولو دفعوا حياتهم ثمناً لحريّتها... وعزّتها... وكرامتها...

وهي الأرض نفسها التي نراها في "أيّام فخر الدين" و "بترا" و "صيف 840"... لقد نضجت الأرض وأصبحت وطناً رحبانيّاً تتوق إليه الشعوب كلّما اتجه إليها غاصب... أو عدوّ... وهي أرض من سلبت أرضه... وأرض الذين نشأوا على كرامة الإنسان وحفظها... أرض الشعب المؤمن بنفسه... وبقدراته... وبحقوقه...

وإن تكن الأرض قد شغلت الرحبانيّين الراحلين... فهي حضنت التاريخ... وضربت في أعماقه المشرقة والحزينة... المنتصرة والمهزومة... المتألّقة والآملة... أخذا من التاريخ أمجاد فخر الدين... القائد الوطني الكبير... من اتّسعت له الأرض جنوباً وشرقاً وشمالاً... الأمير الذي قاد شعبه بحكمة وشجاعة وإقدام... فكان المثال الذي يحلو للرحبانيين الكبيريْن أن يوقظاه من سكون هجعته... ليعيش ويتحرّك ويأمر ويحكم ويعدل ويحارِب ويحارَب فوق خشبة مسرحهما... وكان الرجل الرجل، الذي طبع التاريخ برجولة الحاكم... ورجاحة عقله... وعدالة قراره...

كان ذلك زمن العزّ الأوّل... حيث يستطيع القائد أن يقود شعبه... وحيث يتساوى الوطن والقائد في الحياة والموت... فيحييان معاً أو يموتان معاً... تنتصر القضية بانتصارهما... وتهزم بهزيمتهما...

هذا التاريخ انطلق مع الأخوين رحباني من خلال أعمال لم تكن تاريخبّة بحتة...لأنّ الإبداع شاء أن يزيّن مفاصلها... ويحمّلها أفكار العصر وأحلامه... أن ينثر فوقها عطر الطموحات الكبيرة والرؤى البعيدة... فكانت "أيّام فخر الدين" و "سفر برلك"...

 وبعد رحيل عاصي انفرد منصور بقراءة التاريخ... لقد أبحر في رحابه... ولا أظنّه فعل ذلك لأنّ مخيّلته جفّت... أو لأنّ رياح الإبداع في أعماق روحه دخلت تشرينها...

أظنّه عاد إلى التاريخ لأنّ في التاريخ ما يستحقّ ذلك... فالوطن الرحبانيّ شلّعته الحرب... وأحرقت آماله وتطلّعاته... ومزّقت دفاتره وأوراقه... وجعلت الناس يقرأون في كتب الطغاة والجاحدين...

عندها أحسّ منصور الرحباني بالخطر الداهم فجلس أمام التاريخ... يقرأ فيه عن الناس كلّهم... ويتأمّل فيه أمام الناس كلّهم بحكمة الشعراء والأدباء والمفكّرين والمثقّفين... وكأنّه ضاق ذرعاً بالسائرين السائرين... الذين لا تستوقفهم محطّة... ولا يعنيهم تاريخ...

وللجلوس معه أمام صفحات التاريخ وما تعنيه سنختار ثلاث مسرحيّات له وهي "آخر أيّام سقراط" و "قام في اليوم الثالث" و "أبو الطيّب المتنبّي".

ماذا قال منصور الرحباني فيها؟!

الإله يصلب ويموت... لكنّه يقوم في اليوم الثالث.أعمدة من هياكل بعلبك

الفيلسوف يعدم...

والشاعر يقتل...

الإله والإنسان يقتلان... ومن الفاعل؟

جهلة هذا العالم... جماعات لا تؤمن بالمحبة... ولا تحترم الفكر والإبداع... بشر يخشون على عروشهم ومواقعهم... حاقدون... مفككون... خائفون... الحبّ يخيفهم... والفكر يرعبهم... والأدب يستعصي عليهم...

هؤلاء هم الفاعل...  وما أكثرهم!!

التاريخ يعجّ بأمثالهم... والتاريخ يقف لحظات مجيدة مع ضحاياهم... لكأنّ التاريخ يثار للضحايا بتخليدها فوق صفحاته... ثم يحرق الجاهل بنيران جهله... ومحدوديّة فكره... وبشاعة قلبه...

مع "آخر أيّام سقراط" بدا منصور الرحباني وكأنّه لا يرى سوى النهايات... آخر الطريق لفيلسوف عاش اغتراب فكره وسط جماعة لا تقيم وزناً للفكر... بل تعتبره ضرباً من الجنون المطبق... إنّها نهاية كبير لم يوسع له الناس مكاناً بينهم... لم يوسع له الحكّام مكاناً بينهم...

 ...ثم "وقام في اليوم الثالث"... المسرحية نقلت من الإحباط... لأن الإله ينتصرعلى الموت بالحياة... هو الذي يعطي الحياة... وهو الرجاء والقيامة...

أمّا "أبو الطيّب المتنبّي" فعودة إلى الواقع... إلى الإنسان... إلى المبدع في صراعه مع طموحه وأحلامه... في صراع مع آخرين قيّض لهم أن يتبوّأوا سدّة المسؤولية السياسية...وحكم عليه هو أن يسخّر إبداعه لينشدهم الشعر... ويصوّر أمجادهم... ويتذلّل لهم أحياناً ليحظى بشيء من عطاءاتهم...

ويمشي المتنبّي رحلة قدره... مجرجراً ذيول الخيبة... يُهزم... كبرياؤه تئنّ أمام طبقيّة اجتماعيّة... أو خبث سياسي... أو حقد بشريّ... يمشي في الأرض... وتلاحقه لعنة الإبداع... إلى أن يقتل...

لماذا إذاً النهايات تلك؟!صورة لأعلان عن مسرحية منصور الرحباني (أبو الطيب المتنبي

لقد عرف المسرح الرحبانيّ نهاية الأبطال في "جبال الصوّان" أوّلاًً ثم في مسرحيات عديدة أخرى كـ "صيف 840" و "آخر أيام سقراط"...

ولكن هل أسباب الموت واحدة؟!

وما الذي تغيّر؟!

في البداية كان القائد/البطل يموت فداءً عن شعبه... يموت من أجل قضيّة كبرى... وكان له شرف القيادة... الشعب يحبّه... يحني هامته أمام قيادته الحكيمة... ويحمله في قلبه... ووجدانه... القائد/البطل كان أكثر بني قومه تعقّلاً ورؤيويّة... وهو الذي كان يتبوّأ سدّة المسؤوليات الوطنية... والتاريخيّة...

إذاً فالقائد كان يحبّ شعبه... وشعبه كان يحبّه ويرفعه على قمّة مصيره.. هكذا تكون الأمور في الأزمنة الجيّدة.... أمّا في الأزمنة الرديئة فإن قادة الفكر يُضطهدون... ويُحاربون... ويُقتلون... شعوبهم وطغاتهم ينكّلون بهم... يهدرون دماءهم... يدوسون على مصيرهم... وفكرهم... ورؤاهم...

في الأزمنة الرديئة تُستبعد القيادات النيّرة... وتُحارب... وتُرتهن مصائر الشعوب الجاهلة... القانعة بجهلها... الغريبة عن وعي مصيرها...

فهل أراد منصور الرحباني... المثقل بحصاد عمره... المنحني بتواضع الكبار... أن يصرخ في الناس "كفى... أوقفوا قتل قادتكم... أوقفوا قتل مفكّريكم"...بكلّ المعاني الحقيقية والمجازيّة... أظنه لم يرد غير ذلك... فالتاريخ كان بالنسبة إليه مدرسة كبرى... وكتاباً خالداً... قرأ فيه عنّا ولنا... لنفهم ونتّعظ...

وماذا عن الحب في مسرح الرحابنة؟!

هذا الشعور الرقيق كيف تجلّى في مسرح ملأ الدنيا وشغل الناس؟!

مقاربة الموضوع تفرض علينا قسمة المسرحيات الرحبانية إلى مرحلتين اثنتين:

الأولى مرحلة عاصي ومنصور، والثانية مرحلة منصور.

مع عاصي ومنصور سار الحب في خطّين واضحين: حب يخصّ البطلة وحدها... وحب هو للآخرين، لشخصيّات المسرحيات... حب يعرفه الناس جميعهم... ويعيشونه... ومع منصور استراح الحب نهائياً في واقعه البشري المعيش...

لماذا؟

لأنّ البطلة في زمن عاصي كانت فيروز...

ولأنّ فيروز... كانت تحمل هموماً أخرى... رفعتها بصوتها لتصبح خالدة...

ألم تقل في "أيّام فخر الدين":

"أنا كتبوني عا ورق الغار         أنا حمّلوني هموم كتار"

وفي "المحطّة":

"وأهلي ندروني للشمس           وللطرقات".

وكأنّ قدر فيروز أن تبقى صبيّة "جسر القمر" المرصودة هناك... ومنتورة الوحيدة في "الليل والقنديل"... وغربة/ اللي رجعت تخلّص الأرض/ والتي تموت في ريعان شبابها بفستان عرسها الأبيض على بوابة "جبال الصوّان"... أو ورده الغريبة في السهل بدون تذكرة سفر لتصلّي "إيماني ساطع يا بحر الليل"...

هي... في كلّ مسرحياتها... امرأة تغنّي قيماً إنسانية خالدة... وتغنّي الحب أيضاً... إنّما لحبيب لا يتقاسم معها خشبة المسرح... حبيب يعود إلى ماضيها... إلى طفولتها... أو حبيب ينتظرها فوق الخيمة... أو تعده باللقاء بعد أن ينتهي الموسم "وتفضى للمحبّة" لكنّها لم تجد وقتاً للمحبّة... إذ بقيت دائماً وحيدة... فريدة... يحقّ للآخرين أن يحملوها في قلوبهم... أن يتغيّروا كما تغيّر "هولو" بفعل صوتها واسمها ووجهها... لكنّ مصيرهم سيبقى الرحيل عن المكان حيث هي... تماماً كما رحل "هولو" أمام مدّ النور الذي جسّدته "منتورة"/فيروز المسرح الرحبانيّ.

أمّا الشخصيات الأخرى التي شاركت فيروز اعتلاء خشبة المسرح... فقد تمتّعت بواقعيّة العلاقات العاطفية...أحبّت كما يحبّ الناس كلّهم... التقت... أحسّت بالغيرة... تخاصمت... وتزوّجت... أو أوحت بقرب زواجها... بكلمة لقد عاشت تلك الشخصيات المشاعر كما هي.... في عمقها وبساطتها... في حلاوتها وعفويتها... في نهاياتها السعيدة ونهاياتها الحزينة... وتفاعلت معها بصدقيّة... وبراءة...

هكذا كان الحب إذاً زمن عاصي... لكنّه بعد عاصي أصبح أكثر واقعيّة وتحرّرًاً... حتى أنه لامس حقيقة العلاقات البشريّة... فعشيقة سقراط كانت أكثر حضوراً على المسرح من زوجته... وأكثر تأثيراً... حتى إنّ المشاهد تعاطف معها أكثر بكثير من تعاطفه مع زوجة سقراط... لأنّ الزوجة لم تدرك يوماً أهمية سقراط... ولا عرفت قيمة الفكر وحجم نوره... فيما كانت العشيقة تعرف جيّداً قيمة الرجل الذي أجبّته...

مع منصور الحب لم يعد عذريّاً... أفلاطونيّاً... ليس لأنّ منصور أراده كذلك خروجاً وتمرّداً على الوضع الأوّل... إنّما جاء الأمر منسجماً مع واقعيّة التاريخ.... وتطوّر النظرة... وولادة جيل جديد من الجمهور...

وبطلة حكم الرعيان... حبيبة الراعي الذي تولّى الحكم كانت معه على خشبة المسرح... شاركته الدرب... وأمسكت بيده... وفاقت طموحاتها التسلّطيّة طموحاته... غنّته مشاعرها... وبادلها بمشاعر مثلها... ولم يكن الحب بينهما اشتياقاً... أو تحرّقاًً للقاء...

ومع جبران كانت ماري هاسكل... وغيرها من النساء اللواتي عبرن حياته حيناً... أو تركن فيها محطّات لا يمحوها زمن... ولا يخبّئها غبار تاريخ... هكذا أصبح البطل والبطلة شريكان لا ينفصلان في مسرح منصور... يتقاسمان المكان والزمان والمشاعر... كبشر أسوياء...

 لقد باتت الواقعيّة سيّدة الموقف...المطربة فيروز

لكنّ الذي لم يتغيّر أبداً هو ذلك النبل في مقاربة الأمر... فالحب يبقى حبّاً راقياً... وعلاقة المحبّين كذلك... هي البصمة الرحبانية التي طبعت المسرح اللبناني المشرقي العربي بإبداع قلّ مثيله... فقد يلزمنا الكثير من الوقت لنشهد ولادة "أخوين آخرين" يعملان معاً وقد نسي الواحد منهما اسمه لينصهر في الآخر وجداناًً ووجوداً وخلوداً...

فإلى من رحل تاركاً لنا إرثاً ثقافياً وفنيّاً عظيماً نقول: الحصاد وفير... والغلال تكفي لأجيال وأجيال... وهنيئاً لكلّ مثقّف يبحث في المسرح الرحبانيّ عن موضوع الدراسة... فالحقل واسع... واسع جداً... والثمار وفيرة... شكراً شكراً من العقل والقلب لكما... أيّها الأخوان الكبيران... لقد تركتما لنا نبعاً من ينابيع الفردوس لا تنضب مياهه...

                                                                                                        

                                                                                                                                                         الكاتبة والمفتّشة التربوية

                                                                                                                                                                                                     منى بولس