العدالة الاجتماعية الحرية وحرية المعتقد
العدالة الاجتماعية
الحرية وحرية المعتقد
لا عدالة خارج مناخ الحرّية
الإحاطة الكاملة بالكبار ضربٌ من المحال. والكبير هو من اتسعت دائرة المعرفة في مكنوناته، فلا يستطيع الإنسان العادي إدراكه في كل أبعاده وطاقاته أو بلوغ مدى ومعارج الارتقاء أو صفاء التلقّي والتبصّر في أحاسيسه ومداركه.
منصور الرحباني كبير من لبنان تنوّعت أبعاده أفقياً فلامست مناهل المعرفة في الإيمان والعبادة بما يطلق عليه مصطلح علم الديانات، حيث تيقّن من تشابهها حتى الاستنساخ، وفي التاريخ بما يطلق عليه مصطلح توالي الفتوحات وتفاعل الحضارات، ما زاد قناعته بأهمية الكنعانيين حضارة وعبادة وقيادة فكرية، وما جعله يتوغل في التاريخ الفينيقي ودور هذا الشعب في تعليم الشعوب المتوسطية وتصدير الحرف والعلوم والهندسة وتفوقه في التجارة في العالم القديم حتى غدا مطمع الغزاة والفاتحين. وارتقى منصور الرحباني عموديّاً فلامس اللاهوت انطلاقاً من الناسوت، وتفتقت الحجب من أمام عينيه الشاخصتين إلى البعيد، إلى الأعالي، إلى المصدر، فرأى أن الألوهة هي في مدى رعاية الناس وإسعادهم وتوفير قسطهم في القيم وفي المفاهيم الراقية للتفاعل الإنساني وفي طليعته العدالة الاجتماعية والحرية بدءاً بحرية المعتقد.
وسأقصر البحث على هذه المفاهيم الثلاثة من دون التطرق إلى ما غاص فيه الأخوان رحباني (عاصي ومنصور) ثم منصور منفرداً بعد رحيل عاصي، من مواضيع وعناوين وقيم في العادات والتقاليد والفولكلور ونزاعات الضيعة وخصوماتها ومشاكل المدينة والدولة والحكم سواء في الأغاني أو القصائد أو المسرح.
العدالة الاجتماعية كانت هاجس الأخوين رحباني انطلاقاً من أن ''أمهاتهم خلقتهم أحراراً'' المساواة بين الناس أصبحت القاعدة . الدستورية الذهبية منذ الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩
إن مظهر هذه العدالة الاجتماعية يكمن في المساواة في الوظيفة العامة والمساواة في توزيع العدالة والمساواة تجاه القانون وتجاه الأعباء العامة.
وكم كانت هذه العدالة الاجتماعية وما يصيبها من تجاوز وافتئات موضعَ تندّرٍ ومعالجة في المسرح الرحبانيّ.
ويعود حرص الأخوين رحباني على وجوب توفير العدالة الاجتماعية وعدم التنكر لها إلى نشأتهما متعايشين مع الفقر والحرمان، فأحسّا بمشاعر المحرومين والمقهورين والمستعبدين، وأدانا ما يلحق بهم من ظلم وجور.
فكان المثل الأول في القطيعة بين أهل ''جسر القمر'' وجيرانهم أهل ''القاطع'' بسبب قطع المياه عن هؤلاء، فساد البغض بينهم وانساقوا إلى الاقتتال والالتحام إلى أن ظهرت الصبية المسحورة لتبشرهم بظهور الكنز القريب من كل واحد منهم وهو المعول بدلاً من السيف ''وصوت المعول أحلى من رنين السيف'' ''والرضى أحلى من الزعل'' ''والسلام كنز الكنوز''. عند هذه الدعوة أنهى شيخ المشايخ الاقتتال وأمر بفتح المياه باتجاه ''القاطع'' واستبدل الزعل بالمحبة، وأصبح جسر القمر جسر السلام والمحبة، جسر العدالة والمساواة والعمل من أجل الخير ونبذ الأنانية والعنف والبغضاء.
''وكل ضيعة بينها وبين الدني جسر القمر
وطالما فيها قلب بيشدّ قلب مهما تعرّض للخطر
ما بينهدم جسر القمر''
وتكرر المثل في ''الليل والقنديل'' انطلاقاً من الصراع بين النور والظلمة بين الخير والشرّ. فتلاحقت أحداث هذا الصراع إلى أن انتصر النور على العتمة واهتدى هَولو إلى النور وبالتالي إلى الخير وانضمّ إلى الاهالي في تظاهرة نورانية ختمت بها المسرحية.
وفي ''بياع الخواتم'' يبتدع الأخوان رحباني شخصية ''راجح'' على لسان المختار الذي صوّر راجح للأهالي على أنه شرير وقبضاي قاتل سبعة قتلى وهدّد المختار بأن يكون القتيل الثامن ومع ذلك تمكّن المختار من ضربه أربعة خمسة كفوف مع أنه كان مسلّحاً فاستولى على سلاحه وأجبره على تقبيل يده فأعاد إليه السلاح وتركه.
فاستغلّ بعض الأشرار قصة راجح وأخذوا يرتكبون التعديات والتجاوزات والسرقات وينسبونها إلى راجح. ولكن المختار أسرّ إلى ابنة أخته ريما (فيروز) أنّ راجح غير موجود وأنه اخترع هذه الحكاية ليوهم الأهالي أن المختار يحميهم من ''مجهول عليهن جايي''.
وتحصل أحداث متفرقة في الضيعة فيخاف الأهالي من وصول راجح فيعطل عليهم السهرات والأعياد إلى أن يظهر شخص اسمه راجح يحمل كيساً ويغني بصوت رخيم للصبح والعصافير والوديان ونواطيرة الكروم. فيلتقي بريما ويعرّفها بحاله وأن اسمه ''راجح'' فتجيب ريما على الفور: ''مش معقول،لأن راجح مش موجود''. فيسلّمها تذكرة هويّته وعليها رسمه واسمه راجح ويطلب منها أن تعيّن موعداً مع المختار. فأسرعت إلى خالها المختار وأخبرته بلقائها راجح، فلم يصدّق ''لأني أنا مؤلّف راجح'' وبعد أن أكّدت له أنها اطلعت على تذكرة هويته وصورته واسمه، وقع المختار في حالة الارتباك والاضطراب. ''ولله كيف منشلح كلمة، منزرع كذبة بتكبر هالكذبة وبتصير الكذبة زلمة''.
إلى أن يبدأ موسم الخطبة فيقرر راجح مفاجأة الحضور والمختار فيصل إلى السهرة حاملاً الكيس فتُعرّف عنه ريما أنه ''راجح'' الذي طمأن الجميع بأنه حضر إلى السهرة ليبيع الخواتم للخطّاب!
فاستعادت الضيعة طمأنينتها وراحة بالها وشكرت لله على أنه إجا راجح المليح، وراجح المعتم أخدتو الريح.
فأخذ راجح يوزع الأساور والخواتم على الصبايا رافضاً قبض الثمن لأنه يقدمها هدايا لصبايا الضيعة ويطلب إعطاءه صبية.
عندها انكشفت حيلة اللصوص والمشاغبين الذين كانوا ينسبون سرقاتهم وتعدياتهم إلى راجح ومرّة أخرى تنتصر في المسرح الرحبانيّ الطيبة والصدق والمحبة على روح الشر والتلطّي خلف الكذبة لإيهام الناس بالبطولات وأيضاً استغلال الخبريات الكاذبة واختلاق شخصية راجح المرتكب لكي يقوم البعض باسم راجح بسرقات وارتكابات ينسبونها إليه .
وبقيت أسطورة راجح محفورة في أذهان اللبنانيين إلى اليوم ويتناقلها السياسيون لينسبوا الأفعال الجرمية المجهولة المصدر إلى ''راجح مجهول''...
ويتابع الأخوان رحباني تركيزهم على العدالة الاجتماعية فأظهروا في مسرحية الشخص إدانتهم للمحاكمات الظالمة التي تلاحق مراراً بجدية وحزم يبلغ حد الظلم جرائم بسيطة تسند إلى أسباب واهية مثل ''بياعة البندورة'' التي أُعجب بها الحاكم (الشخص) ولكن معاونيه اعتبروها متمردة على قراراتهم بسبب استقبالها الشخص المعادي لمصلحتهم فأحالوها إلى المحاكمة وصادروا عربية الخضرة وقرروا بيعها بالمزاد من دون أن يعلم الشخص بهذه الإجراءات التي درى بها من البياعة في لقاء ظهر فيه أن الشخص نفسه مقيّد ومراقب ومزروب وأنه يخشى أن يحلّ به ما حلّ بالبياعة من ظلم قد يصل إلى درجة الانقلاب عليه.
ويسجّل المسرح الرحبانيّ امتعاض الناس من الروتين الإداري والإبطاء في إنجاز معاملاتهم كما يتبيّن من مسرحية ''صح النوم'' حيث لم يتوصل الناس إلى إنجاز المعاملات إلا بعد سرقة الختم من الوالي وتختيم المعاملات أثناء نومه فأفاق ورأى ساحة المدينة قد بنيت وجمّلت ...
وأظهر هذا المسرح أيضاً مدى استنكار الشعب ورفضه لفرض الضرائب الجائرة التي يفرضها الحاكم المتسلّط عليها ما حمل الشعب على ترك المدينة وبقاء هذا الحاكم وحيداً بمواجهة ''زاد الخير'' التي أصبحت كل الرعية وتوصّلت إلى إقناع الملك بوجوب دعوة الناس للعودة لأنه لا يمكن أن يكون هناك ملك من دون رعية (ناطورة المفاتيح).
وكانت ذروة دفاع الأخوين رحباني عن الحق الفلسطيني المهضوم بأسلوب شعري وغنائي وموسيقي فريد قاوم التسلّط والاحتلال في جبال الصوان وأظهر بطولات الشعب ضد الاستبداد وأن مصدر الصراع والمقاومة هو في الداخل: ''يلّي بيحاربوا من برّا بيضلّوا برّا، المصدر جوّا''.
وفي ''صيف ٨٤٠ '' وهو أول عمل مسرحي بتوقيع منصور الرحباني بعد رحيل عاصي، وكان تحية لهذا الأخير، انطلق منصور من عامية انطلياس والقسم الذي أقسمه ممثلو الشعب اللبناني بكل طوائفه على مذبح كنيسة مار الياس انطلياس، ليندد بحملة ابراهيم باشا واحتلاله لبنان ونجاح أبناء العامية والثوار بدحر الجيش المحتل في معركة ''وطا الجوز'' إيماناً منه بأحقيّة الثوار في المطالبة برفع الظلم وإلغاء السخرة وتخفيف الضرائب الجائرة عن الشعب.
المواقف الرحبانية الصارخة للمطالبة بالعدالة الاجتماعية كثيرة ومتوافرة ولن نستطيع التذكير بجميعها في هذه المقالة .
أمّا الحرية، فقد أوجزها منصور الرحباني بقوله: ''الحرية باب لله'' ضمن كتابه ''أسافر وحدي ملكا''.
وفي ''القصور المائية'' يسرد منصور الخواطر الآتية:
''لا عدالة خارج مناخ الحرية''.
''الحرية أداة خطرة، قبل أن تسلّمها لإنسان عليك أن تعلّمه كيف يستعملها!''.
هذه الحرية أضحت عند الأخوين رحباني مصدر قلق بسبب التآمر عليها، فعالجوا قضاياها بكثير من الدقّة والحكمة وأدخلوها في العديد من مسرحياتهم، ونجحوا في تحرير الشعر والموسيقى من الجهل والإسفاف والتخلّف، حتى قيل إن الأخوين رحباني هما من حزب الحرية .
وفي ''أيام فخر الدين'' نجد الحرية كأنها أمنية يُسعى إليها، وأنها ضرورة حياتية كالشمس ''عنّا بيوت سطوحا عليّة ورا عليّة بوابها مفتوحة للشمس وللحرية''.
وبعد انتصار فخر الدين على الباشا العثماني والي الشام، يقرر فخر الدين إطلاق الباشا إلى الحرية بقوله له: ''يا باشا إنت حرّ، بدّك تصادقنا حرّ، بترجع تعادينا حرّ، لكن نحنا وطنّا بدّو يبقى حرّ''.
وهذا عمل لا يمكن أن يُقدم عليه إلاّ من يعرف قيمة الحرية. وقد ظهر التوق إلى تحرير العبيد في مسرحية بترا عندما هتفت ملكة بترا ''يا ريت فيّي روح حرّر هالعبيد، ضوّي الفرح بقلوبهن جبلن العيد، إحمل السيف بإيد وبلادي بإيد''.
وكانت ذروة الإيمان بالحرية والتعلّق بها على لسان زنّوبيا التي هتفت بعد سوقها مهزومة إلى ساحات روما ''لأجل الحرية بختار الموت. اعطوني كاس الموت''.
وكانت مسرحية ناطورة المفاتيح المجال الأمثل لإظهار التعلّق بالحرية كما يتضح من الحوار بين الملك الظالم ومستشاره الحكيم الذي نبّه الملك إلى أنه '' ما حدا بيقدر يحبس الميّ والناس متل الميّ إلاّ ما تلاقي منفذ تتفجّر منّو''.
وعندما قرر هذا الملك الظالم إطلاق سراح المساجين ليصبحوا رعيته بعد رحيل الأهالي، خرج السجناء على وقع أغنية: ''طلعنا على الضو، طلعنا على الرّيح، طلعنا على الشمس، طلعنا عَ الحرية، يا حرية يا زهرة نارية يا طفلة وحشية يا حرية''.
في مسرحية لولو التي دفعت سلفاً خمس عشرة سنة حبس ثم طلعت بريئة أسرّت إلى صديقها القديم بأنها: ''صحيح رجعت لبيتي وحريتي، بس حاسة إني غريبة وحزينة. حتى الحبس منحزن لماّ نفارقو. أنا شاعرة إنو بيتي صار الحبس''. فيجيبها الصديق: ''هيدا لأنو بعد ما تعوّدتي عالحرية، الحرية مسؤولية وبتلبّك... الإنسان بيقدر يكون حرّ وين ما كان''.
وهكذا يتبين أن الحرية كانت موضوعاً رئيساً في المسرح الرحبانيّ وفي القصائد الرحبانية أشبعاه درساً وتمحيصاً ووصفاً وأوصلاه إلى مكنونات النفس والضمير بما يرتقي بالإنسان إلى هذه النعمة الأدبية المسببة للسعادة وهي ''الحرية''....
إن لهذه الحرية وجوهاً عديدة في حياة الإنسان بدءاً بالحرية الشخصية التي يقيّدها القانون، وحرية التعليم، وحرية التنقّل، وحرية إبداء الرأي وحرية الاجتماع، وحرمة المنزل، وحق الملكية. أما حرية المعتقد والتي تكفلها المادة التاسعة من الدستور اللبناني فهي النبذة الأخيرة من هذا البحث.
لا نستطيع أن نفرّق بين حرّية المعتقد وبين حميميّة الإيمان. والإيمان هو خصوصية لشعورك وأنت مغمض العينين بأن هنالك توقاً إلى ''غامض'' أوجد هذا الكون ويديره، وخلق الإنسان وأعطاه حريات كثيرة من ضمنها حرية المعتقد. وننطلق من حرية اكتشاف هذا الغامض الذي اسمه ''لله'' في الأديان السماوية وله أسماء أخرى في الديانات الأخرى ومناجاته تدعى ''الصلاة''.
وهذا ما يقودنا إلى تقصّي مواطن الصلاة في الأدب الرحبانيّ، الصلاة تبدأ منذ الطفولة:
''أقول لطفلتي، إذا الليل بردُ
وصمت الربى ربى لا تُحدُّ
فصلّي، فأنت صغيرة وإنّ الصغار صلاتهم لا تردّ'ُ'
وعند الخوف من القتال ترتفع الأيدي مبتهلة للحماية من الخطر بدعاء عذب بصوت فيروز:
''يا ساكن العالي طلّ من العالي عينك علينا، على أراضينا
رجّع إخوتنا وأهالينا
من هالسهل الواسع، الممحي بصوت المدافع
إيدينا مرفوعة صوبَك، متل الشجر العاري
اللي ساجد بالبراري، يا رب يا ساكن العالي''
(مسرحية فخر الدين ١٩٦٦)
وعندما تحُصر المسؤولية بشخص واحد بعد هرب الأهالي من الظلم لا يجد هذا الوحيد بُدّاً من طلب العون الإلهي لمواجهة الحاكم المتسلّط:
''بيتي أنا بيتك ما إلي حدا من كتر ما ناديتك وسع المدى
لا تهملني لا تنساني يا شمس المساكين من أرض الخوف منندهلك يا شمس المساكين
عدلك فاض عليّي كرمك ضوّاني إذا كلّن نسيوني وحدك ما بتنساني
ناديتك من حزني عرفت إنك معي اوسَعي يا مطارح ويا أرض اركعي''
(مسرحية ناطورة المفاتيح ١٩٧٢)
هذه الكونية في النظرة الربانية عند الأخوين رحباني تخفي إيماناً صادقاً بحتمية الرعاية الإلهية لهذا الكون وهي لا بدّ أن تستجيب للأدعية المنطلقة من المؤمن كما يظهر في مسرحية المحطة التي كتبت تحت شعار ''الانتظار خلق المحطة وشوق السفر جاب التران''. وقد غنّت السيدة فيروز في هذه المسرحية أغنية ''إيماني ساطع'' ومنها:
''مهما تأخر جايي وما بيضيع اللي جايي عا غفلة بيوصل من خلف الضو من خلف الغيم
ما حدا بيعرف هلّي جايي كيف يبقى جايي
إيماني ساطع يا بحر الليل إيماني الشمس المدى والليل
ما بيتكسّر إيماني ولا بيتعب إيماني إنت اللي ما بتنساني
أنا إيماني الفرح الوسيع ومن خلف العواصف جايي ربيع
إذا كبرت أحزاني ونسيني العمر التاني إنت اللي ما بتنساني''
وكان منصور قد أعدّ معظم ألحان القداس البيزنطي وكان ينوي تقديمه لو أمدّ لله بعمره، ولنا ملء الثقة بأن أنجاله مروان وغدي وأسامة سينجزون هذا العمل التراثي الضخم ويقدمونه بنفس الروحية والأسلوب المعتمدين من منصور.
وأنهي بهذا الكلام الإيماني لمنصور في ''القصور المائية'':
''باطل كل علم، كل اكتشاف،
وباطل كل صعود إلى كوكب،
إذا جرّد الإنسان من الفرح الخلاصي''
الأستاذ الياس حنّا
محامٍ ووزير سابق