المسرح الرحبانيّ الأصالة والفرادة والتأثير الجمالي
المسرح الرحباني
الأصالة والفرادة والتأثير الجمالي
كثيرة هي العناصر الإيجابية التي تفرض نفسها خلال الحديث عن المسرح الرحباني، الذي شكّل طوال فترة وجوده منارة ثقافية إبداعية فنية غنية بالمنجزات، سطع نورها على المجتمع اللبناني ووصلت إشعاعاتها إلى معظم البلدان العربية. كما استطاع المسرح الرحباني أن يشكّل مرآة تعكس صورة الإبداع الفني اللبناني إلى العالم، بنجاح وثبات وتطوّر لم تشهد الحركات والمشاريع الفنية اللبنانية خلال نصف قرن مثيلاً له. فما سرّ نجاح هذا المسرح، وما إمكانية الإفادة منه في تكوين التربية الجمالية لدى التلميذ اللبناني في مدرسته.
الأصالة
إن أهم ما يميّز المسرح الرحباني هو أصالته، فالفنون عامة والمسرح من بينها، لا يمكن أن تبلغ مستوى رفيعاً وتكون ذات قيمة إبداعية كبيرة، ما لم تكن أصيلة وغير منقولة، ونابعة من إبداع خاص ومتميّز، وهذا ينطبق وبامتياز على المسرح الرحباني الذي لا تصح تسميته بغير هذا الاسم، لأن كل المحاولات التوصيفية والنقدية، الجادة منها والسطحية، العلمية والصحفية، لم تستطع الوصول إلى تسمية تعكس النوع الفني لهذا المسرح، الذي ارتكز في بنيانه على مجموعة ركائز فنية كلها ذات أهمية، كالموسيقى والغناء والشعر والرقص والفولكلور والاستعراض والتمثيل.
إنّ المنطلقات العلمية المعروفة عالمياً لتحديد نوع أي نشاط مسرحي واضحة ومحدّدة، فالمسرح الغنائي المعروف تاريخياً بالـ "أوبرا" والذي تفرعت منه أنواع أخرى كالـ "أوبريت" والـ "ميوزيكل" لا تنطبق مواصفات أي منها بالكامل على المسرح الرحباني. والمسرح الاستعراضي أو الراقص تخطته التجربة الرحبانية درامياً وشعرياً، بحيث صار الاستعراض والرقص فيه عاملاً مكملاً للعرض وليس أساساً له. والمسرح الدرامي بشروطه المعروفة عالمياً لم تعتمده التجربة الرحبانية، بل أفادت من بعض عناصره، وانطلقت إلى تشكيل إطارها الخاص والمختلف، الجامع لكل هذه العناصر والأنواع بنسب متفاوتة من حيث الحضور وبحسب حاجة العرض أو الموضوع المطروح ذاته.
جمع الأخوان رحباني كل هذه العناصر المسرحية ونثرا عليها شذى شعرهما، بل الأصح القول، أدخلا إليها الروح الشعرية، التي باتت تمثّل نبض المسرح الرحباني فتكوّن مسرحهما من نتاج هذا الخليط الإبداعي الرائع الذي لم تشهد خشبات المسارح العربية والعالمية مثيلاً له خلال حقبات تاريخها الطويل. إنه مسرح خاص، مبتكر، له قوانينه وشروطه، يتلاقى في التفاصيل مع كل الأنواع المسرحية المعروفة عالمياً، لكنه يتمتّع بفرادة نوعية تفرض علينا التعامل معه كنوع مسرحي قائم بذاته، وتسميته باسمه الحقيقي، أي "المسرح الرحباني".
نصف قرن من الإبداع
نصف قرن مضى على انطلاقة النشاط المسرحي الرحباني عام 1957 مع استعراض "أيام الحصاد" الذي أطلق شرارة الإبداع الرحباني، فاشتعلت أنوار مهرجانات بعلبك الدولية، وأضاءت على أعمال المسرح التي توالت سنة بعد سنة، وتطورت شكلاً ومضموناً فتحوّلت من الاستعراض الغنائي الخجول مسرحياً إلى العرض المسرحي الواثق والمتميّز، مروراً بمراحل الاختبار والتطوير على صعد الكتابة والحوار والحبكة والتمثيل والطرح والإخراج. هذه الاختبارات التي أوصلت المسرح الرحباني إلى أرفع مستوياته، ترافقت ومنذ بداياتها مع أصالة فنية استثنائية، أسهمت وبقوة في ارتقاء التجربة الرحبانية على سلّم الابداع الفني المتميّز، هي السيدة فيروز التي غنّت شعر الأخوين عاصي ومنصور المتدفّق كنهر من كلمات ومعان، يغذي السهول المزروعة باليأس والبشاعة والتخلّف لتنبت جمالاً وحباً وآمالاً، في وطن خيالي حدوده الحلم، لكن الأخوين رحباني كانا يدركان أن مساحته الحقيقية هي خشبة المسرح.
المسرح الرحباني ودوره في تكوين النربية الجمالية
لقد تعددت الدراسات والأبحاث التي عالجت المسرح الرحباني من مختلف جوانبه، ولسنا هنا بصدد البحث في هذا المسرح علمياً أو نقدياً، لكن الجانب الذي نعتقده مهماً والذي سنسلّط بعض الضوء عليه هو الجانب الجمالي في المسرح الرحباني وتحديداً إمكانية تأثير هذا المسرح في التربية الجمالية لدى التلميذ اللبناني.
تاريخياً، يعاني التلميذ - الطفل اللبناني من نقص جلي في التربية الجمالية التي تترك أثرها في تكوين ذوقه وسلوكياته، وبالتالي شخصيته الخاصة والاجتماعية. فالاهتمام بهذا الموضوع كان ولا يزال خجولاً، ولذلك أسبابه المرتبطة بتركيبة المجتمع اللبناني نفسه، التي لا تعطي للفنون وللجماليات الفنية حيزاً ولو بسيطاً في عملية بناء شخصية التلميذ – الطفل وتالياً الإنسان – المواطن.
من هنا، وكخطوة تحديثية في النظرة التربوية إلى الأهداف المرجو تحقيقها من خلال عملية التعلّم، يمكن أن يكون لتجربة المسرح الرحباني دور مهم وبناء يسهم في إغناء الخبرات الجمالية لدى التلميذ، ويؤثّر إيجاباً في تكوين شخصيته المستقبلية، وذلك ضمن خطة عمل ممنهجة وواقعية تأخذ بعين الاعتبار الامكانيّات المتاحة في المدارس.
إن تركيبة المسرح الرحباني تصلح لأن تكون مادة للتربية الجمالية التي نتكلّم عنها، كونها تشتمل على مختلف الأشكال والأنواع الفنية المجتمعة في إطار واحد يسهل التعامل معه في المدرسة من حيث سهولة التنفيذ ضمن الإمكانيات الموجودة في مدارسنا، خصوصاً وأن ذلك يصب في النهاية في خانة تحقيق الأهداف التربوية العامة التي تسعى كل مدرسة إلى تحقيقها.
لنأخذ مثلاً مشهداً من مسرحية "أيام فخر الدين" أو " المحطة" أو أية مسرحية أخرى، ولنعمل عليه كمشروع فني تربوي متكامل نقدمه في احتفال أمام الأهل أو التلاميذ. فنشكّل فريق العمل من المهتمين بالتمثيل وممّن يملكون الحد الأدنى من الموهبة أو الهواية المسرحية من بين التلاميذ، نختار المشهد ونحدد إطاره وشخصياته، ننقل النص على الورق من شريط الكاسيت المتوافر بين إيدينا جميعاً(كل مسرحيات الأخوين رحباني متوافرة على أشرطة كاسيت في الأسواق وبعضها متوافر على أشرطة فيديو وأقراص مدمجة)، نقوم بتسجيل الأغاني والحوارات الغنائية المطلوبة، نحدد العناصر الفولكلورية والرقصات والأزياء والديكور، ونعمل على تأمين المستلزمات المطلوبة بأقل كلفة ممكنة ومن دون التمادي في البذخ لأن ذلك غير مطلوب وقد يضر بالإفادة التربوية المتوخاة.
إن الهدف التربوي من جراء تقديم أعمال فنية هو اكتساب خبرات جمالية وفنية، تؤثّر إيجاباً في تركيبة التلميذ النفسية والعاطفية والفكرية على حد سواء، لذلك لا يجب أن نضع أمام أعيننا أهدافاً فنية تقترب من الاحتراف أو تحاول الاقتراب منه، بل يجب أن نُفيد من المادة الفنية المتاحة وهي في موضوعنا الآني "المسرح الرحباني" ونوظفها في العملية التربوية عموماً وفي تكوين التربية الجمالية خصوصاً.
إن المسرح الرحبانيّ ذو طرح إنساني بالدرجة الأولى، يرفع شأن الإنسان وحريته وحقوقه إلى أعلى سلّم اهتماماته، يطالب بالعدالة الإجتماعية ويُعلي من شأن الحب وينبذ الكره، يدعو إلى التلاحم ويمقت التفرقة، يناضل من أجل التقدّم والتطوّر، ويحارب التخلّف والرجعية، إنه مسرح يدعو إلى الفضيلة بالمعنى الفلسفي الكلاسيكي، وينحاز إلى الخير العام الذي يقدس الإنسان في كل زمان ومكان. أليست هذه كلها من الأهداف التربوية التي نسعى إلى تحقيقها في مدارسنا؟
إضافة إلى البعد الإنساني، هناك البعد الوطني الذي سعى المسرح الرحباني إلى ترسيخه في نفوس جمهوره، فتكاد لا تخلو مسرحية من مسرحياته من التركيز على هذا البعد، فالإيمان بالوطن هو أهم دعائم وجود الإنسان وبقائه واستمراريته، والنضال من أجل التغيير نحو الأفضل هو واجب وطني يجب أن نتعلمه في مدارسنا وأن نتبنّاه في معتقداتنا ، وأن نمارسه في سلوكياتنا. هذه المضامين قام عليها المسرح الرحباني وعالجها وقدمها باسلوب فني جمالي رائع. أليست هذه المضامين هي نفسها التي نتمنى أن نكتسبها وأن ننقلها من جيل إلى جيل؟ واستدراكاً، أليست المدرسة هي المكان الأمثل للقيام بعملية التكوين والاكتساب هذه؟.
إن كل مقومات اعتماد المسرح الرحباني في عملية تكوين التربية الجمالية متوافرة بين أيدينا، ما ينقصنا فقط هو اتخاذ القرار، والبدء بالعمل للإفادة من المخزون الرحباني الهائل والإستثنائي في تاريخ بلدنا وثقافتنا، الزاخر بالجمال وبالخير وبالإبداع وبالحس الوطني، من أجل ارتقاء الإنسان وتطور المجتمع في لبنان.
الدكتور هشام زين الدين
أستاذ الفن المسرحي في الجامعة اللبنانية
1