مسرح الأخوين رحباني

مسرح الأخوين رحباني

 

الأخوان رحباني مع هنري زغيبسنة 2003 صدرت مطبوعة الأعمال المسرحية الكاملة للأخوين رحباني وعددها عشرون. وقد نسّقها وقدمها الأستاذ والشاعر هنري زغيب . قراء هذا المسرح اثنين كما يقول الأستاذ هنري: "قارئ شاهد العمل على الخشبة (ويسمعه تسجيلاً صوتياً) وسيقرأه اليوم بنوستالجيا جميلة فيتابع مشاهده بعينه (قارئاً) وبذاكرته (عائداً حنينياً إلى تلك الأمسيات)، وقارئ لم يعرف العمل على الخشبة فيواجهه اليوم نصاً مسرحياً كما يواجه أي نص مسرحي كلاسيكي مطبوعاً". فباسم وزارة  التربية الوطنية وباسم المركز التربوي للبحوث والإنماء وباسم كل من أحب المسرح الرحبانيّ، نشكر الأستاذ هنري زغيب على الجهد الذي قام به للحفاظ على تراث الأخوين رحباني المسرحيّ. كما نتمنى على كل المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية أن تضع في مكتباتها هذه المجموعة كي يتمكن المعلّمون والطلاب من اختيار النصوص التي هم بحاجة إليها لدراسة وتمثيل مقتطفات من المسرح الرحبانيّ. وفي ما يأتي مقدمة المجموعة.

                                                                 المجلة التربوية

    

     مدخل متواضع إلى تراث كبير

الدخول إلى المسرح الرحبانيّ، دخول إلى نصًّ (حواريٍّ وغنائيِّ) محكم الحبكة والتقسيم والشخصيات والتفاصيل، على ما يبدو فيه من عفوية في النسيج الكتابي. وهو ذو رسالة إنسانية وحضارية جعلته ضالعاً في ضمير الناس ومشاعرهم، يتلقّفونه على أنه هم، أو على أنهم يتمثلون فيه أصدق تمثيل.

من هنا ما نشهده كل عام، من تقديم فرقٍ هاويةٍ أو مدرسيةٍ أو شبه محترفةٍ، أعمالاً مسرحيةً رحبانّيةً لجمهور القرى والمهرجانات والمدارس والضواحي، حتى ليغدو النصّ الرحبانيّ، مع مرور الزمن، تراثاً كلاسيكياً يدخل من الباب الواسع (ليبقى أبداً) في ذاكرة أدبنا اللبنانيّ الكلاسيكي.

ومتى قلناه كلاسيكياً، قلناه يعاد ويستعاد، متوغلاً في الزمن، متوهجاً بحضوره، نضراً بنصّه وألحانه وأغنياته، ضالعاً في الذاكرة الشعبية اللبنانية بشخصياتٍ فيه باتت رموزاً شاعت، يشار إليها وبها يُستشهد.

وذلك أنّ النصّ  المسرحيّ الرحبانيّ، (بحواراته وكلمات أغنياته وألحانه ونسيجه الكتابي) انطلق من قاعدة ذات خلفية ثابتة، اختزنها الأخوان رحباني من ارث عريق (شعبي وفني وجمالي) غرفا منه فلم يكرّراه، بل طوّراه إلى الأفضل، إلى الأجمل، إلى الأنضر، ليبقى من جيلٍ إلى جيلٍ زاد أجيالنا الطالعة المقبلة.

عبثاً نبحث، في النصّ المسرحيّ الرحبانيّ، عن حكايةٍ وراءه أو دافع أو وازع لكتابة هذا النص أو ذاك، لإيجاد هذه الحبكة أو تلك، للتطرّق إلى هذا الموضوع أو ذيّاك. فالنصّ الرحبانيّ (حينًا ليس نصاً تاريخياً محكوماً بوقائع وثوابت) مرصّع دائماً بالخيال. ولانّ الواقع يلغي الخيال ويمزّق شال تشرنقه خلف أسطورة أو حكاية أو تخيّل روائي خلاّق، فليظلّ غموض التأليف سراً بين عاصي ومنصور، لا يحاولنّ احد أن يقّشره، وليبق سراً لا يفتضّه، محاول، وليستمرّ الجمال المحيط بظروف التأليف شالاً يهنأ خلفه السرّ ويظلّ سراً.

إن الحياة، فيما تغزل الحاضر، تخلق الحنين إلى الماضي. والحنين اليوم يجرّد الماضي من متاعبه التي كانت، فيعود إليه الإنسان في لحظات ضعفٍ وانكسار يفتح زوادة الذكريات حنيناً إليها يستمد منها قوةً لحاضره (أيكون في ذلك استعجال الرحيل إلى الغياب بتدمير الذات رجوعاً إلى المكان الأول، إلى رحم الحياة؟). هكذا المسرح الرحبانيّ يأخذنا إلى حنينٍ فيه، ولو ليس لنا، فنتداخل فيه حتى يغدو حنينه حنيننا، وجوّه جوّنا، ومناخه (النفسيّ والأخلاقيّ والروحيّ و... حتى السياسيّ) مناخنا نحن في وعينا أو اللاوعي.

مشهد من مسرحيّة جسر القمر

هل المسرح الرحبانيّ نصّ سياسي؟ عبثاً يُحاول البعض إيجاد إسقاطاتٍ آنيّةٍ على الشخصيات المسرحية الرحبانيّة، فنسيج النص أبعد وأبقى من أية إسقاطاتٍ قد تصحّ اليوم على هذا أو ذاك من أشخاصٍ (مؤقتين زائلين) في الوطن، لأن الشخصية في المسرح الرحبانيّ إنسانيّة عامة شاملة، وهي أعلى من تقزيمها في تشبيهها بسياسيٍّ ما، أو حاكم ما، في فترة ما، من عمر الوطن. وهذا ما يجعل المسرح الرحبانيّ شمولياً تصحّ شخصياته وأحداثه لكلّ زمانٍ ومكان.

من هنا سذاجة التفكير بأنّ النصّ الرحبانيّ خلق لنا "وطناً من  الوهم والخيال، انهار عند العاصفة الأولى". والقول إن الأخوين رحباني  "أوهما الناس بوطنٍ خياليٍّ غير موجود"، قول قاصر جاهل، لان الوطن الذي انهار هو لبنان السياسيّ الكرتونيّ الكرنفاليّ الذي لم ينفكّ (سياسياً) ينهار ويسقط ويقوم وينفصل ويتّحد ويتّسع ويضيق، فيما لبنان الشعب لا يزال هو هو: الخلاّق المبدع مصدّر المبدعين اللبنانيين الى العالم. وهو هذا لبنان الرحبانيّ الباقي: لبنان الشعب الطيّب النقيّ الخلاّق الذي يتخاصم على شؤون سرعان ما يعود يأتلف عليها وينضمُّ قلباً واحداً،   وعاطفة واحدة، في لبنان واحد. 

لا يحاولنّ أحد إعطاء المسرح الرحباني تسمياتٍ ليست له (مغناة، أوبريت، ...) . إنه بتركيبته التأليفية (مسرح غنائي). ومشاهده (كوميديةً، وطنيةً، دراميةً، صداميةً، غنائيةً، حواريةً تمثيليةً،..) تجنح إلى القصر: لا يكاد موضوعها يتّضح حتى ينتقل النصّ إلى المشهد التالي. وهذا اللاتطويل في المشاهد خلق للنص الرحبانيّ إيقاعاً سريعاً (ولو متأنياً) في تشكيلية تقطيعه الدرامي، تمر فيه الرسالة واضحة وتنتقل إلى المشهد التالي.

والنصّ المسرحيّ الرحبانيّ (دون الكثير سواه من نصوص المسرح اللبنانيّ) يتّسم  بالمسحة الشاعرية (ولعلّ في هذه فرادته الخالدة) فتغدو شعرّية النصّ أساساً للحوار غالباً ما يتّشح بها العمل كلّه.

كما يتّسم النصّ المسرحيّ الرحبانيّ بالغنى في الرؤية البصرية، كأنّما هو (ومنذ مطالعه في البواكير) اعتمد تقنيّة (خيال الظل) أو (الظلال الصينية) حتى قبل أن تبلغنا استخداماتها. ومصدر هذا الغنى البصري أنّ مشاهد المسرحية الرحبانيّة زاخرة بالتجربة الشخصية لعاصي ومنصور، في طفولتهما، في يفاعتهما، في شبابهما، وفي تجربتهما الشخصية (فردّيةً وثنائيةً) من محيطهما العائلي والاجتماعي والفنيّ، حتى ليبدو مسرحهما، في كثيرٍ من تفاصيله أو مشاهده أو شخصياته، امتداداً نوستالجيّاً لتفاصيل ومشاهد وشخصيات من سيرتهما الذاتية، منسوجةٍ في قالبٍ ذي تفكير كونيّ يتعدّى الحادثة الآنيّة إلى حدث إنسانيّ، ويتخطى الشخصية (المستوحى منها) إلى شخصيةٍ إنسانيةٍ شاملة.

خدم المسرح الرحبانيّ خروجه من جمهور الإطار الضيّق (المحصور في قريةٍ أو ضيعةٍ أو ضاحية، كما كانت مطالعه الأولى غير الاحترافية) وتقديمه في أماكن خارجية ساطعة (مهرجانات بعلبك، مهرجانات الأرز، معرض دمشق الدولي،...)، وداخلية واسعة (قصر البيكاديلّي، كازينو لبنان،...) ما أعطاه دفعاً انتشارياً (وتالياً إعلامياً فشعبياً) أوصله أسرع إلى جمهوٍر ثقيفٍ واسعٍ (مشاهداً) وأوسع (مستمعاً في ما بعد إلى الأعمال في أسطوانات).

كما خدم المسرح الرحبانيّ ذيوع أغنياتٍ فيه وحواراتٍ غنائية أخذت بعد العرض المسرحي تُذاع منفصلةً فراجت وشاعت وتداولتها الأسماع لاحقاً فأمّنت للعمل مثولاً مستمراً في أذهان الناس(ولو لم يتركز نصاً كاملاً في ذاكرتهم)، وعودةً إليه متفاوتةً أو متواصلةً تجعله باقياً في الذاكرة الشعبية. ذلك أن النصّ الرحبانيّ الجميل لبس لحناً جميلاً رسّخه في الاسترجاع السمعي، فإذا الناس يردّدون النص(أغنيةً أو حواراً غنائياً) يحملهم اللحن إلى تذكره فيمرّ النص من خلال اللحن ويتركّز في الذاكرة.

على أن رأس ما خدم المسرح الرحبانيّ صدور معظمه بأداء  فيروز الآسر، موهبةً استثنائيةً وصوتاً استثنائياً وحضوراً متفرداً غير عادي. وإذا الناس أحبّوها صوتاً موجعاً من جمال، منذ مطالعه الإذاعية الصوتية واستطراداً سمعياً في الوقفات المسرحية الأولى، فهم أحبّوها، أكثر، موهبةً تمثيليةً أخّاذةً في الأعمال اللاحقة، يصعقهم حضورها أياً يكن الدور(من بياعة البندورة إلى بنت الدكان إلى الملكة زنوبيا إلى ملكة بترا) فتضافر الحضور المسرحيّ القويّ مع صوتها غير العادي ليجعلا منها رمزاً لبنانياً عالياً، وأكثر: رمز لبنان الحضاريّ اليوم في العالم.

وهكذا، عبر العمل الرحبانيّ من النص الرحبانيّ الجميل، إلى اللحن الرحبانيّ الأجمل، إلى الصوت الخارق الذي حمل ذينك النصّ واللحن، بأجمل الأناقات، إلى آخر الدنيا.

                                                  هنري زغيب

 

 

 

1

 

 

 

مسرح الأخوين رحباني

مسرح الأخوين رحباني

 

الأخوان رحباني مع هنري زغيبسنة 2003 صدرت مطبوعة الأعمال المسرحية الكاملة للأخوين رحباني وعددها عشرون. وقد نسّقها وقدمها الأستاذ والشاعر هنري زغيب . قراء هذا المسرح اثنين كما يقول الأستاذ هنري: "قارئ شاهد العمل على الخشبة (ويسمعه تسجيلاً صوتياً) وسيقرأه اليوم بنوستالجيا جميلة فيتابع مشاهده بعينه (قارئاً) وبذاكرته (عائداً حنينياً إلى تلك الأمسيات)، وقارئ لم يعرف العمل على الخشبة فيواجهه اليوم نصاً مسرحياً كما يواجه أي نص مسرحي كلاسيكي مطبوعاً". فباسم وزارة  التربية الوطنية وباسم المركز التربوي للبحوث والإنماء وباسم كل من أحب المسرح الرحبانيّ، نشكر الأستاذ هنري زغيب على الجهد الذي قام به للحفاظ على تراث الأخوين رحباني المسرحيّ. كما نتمنى على كل المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية أن تضع في مكتباتها هذه المجموعة كي يتمكن المعلّمون والطلاب من اختيار النصوص التي هم بحاجة إليها لدراسة وتمثيل مقتطفات من المسرح الرحبانيّ. وفي ما يأتي مقدمة المجموعة.

                                                                 المجلة التربوية

    

     مدخل متواضع إلى تراث كبير

الدخول إلى المسرح الرحبانيّ، دخول إلى نصًّ (حواريٍّ وغنائيِّ) محكم الحبكة والتقسيم والشخصيات والتفاصيل، على ما يبدو فيه من عفوية في النسيج الكتابي. وهو ذو رسالة إنسانية وحضارية جعلته ضالعاً في ضمير الناس ومشاعرهم، يتلقّفونه على أنه هم، أو على أنهم يتمثلون فيه أصدق تمثيل.

من هنا ما نشهده كل عام، من تقديم فرقٍ هاويةٍ أو مدرسيةٍ أو شبه محترفةٍ، أعمالاً مسرحيةً رحبانّيةً لجمهور القرى والمهرجانات والمدارس والضواحي، حتى ليغدو النصّ الرحبانيّ، مع مرور الزمن، تراثاً كلاسيكياً يدخل من الباب الواسع (ليبقى أبداً) في ذاكرة أدبنا اللبنانيّ الكلاسيكي.

ومتى قلناه كلاسيكياً، قلناه يعاد ويستعاد، متوغلاً في الزمن، متوهجاً بحضوره، نضراً بنصّه وألحانه وأغنياته، ضالعاً في الذاكرة الشعبية اللبنانية بشخصياتٍ فيه باتت رموزاً شاعت، يشار إليها وبها يُستشهد.

وذلك أنّ النصّ  المسرحيّ الرحبانيّ، (بحواراته وكلمات أغنياته وألحانه ونسيجه الكتابي) انطلق من قاعدة ذات خلفية ثابتة، اختزنها الأخوان رحباني من ارث عريق (شعبي وفني وجمالي) غرفا منه فلم يكرّراه، بل طوّراه إلى الأفضل، إلى الأجمل، إلى الأنضر، ليبقى من جيلٍ إلى جيلٍ زاد أجيالنا الطالعة المقبلة.

عبثاً نبحث، في النصّ المسرحيّ الرحبانيّ، عن حكايةٍ وراءه أو دافع أو وازع لكتابة هذا النص أو ذاك، لإيجاد هذه الحبكة أو تلك، للتطرّق إلى هذا الموضوع أو ذيّاك. فالنصّ الرحبانيّ (حينًا ليس نصاً تاريخياً محكوماً بوقائع وثوابت) مرصّع دائماً بالخيال. ولانّ الواقع يلغي الخيال ويمزّق شال تشرنقه خلف أسطورة أو حكاية أو تخيّل روائي خلاّق، فليظلّ غموض التأليف سراً بين عاصي ومنصور، لا يحاولنّ احد أن يقّشره، وليبق سراً لا يفتضّه، محاول، وليستمرّ الجمال المحيط بظروف التأليف شالاً يهنأ خلفه السرّ ويظلّ سراً.

إن الحياة، فيما تغزل الحاضر، تخلق الحنين إلى الماضي. والحنين اليوم يجرّد الماضي من متاعبه التي كانت، فيعود إليه الإنسان في لحظات ضعفٍ وانكسار يفتح زوادة الذكريات حنيناً إليها يستمد منها قوةً لحاضره (أيكون في ذلك استعجال الرحيل إلى الغياب بتدمير الذات رجوعاً إلى المكان الأول، إلى رحم الحياة؟). هكذا المسرح الرحبانيّ يأخذنا إلى حنينٍ فيه، ولو ليس لنا، فنتداخل فيه حتى يغدو حنينه حنيننا، وجوّه جوّنا، ومناخه (النفسيّ والأخلاقيّ والروحيّ و... حتى السياسيّ) مناخنا نحن في وعينا أو اللاوعي.

مشهد من مسرحيّة جسر القمر

هل المسرح الرحبانيّ نصّ سياسي؟ عبثاً يُحاول البعض إيجاد إسقاطاتٍ آنيّةٍ على الشخصيات المسرحية الرحبانيّة، فنسيج النص أبعد وأبقى من أية إسقاطاتٍ قد تصحّ اليوم على هذا أو ذاك من أشخاصٍ (مؤقتين زائلين) في الوطن، لأن الشخصية في المسرح الرحبانيّ إنسانيّة عامة شاملة، وهي أعلى من تقزيمها في تشبيهها بسياسيٍّ ما، أو حاكم ما، في فترة ما، من عمر الوطن. وهذا ما يجعل المسرح الرحبانيّ شمولياً تصحّ شخصياته وأحداثه لكلّ زمانٍ ومكان.

من هنا سذاجة التفكير بأنّ النصّ الرحبانيّ خلق لنا "وطناً من  الوهم والخيال، انهار عند العاصفة الأولى". والقول إن الأخوين رحباني  "أوهما الناس بوطنٍ خياليٍّ غير موجود"، قول قاصر جاهل، لان الوطن الذي انهار هو لبنان السياسيّ الكرتونيّ الكرنفاليّ الذي لم ينفكّ (سياسياً) ينهار ويسقط ويقوم وينفصل ويتّحد ويتّسع ويضيق، فيما لبنان الشعب لا يزال هو هو: الخلاّق المبدع مصدّر المبدعين اللبنانيين الى العالم. وهو هذا لبنان الرحبانيّ الباقي: لبنان الشعب الطيّب النقيّ الخلاّق الذي يتخاصم على شؤون سرعان ما يعود يأتلف عليها وينضمُّ قلباً واحداً،   وعاطفة واحدة، في لبنان واحد. 

لا يحاولنّ أحد إعطاء المسرح الرحباني تسمياتٍ ليست له (مغناة، أوبريت، ...) . إنه بتركيبته التأليفية (مسرح غنائي). ومشاهده (كوميديةً، وطنيةً، دراميةً، صداميةً، غنائيةً، حواريةً تمثيليةً،..) تجنح إلى القصر: لا يكاد موضوعها يتّضح حتى ينتقل النصّ إلى المشهد التالي. وهذا اللاتطويل في المشاهد خلق للنص الرحبانيّ إيقاعاً سريعاً (ولو متأنياً) في تشكيلية تقطيعه الدرامي، تمر فيه الرسالة واضحة وتنتقل إلى المشهد التالي.

والنصّ المسرحيّ الرحبانيّ (دون الكثير سواه من نصوص المسرح اللبنانيّ) يتّسم  بالمسحة الشاعرية (ولعلّ في هذه فرادته الخالدة) فتغدو شعرّية النصّ أساساً للحوار غالباً ما يتّشح بها العمل كلّه.

كما يتّسم النصّ المسرحيّ الرحبانيّ بالغنى في الرؤية البصرية، كأنّما هو (ومنذ مطالعه في البواكير) اعتمد تقنيّة (خيال الظل) أو (الظلال الصينية) حتى قبل أن تبلغنا استخداماتها. ومصدر هذا الغنى البصري أنّ مشاهد المسرحية الرحبانيّة زاخرة بالتجربة الشخصية لعاصي ومنصور، في طفولتهما، في يفاعتهما، في شبابهما، وفي تجربتهما الشخصية (فردّيةً وثنائيةً) من محيطهما العائلي والاجتماعي والفنيّ، حتى ليبدو مسرحهما، في كثيرٍ من تفاصيله أو مشاهده أو شخصياته، امتداداً نوستالجيّاً لتفاصيل ومشاهد وشخصيات من سيرتهما الذاتية، منسوجةٍ في قالبٍ ذي تفكير كونيّ يتعدّى الحادثة الآنيّة إلى حدث إنسانيّ، ويتخطى الشخصية (المستوحى منها) إلى شخصيةٍ إنسانيةٍ شاملة.

خدم المسرح الرحبانيّ خروجه من جمهور الإطار الضيّق (المحصور في قريةٍ أو ضيعةٍ أو ضاحية، كما كانت مطالعه الأولى غير الاحترافية) وتقديمه في أماكن خارجية ساطعة (مهرجانات بعلبك، مهرجانات الأرز، معرض دمشق الدولي،...)، وداخلية واسعة (قصر البيكاديلّي، كازينو لبنان،...) ما أعطاه دفعاً انتشارياً (وتالياً إعلامياً فشعبياً) أوصله أسرع إلى جمهوٍر ثقيفٍ واسعٍ (مشاهداً) وأوسع (مستمعاً في ما بعد إلى الأعمال في أسطوانات).

كما خدم المسرح الرحبانيّ ذيوع أغنياتٍ فيه وحواراتٍ غنائية أخذت بعد العرض المسرحي تُذاع منفصلةً فراجت وشاعت وتداولتها الأسماع لاحقاً فأمّنت للعمل مثولاً مستمراً في أذهان الناس(ولو لم يتركز نصاً كاملاً في ذاكرتهم)، وعودةً إليه متفاوتةً أو متواصلةً تجعله باقياً في الذاكرة الشعبية. ذلك أن النصّ الرحبانيّ الجميل لبس لحناً جميلاً رسّخه في الاسترجاع السمعي، فإذا الناس يردّدون النص(أغنيةً أو حواراً غنائياً) يحملهم اللحن إلى تذكره فيمرّ النص من خلال اللحن ويتركّز في الذاكرة.

على أن رأس ما خدم المسرح الرحبانيّ صدور معظمه بأداء  فيروز الآسر، موهبةً استثنائيةً وصوتاً استثنائياً وحضوراً متفرداً غير عادي. وإذا الناس أحبّوها صوتاً موجعاً من جمال، منذ مطالعه الإذاعية الصوتية واستطراداً سمعياً في الوقفات المسرحية الأولى، فهم أحبّوها، أكثر، موهبةً تمثيليةً أخّاذةً في الأعمال اللاحقة، يصعقهم حضورها أياً يكن الدور(من بياعة البندورة إلى بنت الدكان إلى الملكة زنوبيا إلى ملكة بترا) فتضافر الحضور المسرحيّ القويّ مع صوتها غير العادي ليجعلا منها رمزاً لبنانياً عالياً، وأكثر: رمز لبنان الحضاريّ اليوم في العالم.

وهكذا، عبر العمل الرحبانيّ من النص الرحبانيّ الجميل، إلى اللحن الرحبانيّ الأجمل، إلى الصوت الخارق الذي حمل ذينك النصّ واللحن، بأجمل الأناقات، إلى آخر الدنيا.

                                                  هنري زغيب

 

 

 

1

 

 

 

مسرح الأخوين رحباني

مسرح الأخوين رحباني

 

الأخوان رحباني مع هنري زغيبسنة 2003 صدرت مطبوعة الأعمال المسرحية الكاملة للأخوين رحباني وعددها عشرون. وقد نسّقها وقدمها الأستاذ والشاعر هنري زغيب . قراء هذا المسرح اثنين كما يقول الأستاذ هنري: "قارئ شاهد العمل على الخشبة (ويسمعه تسجيلاً صوتياً) وسيقرأه اليوم بنوستالجيا جميلة فيتابع مشاهده بعينه (قارئاً) وبذاكرته (عائداً حنينياً إلى تلك الأمسيات)، وقارئ لم يعرف العمل على الخشبة فيواجهه اليوم نصاً مسرحياً كما يواجه أي نص مسرحي كلاسيكي مطبوعاً". فباسم وزارة  التربية الوطنية وباسم المركز التربوي للبحوث والإنماء وباسم كل من أحب المسرح الرحبانيّ، نشكر الأستاذ هنري زغيب على الجهد الذي قام به للحفاظ على تراث الأخوين رحباني المسرحيّ. كما نتمنى على كل المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية أن تضع في مكتباتها هذه المجموعة كي يتمكن المعلّمون والطلاب من اختيار النصوص التي هم بحاجة إليها لدراسة وتمثيل مقتطفات من المسرح الرحبانيّ. وفي ما يأتي مقدمة المجموعة.

                                                                 المجلة التربوية

    

     مدخل متواضع إلى تراث كبير

الدخول إلى المسرح الرحبانيّ، دخول إلى نصًّ (حواريٍّ وغنائيِّ) محكم الحبكة والتقسيم والشخصيات والتفاصيل، على ما يبدو فيه من عفوية في النسيج الكتابي. وهو ذو رسالة إنسانية وحضارية جعلته ضالعاً في ضمير الناس ومشاعرهم، يتلقّفونه على أنه هم، أو على أنهم يتمثلون فيه أصدق تمثيل.

من هنا ما نشهده كل عام، من تقديم فرقٍ هاويةٍ أو مدرسيةٍ أو شبه محترفةٍ، أعمالاً مسرحيةً رحبانّيةً لجمهور القرى والمهرجانات والمدارس والضواحي، حتى ليغدو النصّ الرحبانيّ، مع مرور الزمن، تراثاً كلاسيكياً يدخل من الباب الواسع (ليبقى أبداً) في ذاكرة أدبنا اللبنانيّ الكلاسيكي.

ومتى قلناه كلاسيكياً، قلناه يعاد ويستعاد، متوغلاً في الزمن، متوهجاً بحضوره، نضراً بنصّه وألحانه وأغنياته، ضالعاً في الذاكرة الشعبية اللبنانية بشخصياتٍ فيه باتت رموزاً شاعت، يشار إليها وبها يُستشهد.

وذلك أنّ النصّ  المسرحيّ الرحبانيّ، (بحواراته وكلمات أغنياته وألحانه ونسيجه الكتابي) انطلق من قاعدة ذات خلفية ثابتة، اختزنها الأخوان رحباني من ارث عريق (شعبي وفني وجمالي) غرفا منه فلم يكرّراه، بل طوّراه إلى الأفضل، إلى الأجمل، إلى الأنضر، ليبقى من جيلٍ إلى جيلٍ زاد أجيالنا الطالعة المقبلة.

عبثاً نبحث، في النصّ المسرحيّ الرحبانيّ، عن حكايةٍ وراءه أو دافع أو وازع لكتابة هذا النص أو ذاك، لإيجاد هذه الحبكة أو تلك، للتطرّق إلى هذا الموضوع أو ذيّاك. فالنصّ الرحبانيّ (حينًا ليس نصاً تاريخياً محكوماً بوقائع وثوابت) مرصّع دائماً بالخيال. ولانّ الواقع يلغي الخيال ويمزّق شال تشرنقه خلف أسطورة أو حكاية أو تخيّل روائي خلاّق، فليظلّ غموض التأليف سراً بين عاصي ومنصور، لا يحاولنّ احد أن يقّشره، وليبق سراً لا يفتضّه، محاول، وليستمرّ الجمال المحيط بظروف التأليف شالاً يهنأ خلفه السرّ ويظلّ سراً.

إن الحياة، فيما تغزل الحاضر، تخلق الحنين إلى الماضي. والحنين اليوم يجرّد الماضي من متاعبه التي كانت، فيعود إليه الإنسان في لحظات ضعفٍ وانكسار يفتح زوادة الذكريات حنيناً إليها يستمد منها قوةً لحاضره (أيكون في ذلك استعجال الرحيل إلى الغياب بتدمير الذات رجوعاً إلى المكان الأول، إلى رحم الحياة؟). هكذا المسرح الرحبانيّ يأخذنا إلى حنينٍ فيه، ولو ليس لنا، فنتداخل فيه حتى يغدو حنينه حنيننا، وجوّه جوّنا، ومناخه (النفسيّ والأخلاقيّ والروحيّ و... حتى السياسيّ) مناخنا نحن في وعينا أو اللاوعي.

مشهد من مسرحيّة جسر القمر

هل المسرح الرحبانيّ نصّ سياسي؟ عبثاً يُحاول البعض إيجاد إسقاطاتٍ آنيّةٍ على الشخصيات المسرحية الرحبانيّة، فنسيج النص أبعد وأبقى من أية إسقاطاتٍ قد تصحّ اليوم على هذا أو ذاك من أشخاصٍ (مؤقتين زائلين) في الوطن، لأن الشخصية في المسرح الرحبانيّ إنسانيّة عامة شاملة، وهي أعلى من تقزيمها في تشبيهها بسياسيٍّ ما، أو حاكم ما، في فترة ما، من عمر الوطن. وهذا ما يجعل المسرح الرحبانيّ شمولياً تصحّ شخصياته وأحداثه لكلّ زمانٍ ومكان.

من هنا سذاجة التفكير بأنّ النصّ الرحبانيّ خلق لنا "وطناً من  الوهم والخيال، انهار عند العاصفة الأولى". والقول إن الأخوين رحباني  "أوهما الناس بوطنٍ خياليٍّ غير موجود"، قول قاصر جاهل، لان الوطن الذي انهار هو لبنان السياسيّ الكرتونيّ الكرنفاليّ الذي لم ينفكّ (سياسياً) ينهار ويسقط ويقوم وينفصل ويتّحد ويتّسع ويضيق، فيما لبنان الشعب لا يزال هو هو: الخلاّق المبدع مصدّر المبدعين اللبنانيين الى العالم. وهو هذا لبنان الرحبانيّ الباقي: لبنان الشعب الطيّب النقيّ الخلاّق الذي يتخاصم على شؤون سرعان ما يعود يأتلف عليها وينضمُّ قلباً واحداً،   وعاطفة واحدة، في لبنان واحد. 

لا يحاولنّ أحد إعطاء المسرح الرحباني تسمياتٍ ليست له (مغناة، أوبريت، ...) . إنه بتركيبته التأليفية (مسرح غنائي). ومشاهده (كوميديةً، وطنيةً، دراميةً، صداميةً، غنائيةً، حواريةً تمثيليةً،..) تجنح إلى القصر: لا يكاد موضوعها يتّضح حتى ينتقل النصّ إلى المشهد التالي. وهذا اللاتطويل في المشاهد خلق للنص الرحبانيّ إيقاعاً سريعاً (ولو متأنياً) في تشكيلية تقطيعه الدرامي، تمر فيه الرسالة واضحة وتنتقل إلى المشهد التالي.

والنصّ المسرحيّ الرحبانيّ (دون الكثير سواه من نصوص المسرح اللبنانيّ) يتّسم  بالمسحة الشاعرية (ولعلّ في هذه فرادته الخالدة) فتغدو شعرّية النصّ أساساً للحوار غالباً ما يتّشح بها العمل كلّه.

كما يتّسم النصّ المسرحيّ الرحبانيّ بالغنى في الرؤية البصرية، كأنّما هو (ومنذ مطالعه في البواكير) اعتمد تقنيّة (خيال الظل) أو (الظلال الصينية) حتى قبل أن تبلغنا استخداماتها. ومصدر هذا الغنى البصري أنّ مشاهد المسرحية الرحبانيّة زاخرة بالتجربة الشخصية لعاصي ومنصور، في طفولتهما، في يفاعتهما، في شبابهما، وفي تجربتهما الشخصية (فردّيةً وثنائيةً) من محيطهما العائلي والاجتماعي والفنيّ، حتى ليبدو مسرحهما، في كثيرٍ من تفاصيله أو مشاهده أو شخصياته، امتداداً نوستالجيّاً لتفاصيل ومشاهد وشخصيات من سيرتهما الذاتية، منسوجةٍ في قالبٍ ذي تفكير كونيّ يتعدّى الحادثة الآنيّة إلى حدث إنسانيّ، ويتخطى الشخصية (المستوحى منها) إلى شخصيةٍ إنسانيةٍ شاملة.

خدم المسرح الرحبانيّ خروجه من جمهور الإطار الضيّق (المحصور في قريةٍ أو ضيعةٍ أو ضاحية، كما كانت مطالعه الأولى غير الاحترافية) وتقديمه في أماكن خارجية ساطعة (مهرجانات بعلبك، مهرجانات الأرز، معرض دمشق الدولي،...)، وداخلية واسعة (قصر البيكاديلّي، كازينو لبنان،...) ما أعطاه دفعاً انتشارياً (وتالياً إعلامياً فشعبياً) أوصله أسرع إلى جمهوٍر ثقيفٍ واسعٍ (مشاهداً) وأوسع (مستمعاً في ما بعد إلى الأعمال في أسطوانات).

كما خدم المسرح الرحبانيّ ذيوع أغنياتٍ فيه وحواراتٍ غنائية أخذت بعد العرض المسرحي تُذاع منفصلةً فراجت وشاعت وتداولتها الأسماع لاحقاً فأمّنت للعمل مثولاً مستمراً في أذهان الناس(ولو لم يتركز نصاً كاملاً في ذاكرتهم)، وعودةً إليه متفاوتةً أو متواصلةً تجعله باقياً في الذاكرة الشعبية. ذلك أن النصّ الرحبانيّ الجميل لبس لحناً جميلاً رسّخه في الاسترجاع السمعي، فإذا الناس يردّدون النص(أغنيةً أو حواراً غنائياً) يحملهم اللحن إلى تذكره فيمرّ النص من خلال اللحن ويتركّز في الذاكرة.

على أن رأس ما خدم المسرح الرحبانيّ صدور معظمه بأداء  فيروز الآسر، موهبةً استثنائيةً وصوتاً استثنائياً وحضوراً متفرداً غير عادي. وإذا الناس أحبّوها صوتاً موجعاً من جمال، منذ مطالعه الإذاعية الصوتية واستطراداً سمعياً في الوقفات المسرحية الأولى، فهم أحبّوها، أكثر، موهبةً تمثيليةً أخّاذةً في الأعمال اللاحقة، يصعقهم حضورها أياً يكن الدور(من بياعة البندورة إلى بنت الدكان إلى الملكة زنوبيا إلى ملكة بترا) فتضافر الحضور المسرحيّ القويّ مع صوتها غير العادي ليجعلا منها رمزاً لبنانياً عالياً، وأكثر: رمز لبنان الحضاريّ اليوم في العالم.

وهكذا، عبر العمل الرحبانيّ من النص الرحبانيّ الجميل، إلى اللحن الرحبانيّ الأجمل، إلى الصوت الخارق الذي حمل ذينك النصّ واللحن، بأجمل الأناقات، إلى آخر الدنيا.

                                                  هنري زغيب

 

 

 

1