شِعر الأخوين رحباني دقّة ورقّة وهندسة

شِعر الأخوين رحباني دقّة ورقّة وهندسة

عاصي، ملحم بركات، أيلي شويريالمقصود بالأخوين رحباني: عاصي ومنصور. وهما أصل الدوحة الرحبانيّة اليافعة، المتفرّعِة الأغصان الضاربة في الآفاق، المثقلة بالثمار.
وإنّه لمن الصعوبة بمكان، أن يتكلم ناقد على شعر الأخوين رحباني، من دون أن يستشعر خشيةً أو يتهيّب موقفًا.
هذا شعر غنائيّ وجدانيّ منوّع، تمازجت فيه ثقافات، وتماهت فيه حضارات؛ فغدا شعر الإنسانية، في وطن الأرض، أو سِرّ الخلق، في عالم الإبداع.
هذا شعر فيه دأب، وطبعيّة، وصنعة، ودقة، ونضج، ورقّة، وهندسة وتأنّ.ٍ..
وأفضل ما في شعر الأخوين رحباني تلك الشموليّة المهيمنة على الكلمة المنتقاة، والتزاوج بين اللفظ والمعنى، والشكل والمضمون، والشعر والموسيقى... إنّه السحر الحلال.
 


قيمة هذا الشعر
لوحة لجبران خليل جبرانإنّ الشعر الرحبانيّ، كان مع عاصي ومنصور، في أساس الأعمال العظيمة التي قُدّمت في هياكل بعلبك، أو على مسارح العالم فهما الّلذان كتبا الشعر المنوّع، المتماسك، المهندس، أو الموسيقي، الرقيق، في الفصحى والعامّية، والأقرب إلى إفهام المتلقّي. فالمسرحيّة الغنائيّة: بحواراتها الحية، وموسيقاها التصويريّة ولوحاتها التراثيّة، وصداح فيروز فيها... إنّما انطلقت من كلام شعريّ راقٍ، ينتسب مفاخراً، إلى الأخوين رحباني.
ونحن عندما تعلّمنا الشعر، أو عندما علّمَناه في مدارسنا، إنما عرفناه شعراً معلّبَاً، يختصّ بشاعرٍ، أو بقبيلةٍ، أو بقومٍ، أو بجماعةٍ أو بأميرٍ، أو بطائفةٍ، أو بمذهبٍ، أو بحزب...
إلى أن بلغ أسماع الطلاّب قول، ورد فيه: أحسن  الشِعر أكذبُه (أستغفر الصدق والخير والجمال).
أمّا مع الأخوين رحباني، فقد صار الشعر قيمة حضاريّة تختصّ بالإنسان. صار صدق شعر، وصدق شعور، وصدق شاعرين.

 

ماهيّة هذا الشعر
لم يكن شعر الأخوين رحباني نتاجاً شعرّياً مألوفاً، فهما لم يتعمّدا كتابة القصائد، وجمعها في ديوان، وطباعتها، ونشرها... وأوّل مجموعة شعرّية أُصدرت لهما، هي : ''سمراء مها''.
أصدرها أصدقاؤهما في دمشق، عام ١٩٥٢ . وفي هذه المجموعة تمّ تقديم ''الأخوين رحباني'' كشاعرَيْن، لأول مرّة بعدما عرفهما الناس موسيقيّيَْن.
كانت الكلمة الشعريّة المصقولة المغسولة المنتقاة، قد أشبعت رقّة وتناهت نعومة، ممزوجة بشهقات الأوتار وأنّات النايات ، منطلقة من حنجرة فيروز، كعندلة البلابل، فكأن إلهاً خلق على صورته ومثاله.. ويا سبحان الخالق العظيم! ماهيّة هذا الشعر، أنّهَ لشدّة تواضع أصحابه، قد طغا على ما عداه من شعر رفاق: سعيد عقل، والأخطل، ونزار، وبدوي الجبل، وبولس سلامة، وعمر ابن أبي ربيعة... حتى بات كل شعر جميل مموسقٍ، في مختبر الرحابنة، يحمل هويّة رحبانيّة.
ويبدو أن هذا الدفق من الجودة والإبداع، لم يزعج الشعراء من أصحاب الحسّ الرهيف. ففي معرض دمشق الدولي، حضر الشاعر ''عمر أبو ريشة'' يهنّئِ الأخوين رحباني، ويقول: ''خذا كلَّ شِعري، مقابل قصيدتكما: '' لَملمتُ ذكرى لقاءِ الأمسِ بالهُدُبِ''، وبخاصّةٍ البيت:
 

''نسيتُ، من يدِهِ أن أستردّ يدي طالَ السلامُ، وطالت رفّةَُ الهُدُبِ''.

 

 

 

شِعر ينافس ويفوز

''إذا كان ذنبي أنّ حبّكَِ سيّدِي''، فسأل: ''لمن هذان''؟
فقلت: ''للنميري''. فقال : هو أشعر''.
والحكاية أنني كتبت شعراً إلى صبيّةٍ من ''تلّة الخيّاط''، في بيروت، أقول فيه:
 

''ويا تلّةَ الخيّاطِ، لي فيكِ نجمةٌ                 وفوقَ تلالِ الرملِ منكِ كثيبُ
يسّمرُني حُبٌ عليهِ، إلى المَدَى                 وبيتُ القساةِ الصالبيّ قريبُ
إذا كانَ ذنبي أنّ حبّكِ سيّدي                    فَكّلُ ليالي العاشقينَ ذنوبُ
أتوبُ إلى ربّيِ، وإنّي لمرةٍَّ                     يُسامحني ربّي... إليكِ أتوبُ''

 


مقالع الكلمات
كلّ شاعر من الشعراء يختار كلماته من مقلع صخرٍ، أو من عمق بحرٍ، أو من منبع نهر... فيُعرف الفرع بالأصل، والمعدن بالجوهر. أمّا كلمات الشاعرين الأخوين، فمن صفاءٍ ونقاءٍ، وطهرٍ وقداسةٍ، وكرامةٍ وعنفوان.
فهما مدرسة شعرّية ووطنيّة وحضاريّة راقية.

فلنسمع الشعب يقول لأميره:(فخر الدين الثاني)
 

''سيوفنا منحنيها                      لسيفَك، يا ميرْ

منحلف بشرفنا                        بالأرز العتيقْ

بمجدنا الجايي                      بالعزّ اللّي كانْ

وبكلّ حبّة تراب                   من أرض لبنانْ''.

 

ولنسمع الأقصوصة الحزينة المكتملة العناصر: الحدث، والتصوير البديع، والوداع، والعتاب، والرّقة، والهدوء، والنهاية المعبّرة في ''أمس انتهينا'':


'أمس انتهينا، فلا كنّا ولا كانا                    يا صاحبَ الوعدِ، خلِّ الوعدَ نسيانا
طافَ النعاسُ على ماضيك وارتحلَتْ           حدائقُ الصحوِ بكياً... فاهدأ الآنا
حتّى الهدايا، وكانت كلّ ثروتنا                 ليل الوداع ... نسيناها هدايانا
أسلمتها لرياح الأرضِ تحملها                   حين الهبوبِ، فلا أدركتِ شطآنا
يا رحلةً، في مدى النسيانِ، موجعةٌ             ما كان أغنى الهوى، عنها، وأغنانا''.


وفي قصيدة ''جسر العودة''، يتعالى صوت الأخوين هادراً في آذان العالم الأصمّ، أعلى من صوت الملوك والرؤساء والزعماء والأمراء والوزراء... أعلى من علاءات الأرض:
إيهِ فلسطين، والعراق، ولبنان، والجولان، وبلدان المشرق العربيّ، إن بقينا ''واقفين نبكي... من ذكرى زعيم قاهر، أو شعب مقهور.'' صحيح، لقد بدأ الشعر القديم بملك، وانتهى بملك  أمّا الشعر المعاصر فقد بدأ بملكين، وانتهى بملكين.

 

                                          ''جسرَ العودَهْ
الأخوان رحبانييا جسرَ الأحزانِ
أنا سمّيَتك
جسر العودَه
المأساةُ ارتفعَت
المأساةُ اتسعَت
وَسِعَت
سَطَعَت
بَلَغَت حدّ الصَّلبِ
مَن صلبوا كلَّ نبيٍّ
صلبوا الليلةَ شعبي
العاثِرَ ينهض
النازحَ يرجِع
والمنتظرون يعودون
وشريد الخيمة يرجِع
وسلامي لكم يا أهلَ الأرضِ
المحتلّهَ
يا منزرعين بمنازلكم
صورة جسر قديم وطبيعةقلبي معكم
وسلامي لكم
والمجدُ لأبطالٍ آتين
الليلةَ قد بلغوا العشرين
لهُم الشّمسُ
لهُم القدسُ والنصرُ
وساحاتُ فلسطين.''

الدكتور ميخائيل مسعود
حقل العزيمة

شِعر الأخوين رحباني دقّة ورقّة وهندسة

شِعر الأخوين رحباني دقّة ورقّة وهندسة

عاصي، ملحم بركات، أيلي شويريالمقصود بالأخوين رحباني: عاصي ومنصور. وهما أصل الدوحة الرحبانيّة اليافعة، المتفرّعِة الأغصان الضاربة في الآفاق، المثقلة بالثمار.
وإنّه لمن الصعوبة بمكان، أن يتكلم ناقد على شعر الأخوين رحباني، من دون أن يستشعر خشيةً أو يتهيّب موقفًا.
هذا شعر غنائيّ وجدانيّ منوّع، تمازجت فيه ثقافات، وتماهت فيه حضارات؛ فغدا شعر الإنسانية، في وطن الأرض، أو سِرّ الخلق، في عالم الإبداع.
هذا شعر فيه دأب، وطبعيّة، وصنعة، ودقة، ونضج، ورقّة، وهندسة وتأنّ.ٍ..
وأفضل ما في شعر الأخوين رحباني تلك الشموليّة المهيمنة على الكلمة المنتقاة، والتزاوج بين اللفظ والمعنى، والشكل والمضمون، والشعر والموسيقى... إنّه السحر الحلال.
 


قيمة هذا الشعر
لوحة لجبران خليل جبرانإنّ الشعر الرحبانيّ، كان مع عاصي ومنصور، في أساس الأعمال العظيمة التي قُدّمت في هياكل بعلبك، أو على مسارح العالم فهما الّلذان كتبا الشعر المنوّع، المتماسك، المهندس، أو الموسيقي، الرقيق، في الفصحى والعامّية، والأقرب إلى إفهام المتلقّي. فالمسرحيّة الغنائيّة: بحواراتها الحية، وموسيقاها التصويريّة ولوحاتها التراثيّة، وصداح فيروز فيها... إنّما انطلقت من كلام شعريّ راقٍ، ينتسب مفاخراً، إلى الأخوين رحباني.
ونحن عندما تعلّمنا الشعر، أو عندما علّمَناه في مدارسنا، إنما عرفناه شعراً معلّبَاً، يختصّ بشاعرٍ، أو بقبيلةٍ، أو بقومٍ، أو بجماعةٍ أو بأميرٍ، أو بطائفةٍ، أو بمذهبٍ، أو بحزب...
إلى أن بلغ أسماع الطلاّب قول، ورد فيه: أحسن  الشِعر أكذبُه (أستغفر الصدق والخير والجمال).
أمّا مع الأخوين رحباني، فقد صار الشعر قيمة حضاريّة تختصّ بالإنسان. صار صدق شعر، وصدق شعور، وصدق شاعرين.

 

ماهيّة هذا الشعر
لم يكن شعر الأخوين رحباني نتاجاً شعرّياً مألوفاً، فهما لم يتعمّدا كتابة القصائد، وجمعها في ديوان، وطباعتها، ونشرها... وأوّل مجموعة شعرّية أُصدرت لهما، هي : ''سمراء مها''.
أصدرها أصدقاؤهما في دمشق، عام ١٩٥٢ . وفي هذه المجموعة تمّ تقديم ''الأخوين رحباني'' كشاعرَيْن، لأول مرّة بعدما عرفهما الناس موسيقيّيَْن.
كانت الكلمة الشعريّة المصقولة المغسولة المنتقاة، قد أشبعت رقّة وتناهت نعومة، ممزوجة بشهقات الأوتار وأنّات النايات ، منطلقة من حنجرة فيروز، كعندلة البلابل، فكأن إلهاً خلق على صورته ومثاله.. ويا سبحان الخالق العظيم! ماهيّة هذا الشعر، أنّهَ لشدّة تواضع أصحابه، قد طغا على ما عداه من شعر رفاق: سعيد عقل، والأخطل، ونزار، وبدوي الجبل، وبولس سلامة، وعمر ابن أبي ربيعة... حتى بات كل شعر جميل مموسقٍ، في مختبر الرحابنة، يحمل هويّة رحبانيّة.
ويبدو أن هذا الدفق من الجودة والإبداع، لم يزعج الشعراء من أصحاب الحسّ الرهيف. ففي معرض دمشق الدولي، حضر الشاعر ''عمر أبو ريشة'' يهنّئِ الأخوين رحباني، ويقول: ''خذا كلَّ شِعري، مقابل قصيدتكما: '' لَملمتُ ذكرى لقاءِ الأمسِ بالهُدُبِ''، وبخاصّةٍ البيت:
 

''نسيتُ، من يدِهِ أن أستردّ يدي طالَ السلامُ، وطالت رفّةَُ الهُدُبِ''.

 

 

 

شِعر ينافس ويفوز

''إذا كان ذنبي أنّ حبّكَِ سيّدِي''، فسأل: ''لمن هذان''؟
فقلت: ''للنميري''. فقال : هو أشعر''.
والحكاية أنني كتبت شعراً إلى صبيّةٍ من ''تلّة الخيّاط''، في بيروت، أقول فيه:
 

''ويا تلّةَ الخيّاطِ، لي فيكِ نجمةٌ                 وفوقَ تلالِ الرملِ منكِ كثيبُ
يسّمرُني حُبٌ عليهِ، إلى المَدَى                 وبيتُ القساةِ الصالبيّ قريبُ
إذا كانَ ذنبي أنّ حبّكِ سيّدي                    فَكّلُ ليالي العاشقينَ ذنوبُ
أتوبُ إلى ربّيِ، وإنّي لمرةٍَّ                     يُسامحني ربّي... إليكِ أتوبُ''

 


مقالع الكلمات
كلّ شاعر من الشعراء يختار كلماته من مقلع صخرٍ، أو من عمق بحرٍ، أو من منبع نهر... فيُعرف الفرع بالأصل، والمعدن بالجوهر. أمّا كلمات الشاعرين الأخوين، فمن صفاءٍ ونقاءٍ، وطهرٍ وقداسةٍ، وكرامةٍ وعنفوان.
فهما مدرسة شعرّية ووطنيّة وحضاريّة راقية.

فلنسمع الشعب يقول لأميره:(فخر الدين الثاني)
 

''سيوفنا منحنيها                      لسيفَك، يا ميرْ

منحلف بشرفنا                        بالأرز العتيقْ

بمجدنا الجايي                      بالعزّ اللّي كانْ

وبكلّ حبّة تراب                   من أرض لبنانْ''.

 

ولنسمع الأقصوصة الحزينة المكتملة العناصر: الحدث، والتصوير البديع، والوداع، والعتاب، والرّقة، والهدوء، والنهاية المعبّرة في ''أمس انتهينا'':


'أمس انتهينا، فلا كنّا ولا كانا                    يا صاحبَ الوعدِ، خلِّ الوعدَ نسيانا
طافَ النعاسُ على ماضيك وارتحلَتْ           حدائقُ الصحوِ بكياً... فاهدأ الآنا
حتّى الهدايا، وكانت كلّ ثروتنا                 ليل الوداع ... نسيناها هدايانا
أسلمتها لرياح الأرضِ تحملها                   حين الهبوبِ، فلا أدركتِ شطآنا
يا رحلةً، في مدى النسيانِ، موجعةٌ             ما كان أغنى الهوى، عنها، وأغنانا''.


وفي قصيدة ''جسر العودة''، يتعالى صوت الأخوين هادراً في آذان العالم الأصمّ، أعلى من صوت الملوك والرؤساء والزعماء والأمراء والوزراء... أعلى من علاءات الأرض:
إيهِ فلسطين، والعراق، ولبنان، والجولان، وبلدان المشرق العربيّ، إن بقينا ''واقفين نبكي... من ذكرى زعيم قاهر، أو شعب مقهور.'' صحيح، لقد بدأ الشعر القديم بملك، وانتهى بملك  أمّا الشعر المعاصر فقد بدأ بملكين، وانتهى بملكين.

 

                                          ''جسرَ العودَهْ
الأخوان رحبانييا جسرَ الأحزانِ
أنا سمّيَتك
جسر العودَه
المأساةُ ارتفعَت
المأساةُ اتسعَت
وَسِعَت
سَطَعَت
بَلَغَت حدّ الصَّلبِ
مَن صلبوا كلَّ نبيٍّ
صلبوا الليلةَ شعبي
العاثِرَ ينهض
النازحَ يرجِع
والمنتظرون يعودون
وشريد الخيمة يرجِع
وسلامي لكم يا أهلَ الأرضِ
المحتلّهَ
يا منزرعين بمنازلكم
صورة جسر قديم وطبيعةقلبي معكم
وسلامي لكم
والمجدُ لأبطالٍ آتين
الليلةَ قد بلغوا العشرين
لهُم الشّمسُ
لهُم القدسُ والنصرُ
وساحاتُ فلسطين.''

الدكتور ميخائيل مسعود
حقل العزيمة

شِعر الأخوين رحباني دقّة ورقّة وهندسة

شِعر الأخوين رحباني دقّة ورقّة وهندسة

عاصي، ملحم بركات، أيلي شويريالمقصود بالأخوين رحباني: عاصي ومنصور. وهما أصل الدوحة الرحبانيّة اليافعة، المتفرّعِة الأغصان الضاربة في الآفاق، المثقلة بالثمار.
وإنّه لمن الصعوبة بمكان، أن يتكلم ناقد على شعر الأخوين رحباني، من دون أن يستشعر خشيةً أو يتهيّب موقفًا.
هذا شعر غنائيّ وجدانيّ منوّع، تمازجت فيه ثقافات، وتماهت فيه حضارات؛ فغدا شعر الإنسانية، في وطن الأرض، أو سِرّ الخلق، في عالم الإبداع.
هذا شعر فيه دأب، وطبعيّة، وصنعة، ودقة، ونضج، ورقّة، وهندسة وتأنّ.ٍ..
وأفضل ما في شعر الأخوين رحباني تلك الشموليّة المهيمنة على الكلمة المنتقاة، والتزاوج بين اللفظ والمعنى، والشكل والمضمون، والشعر والموسيقى... إنّه السحر الحلال.
 


قيمة هذا الشعر
لوحة لجبران خليل جبرانإنّ الشعر الرحبانيّ، كان مع عاصي ومنصور، في أساس الأعمال العظيمة التي قُدّمت في هياكل بعلبك، أو على مسارح العالم فهما الّلذان كتبا الشعر المنوّع، المتماسك، المهندس، أو الموسيقي، الرقيق، في الفصحى والعامّية، والأقرب إلى إفهام المتلقّي. فالمسرحيّة الغنائيّة: بحواراتها الحية، وموسيقاها التصويريّة ولوحاتها التراثيّة، وصداح فيروز فيها... إنّما انطلقت من كلام شعريّ راقٍ، ينتسب مفاخراً، إلى الأخوين رحباني.
ونحن عندما تعلّمنا الشعر، أو عندما علّمَناه في مدارسنا، إنما عرفناه شعراً معلّبَاً، يختصّ بشاعرٍ، أو بقبيلةٍ، أو بقومٍ، أو بجماعةٍ أو بأميرٍ، أو بطائفةٍ، أو بمذهبٍ، أو بحزب...
إلى أن بلغ أسماع الطلاّب قول، ورد فيه: أحسن  الشِعر أكذبُه (أستغفر الصدق والخير والجمال).
أمّا مع الأخوين رحباني، فقد صار الشعر قيمة حضاريّة تختصّ بالإنسان. صار صدق شعر، وصدق شعور، وصدق شاعرين.

 

ماهيّة هذا الشعر
لم يكن شعر الأخوين رحباني نتاجاً شعرّياً مألوفاً، فهما لم يتعمّدا كتابة القصائد، وجمعها في ديوان، وطباعتها، ونشرها... وأوّل مجموعة شعرّية أُصدرت لهما، هي : ''سمراء مها''.
أصدرها أصدقاؤهما في دمشق، عام ١٩٥٢ . وفي هذه المجموعة تمّ تقديم ''الأخوين رحباني'' كشاعرَيْن، لأول مرّة بعدما عرفهما الناس موسيقيّيَْن.
كانت الكلمة الشعريّة المصقولة المغسولة المنتقاة، قد أشبعت رقّة وتناهت نعومة، ممزوجة بشهقات الأوتار وأنّات النايات ، منطلقة من حنجرة فيروز، كعندلة البلابل، فكأن إلهاً خلق على صورته ومثاله.. ويا سبحان الخالق العظيم! ماهيّة هذا الشعر، أنّهَ لشدّة تواضع أصحابه، قد طغا على ما عداه من شعر رفاق: سعيد عقل، والأخطل، ونزار، وبدوي الجبل، وبولس سلامة، وعمر ابن أبي ربيعة... حتى بات كل شعر جميل مموسقٍ، في مختبر الرحابنة، يحمل هويّة رحبانيّة.
ويبدو أن هذا الدفق من الجودة والإبداع، لم يزعج الشعراء من أصحاب الحسّ الرهيف. ففي معرض دمشق الدولي، حضر الشاعر ''عمر أبو ريشة'' يهنّئِ الأخوين رحباني، ويقول: ''خذا كلَّ شِعري، مقابل قصيدتكما: '' لَملمتُ ذكرى لقاءِ الأمسِ بالهُدُبِ''، وبخاصّةٍ البيت:
 

''نسيتُ، من يدِهِ أن أستردّ يدي طالَ السلامُ، وطالت رفّةَُ الهُدُبِ''.

 

 

 

شِعر ينافس ويفوز

''إذا كان ذنبي أنّ حبّكَِ سيّدِي''، فسأل: ''لمن هذان''؟
فقلت: ''للنميري''. فقال : هو أشعر''.
والحكاية أنني كتبت شعراً إلى صبيّةٍ من ''تلّة الخيّاط''، في بيروت، أقول فيه:
 

''ويا تلّةَ الخيّاطِ، لي فيكِ نجمةٌ                 وفوقَ تلالِ الرملِ منكِ كثيبُ
يسّمرُني حُبٌ عليهِ، إلى المَدَى                 وبيتُ القساةِ الصالبيّ قريبُ
إذا كانَ ذنبي أنّ حبّكِ سيّدي                    فَكّلُ ليالي العاشقينَ ذنوبُ
أتوبُ إلى ربّيِ، وإنّي لمرةٍَّ                     يُسامحني ربّي... إليكِ أتوبُ''

 


مقالع الكلمات
كلّ شاعر من الشعراء يختار كلماته من مقلع صخرٍ، أو من عمق بحرٍ، أو من منبع نهر... فيُعرف الفرع بالأصل، والمعدن بالجوهر. أمّا كلمات الشاعرين الأخوين، فمن صفاءٍ ونقاءٍ، وطهرٍ وقداسةٍ، وكرامةٍ وعنفوان.
فهما مدرسة شعرّية ووطنيّة وحضاريّة راقية.

فلنسمع الشعب يقول لأميره:(فخر الدين الثاني)
 

''سيوفنا منحنيها                      لسيفَك، يا ميرْ

منحلف بشرفنا                        بالأرز العتيقْ

بمجدنا الجايي                      بالعزّ اللّي كانْ

وبكلّ حبّة تراب                   من أرض لبنانْ''.

 

ولنسمع الأقصوصة الحزينة المكتملة العناصر: الحدث، والتصوير البديع، والوداع، والعتاب، والرّقة، والهدوء، والنهاية المعبّرة في ''أمس انتهينا'':


'أمس انتهينا، فلا كنّا ولا كانا                    يا صاحبَ الوعدِ، خلِّ الوعدَ نسيانا
طافَ النعاسُ على ماضيك وارتحلَتْ           حدائقُ الصحوِ بكياً... فاهدأ الآنا
حتّى الهدايا، وكانت كلّ ثروتنا                 ليل الوداع ... نسيناها هدايانا
أسلمتها لرياح الأرضِ تحملها                   حين الهبوبِ، فلا أدركتِ شطآنا
يا رحلةً، في مدى النسيانِ، موجعةٌ             ما كان أغنى الهوى، عنها، وأغنانا''.


وفي قصيدة ''جسر العودة''، يتعالى صوت الأخوين هادراً في آذان العالم الأصمّ، أعلى من صوت الملوك والرؤساء والزعماء والأمراء والوزراء... أعلى من علاءات الأرض:
إيهِ فلسطين، والعراق، ولبنان، والجولان، وبلدان المشرق العربيّ، إن بقينا ''واقفين نبكي... من ذكرى زعيم قاهر، أو شعب مقهور.'' صحيح، لقد بدأ الشعر القديم بملك، وانتهى بملك  أمّا الشعر المعاصر فقد بدأ بملكين، وانتهى بملكين.

 

                                          ''جسرَ العودَهْ
الأخوان رحبانييا جسرَ الأحزانِ
أنا سمّيَتك
جسر العودَه
المأساةُ ارتفعَت
المأساةُ اتسعَت
وَسِعَت
سَطَعَت
بَلَغَت حدّ الصَّلبِ
مَن صلبوا كلَّ نبيٍّ
صلبوا الليلةَ شعبي
العاثِرَ ينهض
النازحَ يرجِع
والمنتظرون يعودون
وشريد الخيمة يرجِع
وسلامي لكم يا أهلَ الأرضِ
المحتلّهَ
يا منزرعين بمنازلكم
صورة جسر قديم وطبيعةقلبي معكم
وسلامي لكم
والمجدُ لأبطالٍ آتين
الليلةَ قد بلغوا العشرين
لهُم الشّمسُ
لهُم القدسُ والنصرُ
وساحاتُ فلسطين.''

الدكتور ميخائيل مسعود
حقل العزيمة