طفولة الأخوين رحابني من كتاب طريق النحل

طفولة الأخوين رحابني
طفولة غريبة بين فوّار أنطلياس والمنيبيع!

يبدو أن موهبة الأخوين رحباني الفنية قد تفتّحت منذ الطفولة. طفولتهما غريبة! أسهمت إسهاماً فعّالاً في تنمية الحسّ الفنّي عندهما.
وفي أحاديثه مع الأستاذ هنري زغيب تكلّم منصور الرحباني عن هذه المرحلة من عمره وعمر أخيه. وقد رأينا أنه من المفيد نشر هذه المقاطع من كتاب الأستاذ هنري زغيب ''طريق النّحل '' علّها تلقي الضوء على سرّ موهبة الأخوين رحباني.

 

المجلة التربوية

 

حكايتنا، عاصي وأنا، قصّة شقيقين كأنّهما توأمان، ربما في ظلّ الأسئلة الكبيرة، وطرحا الأسئلة الكثيرة، وقالا بالكلمة والنوطة ما اعتقدا أنه بعض الجواب. لكنهما لم يقطفا أبداً أيّ جواب.

إنها حكاية طفولة غريبة ترعرعت بين حفافي نهر الفوّار وشجر الحور والصفصاف ووعر الجبال والصخور ومغاور إنطلياس التاريخية... حكاية الفقر والحرمان حتى الوجع المرّ، والبكاء الصامت الذي ينتهي دموعاً حافية على أطراف مخدّة ممزّقة فوق فراش عتيق.

حكايتنا عاصي وأنا، مجموعة لوحات طفولةٍ بريئة كانت تشتهي ما لا تطاله اليقظة، وتكبر على أخبار عنترة والقبضايات وكراسي الزبائن في مطعم الفوّار تتردّد بعد رحيلهم أنغام بُزُق القبضاي "شيخ الشباب" أبو عاصي.

في ظلّ والدنا حنّا عاصي الرحباني، الشخصية الغريبة والقريبة معاً، نشأنا وكبرنا، عاصي وأنا.

حنا الرحباني. أبو عاصيو "أيو عاصي" من حيّ "عين السنديانة" في الشوير. ينتمي في أصل جدوده إلى قرية رحبة في عكّار. هاجر والداه إلى مصر إبان موجة الهجرة اللبنانية إثر أحداث 1860 هرباً من جور العثمانيين. وُلد في طنطا، ويتذكّر أن ولادته كانت سنة ثورة عرابي باشا (1882). عاد فتى إلى بيروت، وسكن في حيّ الرميل، مشتغلاً لدى نسيبه الصائغ ديب عاصي (ما زال أبناؤه وأحفاده حتى اليوم يتعاطون المهنة، أصحاب "محلات عاصي للمجوهرات" في بيروت). كان حنّا يطمح أن يكون صائغاً محترفاً. لكنها مهنة لم تكن تدرُّ عليه كما يرغب، فيما مهنةٌ أخرى شائعةٌ عهدئذٍ، كانت تدرُّ مالاً أوفر: مهنة القبضايات. لذا كان يقبض أجرته الأسبوعية، ويذهب مع بعض قطّاع الطرق إلى ضهر البيدر أو وادي اللّبيش مع "الطيّاحين" (الطائحين) فيعود بمغانمَ أكثر. وشخصية "القبضاي" تردّدت لاحقاً في غير واحد من أعمالنا (منها "أبو أحمد" في فيلم "سفر برلك"، والقبضايات في مسرحية "لولو"). وكان دائماً يحمل مسدساتٍ وخنازير ومِدى وأسلحةً مختلفة. وغير مرّة كانت له في بيروت جولاتُ إطلاق نارٍ مع العثمانيين، حتى حكموا عليه بالإعدام غيابياً فلم يعد أمامه سوى الفرار من ولاية بيروت. ففي ذلك العهد، أيام المتصرفية، لم يكن القانون العثماني يطال ولاية جبل لبنان التي تبدأ حدودها شمالاً عند نهر بيروت. كان في جبل لبنان حكمٌ ذاتي ذو حصانة وامتياز، تحميه سبع دول ويديره متصرّف لا يخضع لحكم ولاية بيروت.

وصل والدي إلى إنطلياس واستقرّ فيها، متّخذاً من بقعةٍ على فوّار إنطلياس مقهىً جعله ملتقى الفارين من حكم الإعدام العثماني وجور العثمانيين. من أولئك "القبضايات": الياس الحلبي، غندور زريق، الحاج عيد السلام فرغل، أحمد الجاك، أبو راشد دوغان... وكان يقصد المقهى (وكان اسمه "مقهى فوّار إنطلياس") زبائنُ كثيرون من بيروت وجبل لبنان، يشدّهم إليه أمانٌ في الخارج، وطربٌ في الداخل "على رنين بزق حنّا عاصي"

كان والدي أميّاً، يعرف من أسرار الحياة أكثر ممّا تُعلّم المدارس. فهو من جيل ربي على خميرة البركة وراحة البال. وكانت له في "مقهى الفوّار" أمبراطوريةٌ خاصة يديرها بطبعه المشاكس الذي لا يهادن في أمور الأخلاق (بعد حياة الطيّاح التي عاشها، تاب إلى الاستقامة). لذلك كتب إعلانين على مدخل المقهى ضدّ مصلحته تماماً. الأوّل بالعربية يقول: "المرجُوّ من ضيوفنا الكرام أن تكون أساليب سرورهم مقرونة بالحشمة ومكارم الأخلاق، وأن يحرصوا من الشراب أن لا يورّطهم بما يخلّ بالآداب. ممنوع كل شيء ضدّ الآداب. ممنوع على الرجل أن يجلس قرب زوجته بل قبالتها. ممنوع أن يلقّمها بيده. ممنوعة كل حركة غير عادية. وإذا خالف أحدٌ هذه القوانين لقي ما لا يحب. الإمضاء: حنّا عاصي الرحباني". والإعلان الآخر بالفرنسية، نظراً لوجود جيش أجنبي في المنطقة، كان يقول: "ممنوع كل لفتة وكل نظرة مخالفة للآداب. ممنوع رقص الجنسين".

ونظراً لهذا القانون "الرحباني" الصارم المتشدّد المتصلّب، كان الكثيرون من أبناء بيروت المحافظين يرسلون عائلاتهم إلى "مقهى الفوّار" صباحاً مطمئنين إليهم وإلى حماية حنّا عاصي، ثمّ يلحقون بهم بعد الظهر فيجدون كل عائلة لوحدها، يفصل بينها وبين العائلات الباقية حصير علّقه حنّا عاصي بشكل حاجز يحجب بين العائلة والأخرى. وأحياناً كان يزور المقهى ضباط فرنسيون مصحوبين بسيّدات أو آنسات، حين يبدر منهم ما يخلّ بقوانين المقهى، يشهر حنّا عاصي مسدسه ويطرد الضابط مهما علا شأنه.عاصي ومنصور يحيطان بأم عاصي وشقيقتيهما إلهام وناديا

هذا الجو "العنتري" كان يعجب الروّاد والجلاّس، ومنهم: الجن علي زكّور حجال، محيي الدين بعيون (وهذا الأخير أهدى والدي بزقاً جميلاً ظلّ يحتفظ به طويلاً).

 وكان بلغ الأربعين حين تعرّف يفتاة من إنطلياس تدعى سعدى صعب، تزوّجها وسكنت معها والدتها غيتا بعقليني صعب. وكانت جدتي غيتا ذات شخصية قويّة جداً، وتوافق والدي على صرامته في التشدّد بأمور الأخلاق، حتى أنها كانت تحمل العصا وتساعده في طرد الزبائن المشاغبين أخلاقياً. وهذه الشخصية ظهرت لاحقاً في "يعيش يعيش" (ستّي التي كانت تضرب زوجها "جدّي بو ديب"). وهي كانت إمرأة قرويّة فولكلورية من عينطورة بقيت ذكراها في آثارنا لاحقاً فذكرناها في "ميس الريم" (أغنية "ستّي من كحلون")، وفي إحدى أغنيات "قصيدة حب".

 

هلاّ هلاّ يا تراب عينطوره              يا ملفى الغيم وسطوح العيد

ستّي من فوق لو فيي زورا            راحت عَ العيد والعيد بعيد

       

هكذا كان الجو العام في المقهى، وفي البيت، حين ولد عاصي في 4 أيار 1923 (وسُمّي هكذا على إسم جدّي لأبي) وولدتُ أنا في 17 آذار 1925 (وسُمّيتُ منصور على إسم جدّ أبي). وكانت ولادتنا في بيت عتيق ولدَت فيه كذلك شقيقتي سلوى (لاحقاً زوجة المحامي عبد الله الخوري إبن الأخطل الصغير، ووالدة الموسيقي العالمي بشاره الخوري). وكان ذلك البيت لأمي سعدى ورثته عن أبيها وتعيش فيه مع والدتها غيتا. لكننا سرعان ما انتقلنا إلى بيت آخر، ولد فيه شقيقي الياس وشقيقتي الصغرى إلهام (لاحقاً زوجة المحامي والوزير الياس حنّا)، وكانت شقيقتي الوسطى ناديا ولدت في منزل آخر في بكفيا. وحول هذا التنقّل كتبت لاحقاً قطعة جاء فيها: "تشرّدنا في منازل البؤس كثيراً. سكنّا بيوتاً ليست بيوت. هذه هي طفولتنا، إخوتي وأنا".

في طفولتنا الأولى كانت أحوالنا مرتاحة. كان "مقهى الفوّار" في عزّ شهرته، والزبائن كثيرين، والخير وفيراً. ومع أن أبي ذواقةُ فنّ، كان ينهانا عن تعلّم الموسيقى، ويغضب إذا قاربنا البزق وحاولنا العزف عليه. ولم يكن يهتمّ بدراستنا قدر اهتمامه بصحّتنا. لذلك، في منتصف الربيع كان يُقلع عن إرسالنا إلى المدرسة، ويبقينا حوله في "مقهى الفوّار"، ولا يتيح لنا الاختلاط بسائر الأولاد خوفاً عيلنا من عادات سيّئة نكتسبها أو أفكار نلتقطها.البيت الذي ولد فيه عاصي ومنصور في أنطلياس

 على أن الأفكار بدأت تتولّد فينا باكراً جداً، عاصي وأنا. كنّا شديدي الالتصاق واحدنا إلى الآخر، كأاننا توأمان، مع أنه يكبرني بسنتين إلاّ شهراً واحداً. لم نكن نفترق. لم نكن ننفصل. ونادراً ما نودي علينا في طفولتنا منفصلَين. لذلك، منذ تلك الأيام الأولى، درجنا نسمع تسمية "عاصي ومنصور". كنّا معاً. دائماً معاً. ليلاً نهاراً معاً. وهكذا أمضينا حياتنا في ما بعد.

في المقهى، كنّا نجلس في عليّة فوق المدخل، نتسرّق النظر على الزبائن. جاءتنا باكراً أفكارٌ غريبةٌ بعضها جريء لتلك السنّ. كان عاصي يخترع أخباراً كي يسلّيني. وكانت أخباره دائماً غريبة. ناسها غريبو الأطباع والأطوار. لا يكبرون ولا يشيخون. يخلق لي عالماً من شعبٍ طيّبٍ مسالمٍ مهادنٍ ليس فيه شرّ. منذ طفولته كان عاصي مبدعاً مبتكراً. يخلق ناساً تسود بينهم عدالةٌ ومحبّة. ودائماً يخلق لي عوالم جديدة وقصصاً جديدة. لم أكن أعرف من أين يأتي بمبتكراتها وأشخاصها. كنت أصغي إليه. أصدّقه. وتكبر في رأسي الأسئلة، وتتزايد في مخيّلتي الوجوه. وهذا ما يقسّر لاحقاً كثرة الشخصيات التي خفل بها مسرحنا، وهي تتأرجح بين جميع أنواع الناس وطبقاتهم وأطباعهم وميولهم و"كاراكتيراتهم".

في تلك الطفولة الأولى، من تلك العليّة، كنّا نسمع في المقهى من البوق (الفونوغراف) أغنيات الشيخ السيّد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم وأبو العلا محمد والشيخ أمين حسنين، فتتلوّن طفولتنا بأجواء موسيقية تدخل ذاكرتنا وتمسّنا بشعور لذيذ لم نكن نحسن تفسيراً له في تلك الأيام الطريّة.

وحين يتفرّق الزبائن آخر الليل، كان أبو عاصي يجلس لوحده أو مع أحد اصدقائه، ويروح يعزف على البزق أنغاماً شجيّة تطربنا، على نور قنديل كبير (لوكس) يتدلّى من السقف، له إطار كبير يفيض النور من تحته إلى دائرة معيّنة حول المقهى، ثمّ يغرق كل شيء خارجها في العتمة الكبرى. كانت أسئلتنا تبدأ من حدود تلك العتمة: ما الذي هناك؟ ماذا يجري خلف حدود الضوء؟ وهذا ما ظهر لاحقاً في مغنّاة "جسر القمر":

بدنا نعرف سرّ الإشياقنديل زيت

معنى الإشيا

شو اللي مخبّا

بدنا نعرف

نحنا جينا تَ نعرف...

بدنا نعرف لمّا منغفى مين بيوعى

وبيصير يدبّك بدعسِه منّا مسموعه

بدنا نعرف

نحنا جينا تَ نعرف".

كنّا نجلس، عاصي وأنا، صامتَين، نُصغي إلى أبينا يغنّي بصوته الجهوري. ومن تلك السهرات، حفظنا موّالاً لعنترة كان غالباً يردّده:

لو كان قلبي معي ما اخترتُ غيركمُ             ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا

لكنّه راغبٌ في من يعذّبه               وليس يقبل لا لوماً ولا عذلا

وإكراماً لتلك الذكريات، أدخلنا لاحقاً هذين البيتين في لوحة موشّحات. كان أبو عاصي يحب شعر عنترة. ومع أنّه أمّيّ، كان يروي قصائد كاملة من عنترة لشدّة إعجابه به، حتى أنه باع يوماً طنجرةً من المقهى ليشتري بها ديوان عنترة بتحقيق ابراهيم اليازجي.

كان الفوّار محاطاً بأحراج كثيفة وأودية مخيفة، تزداد رهبةً في الليالي بأشجارها العالية كلّما سطع عليها ضوء القمر. من هنا ما قلناه لاحقاً في "صحّ النوم".

عميطلع القمر          والغيم البارد يطلع

عميطلع القمر          والنجمه صوبو تلمع

         عميقطع وادي ورا وادي

         وعلىّ راسو الشجر الراكع

وكانت تتناهى إلينا في الليالي أصوات حيوانات غريبة تزيدنا من عزلتنا التي، وسط أصوات الضباع والذئاب، تخلق لنا، عاصي وأنا، عوالم جديدة، بعيدة، مبهمة، فتزداد معها الأسئلة ويبتعد الجواب. كنّا نلتصق واحدنا بالآخر بين الخوف والطمأنينة: الخوف من هذه الحيوانات، وطمأنينة أنها لن تبلغنا لأن عندنا ضوءاً وخدماً وعمّالاً في المقهى، وهذه الحيوانات تخاف الضوء كما يخاف بعض الأشرار. وهذا ما ظهر لاحقاً في أوبريت "الليل والقنديل" حيث هولو يخاف الضوء ويريد أن يكسر القنديل الكبير على كتف الشير لكي تغرق الضيعة في العتمة.

صورة عائلية أمام البيت في أنطلياس )حوالى ١٩٤٥كانت تحدث أحياناً مشادّات ومعارك بالأيدي والمعاول، خلافاً على توزيع مياه نهر الفوّار التي كانت تنزل إلى السهل فتسقي القرى المجاورة (جلّ الديب، إنطلياس، ضبيّة،...)، وكان المزارعون يختلفون على أحقيّة تحويل المياه إلى بساتينهم، فيبلغون المقهى بوجوههم الكالحة ذات الشوارب، بثيابهم الطويلة وغنابيزهم القاتمة وطرابيشهم. كانوا يتجمّعون حول المقهى ضمن الضوء، يتجادلون على اولويّة توزيع المياه، ويحتكمون إلى أبو عاصي الذي يحاول أن يصلح بينهم. وهذا ما ظهر لاحقاً في شخصيّة "شيخ المشايخ" الذي أصلح بين أهل القاطع (مغناة "جسر القمر").

إذاً، منذ تلك الأيام الأولى بدأت تجيء إلى تفكيرنا الأفكار الماورائية، الأسئلة الكبيرة، التساؤلات التي تتطلّع إلى فوق، إلى الأعلى، إلى سرّ الوجود:

كيف؟ لماذا؟ إلى أين؟ من؟ ما؟...

 

في تلك الأجواء، بدأ الناس يتنبهون إلينا، ويقولون عن عاصي "سيكون شاعراً" وعني "سيكون طائحاً". ذلك أن عاصي كان نحيلاً ناعماً لطيفاً فائق التهذيب، فيما كنت أطول منه وأضخم، شديد السمنة، فاشلاً في المدرسة، ناجحاً في العنتريات. وغالباً ما كنت أهرب من المدرسة فور وصولي إليها.

لم يكن في طفولتي ما يدلُّ على أنني "مشروع شاعر أو فنّان".حتى الأولاد كانوا يتجنّبون معاشرتي والاختلاط بي واللعب، وإن فعل بعضهم فمرغماً كرمى لعاصي الذي كان دائماً يفوقني ذكاءً وحكمة.

أحياناً كانت أمي توصلني إلى المدرسة (راهبات العائلات المقدّسة – إنطلياس) كي تأمن بقائي في الصف، لكنني كنت دائماً أجد حيلة لأهرب. وإذا بقيتُ، كنت أنتظر مرور سيارات الشحن الكبيرة (بيرلييه) على طريق إنطلياس محمّلة بأكياس الترابة (الإسمنت) من معمل شكّا، فأبكي طالباً الخروج للتفرّج عليها. وحين تمطر، كانت المياه تدلف من تحت باب الصف، فأخاف أن يجتاحنا الطّوفان، وأروح أبكي طالباً أن أرى أخي عاصي، وأظلّ أبكي حتى تأخذني المعلمة إلى غرفة الصف الأخرى حيث عاصي، فأطمئن إلى أنني لن أموت لوحدي، وأعود إلى قاعة الصف. لم يكن يستهويني في الصف إلاّ صوت رفاقي يلقون قصائد الاستظهار. لم أكن أدري لماذا كان الشعر يأخذني إلى البعيد، فأسيح من نافذة غرفة الصف إلى بعيد مجهول لذيذ لم أكن أملك له تفسيراً في ذلك الوقت.

كل هذا حين أبقى في الصف. لكنني غالباً كنت أهرب من المدرسة. يلحق بي الرفاق فأتسلّق شجرة، وأختبئ. أحياناً كنت أتظاهر بالذهاب إلى المدرسة، لكنني فور دخول الأولاد إلى الصف، كنت أقف خارجاً أهرول إلى جذع شجرة كبيرة قرب البيت، أختبئ فيه من الصباح فأنام إلى الظهر، وأعود إلى البيت مع عاصي الذي لم يكن يشي بي لكثرة ما كان يحبّني. كان مجتهداً ومواظباً على أنَفَة وكبرياء. ويوم سألته المعلّمة عمّا يطمح أن يكون حين يكبر، كان جوابه الفوري: "سأكون صائغاً كأبي". أمّا أنا فأجبت: "سأكون تمساحاً أو حرباء". كنت سوريالي التفكير منذ طفولتي، وغير منطقي. كنت حالماً باستمرار ورافضاً كل واقع.

بعد مدرسة راهبات العائلة المقدّسة، نقَلنا والدنا إلى مدرسة أخرى أسّسها في إنطلياس فريد أبو فاضل، وهو أستاذنا الفعلي الأوّل. كان فيها جدار خشبي كبير يكتب عليه الشبّان عواطفهم نحو من يحبّون، فكنت أقف عنده أقرأها، وأشعر بما لم أكن عهدئذٍ أستطيع تفسيره. كنت أهرب من الدرس إلى الجدار. المهمّ كان ألاّ أدرس.

في السنة الأخيرة من "مقهى الفوّار" (1933) كان بعض زوّار أبي، ممّن يعجبهم جو المقهى الصارم، يكتبون له قصائد ويعلّقونها على مدخل المقهى. من تلك، أذكر:

نبع الجنان ونزهة الأبصار              إن رُمتَ رؤيتها، ففي الفوّارعاصي وتوفيق الباشا في فوار أنطلياس

فاضت بساحته المياه وغرّدت           أطياره طرباً على الأشجار

تجري المياه على الحصى وخريرها     في الصوت يحكي نغمة الغيتار

قد شابهَت عاصي حماةَ بنبعها          ورئيسُها عاصٍ على الأشرار

       

وهي على ما أذكر لعبد القادر الطُّبَّجي. وكنّا، عاصي وأنا، نحفظ تلك "المعلقات" التي على باب مقهى الفوّار، فبقيت نغمتها الشعرية والموسيقية في آذاننا وأخذتنا منذ تلك الأيام الأولى صوب القصائد.

هكذا كانت سنواتنا الأولى على فوّار إنطلياس: طفولة باهرة في ظلّ والد حنون لكنّه شديد المراس. نشأنا في عزلة جرحتها في الليالي وجوه ناس غرباء، ينبثقون من العتمة ويغيبون، تاركين خلفهم عواء الذئاب يتردّد في الأدوية، وطفلين ينامان على خرير المياه، طفولتهما مشحونة بصور غرائبية تفجّرت في ما بعد شعراً ومسرحاً وموسيقى.

ذات يوم من 1933 قرّر أبو عاصي بيع المقهى والانتقال إلى الجبل، فباع "فوّار إنطلياس" (لمن سيصبح والد زوجتي في ما بعد). وكاد أن يشتري بمال المقهى شاحنتين كبيرتين للنّقل البعيد، لكنّه عدل في ذلك الحين أخبره أحد أصدقائه عن مقهى صيفي قرب ضهور الشوير في منطقة الينابيع (شويا – من حيث هو أصلاً) فهرع إلى استثماره. وسماء فوراً "مقهى المنَيبِيع".

كنت في نحو التاسعة، وعاصي في الحادية عشرة، وبتنا نفهم المظاهر أكثر. كنّا نقصد ذلك المصيف منذ أوائل الربيع، ويعمد أبو عاصي إلى تسقيف المقهى بشجر الوزّال والخنشار. وكان قرب المقهى نبع ماء، وجدار صخري كتب عليه الروّاد أسماءهم وتواريخ جلوسهم في المقهى. كنت آنس إلى قراءة ما على الجدار، فيشغلني فكرة كيف يتجمّد الزمان في تلك الكتابات وما حولها من أسماء وعناوين وعواطف.

كانت أيّام "المنيبيع" مرحلة عزلة تامّة: نجلس، عاصي وأنا، نتأمّل كل ما حولنا. كأننا جئنا من التأمّل. كنّا نتأمّل النمل ساعات طويلة. نتأمّل أشعّة الشمس كيف تنسحب عن الصخور عند المغيب، ونراقب تحوّلات النور بين الظلّ الرمادي واحمرار الأشعّة الأخيرة. هناك كان لجيراننا مقالع، فنتابع المكارين يأتون إليها، يحمّلون بغالهم بالحجارة، ويصعدون بها إلى ضهور الشوير. هناك أيضاً قطفنا العنب من الكروم مع الناس. سِحنا في كروم التين. كانت ستّي غيتا تشتري عنزات كي تستخرج منها الجبنة واللبنة في المقهى، فأذهب أنا وأرعى العنزات وأخالط المعازة (رُعاة المعزى)، وأذكر منهم اثنين شريكين: ضاهر وديب (ظهر هذان الإسمان لاحقاً في أعمالنا) وأتعلّم منهما لغة الماعز وكيف يُساق القطيع. وحين لبست لاحقاً شخصيّة "بشير المعّاز" (في فيلم "بنت الحارس") فوجئ المعّاز الذي استأجرنا منه القطيع بأنني أسوق الماعز بشكلٍ "محترف".

في "المنيبيع" وكنّا كبرنا كفاية، بدأنا نخدم الزبائن على الطاولات. هناك تعلّمنا الصيد ورافقنا الصيادين. وفي ذلك الإطار (المنيبيع، ضهور الشوير، بكفيا، شويا، الزغرين، المياسه، حملايا) كنّا، عاصي وأنا، نتجوّل مشياً، أو نرافق ستّي غيتا. ومن ناس تلك المنطقة الذين بقيت وجوههم وأسماؤهم في بالنا، ولدت في ما بعد شخصيات سبع ومخول وبو فارس والست زمرّد وسائر شخصيات اسكتشاتنا الضيعوية.

وفي تلك الفترة، كنّا بدأنا نقرأ الشعر القديم ونحفظ منه ما نفهمه. وساعدنا ذلك لاحقاً على انتهاج أوزان خاصة بنا تناسب موسيقانا، ممّا حدا بيوسف الخال ذات يومٍ أن يطلب منّا الذهاب إلى "خميس شعر" كي نشرح للحاضرين كيف نؤقلم أوزاناً خاصة لأغانينا.

ربما تأثّراً بتلك القصائد التي حفظناها في تلك الحقبة، بدأ عاصي ينظم قصائد طويلة بإمضاء "كروبش حرشي" ويقرؤها عليّ كي يسلّيني.عاصي ومنصور وعبدلله الخوري كما كتب قصائد شعبيّة من نوع القراديات المضحكة الطريفة، منها:

لو بتشوف الكرّوس            عليها بيتدحرج كوسى  

الكوسى خي الباتنجان          وينن كل فروخ الجان

 

ومنذ تلك المطالع الأولى، كان عاصي ينحو دوماً إلى الأفكار الشعبية والفن الشعبي. وكان هذا عالمنا، تشاركنا أحياناً شقيقتنا سلوى التي عانت الكثير من "شيطناتنا".

وما زاد في اتجاه عاصي يومها واتجاهي إلى الفن الشعبي وأزجاله، أنّ ستّي غيتا بدأت تحرّضنا على قول الزجل وحفظه. عند المساء في ليالي "المنيبيع" المقمرة، كان يجلس أبي وحوله أمّي سعدى وجدّتي غيتا ونحن حولهم، ويغنّي ونردد بعده: "لما بدا يتثنى"، "يا من يحنُّ إليك فؤادي"، "يا لورُ حبّك"، "زوروني كلّ سنة مرّه" وأغنيات قديمة كثيرة عدنا في ما بعد، عاصي وأنا، وأعدنا توزيعها من جديد وشاعت. وأذكر أننا، حين أطلقنا "زوروني كل سنة مرّه" للشيخ سيّد درويش، فوجئ أولاده (وخاصة ابنه محمد البحر) أنّ هذه الأغنية هي له، ولم يعرفوا ذلك إلاّ منّا. فهي، وأخواتٌ لها لسيّد درويش ("طلعت يا محلى نورها"...)، كانت أكثر رواجًا في منطقتنا أكثر مما في مصر، ونحن ربينا عليها في طفولتنا، وكانت تقال ببطء تطريبي، عكس ما عدنا، عاصي وأنا، فوزّعناها به لاحقاً في إيقاع أسرع.

 في تلك العزلة المنفردة اغتنينا بقراءة كتب الطبيعة، واغتنينا بمشاعر الناس، لكثرة ما اختلطنا بالقرويين ولوفرة ما أخبرتنا ستّي غيتا حكاياتٍ في تلك الليالي القمرية الهنيئة، وشدّدت علينا بحفظ الأشعار والأزجال والقرّاديات والأساطير والقصص الشعبية. وصحيح أن ستّي من عينطورة (إحدى أعلى قرى المتن)، لكنها نشأت في سهل البقاع وتعرف فولكلور المتن وفولكلور البقاع، ولديها فكرة عن سائر الفولكلوريات، وتحفظ الكثير من الأزجال. ومع أنّها أميّة، كانت ترتجل وتحرّضنا على الارتجال. وكانت تخبرنا حكاياتٍ عن الجن والرصد، وتلوّن مخيّلتنا بأطياف كثيرة من تلك الطفولة (ظهر منها مثلاً، في ما بعد، مشهد "المندل" في "جسر القمر"). وكانت أخبارها دوماً تتمحور حول الوعر والمقالع وأجواء طبعت مناخات أعمالنا لاحقاً.

   وفي "المنيبيع" جرت حادثة الكمان مع عاصي. فذات يوم من صيف 1938 وجد عاصي ورقة عشرة ليرات على أرض المقهى. أخذها لوالدي فزجره وقال: "هذه لها أصحاب. نعلّقها هنا على الحبل حتى يعود صاحبها فيستردّها". وبقيت الورقة ترتعش في الهواء أياماً ولم يأت أحد ليأخذها. عندها أخذها عاصي، نسخها على ورقة كيس، وعلّق النسخة على الحبل من جديد، وأخذ الأصلية ونزل إلى بيروت فاشترى كماناً عتيقاً بسبع ليرات ونصف كي يتعلّم العزف عليه، وبالبقية شاهد فيلماً سينمائياً مع صديق له.

  كانت تلك المرحلة منعطفاً مهماً في حياة عاصي التأليفية والموسيقية، لما شهدت من بدايات كتاباته عندما نزلنا آخر ذاك الصيف إلى إنطلياس من جديد، وكان أبي اشترى دكّاناً فيها لعمله الشتوي.

في ذلك التشرين، تفتّحت مواهب عاصي "الصحافية"، واستفزّني فنافسته بمواهب "صحافية" مقابلة.

 

من أحاديث منصور الرحباني إلى هنري زغيب. كتاب ''طريق النحل''

 

طفولة الأخوين رحابني من كتاب طريق النحل

طفولة الأخوين رحابني
طفولة غريبة بين فوّار أنطلياس والمنيبيع!

يبدو أن موهبة الأخوين رحباني الفنية قد تفتّحت منذ الطفولة. طفولتهما غريبة! أسهمت إسهاماً فعّالاً في تنمية الحسّ الفنّي عندهما.
وفي أحاديثه مع الأستاذ هنري زغيب تكلّم منصور الرحباني عن هذه المرحلة من عمره وعمر أخيه. وقد رأينا أنه من المفيد نشر هذه المقاطع من كتاب الأستاذ هنري زغيب ''طريق النّحل '' علّها تلقي الضوء على سرّ موهبة الأخوين رحباني.

 

المجلة التربوية

 

حكايتنا، عاصي وأنا، قصّة شقيقين كأنّهما توأمان، ربما في ظلّ الأسئلة الكبيرة، وطرحا الأسئلة الكثيرة، وقالا بالكلمة والنوطة ما اعتقدا أنه بعض الجواب. لكنهما لم يقطفا أبداً أيّ جواب.

إنها حكاية طفولة غريبة ترعرعت بين حفافي نهر الفوّار وشجر الحور والصفصاف ووعر الجبال والصخور ومغاور إنطلياس التاريخية... حكاية الفقر والحرمان حتى الوجع المرّ، والبكاء الصامت الذي ينتهي دموعاً حافية على أطراف مخدّة ممزّقة فوق فراش عتيق.

حكايتنا عاصي وأنا، مجموعة لوحات طفولةٍ بريئة كانت تشتهي ما لا تطاله اليقظة، وتكبر على أخبار عنترة والقبضايات وكراسي الزبائن في مطعم الفوّار تتردّد بعد رحيلهم أنغام بُزُق القبضاي "شيخ الشباب" أبو عاصي.

في ظلّ والدنا حنّا عاصي الرحباني، الشخصية الغريبة والقريبة معاً، نشأنا وكبرنا، عاصي وأنا.

حنا الرحباني. أبو عاصيو "أيو عاصي" من حيّ "عين السنديانة" في الشوير. ينتمي في أصل جدوده إلى قرية رحبة في عكّار. هاجر والداه إلى مصر إبان موجة الهجرة اللبنانية إثر أحداث 1860 هرباً من جور العثمانيين. وُلد في طنطا، ويتذكّر أن ولادته كانت سنة ثورة عرابي باشا (1882). عاد فتى إلى بيروت، وسكن في حيّ الرميل، مشتغلاً لدى نسيبه الصائغ ديب عاصي (ما زال أبناؤه وأحفاده حتى اليوم يتعاطون المهنة، أصحاب "محلات عاصي للمجوهرات" في بيروت). كان حنّا يطمح أن يكون صائغاً محترفاً. لكنها مهنة لم تكن تدرُّ عليه كما يرغب، فيما مهنةٌ أخرى شائعةٌ عهدئذٍ، كانت تدرُّ مالاً أوفر: مهنة القبضايات. لذا كان يقبض أجرته الأسبوعية، ويذهب مع بعض قطّاع الطرق إلى ضهر البيدر أو وادي اللّبيش مع "الطيّاحين" (الطائحين) فيعود بمغانمَ أكثر. وشخصية "القبضاي" تردّدت لاحقاً في غير واحد من أعمالنا (منها "أبو أحمد" في فيلم "سفر برلك"، والقبضايات في مسرحية "لولو"). وكان دائماً يحمل مسدساتٍ وخنازير ومِدى وأسلحةً مختلفة. وغير مرّة كانت له في بيروت جولاتُ إطلاق نارٍ مع العثمانيين، حتى حكموا عليه بالإعدام غيابياً فلم يعد أمامه سوى الفرار من ولاية بيروت. ففي ذلك العهد، أيام المتصرفية، لم يكن القانون العثماني يطال ولاية جبل لبنان التي تبدأ حدودها شمالاً عند نهر بيروت. كان في جبل لبنان حكمٌ ذاتي ذو حصانة وامتياز، تحميه سبع دول ويديره متصرّف لا يخضع لحكم ولاية بيروت.

وصل والدي إلى إنطلياس واستقرّ فيها، متّخذاً من بقعةٍ على فوّار إنطلياس مقهىً جعله ملتقى الفارين من حكم الإعدام العثماني وجور العثمانيين. من أولئك "القبضايات": الياس الحلبي، غندور زريق، الحاج عيد السلام فرغل، أحمد الجاك، أبو راشد دوغان... وكان يقصد المقهى (وكان اسمه "مقهى فوّار إنطلياس") زبائنُ كثيرون من بيروت وجبل لبنان، يشدّهم إليه أمانٌ في الخارج، وطربٌ في الداخل "على رنين بزق حنّا عاصي"

كان والدي أميّاً، يعرف من أسرار الحياة أكثر ممّا تُعلّم المدارس. فهو من جيل ربي على خميرة البركة وراحة البال. وكانت له في "مقهى الفوّار" أمبراطوريةٌ خاصة يديرها بطبعه المشاكس الذي لا يهادن في أمور الأخلاق (بعد حياة الطيّاح التي عاشها، تاب إلى الاستقامة). لذلك كتب إعلانين على مدخل المقهى ضدّ مصلحته تماماً. الأوّل بالعربية يقول: "المرجُوّ من ضيوفنا الكرام أن تكون أساليب سرورهم مقرونة بالحشمة ومكارم الأخلاق، وأن يحرصوا من الشراب أن لا يورّطهم بما يخلّ بالآداب. ممنوع كل شيء ضدّ الآداب. ممنوع على الرجل أن يجلس قرب زوجته بل قبالتها. ممنوع أن يلقّمها بيده. ممنوعة كل حركة غير عادية. وإذا خالف أحدٌ هذه القوانين لقي ما لا يحب. الإمضاء: حنّا عاصي الرحباني". والإعلان الآخر بالفرنسية، نظراً لوجود جيش أجنبي في المنطقة، كان يقول: "ممنوع كل لفتة وكل نظرة مخالفة للآداب. ممنوع رقص الجنسين".

ونظراً لهذا القانون "الرحباني" الصارم المتشدّد المتصلّب، كان الكثيرون من أبناء بيروت المحافظين يرسلون عائلاتهم إلى "مقهى الفوّار" صباحاً مطمئنين إليهم وإلى حماية حنّا عاصي، ثمّ يلحقون بهم بعد الظهر فيجدون كل عائلة لوحدها، يفصل بينها وبين العائلات الباقية حصير علّقه حنّا عاصي بشكل حاجز يحجب بين العائلة والأخرى. وأحياناً كان يزور المقهى ضباط فرنسيون مصحوبين بسيّدات أو آنسات، حين يبدر منهم ما يخلّ بقوانين المقهى، يشهر حنّا عاصي مسدسه ويطرد الضابط مهما علا شأنه.عاصي ومنصور يحيطان بأم عاصي وشقيقتيهما إلهام وناديا

هذا الجو "العنتري" كان يعجب الروّاد والجلاّس، ومنهم: الجن علي زكّور حجال، محيي الدين بعيون (وهذا الأخير أهدى والدي بزقاً جميلاً ظلّ يحتفظ به طويلاً).

 وكان بلغ الأربعين حين تعرّف يفتاة من إنطلياس تدعى سعدى صعب، تزوّجها وسكنت معها والدتها غيتا بعقليني صعب. وكانت جدتي غيتا ذات شخصية قويّة جداً، وتوافق والدي على صرامته في التشدّد بأمور الأخلاق، حتى أنها كانت تحمل العصا وتساعده في طرد الزبائن المشاغبين أخلاقياً. وهذه الشخصية ظهرت لاحقاً في "يعيش يعيش" (ستّي التي كانت تضرب زوجها "جدّي بو ديب"). وهي كانت إمرأة قرويّة فولكلورية من عينطورة بقيت ذكراها في آثارنا لاحقاً فذكرناها في "ميس الريم" (أغنية "ستّي من كحلون")، وفي إحدى أغنيات "قصيدة حب".

 

هلاّ هلاّ يا تراب عينطوره              يا ملفى الغيم وسطوح العيد

ستّي من فوق لو فيي زورا            راحت عَ العيد والعيد بعيد

       

هكذا كان الجو العام في المقهى، وفي البيت، حين ولد عاصي في 4 أيار 1923 (وسُمّي هكذا على إسم جدّي لأبي) وولدتُ أنا في 17 آذار 1925 (وسُمّيتُ منصور على إسم جدّ أبي). وكانت ولادتنا في بيت عتيق ولدَت فيه كذلك شقيقتي سلوى (لاحقاً زوجة المحامي عبد الله الخوري إبن الأخطل الصغير، ووالدة الموسيقي العالمي بشاره الخوري). وكان ذلك البيت لأمي سعدى ورثته عن أبيها وتعيش فيه مع والدتها غيتا. لكننا سرعان ما انتقلنا إلى بيت آخر، ولد فيه شقيقي الياس وشقيقتي الصغرى إلهام (لاحقاً زوجة المحامي والوزير الياس حنّا)، وكانت شقيقتي الوسطى ناديا ولدت في منزل آخر في بكفيا. وحول هذا التنقّل كتبت لاحقاً قطعة جاء فيها: "تشرّدنا في منازل البؤس كثيراً. سكنّا بيوتاً ليست بيوت. هذه هي طفولتنا، إخوتي وأنا".

في طفولتنا الأولى كانت أحوالنا مرتاحة. كان "مقهى الفوّار" في عزّ شهرته، والزبائن كثيرين، والخير وفيراً. ومع أن أبي ذواقةُ فنّ، كان ينهانا عن تعلّم الموسيقى، ويغضب إذا قاربنا البزق وحاولنا العزف عليه. ولم يكن يهتمّ بدراستنا قدر اهتمامه بصحّتنا. لذلك، في منتصف الربيع كان يُقلع عن إرسالنا إلى المدرسة، ويبقينا حوله في "مقهى الفوّار"، ولا يتيح لنا الاختلاط بسائر الأولاد خوفاً عيلنا من عادات سيّئة نكتسبها أو أفكار نلتقطها.البيت الذي ولد فيه عاصي ومنصور في أنطلياس

 على أن الأفكار بدأت تتولّد فينا باكراً جداً، عاصي وأنا. كنّا شديدي الالتصاق واحدنا إلى الآخر، كأاننا توأمان، مع أنه يكبرني بسنتين إلاّ شهراً واحداً. لم نكن نفترق. لم نكن ننفصل. ونادراً ما نودي علينا في طفولتنا منفصلَين. لذلك، منذ تلك الأيام الأولى، درجنا نسمع تسمية "عاصي ومنصور". كنّا معاً. دائماً معاً. ليلاً نهاراً معاً. وهكذا أمضينا حياتنا في ما بعد.

في المقهى، كنّا نجلس في عليّة فوق المدخل، نتسرّق النظر على الزبائن. جاءتنا باكراً أفكارٌ غريبةٌ بعضها جريء لتلك السنّ. كان عاصي يخترع أخباراً كي يسلّيني. وكانت أخباره دائماً غريبة. ناسها غريبو الأطباع والأطوار. لا يكبرون ولا يشيخون. يخلق لي عالماً من شعبٍ طيّبٍ مسالمٍ مهادنٍ ليس فيه شرّ. منذ طفولته كان عاصي مبدعاً مبتكراً. يخلق ناساً تسود بينهم عدالةٌ ومحبّة. ودائماً يخلق لي عوالم جديدة وقصصاً جديدة. لم أكن أعرف من أين يأتي بمبتكراتها وأشخاصها. كنت أصغي إليه. أصدّقه. وتكبر في رأسي الأسئلة، وتتزايد في مخيّلتي الوجوه. وهذا ما يقسّر لاحقاً كثرة الشخصيات التي خفل بها مسرحنا، وهي تتأرجح بين جميع أنواع الناس وطبقاتهم وأطباعهم وميولهم و"كاراكتيراتهم".

في تلك الطفولة الأولى، من تلك العليّة، كنّا نسمع في المقهى من البوق (الفونوغراف) أغنيات الشيخ السيّد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم وأبو العلا محمد والشيخ أمين حسنين، فتتلوّن طفولتنا بأجواء موسيقية تدخل ذاكرتنا وتمسّنا بشعور لذيذ لم نكن نحسن تفسيراً له في تلك الأيام الطريّة.

وحين يتفرّق الزبائن آخر الليل، كان أبو عاصي يجلس لوحده أو مع أحد اصدقائه، ويروح يعزف على البزق أنغاماً شجيّة تطربنا، على نور قنديل كبير (لوكس) يتدلّى من السقف، له إطار كبير يفيض النور من تحته إلى دائرة معيّنة حول المقهى، ثمّ يغرق كل شيء خارجها في العتمة الكبرى. كانت أسئلتنا تبدأ من حدود تلك العتمة: ما الذي هناك؟ ماذا يجري خلف حدود الضوء؟ وهذا ما ظهر لاحقاً في مغنّاة "جسر القمر":

بدنا نعرف سرّ الإشياقنديل زيت

معنى الإشيا

شو اللي مخبّا

بدنا نعرف

نحنا جينا تَ نعرف...

بدنا نعرف لمّا منغفى مين بيوعى

وبيصير يدبّك بدعسِه منّا مسموعه

بدنا نعرف

نحنا جينا تَ نعرف".

كنّا نجلس، عاصي وأنا، صامتَين، نُصغي إلى أبينا يغنّي بصوته الجهوري. ومن تلك السهرات، حفظنا موّالاً لعنترة كان غالباً يردّده:

لو كان قلبي معي ما اخترتُ غيركمُ             ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا

لكنّه راغبٌ في من يعذّبه               وليس يقبل لا لوماً ولا عذلا

وإكراماً لتلك الذكريات، أدخلنا لاحقاً هذين البيتين في لوحة موشّحات. كان أبو عاصي يحب شعر عنترة. ومع أنّه أمّيّ، كان يروي قصائد كاملة من عنترة لشدّة إعجابه به، حتى أنه باع يوماً طنجرةً من المقهى ليشتري بها ديوان عنترة بتحقيق ابراهيم اليازجي.

كان الفوّار محاطاً بأحراج كثيفة وأودية مخيفة، تزداد رهبةً في الليالي بأشجارها العالية كلّما سطع عليها ضوء القمر. من هنا ما قلناه لاحقاً في "صحّ النوم".

عميطلع القمر          والغيم البارد يطلع

عميطلع القمر          والنجمه صوبو تلمع

         عميقطع وادي ورا وادي

         وعلىّ راسو الشجر الراكع

وكانت تتناهى إلينا في الليالي أصوات حيوانات غريبة تزيدنا من عزلتنا التي، وسط أصوات الضباع والذئاب، تخلق لنا، عاصي وأنا، عوالم جديدة، بعيدة، مبهمة، فتزداد معها الأسئلة ويبتعد الجواب. كنّا نلتصق واحدنا بالآخر بين الخوف والطمأنينة: الخوف من هذه الحيوانات، وطمأنينة أنها لن تبلغنا لأن عندنا ضوءاً وخدماً وعمّالاً في المقهى، وهذه الحيوانات تخاف الضوء كما يخاف بعض الأشرار. وهذا ما ظهر لاحقاً في أوبريت "الليل والقنديل" حيث هولو يخاف الضوء ويريد أن يكسر القنديل الكبير على كتف الشير لكي تغرق الضيعة في العتمة.

صورة عائلية أمام البيت في أنطلياس )حوالى ١٩٤٥كانت تحدث أحياناً مشادّات ومعارك بالأيدي والمعاول، خلافاً على توزيع مياه نهر الفوّار التي كانت تنزل إلى السهل فتسقي القرى المجاورة (جلّ الديب، إنطلياس، ضبيّة،...)، وكان المزارعون يختلفون على أحقيّة تحويل المياه إلى بساتينهم، فيبلغون المقهى بوجوههم الكالحة ذات الشوارب، بثيابهم الطويلة وغنابيزهم القاتمة وطرابيشهم. كانوا يتجمّعون حول المقهى ضمن الضوء، يتجادلون على اولويّة توزيع المياه، ويحتكمون إلى أبو عاصي الذي يحاول أن يصلح بينهم. وهذا ما ظهر لاحقاً في شخصيّة "شيخ المشايخ" الذي أصلح بين أهل القاطع (مغناة "جسر القمر").

إذاً، منذ تلك الأيام الأولى بدأت تجيء إلى تفكيرنا الأفكار الماورائية، الأسئلة الكبيرة، التساؤلات التي تتطلّع إلى فوق، إلى الأعلى، إلى سرّ الوجود:

كيف؟ لماذا؟ إلى أين؟ من؟ ما؟...

 

في تلك الأجواء، بدأ الناس يتنبهون إلينا، ويقولون عن عاصي "سيكون شاعراً" وعني "سيكون طائحاً". ذلك أن عاصي كان نحيلاً ناعماً لطيفاً فائق التهذيب، فيما كنت أطول منه وأضخم، شديد السمنة، فاشلاً في المدرسة، ناجحاً في العنتريات. وغالباً ما كنت أهرب من المدرسة فور وصولي إليها.

لم يكن في طفولتي ما يدلُّ على أنني "مشروع شاعر أو فنّان".حتى الأولاد كانوا يتجنّبون معاشرتي والاختلاط بي واللعب، وإن فعل بعضهم فمرغماً كرمى لعاصي الذي كان دائماً يفوقني ذكاءً وحكمة.

أحياناً كانت أمي توصلني إلى المدرسة (راهبات العائلات المقدّسة – إنطلياس) كي تأمن بقائي في الصف، لكنني كنت دائماً أجد حيلة لأهرب. وإذا بقيتُ، كنت أنتظر مرور سيارات الشحن الكبيرة (بيرلييه) على طريق إنطلياس محمّلة بأكياس الترابة (الإسمنت) من معمل شكّا، فأبكي طالباً الخروج للتفرّج عليها. وحين تمطر، كانت المياه تدلف من تحت باب الصف، فأخاف أن يجتاحنا الطّوفان، وأروح أبكي طالباً أن أرى أخي عاصي، وأظلّ أبكي حتى تأخذني المعلمة إلى غرفة الصف الأخرى حيث عاصي، فأطمئن إلى أنني لن أموت لوحدي، وأعود إلى قاعة الصف. لم يكن يستهويني في الصف إلاّ صوت رفاقي يلقون قصائد الاستظهار. لم أكن أدري لماذا كان الشعر يأخذني إلى البعيد، فأسيح من نافذة غرفة الصف إلى بعيد مجهول لذيذ لم أكن أملك له تفسيراً في ذلك الوقت.

كل هذا حين أبقى في الصف. لكنني غالباً كنت أهرب من المدرسة. يلحق بي الرفاق فأتسلّق شجرة، وأختبئ. أحياناً كنت أتظاهر بالذهاب إلى المدرسة، لكنني فور دخول الأولاد إلى الصف، كنت أقف خارجاً أهرول إلى جذع شجرة كبيرة قرب البيت، أختبئ فيه من الصباح فأنام إلى الظهر، وأعود إلى البيت مع عاصي الذي لم يكن يشي بي لكثرة ما كان يحبّني. كان مجتهداً ومواظباً على أنَفَة وكبرياء. ويوم سألته المعلّمة عمّا يطمح أن يكون حين يكبر، كان جوابه الفوري: "سأكون صائغاً كأبي". أمّا أنا فأجبت: "سأكون تمساحاً أو حرباء". كنت سوريالي التفكير منذ طفولتي، وغير منطقي. كنت حالماً باستمرار ورافضاً كل واقع.

بعد مدرسة راهبات العائلة المقدّسة، نقَلنا والدنا إلى مدرسة أخرى أسّسها في إنطلياس فريد أبو فاضل، وهو أستاذنا الفعلي الأوّل. كان فيها جدار خشبي كبير يكتب عليه الشبّان عواطفهم نحو من يحبّون، فكنت أقف عنده أقرأها، وأشعر بما لم أكن عهدئذٍ أستطيع تفسيره. كنت أهرب من الدرس إلى الجدار. المهمّ كان ألاّ أدرس.

في السنة الأخيرة من "مقهى الفوّار" (1933) كان بعض زوّار أبي، ممّن يعجبهم جو المقهى الصارم، يكتبون له قصائد ويعلّقونها على مدخل المقهى. من تلك، أذكر:

نبع الجنان ونزهة الأبصار              إن رُمتَ رؤيتها، ففي الفوّارعاصي وتوفيق الباشا في فوار أنطلياس

فاضت بساحته المياه وغرّدت           أطياره طرباً على الأشجار

تجري المياه على الحصى وخريرها     في الصوت يحكي نغمة الغيتار

قد شابهَت عاصي حماةَ بنبعها          ورئيسُها عاصٍ على الأشرار

       

وهي على ما أذكر لعبد القادر الطُّبَّجي. وكنّا، عاصي وأنا، نحفظ تلك "المعلقات" التي على باب مقهى الفوّار، فبقيت نغمتها الشعرية والموسيقية في آذاننا وأخذتنا منذ تلك الأيام الأولى صوب القصائد.

هكذا كانت سنواتنا الأولى على فوّار إنطلياس: طفولة باهرة في ظلّ والد حنون لكنّه شديد المراس. نشأنا في عزلة جرحتها في الليالي وجوه ناس غرباء، ينبثقون من العتمة ويغيبون، تاركين خلفهم عواء الذئاب يتردّد في الأدوية، وطفلين ينامان على خرير المياه، طفولتهما مشحونة بصور غرائبية تفجّرت في ما بعد شعراً ومسرحاً وموسيقى.

ذات يوم من 1933 قرّر أبو عاصي بيع المقهى والانتقال إلى الجبل، فباع "فوّار إنطلياس" (لمن سيصبح والد زوجتي في ما بعد). وكاد أن يشتري بمال المقهى شاحنتين كبيرتين للنّقل البعيد، لكنّه عدل في ذلك الحين أخبره أحد أصدقائه عن مقهى صيفي قرب ضهور الشوير في منطقة الينابيع (شويا – من حيث هو أصلاً) فهرع إلى استثماره. وسماء فوراً "مقهى المنَيبِيع".

كنت في نحو التاسعة، وعاصي في الحادية عشرة، وبتنا نفهم المظاهر أكثر. كنّا نقصد ذلك المصيف منذ أوائل الربيع، ويعمد أبو عاصي إلى تسقيف المقهى بشجر الوزّال والخنشار. وكان قرب المقهى نبع ماء، وجدار صخري كتب عليه الروّاد أسماءهم وتواريخ جلوسهم في المقهى. كنت آنس إلى قراءة ما على الجدار، فيشغلني فكرة كيف يتجمّد الزمان في تلك الكتابات وما حولها من أسماء وعناوين وعواطف.

كانت أيّام "المنيبيع" مرحلة عزلة تامّة: نجلس، عاصي وأنا، نتأمّل كل ما حولنا. كأننا جئنا من التأمّل. كنّا نتأمّل النمل ساعات طويلة. نتأمّل أشعّة الشمس كيف تنسحب عن الصخور عند المغيب، ونراقب تحوّلات النور بين الظلّ الرمادي واحمرار الأشعّة الأخيرة. هناك كان لجيراننا مقالع، فنتابع المكارين يأتون إليها، يحمّلون بغالهم بالحجارة، ويصعدون بها إلى ضهور الشوير. هناك أيضاً قطفنا العنب من الكروم مع الناس. سِحنا في كروم التين. كانت ستّي غيتا تشتري عنزات كي تستخرج منها الجبنة واللبنة في المقهى، فأذهب أنا وأرعى العنزات وأخالط المعازة (رُعاة المعزى)، وأذكر منهم اثنين شريكين: ضاهر وديب (ظهر هذان الإسمان لاحقاً في أعمالنا) وأتعلّم منهما لغة الماعز وكيف يُساق القطيع. وحين لبست لاحقاً شخصيّة "بشير المعّاز" (في فيلم "بنت الحارس") فوجئ المعّاز الذي استأجرنا منه القطيع بأنني أسوق الماعز بشكلٍ "محترف".

في "المنيبيع" وكنّا كبرنا كفاية، بدأنا نخدم الزبائن على الطاولات. هناك تعلّمنا الصيد ورافقنا الصيادين. وفي ذلك الإطار (المنيبيع، ضهور الشوير، بكفيا، شويا، الزغرين، المياسه، حملايا) كنّا، عاصي وأنا، نتجوّل مشياً، أو نرافق ستّي غيتا. ومن ناس تلك المنطقة الذين بقيت وجوههم وأسماؤهم في بالنا، ولدت في ما بعد شخصيات سبع ومخول وبو فارس والست زمرّد وسائر شخصيات اسكتشاتنا الضيعوية.

وفي تلك الفترة، كنّا بدأنا نقرأ الشعر القديم ونحفظ منه ما نفهمه. وساعدنا ذلك لاحقاً على انتهاج أوزان خاصة بنا تناسب موسيقانا، ممّا حدا بيوسف الخال ذات يومٍ أن يطلب منّا الذهاب إلى "خميس شعر" كي نشرح للحاضرين كيف نؤقلم أوزاناً خاصة لأغانينا.

ربما تأثّراً بتلك القصائد التي حفظناها في تلك الحقبة، بدأ عاصي ينظم قصائد طويلة بإمضاء "كروبش حرشي" ويقرؤها عليّ كي يسلّيني.عاصي ومنصور وعبدلله الخوري كما كتب قصائد شعبيّة من نوع القراديات المضحكة الطريفة، منها:

لو بتشوف الكرّوس            عليها بيتدحرج كوسى  

الكوسى خي الباتنجان          وينن كل فروخ الجان

 

ومنذ تلك المطالع الأولى، كان عاصي ينحو دوماً إلى الأفكار الشعبية والفن الشعبي. وكان هذا عالمنا، تشاركنا أحياناً شقيقتنا سلوى التي عانت الكثير من "شيطناتنا".

وما زاد في اتجاه عاصي يومها واتجاهي إلى الفن الشعبي وأزجاله، أنّ ستّي غيتا بدأت تحرّضنا على قول الزجل وحفظه. عند المساء في ليالي "المنيبيع" المقمرة، كان يجلس أبي وحوله أمّي سعدى وجدّتي غيتا ونحن حولهم، ويغنّي ونردد بعده: "لما بدا يتثنى"، "يا من يحنُّ إليك فؤادي"، "يا لورُ حبّك"، "زوروني كلّ سنة مرّه" وأغنيات قديمة كثيرة عدنا في ما بعد، عاصي وأنا، وأعدنا توزيعها من جديد وشاعت. وأذكر أننا، حين أطلقنا "زوروني كل سنة مرّه" للشيخ سيّد درويش، فوجئ أولاده (وخاصة ابنه محمد البحر) أنّ هذه الأغنية هي له، ولم يعرفوا ذلك إلاّ منّا. فهي، وأخواتٌ لها لسيّد درويش ("طلعت يا محلى نورها"...)، كانت أكثر رواجًا في منطقتنا أكثر مما في مصر، ونحن ربينا عليها في طفولتنا، وكانت تقال ببطء تطريبي، عكس ما عدنا، عاصي وأنا، فوزّعناها به لاحقاً في إيقاع أسرع.

 في تلك العزلة المنفردة اغتنينا بقراءة كتب الطبيعة، واغتنينا بمشاعر الناس، لكثرة ما اختلطنا بالقرويين ولوفرة ما أخبرتنا ستّي غيتا حكاياتٍ في تلك الليالي القمرية الهنيئة، وشدّدت علينا بحفظ الأشعار والأزجال والقرّاديات والأساطير والقصص الشعبية. وصحيح أن ستّي من عينطورة (إحدى أعلى قرى المتن)، لكنها نشأت في سهل البقاع وتعرف فولكلور المتن وفولكلور البقاع، ولديها فكرة عن سائر الفولكلوريات، وتحفظ الكثير من الأزجال. ومع أنّها أميّة، كانت ترتجل وتحرّضنا على الارتجال. وكانت تخبرنا حكاياتٍ عن الجن والرصد، وتلوّن مخيّلتنا بأطياف كثيرة من تلك الطفولة (ظهر منها مثلاً، في ما بعد، مشهد "المندل" في "جسر القمر"). وكانت أخبارها دوماً تتمحور حول الوعر والمقالع وأجواء طبعت مناخات أعمالنا لاحقاً.

   وفي "المنيبيع" جرت حادثة الكمان مع عاصي. فذات يوم من صيف 1938 وجد عاصي ورقة عشرة ليرات على أرض المقهى. أخذها لوالدي فزجره وقال: "هذه لها أصحاب. نعلّقها هنا على الحبل حتى يعود صاحبها فيستردّها". وبقيت الورقة ترتعش في الهواء أياماً ولم يأت أحد ليأخذها. عندها أخذها عاصي، نسخها على ورقة كيس، وعلّق النسخة على الحبل من جديد، وأخذ الأصلية ونزل إلى بيروت فاشترى كماناً عتيقاً بسبع ليرات ونصف كي يتعلّم العزف عليه، وبالبقية شاهد فيلماً سينمائياً مع صديق له.

  كانت تلك المرحلة منعطفاً مهماً في حياة عاصي التأليفية والموسيقية، لما شهدت من بدايات كتاباته عندما نزلنا آخر ذاك الصيف إلى إنطلياس من جديد، وكان أبي اشترى دكّاناً فيها لعمله الشتوي.

في ذلك التشرين، تفتّحت مواهب عاصي "الصحافية"، واستفزّني فنافسته بمواهب "صحافية" مقابلة.

 

من أحاديث منصور الرحباني إلى هنري زغيب. كتاب ''طريق النحل''

 

طفولة الأخوين رحابني من كتاب طريق النحل

طفولة الأخوين رحابني
طفولة غريبة بين فوّار أنطلياس والمنيبيع!

يبدو أن موهبة الأخوين رحباني الفنية قد تفتّحت منذ الطفولة. طفولتهما غريبة! أسهمت إسهاماً فعّالاً في تنمية الحسّ الفنّي عندهما.
وفي أحاديثه مع الأستاذ هنري زغيب تكلّم منصور الرحباني عن هذه المرحلة من عمره وعمر أخيه. وقد رأينا أنه من المفيد نشر هذه المقاطع من كتاب الأستاذ هنري زغيب ''طريق النّحل '' علّها تلقي الضوء على سرّ موهبة الأخوين رحباني.

 

المجلة التربوية

 

حكايتنا، عاصي وأنا، قصّة شقيقين كأنّهما توأمان، ربما في ظلّ الأسئلة الكبيرة، وطرحا الأسئلة الكثيرة، وقالا بالكلمة والنوطة ما اعتقدا أنه بعض الجواب. لكنهما لم يقطفا أبداً أيّ جواب.

إنها حكاية طفولة غريبة ترعرعت بين حفافي نهر الفوّار وشجر الحور والصفصاف ووعر الجبال والصخور ومغاور إنطلياس التاريخية... حكاية الفقر والحرمان حتى الوجع المرّ، والبكاء الصامت الذي ينتهي دموعاً حافية على أطراف مخدّة ممزّقة فوق فراش عتيق.

حكايتنا عاصي وأنا، مجموعة لوحات طفولةٍ بريئة كانت تشتهي ما لا تطاله اليقظة، وتكبر على أخبار عنترة والقبضايات وكراسي الزبائن في مطعم الفوّار تتردّد بعد رحيلهم أنغام بُزُق القبضاي "شيخ الشباب" أبو عاصي.

في ظلّ والدنا حنّا عاصي الرحباني، الشخصية الغريبة والقريبة معاً، نشأنا وكبرنا، عاصي وأنا.

حنا الرحباني. أبو عاصيو "أيو عاصي" من حيّ "عين السنديانة" في الشوير. ينتمي في أصل جدوده إلى قرية رحبة في عكّار. هاجر والداه إلى مصر إبان موجة الهجرة اللبنانية إثر أحداث 1860 هرباً من جور العثمانيين. وُلد في طنطا، ويتذكّر أن ولادته كانت سنة ثورة عرابي باشا (1882). عاد فتى إلى بيروت، وسكن في حيّ الرميل، مشتغلاً لدى نسيبه الصائغ ديب عاصي (ما زال أبناؤه وأحفاده حتى اليوم يتعاطون المهنة، أصحاب "محلات عاصي للمجوهرات" في بيروت). كان حنّا يطمح أن يكون صائغاً محترفاً. لكنها مهنة لم تكن تدرُّ عليه كما يرغب، فيما مهنةٌ أخرى شائعةٌ عهدئذٍ، كانت تدرُّ مالاً أوفر: مهنة القبضايات. لذا كان يقبض أجرته الأسبوعية، ويذهب مع بعض قطّاع الطرق إلى ضهر البيدر أو وادي اللّبيش مع "الطيّاحين" (الطائحين) فيعود بمغانمَ أكثر. وشخصية "القبضاي" تردّدت لاحقاً في غير واحد من أعمالنا (منها "أبو أحمد" في فيلم "سفر برلك"، والقبضايات في مسرحية "لولو"). وكان دائماً يحمل مسدساتٍ وخنازير ومِدى وأسلحةً مختلفة. وغير مرّة كانت له في بيروت جولاتُ إطلاق نارٍ مع العثمانيين، حتى حكموا عليه بالإعدام غيابياً فلم يعد أمامه سوى الفرار من ولاية بيروت. ففي ذلك العهد، أيام المتصرفية، لم يكن القانون العثماني يطال ولاية جبل لبنان التي تبدأ حدودها شمالاً عند نهر بيروت. كان في جبل لبنان حكمٌ ذاتي ذو حصانة وامتياز، تحميه سبع دول ويديره متصرّف لا يخضع لحكم ولاية بيروت.

وصل والدي إلى إنطلياس واستقرّ فيها، متّخذاً من بقعةٍ على فوّار إنطلياس مقهىً جعله ملتقى الفارين من حكم الإعدام العثماني وجور العثمانيين. من أولئك "القبضايات": الياس الحلبي، غندور زريق، الحاج عيد السلام فرغل، أحمد الجاك، أبو راشد دوغان... وكان يقصد المقهى (وكان اسمه "مقهى فوّار إنطلياس") زبائنُ كثيرون من بيروت وجبل لبنان، يشدّهم إليه أمانٌ في الخارج، وطربٌ في الداخل "على رنين بزق حنّا عاصي"

كان والدي أميّاً، يعرف من أسرار الحياة أكثر ممّا تُعلّم المدارس. فهو من جيل ربي على خميرة البركة وراحة البال. وكانت له في "مقهى الفوّار" أمبراطوريةٌ خاصة يديرها بطبعه المشاكس الذي لا يهادن في أمور الأخلاق (بعد حياة الطيّاح التي عاشها، تاب إلى الاستقامة). لذلك كتب إعلانين على مدخل المقهى ضدّ مصلحته تماماً. الأوّل بالعربية يقول: "المرجُوّ من ضيوفنا الكرام أن تكون أساليب سرورهم مقرونة بالحشمة ومكارم الأخلاق، وأن يحرصوا من الشراب أن لا يورّطهم بما يخلّ بالآداب. ممنوع كل شيء ضدّ الآداب. ممنوع على الرجل أن يجلس قرب زوجته بل قبالتها. ممنوع أن يلقّمها بيده. ممنوعة كل حركة غير عادية. وإذا خالف أحدٌ هذه القوانين لقي ما لا يحب. الإمضاء: حنّا عاصي الرحباني". والإعلان الآخر بالفرنسية، نظراً لوجود جيش أجنبي في المنطقة، كان يقول: "ممنوع كل لفتة وكل نظرة مخالفة للآداب. ممنوع رقص الجنسين".

ونظراً لهذا القانون "الرحباني" الصارم المتشدّد المتصلّب، كان الكثيرون من أبناء بيروت المحافظين يرسلون عائلاتهم إلى "مقهى الفوّار" صباحاً مطمئنين إليهم وإلى حماية حنّا عاصي، ثمّ يلحقون بهم بعد الظهر فيجدون كل عائلة لوحدها، يفصل بينها وبين العائلات الباقية حصير علّقه حنّا عاصي بشكل حاجز يحجب بين العائلة والأخرى. وأحياناً كان يزور المقهى ضباط فرنسيون مصحوبين بسيّدات أو آنسات، حين يبدر منهم ما يخلّ بقوانين المقهى، يشهر حنّا عاصي مسدسه ويطرد الضابط مهما علا شأنه.عاصي ومنصور يحيطان بأم عاصي وشقيقتيهما إلهام وناديا

هذا الجو "العنتري" كان يعجب الروّاد والجلاّس، ومنهم: الجن علي زكّور حجال، محيي الدين بعيون (وهذا الأخير أهدى والدي بزقاً جميلاً ظلّ يحتفظ به طويلاً).

 وكان بلغ الأربعين حين تعرّف يفتاة من إنطلياس تدعى سعدى صعب، تزوّجها وسكنت معها والدتها غيتا بعقليني صعب. وكانت جدتي غيتا ذات شخصية قويّة جداً، وتوافق والدي على صرامته في التشدّد بأمور الأخلاق، حتى أنها كانت تحمل العصا وتساعده في طرد الزبائن المشاغبين أخلاقياً. وهذه الشخصية ظهرت لاحقاً في "يعيش يعيش" (ستّي التي كانت تضرب زوجها "جدّي بو ديب"). وهي كانت إمرأة قرويّة فولكلورية من عينطورة بقيت ذكراها في آثارنا لاحقاً فذكرناها في "ميس الريم" (أغنية "ستّي من كحلون")، وفي إحدى أغنيات "قصيدة حب".

 

هلاّ هلاّ يا تراب عينطوره              يا ملفى الغيم وسطوح العيد

ستّي من فوق لو فيي زورا            راحت عَ العيد والعيد بعيد

       

هكذا كان الجو العام في المقهى، وفي البيت، حين ولد عاصي في 4 أيار 1923 (وسُمّي هكذا على إسم جدّي لأبي) وولدتُ أنا في 17 آذار 1925 (وسُمّيتُ منصور على إسم جدّ أبي). وكانت ولادتنا في بيت عتيق ولدَت فيه كذلك شقيقتي سلوى (لاحقاً زوجة المحامي عبد الله الخوري إبن الأخطل الصغير، ووالدة الموسيقي العالمي بشاره الخوري). وكان ذلك البيت لأمي سعدى ورثته عن أبيها وتعيش فيه مع والدتها غيتا. لكننا سرعان ما انتقلنا إلى بيت آخر، ولد فيه شقيقي الياس وشقيقتي الصغرى إلهام (لاحقاً زوجة المحامي والوزير الياس حنّا)، وكانت شقيقتي الوسطى ناديا ولدت في منزل آخر في بكفيا. وحول هذا التنقّل كتبت لاحقاً قطعة جاء فيها: "تشرّدنا في منازل البؤس كثيراً. سكنّا بيوتاً ليست بيوت. هذه هي طفولتنا، إخوتي وأنا".

في طفولتنا الأولى كانت أحوالنا مرتاحة. كان "مقهى الفوّار" في عزّ شهرته، والزبائن كثيرين، والخير وفيراً. ومع أن أبي ذواقةُ فنّ، كان ينهانا عن تعلّم الموسيقى، ويغضب إذا قاربنا البزق وحاولنا العزف عليه. ولم يكن يهتمّ بدراستنا قدر اهتمامه بصحّتنا. لذلك، في منتصف الربيع كان يُقلع عن إرسالنا إلى المدرسة، ويبقينا حوله في "مقهى الفوّار"، ولا يتيح لنا الاختلاط بسائر الأولاد خوفاً عيلنا من عادات سيّئة نكتسبها أو أفكار نلتقطها.البيت الذي ولد فيه عاصي ومنصور في أنطلياس

 على أن الأفكار بدأت تتولّد فينا باكراً جداً، عاصي وأنا. كنّا شديدي الالتصاق واحدنا إلى الآخر، كأاننا توأمان، مع أنه يكبرني بسنتين إلاّ شهراً واحداً. لم نكن نفترق. لم نكن ننفصل. ونادراً ما نودي علينا في طفولتنا منفصلَين. لذلك، منذ تلك الأيام الأولى، درجنا نسمع تسمية "عاصي ومنصور". كنّا معاً. دائماً معاً. ليلاً نهاراً معاً. وهكذا أمضينا حياتنا في ما بعد.

في المقهى، كنّا نجلس في عليّة فوق المدخل، نتسرّق النظر على الزبائن. جاءتنا باكراً أفكارٌ غريبةٌ بعضها جريء لتلك السنّ. كان عاصي يخترع أخباراً كي يسلّيني. وكانت أخباره دائماً غريبة. ناسها غريبو الأطباع والأطوار. لا يكبرون ولا يشيخون. يخلق لي عالماً من شعبٍ طيّبٍ مسالمٍ مهادنٍ ليس فيه شرّ. منذ طفولته كان عاصي مبدعاً مبتكراً. يخلق ناساً تسود بينهم عدالةٌ ومحبّة. ودائماً يخلق لي عوالم جديدة وقصصاً جديدة. لم أكن أعرف من أين يأتي بمبتكراتها وأشخاصها. كنت أصغي إليه. أصدّقه. وتكبر في رأسي الأسئلة، وتتزايد في مخيّلتي الوجوه. وهذا ما يقسّر لاحقاً كثرة الشخصيات التي خفل بها مسرحنا، وهي تتأرجح بين جميع أنواع الناس وطبقاتهم وأطباعهم وميولهم و"كاراكتيراتهم".

في تلك الطفولة الأولى، من تلك العليّة، كنّا نسمع في المقهى من البوق (الفونوغراف) أغنيات الشيخ السيّد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم وأبو العلا محمد والشيخ أمين حسنين، فتتلوّن طفولتنا بأجواء موسيقية تدخل ذاكرتنا وتمسّنا بشعور لذيذ لم نكن نحسن تفسيراً له في تلك الأيام الطريّة.

وحين يتفرّق الزبائن آخر الليل، كان أبو عاصي يجلس لوحده أو مع أحد اصدقائه، ويروح يعزف على البزق أنغاماً شجيّة تطربنا، على نور قنديل كبير (لوكس) يتدلّى من السقف، له إطار كبير يفيض النور من تحته إلى دائرة معيّنة حول المقهى، ثمّ يغرق كل شيء خارجها في العتمة الكبرى. كانت أسئلتنا تبدأ من حدود تلك العتمة: ما الذي هناك؟ ماذا يجري خلف حدود الضوء؟ وهذا ما ظهر لاحقاً في مغنّاة "جسر القمر":

بدنا نعرف سرّ الإشياقنديل زيت

معنى الإشيا

شو اللي مخبّا

بدنا نعرف

نحنا جينا تَ نعرف...

بدنا نعرف لمّا منغفى مين بيوعى

وبيصير يدبّك بدعسِه منّا مسموعه

بدنا نعرف

نحنا جينا تَ نعرف".

كنّا نجلس، عاصي وأنا، صامتَين، نُصغي إلى أبينا يغنّي بصوته الجهوري. ومن تلك السهرات، حفظنا موّالاً لعنترة كان غالباً يردّده:

لو كان قلبي معي ما اخترتُ غيركمُ             ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا

لكنّه راغبٌ في من يعذّبه               وليس يقبل لا لوماً ولا عذلا

وإكراماً لتلك الذكريات، أدخلنا لاحقاً هذين البيتين في لوحة موشّحات. كان أبو عاصي يحب شعر عنترة. ومع أنّه أمّيّ، كان يروي قصائد كاملة من عنترة لشدّة إعجابه به، حتى أنه باع يوماً طنجرةً من المقهى ليشتري بها ديوان عنترة بتحقيق ابراهيم اليازجي.

كان الفوّار محاطاً بأحراج كثيفة وأودية مخيفة، تزداد رهبةً في الليالي بأشجارها العالية كلّما سطع عليها ضوء القمر. من هنا ما قلناه لاحقاً في "صحّ النوم".

عميطلع القمر          والغيم البارد يطلع

عميطلع القمر          والنجمه صوبو تلمع

         عميقطع وادي ورا وادي

         وعلىّ راسو الشجر الراكع

وكانت تتناهى إلينا في الليالي أصوات حيوانات غريبة تزيدنا من عزلتنا التي، وسط أصوات الضباع والذئاب، تخلق لنا، عاصي وأنا، عوالم جديدة، بعيدة، مبهمة، فتزداد معها الأسئلة ويبتعد الجواب. كنّا نلتصق واحدنا بالآخر بين الخوف والطمأنينة: الخوف من هذه الحيوانات، وطمأنينة أنها لن تبلغنا لأن عندنا ضوءاً وخدماً وعمّالاً في المقهى، وهذه الحيوانات تخاف الضوء كما يخاف بعض الأشرار. وهذا ما ظهر لاحقاً في أوبريت "الليل والقنديل" حيث هولو يخاف الضوء ويريد أن يكسر القنديل الكبير على كتف الشير لكي تغرق الضيعة في العتمة.

صورة عائلية أمام البيت في أنطلياس )حوالى ١٩٤٥كانت تحدث أحياناً مشادّات ومعارك بالأيدي والمعاول، خلافاً على توزيع مياه نهر الفوّار التي كانت تنزل إلى السهل فتسقي القرى المجاورة (جلّ الديب، إنطلياس، ضبيّة،...)، وكان المزارعون يختلفون على أحقيّة تحويل المياه إلى بساتينهم، فيبلغون المقهى بوجوههم الكالحة ذات الشوارب، بثيابهم الطويلة وغنابيزهم القاتمة وطرابيشهم. كانوا يتجمّعون حول المقهى ضمن الضوء، يتجادلون على اولويّة توزيع المياه، ويحتكمون إلى أبو عاصي الذي يحاول أن يصلح بينهم. وهذا ما ظهر لاحقاً في شخصيّة "شيخ المشايخ" الذي أصلح بين أهل القاطع (مغناة "جسر القمر").

إذاً، منذ تلك الأيام الأولى بدأت تجيء إلى تفكيرنا الأفكار الماورائية، الأسئلة الكبيرة، التساؤلات التي تتطلّع إلى فوق، إلى الأعلى، إلى سرّ الوجود:

كيف؟ لماذا؟ إلى أين؟ من؟ ما؟...

 

في تلك الأجواء، بدأ الناس يتنبهون إلينا، ويقولون عن عاصي "سيكون شاعراً" وعني "سيكون طائحاً". ذلك أن عاصي كان نحيلاً ناعماً لطيفاً فائق التهذيب، فيما كنت أطول منه وأضخم، شديد السمنة، فاشلاً في المدرسة، ناجحاً في العنتريات. وغالباً ما كنت أهرب من المدرسة فور وصولي إليها.

لم يكن في طفولتي ما يدلُّ على أنني "مشروع شاعر أو فنّان".حتى الأولاد كانوا يتجنّبون معاشرتي والاختلاط بي واللعب، وإن فعل بعضهم فمرغماً كرمى لعاصي الذي كان دائماً يفوقني ذكاءً وحكمة.

أحياناً كانت أمي توصلني إلى المدرسة (راهبات العائلات المقدّسة – إنطلياس) كي تأمن بقائي في الصف، لكنني كنت دائماً أجد حيلة لأهرب. وإذا بقيتُ، كنت أنتظر مرور سيارات الشحن الكبيرة (بيرلييه) على طريق إنطلياس محمّلة بأكياس الترابة (الإسمنت) من معمل شكّا، فأبكي طالباً الخروج للتفرّج عليها. وحين تمطر، كانت المياه تدلف من تحت باب الصف، فأخاف أن يجتاحنا الطّوفان، وأروح أبكي طالباً أن أرى أخي عاصي، وأظلّ أبكي حتى تأخذني المعلمة إلى غرفة الصف الأخرى حيث عاصي، فأطمئن إلى أنني لن أموت لوحدي، وأعود إلى قاعة الصف. لم يكن يستهويني في الصف إلاّ صوت رفاقي يلقون قصائد الاستظهار. لم أكن أدري لماذا كان الشعر يأخذني إلى البعيد، فأسيح من نافذة غرفة الصف إلى بعيد مجهول لذيذ لم أكن أملك له تفسيراً في ذلك الوقت.

كل هذا حين أبقى في الصف. لكنني غالباً كنت أهرب من المدرسة. يلحق بي الرفاق فأتسلّق شجرة، وأختبئ. أحياناً كنت أتظاهر بالذهاب إلى المدرسة، لكنني فور دخول الأولاد إلى الصف، كنت أقف خارجاً أهرول إلى جذع شجرة كبيرة قرب البيت، أختبئ فيه من الصباح فأنام إلى الظهر، وأعود إلى البيت مع عاصي الذي لم يكن يشي بي لكثرة ما كان يحبّني. كان مجتهداً ومواظباً على أنَفَة وكبرياء. ويوم سألته المعلّمة عمّا يطمح أن يكون حين يكبر، كان جوابه الفوري: "سأكون صائغاً كأبي". أمّا أنا فأجبت: "سأكون تمساحاً أو حرباء". كنت سوريالي التفكير منذ طفولتي، وغير منطقي. كنت حالماً باستمرار ورافضاً كل واقع.

بعد مدرسة راهبات العائلة المقدّسة، نقَلنا والدنا إلى مدرسة أخرى أسّسها في إنطلياس فريد أبو فاضل، وهو أستاذنا الفعلي الأوّل. كان فيها جدار خشبي كبير يكتب عليه الشبّان عواطفهم نحو من يحبّون، فكنت أقف عنده أقرأها، وأشعر بما لم أكن عهدئذٍ أستطيع تفسيره. كنت أهرب من الدرس إلى الجدار. المهمّ كان ألاّ أدرس.

في السنة الأخيرة من "مقهى الفوّار" (1933) كان بعض زوّار أبي، ممّن يعجبهم جو المقهى الصارم، يكتبون له قصائد ويعلّقونها على مدخل المقهى. من تلك، أذكر:

نبع الجنان ونزهة الأبصار              إن رُمتَ رؤيتها، ففي الفوّارعاصي وتوفيق الباشا في فوار أنطلياس

فاضت بساحته المياه وغرّدت           أطياره طرباً على الأشجار

تجري المياه على الحصى وخريرها     في الصوت يحكي نغمة الغيتار

قد شابهَت عاصي حماةَ بنبعها          ورئيسُها عاصٍ على الأشرار

       

وهي على ما أذكر لعبد القادر الطُّبَّجي. وكنّا، عاصي وأنا، نحفظ تلك "المعلقات" التي على باب مقهى الفوّار، فبقيت نغمتها الشعرية والموسيقية في آذاننا وأخذتنا منذ تلك الأيام الأولى صوب القصائد.

هكذا كانت سنواتنا الأولى على فوّار إنطلياس: طفولة باهرة في ظلّ والد حنون لكنّه شديد المراس. نشأنا في عزلة جرحتها في الليالي وجوه ناس غرباء، ينبثقون من العتمة ويغيبون، تاركين خلفهم عواء الذئاب يتردّد في الأدوية، وطفلين ينامان على خرير المياه، طفولتهما مشحونة بصور غرائبية تفجّرت في ما بعد شعراً ومسرحاً وموسيقى.

ذات يوم من 1933 قرّر أبو عاصي بيع المقهى والانتقال إلى الجبل، فباع "فوّار إنطلياس" (لمن سيصبح والد زوجتي في ما بعد). وكاد أن يشتري بمال المقهى شاحنتين كبيرتين للنّقل البعيد، لكنّه عدل في ذلك الحين أخبره أحد أصدقائه عن مقهى صيفي قرب ضهور الشوير في منطقة الينابيع (شويا – من حيث هو أصلاً) فهرع إلى استثماره. وسماء فوراً "مقهى المنَيبِيع".

كنت في نحو التاسعة، وعاصي في الحادية عشرة، وبتنا نفهم المظاهر أكثر. كنّا نقصد ذلك المصيف منذ أوائل الربيع، ويعمد أبو عاصي إلى تسقيف المقهى بشجر الوزّال والخنشار. وكان قرب المقهى نبع ماء، وجدار صخري كتب عليه الروّاد أسماءهم وتواريخ جلوسهم في المقهى. كنت آنس إلى قراءة ما على الجدار، فيشغلني فكرة كيف يتجمّد الزمان في تلك الكتابات وما حولها من أسماء وعناوين وعواطف.

كانت أيّام "المنيبيع" مرحلة عزلة تامّة: نجلس، عاصي وأنا، نتأمّل كل ما حولنا. كأننا جئنا من التأمّل. كنّا نتأمّل النمل ساعات طويلة. نتأمّل أشعّة الشمس كيف تنسحب عن الصخور عند المغيب، ونراقب تحوّلات النور بين الظلّ الرمادي واحمرار الأشعّة الأخيرة. هناك كان لجيراننا مقالع، فنتابع المكارين يأتون إليها، يحمّلون بغالهم بالحجارة، ويصعدون بها إلى ضهور الشوير. هناك أيضاً قطفنا العنب من الكروم مع الناس. سِحنا في كروم التين. كانت ستّي غيتا تشتري عنزات كي تستخرج منها الجبنة واللبنة في المقهى، فأذهب أنا وأرعى العنزات وأخالط المعازة (رُعاة المعزى)، وأذكر منهم اثنين شريكين: ضاهر وديب (ظهر هذان الإسمان لاحقاً في أعمالنا) وأتعلّم منهما لغة الماعز وكيف يُساق القطيع. وحين لبست لاحقاً شخصيّة "بشير المعّاز" (في فيلم "بنت الحارس") فوجئ المعّاز الذي استأجرنا منه القطيع بأنني أسوق الماعز بشكلٍ "محترف".

في "المنيبيع" وكنّا كبرنا كفاية، بدأنا نخدم الزبائن على الطاولات. هناك تعلّمنا الصيد ورافقنا الصيادين. وفي ذلك الإطار (المنيبيع، ضهور الشوير، بكفيا، شويا، الزغرين، المياسه، حملايا) كنّا، عاصي وأنا، نتجوّل مشياً، أو نرافق ستّي غيتا. ومن ناس تلك المنطقة الذين بقيت وجوههم وأسماؤهم في بالنا، ولدت في ما بعد شخصيات سبع ومخول وبو فارس والست زمرّد وسائر شخصيات اسكتشاتنا الضيعوية.

وفي تلك الفترة، كنّا بدأنا نقرأ الشعر القديم ونحفظ منه ما نفهمه. وساعدنا ذلك لاحقاً على انتهاج أوزان خاصة بنا تناسب موسيقانا، ممّا حدا بيوسف الخال ذات يومٍ أن يطلب منّا الذهاب إلى "خميس شعر" كي نشرح للحاضرين كيف نؤقلم أوزاناً خاصة لأغانينا.

ربما تأثّراً بتلك القصائد التي حفظناها في تلك الحقبة، بدأ عاصي ينظم قصائد طويلة بإمضاء "كروبش حرشي" ويقرؤها عليّ كي يسلّيني.عاصي ومنصور وعبدلله الخوري كما كتب قصائد شعبيّة من نوع القراديات المضحكة الطريفة، منها:

لو بتشوف الكرّوس            عليها بيتدحرج كوسى  

الكوسى خي الباتنجان          وينن كل فروخ الجان

 

ومنذ تلك المطالع الأولى، كان عاصي ينحو دوماً إلى الأفكار الشعبية والفن الشعبي. وكان هذا عالمنا، تشاركنا أحياناً شقيقتنا سلوى التي عانت الكثير من "شيطناتنا".

وما زاد في اتجاه عاصي يومها واتجاهي إلى الفن الشعبي وأزجاله، أنّ ستّي غيتا بدأت تحرّضنا على قول الزجل وحفظه. عند المساء في ليالي "المنيبيع" المقمرة، كان يجلس أبي وحوله أمّي سعدى وجدّتي غيتا ونحن حولهم، ويغنّي ونردد بعده: "لما بدا يتثنى"، "يا من يحنُّ إليك فؤادي"، "يا لورُ حبّك"، "زوروني كلّ سنة مرّه" وأغنيات قديمة كثيرة عدنا في ما بعد، عاصي وأنا، وأعدنا توزيعها من جديد وشاعت. وأذكر أننا، حين أطلقنا "زوروني كل سنة مرّه" للشيخ سيّد درويش، فوجئ أولاده (وخاصة ابنه محمد البحر) أنّ هذه الأغنية هي له، ولم يعرفوا ذلك إلاّ منّا. فهي، وأخواتٌ لها لسيّد درويش ("طلعت يا محلى نورها"...)، كانت أكثر رواجًا في منطقتنا أكثر مما في مصر، ونحن ربينا عليها في طفولتنا، وكانت تقال ببطء تطريبي، عكس ما عدنا، عاصي وأنا، فوزّعناها به لاحقاً في إيقاع أسرع.

 في تلك العزلة المنفردة اغتنينا بقراءة كتب الطبيعة، واغتنينا بمشاعر الناس، لكثرة ما اختلطنا بالقرويين ولوفرة ما أخبرتنا ستّي غيتا حكاياتٍ في تلك الليالي القمرية الهنيئة، وشدّدت علينا بحفظ الأشعار والأزجال والقرّاديات والأساطير والقصص الشعبية. وصحيح أن ستّي من عينطورة (إحدى أعلى قرى المتن)، لكنها نشأت في سهل البقاع وتعرف فولكلور المتن وفولكلور البقاع، ولديها فكرة عن سائر الفولكلوريات، وتحفظ الكثير من الأزجال. ومع أنّها أميّة، كانت ترتجل وتحرّضنا على الارتجال. وكانت تخبرنا حكاياتٍ عن الجن والرصد، وتلوّن مخيّلتنا بأطياف كثيرة من تلك الطفولة (ظهر منها مثلاً، في ما بعد، مشهد "المندل" في "جسر القمر"). وكانت أخبارها دوماً تتمحور حول الوعر والمقالع وأجواء طبعت مناخات أعمالنا لاحقاً.

   وفي "المنيبيع" جرت حادثة الكمان مع عاصي. فذات يوم من صيف 1938 وجد عاصي ورقة عشرة ليرات على أرض المقهى. أخذها لوالدي فزجره وقال: "هذه لها أصحاب. نعلّقها هنا على الحبل حتى يعود صاحبها فيستردّها". وبقيت الورقة ترتعش في الهواء أياماً ولم يأت أحد ليأخذها. عندها أخذها عاصي، نسخها على ورقة كيس، وعلّق النسخة على الحبل من جديد، وأخذ الأصلية ونزل إلى بيروت فاشترى كماناً عتيقاً بسبع ليرات ونصف كي يتعلّم العزف عليه، وبالبقية شاهد فيلماً سينمائياً مع صديق له.

  كانت تلك المرحلة منعطفاً مهماً في حياة عاصي التأليفية والموسيقية، لما شهدت من بدايات كتاباته عندما نزلنا آخر ذاك الصيف إلى إنطلياس من جديد، وكان أبي اشترى دكّاناً فيها لعمله الشتوي.

في ذلك التشرين، تفتّحت مواهب عاصي "الصحافية"، واستفزّني فنافسته بمواهب "صحافية" مقابلة.

 

من أحاديث منصور الرحباني إلى هنري زغيب. كتاب ''طريق النحل''