أوجه الشمول في التربية الكلية (تابع) ٤/ ٤
أوجه الشمول في التربية الكلية (تابع) ٤/ ٤
كفايات تكوينية فكرية لشخصية الناشىء.
كفاية الادراك المعنوي أو العقلي أو التجريد
تعريفه: هو كل تفكير يتضمن ادراك المعاني العامة التي تنطبق على جميع افراد نوع من الانواع أو جنس من الاجناس أو قاعدة من القواعد، كأن تدرك دلالة الامومة أينما كانت الام أو كأن تدرك دلالة الفاعل أينما وقع، أو دلالة المعدن على أنه مادة قابلة للتمدد اذا وضعت في النار، ادراكاً شاملاً ينضوي تحته كل أم، وكل فاعل، وكل معدن.
لكن كل تعريف من التعاريف السالفة لم يصل الينا
بمدلولاته المعنوية المدركة عقلياً الا بعد تجارب واختبارات اجراها السلف من مفكرين وعلماء ونحاة، واستنتجوا منها مبادىء ومفاهيم أوصلوها الينا في عمليات فكرية.
فالكلية، أو القاعدة المعروفة : ''كل المعادن تتمدد
بالحرارة'' ما توصل العلماء اليها الا بعد أن اجروا تجارب عديدة على عدد كبير من مواد معينة (سميت معادن فيما بعد) الواحد تلو الآخر، ولاحظوا أن كل مادة (معدن) وضع في النار يحمرّ بتأثير الحرارة، ولاحظوا ايضاً أنه اذا طرق هذا المعدن تمدد، فقارنوا بين هذه المواد (المعادن( لمعرفة ايها أكثر تمدداً من الآخر، واستنتجوا أن هذه المواد كلها (المعادن) قابلة للتمدد بالحرارة، فعمموا قائلين : كل مادة أو (معدن) لها مواصفات هذه المواد تخضع لحكمها (أي أنها تتمدد بالحرارة)، فسموا هذه المواد المعادن، واطلقوا على كل معدن اسماً خاصاً به استناداً الى مواصفات معينة يتميز بها عن غيره. هذه الطريقة التركيبية، المنطلقة من الجزء لتصل (La méthode) ،''الى الكل هي المسماة ''الطريقة الاستقرائية تعريفاً هو (L'induction) لأن الاستقراء ،( inductive) ''الانتقال من الجزئيات الى الكليات'' في عملية تركيبية، يكون الفكر فيها تصاعدياً معتمداً على الملاحظة والمقارنة والاستنتاج، ثم التعميم والتسمية، وأخيراً التطبيق بالقياس على الكلية أو القاعدة.
والاستقراء في اللغة له هذا المدلول اذ جاء في الجذر قرأ: قرءاً وقراءة وقرآناً الشيء بحث عنه فجمعه وضم بعضه الى بعض ليخرج بكل. والقرآن يتضمن معنى الجمع اذ يجمع الآيات والسور، ويجمع ضاماً القصص والتاريخ والامر والنهي والوعد والوعيد ...، وكل شيء قرأته فقد جمعته.
يتبين لنا أن الاستقراء قد اتخذه العلماء طريقة في اختراعاتهم وتجاربهم العلمية، لكنهم ما كانوا في مجال التعليم، ولا في صدد ايصال معلومات الى اناس آخرين يهتمون بافهامهم وجعلهم يدركون ويستوعبون، لذلك استعان المربون بهذه الطريقة وأدخلوها صلب التربية وجعلوها طريقة تعليمية تطبق في اعطاء الدروس التي تستدعي اكتشاف قاعدة أو استنتاج كلية مثل استقراء نص من محادثة أو استقراء قاعدة من نص الا أننا نسجل ملاحظتين: الاولى، لا يجوز البدء بالاستقراء أي بالانتقال من الجزء الى الكل، لأننا أثبتنا سابقاً استناداً الى علم النفس أن الانسان ذو تفكير كلي لذلك يجب الانطلاق من الكل ليحلل الى أجزاء ومن ملاحظة الاجزاء نستنتج القاعدة الكلية فنسمي عندئذ هذه الطريقة التحليلة التركيبية. والملاحظة الثانية هي: لكي تؤدي الطريقة الاستقرائية غايتها التعليمية والتربوية لا بد من اقترانها بالاسلوب التدريسي المنسجم معها باعتبارها طريقة (Le procédé) علمية هادفة لذا يفضل اتباع اسلوب الاستجواب القائم على الحوار الحي والفعال بين المعلم وتلاميذه لما يمكن أن يضفيه هذا الاسلوب من حيوية في الصف تدفع التلميذ الى أن يكون ايجابياً ومشاركاً في عملية: الملاحظة والمقارنة والاستنتاج التي تفرضها الطريقة. والاستقراء كما هو معروف هو الطريق الطبيعي في التفكير، فالبدء في ملاحظة الامثلة الاجزاء المقتطعة من نص متكامل مضموناً وتركيباً، للوصول لى القاعدة، فيه يسير العقل من المحسوس الى المعقول وهذا أجدى اسلوب للابداع والاكتشاف والاختراع.
وباقتران اسلوب الاستجواب بالطريقة الاستقرائية يتم اكتمال الطريقة الفضلى والمسماة الاستقرائية الاستجوابية.
ويقابل الاستقراء التركيبي، القياس والاستنباط القياسي ويتمثل في استخراج اجزاء أو امثلة تطبيقاً ،(Déductiom) على قاعدة موجودة، أي أن الكل موجود نستنبط منه الاجزاء. وفي اللغة: النبط هو الماء الذي ينبط أي يستخرج من قعر البئر فالاستنباط على عكس الاستنتاج السابق فلا يصلح مع الصغار ١ وفيه ينتقل الفكر من المعقول الى المحسوس، ومن العام الى الخاص، ومن الكلي الى الجزئي، فالحركة الفكرية فيه تنازلية، بعكس الاستقراء حيث تكون تصاعدية، والقياس هو بمثابة التحليل للبرهنة للكلية، وتتمثل بوضع القاعدة أمام التلاميذ، ثم وضع الامثلة عليها لنشرحها باسلوب تلقيني (على الاكثر). وان كنا لا نشجع على اعتماد هذه الطريقة القياسية ولا الاسلوب التلقيني، خصوصاً مع الاطفال، الا أنه لا مناص من استعمالهما في دروس الرياضيات خاصة وفي الصفوف العليا، يقول سبنسر: ''يجب أن نقلل من تلقين الاطفال بقدر المستطاع وأن نشجعهم على البحث بانفسهم ما استطاعوا الى ذلك سبيلا''. وأسلوب التلقين مرفوض رفضاً قاطعاً في الحلقة الابتدائية الاولى، وهو مرفوض في الحلقة الثانية، وغير مستحب في الحلقة الثالثة ومقبول في المرحلة الثانوية والجامعية، لأن التلقين لا يبني شخصية وبالتالي لا يبني مجتمعاً واعياً متماسكاً، فهو يلغي شخصية الطفل ويسد عليه منافذ الفكر، ويقطع بينه وبين عوامل الابتكار والابداع، في حين أن التربية التي نسعى الى تعميمها تجعل شخصية المتعلم : ايجابية ، منفتحة ، متفاعلة ، باحثة ، مدققة،ملاحظة ومكتشفة .. الخ .
وفي رأينا، ومن خلال الفصل الدقيق بين الطريقة والاسلوب، يتبين لنا أن هناك طريقتين فقط، وفكر الانسان إما أن يكون في حال تحليلية قياسية تنازلية، أو يكون في حال تركيبية استقرائية تصاعدية، لذا جمعناهما في طريقة واحدة سميناها التحليلية التركيبية. وقد يطغى التحليل أحياناً على التركيب كما في تحليل نص أو في دروس اكساب الاطفال الحرف بهذه الطريقة، وقد يطغى التركيب على التحليل كما في دروس القواعد والاملاء. أما الاساليب فعديدة وليست ثابته . بل تتغير بحسب الحاجة الى الافهام للاستيعاب ٢
بعض الاساليب والوسائل الفكرية والعلمية :
- ارتباط الجزء بالكل ، والكل اياً كان يتجزأ على أن يعاد دمج الاجزاء في هذا الكل: التعليل : عملية عقلية يراد بها ذكر السبب أو العلة وربطه بالمسبب أو المعلول بهدف شرح الاحكام، والقواعد الكلية لتوضيحها أو تثبيتها أو التحقق منها وهذا يطلب في التمارين التطبيقية ، وأكثر الالفاظ استعمالاً هي: اللام، لأن، كي، حتى، لذلك، لئلا.
- الاستدلال أي تقديم الدليل والبرهان على صحة قول معين حول مشهد أو كلام.
- المراقبة الاجمالية أو الانتباه العام ويكون على الكل لاكتشاف عناصره الاساسية.
- الملاحظة ولا تكون الا على الجزء ليتم الاكتشاف.
- الاستنتاج ويأتي نتيجة لحكم اكتشف بعد المراقبة والملاحظة، المقارنة بين مثلين أو شيئين أو قولين من أجل اكتشاف أوجه التشابه أو أوجه التضاد، أو التكامل والنقص الواقع في أحدهما.
- التواصل بالحوار بين المعلم والتلاميذ، فقد يجرى بالمحادثة وهذه تحتمل النقاش وابداء الرأي أو بالاستجواب الذي يهدف الى اكتشاف معلومة من خلال الملاحظة، فالاستجواب لا يحتمل ابداء رأي أو نقاش، لأن جوابه اما أن يكون صائباً أو خاطئاً.
- الترتيب المنطقي السليم للمشاهد أو الجمل أو الكلمات، للانتقال بهذا الترتيب من أجل تكوين كل متكامل. الانتقال من مقدمات الى نتائج والربط بين الاشياء وادراك ما بينها من علاقات.
- السؤال في التربية: لا يعني استفهاماً مباشرا يتطلب جواباً، بل هو مشكلة كبيرة أو عقدة صغيرة تحتاجان الى الاساليب عديدة لا يمكن حصرها ونختصرها بهذا القول:
انماء الفكر الناقد باكساب التلاميذ مهارات التفكير الاستنتاجي الاستقرائي، مهارة التصنيف والتركيب ومهارة المقارنة ومهارات الاصغاء والملاحظة و الانتباه، مهارة السبب والنتيجة أي المبدأ السببي، ومبدأ النسبية.
بهذه الطرائق والاساليب المسماة ناشطة، نجد أننا نقارب الذكاء. فما هو الذكاء ؟
اكتساب الذكاء
نستهل حديثنا عن الذكاء في اللغة وبحسب ورود الكلمة ودلالتها في (لسان العرب المعجم الوسيط والمنجد).
ذكا : ذكت النار تذكو، واستذكت : اشتعلت ، واشتد لهبها. والذكا الجمرة الملتهبة. ذكت الحرب ، وأذكيتها ، وذكيتها: استعرت، وأوقدتها والذكاء: شدة وهج النار.
مسك أو عنبر ذكي ، أو ذكية، الرائحة: ساطع الرائحة شديدها. الذكاء (بضم الذال): اسم للشمس وهي في أوج سطوعها وشدة لمعانها، والصبح ابن ذكاء لأنه من نورها. أصل الذكاء في اللغة اليقظة والتنبه وحدة الفؤاد، الشدة، اتمام كل شيء.
ذكا فهمه وعقله: سرع فهمه، وقوي، وتوقد. ذكى فلان: حظي بالذكاء لكثرة رياضته وتجاربه. وقبل أن نبدأ بالحديث عن الذكاء نقدم تعريفا ورد عنه جاء في المعجم الادبي للدكتور عبد النور ما يأتي:
'' الذكاء هو المعرفة الاستدلالية، المنطقية أي غير الحدسية، وهي القوة الهائلة التي في الانسان، وتساعده على التحليل والتركيب''.
من أهم ما يجب أن يتضمنه المنهج التربوي، تقدير مستوى النماء العقلي للاطفال، أي نسبة الذكاء عندهم، وقياس هذا النماء مع العمر الزمني.
هذا ولد في السادسة من عمره، نقيس مستوى ذكائه أو عمره العقلي باختبارات وروائز تقدر أصلاً للاعمار الزمنية، ونستنتج من تطبيقها ما اذا كان العمران بمستويين متساويين أو أن مستوى العمر العقلي (الذكاء) يزيد على العمر الزمني، أو العكس.
ما يهمنا هنا هو معالجة الموضوع الآتي: هل الذكاء قابل للتطوير؟ وما دور كل من الوراثة والتربية في انماء الذكاء؟ قياس مستوى الذكاء ضروري جداً حتى نتمكن من تقديم المعلومات والمعارف الملائمة لمستوى النماء العقلي للاطفال، اذ لا يجوز أن تكون فوق هذا النماء فيرهقون بها من غير فائدة، ولا أن تكون أدنى من هذا النماء فيستخفون بها وينصرفون الى التلهي، متخلين عن الانتباه والاصغاء، من دون أن يراعي المعلمون الفروق الفردية، وتفاوت المستويات بين الاطفال، ومبدأ تكافؤ الفرص.
الدراسات القديمة مجمعة تقريباً على أن الذكاء موروث وبعبارة أخرى: أينسب الذكاء الى الوراثة أم الى الاكتساب؟ والجواب هو : ''الذكاء يورث ولا يكتسب فكما أن الانسان يرث عن آبائه واجداده الصفات الجسدية من طول أو قصر أو لون بشرة أو شعر... كذلك يرث عنهم الذكاء أو الغباء أو قوة الذاكرة أو ضعفها وما الى ذلك من الصفات العقلية المختلفة.'' ٣
وقد وضع علماء النفس والتربية اختبارات عقلية ليقيسوا بها مستوى الذكاء عند الاطفال في أعمارهم المختلفة بدءاً من ثلاث سنوات حتى سن الثانية عشرة. فاذا كنا لا نستطيع أن نوزع التلاميذ على الصفوف بحسب مستويات ذكائهم كأفراد، الا أننا نستطيع ان نعتمد العمر الزمني الموحد، لنقيس به مستوى نماء عقلي متقارب، من دون التدقيق بالفروق الفردية الموروثة. أما الدراسات الحديثة فتتلخص في الرأي القائل بقابلية الذكاء للتربية والانماء. فهذا الموقف يتحدد صراحة في المنظور البسيكولوجي الهادف الى تطوير العمل الذهني للفرد، والى الرفع من قدرته على التعلم والتكيف. فقد رفض بينيه التصورات القائلة بثبات الذكاء. ٤
ان الكفايات المعرفية، من ضمن التربية الكلية الشاملة، وما تنطوي عليه من كفايات تكوينية نفسية، وكفايات في اكتساب طرائق وأساليب التفكير، تهتم بالاهداف الآتية:
- تربية البنى المعرفية، وتطوير الوظائف الفكرية، وتعلم صوابية التفكير .
- المراهنة على جعل الهدف السابق هدفاً بذاته، وليس من ضمن الكفايات المعرفية المكتسبة فحسب.
- السعي الى تشكيل الذكاء مع التسليم بأمكان تربيته وتوظيفه في تحقيق مستويات جيدة من التعلم والاكتساب.
وقد سبق وربطنا بين مفاعيل علم النفس، والطرائق والاساليب والوسائل العاملة على تنمية العمليات المنطقية والتفكير العلمي المنطقي، وتنمية الوظائف المعرفية القابلة للتطور والتحول والتوظيف في مجالات الحياة، وتنمية التفكير المعتمد على الاستدلال المعرفي، والاستنتاج الاستقرائي والتحليل والتركيب، وتنمية تقنيات التذكر (الذاكرة جزء من الذكاء): الذاكرة الدماغية البحت، والذاكرة البصرية، والسمعية ، واللمسية، عبر الادراك الحسي والصورة الذهنية، فالكفايات المعرفية لا تعني أبداً الاكتفاء بالمكتسبات المعرفية فقط باعتبارها منفذاً يساعد على النجاح في امتحان أو غيره، بل هي أوسع من ذلك وأعمق اذ تشمل: انماء الشخصية البشرية الشاملة ومنها انماء الذكاء، وان نسبياً. وقد رأينا أنه حين نقوي عنده دقة الملاحظة وقوة الانتباه والقدرة على التعليل، وحين يفكر تفكيراً منطقياً سليماً وحين ننمي ذاكرته وحين نعمق التواصل معه ليتواصل مع رفاقه ومع أهله ومجتمعه ويحسن التصرف مع الآخرين ويتقبلهم كما هم، حين نستطيع أن نرتقي بالناشئين الى هذا المستوى، الا يعد ذلك ذكاءً؟ فهل نقدر قيمة أن نكون قادرين على تنمية الذكاء عند الاطفال؟
أوجه الشمول في الكفاية المعرفية
استناداً الى مبدأ التربية الكلية الذي اعتمدناه في هذه الدراسة، وتأسيساً عليه، نرى لزاماً علينا أن ننظر الى اللغة على أنها كل لا يتجزأ، وإن جزأناه مرحلياً فمن اجل سهولة تدريسه، انما يجب أن نعود وندمجه في الكل الذي فرع عنه.
فاللغة وحدة مترابطة شاملة عدة بنى (جمع بنية)، وكفايات تتجزأ ولكنها لا تنفصل، فهي شبيهة بالشخصية البشرية التي عالجنا كليتها ووحدتها في المقال الاول.
أما هنا فنحن نتحدث عن أوجه الشمول التي تحيط باللغة وتشملها لتجعلها متكاملة. وهذه الاوجه ستكون بمثابة اساليب نضمها الى الطرائق والاساليب السابقة لها، حيث تتضافر جميعها، وبها تتكامل اللغة.
تحدثنا سابقاً عن كفايات تكوينية : نفسية، واجتماعية، وتربوية، وتعاونية، وحسية، وفكرية متمثلة بطرائق واساليب ناشطة، وكلها تسهم في بناء الشخصية البشرية.
وهنا نتحدث عن كفايات معرفية، فهي لا تعني الاكتفاء بالمعلومات والمعارف باعتبارها تساعد على النجاح في امتحان أو غير ذلك، انما هي أوسع من هذا الهدف وأعمق، اذ تشمل بالاضافة الى هذا الاكتساب المعرفي انماء الشخصية البشرية وانماء الذكاء خاصة.
أما عن تعريف الكفاية فلا بد من الرجوع الى التعريف الوارد في الكفاية التكوينية، إذ إنها مجموعة من القدرات والمهارات... مركزة في الكفاية المعرفية على الاهداف.
لقد كان التعليم بالاهداف هو السائد حتى أيامنا الراهنة، لأنه أسهل من غيره، اذ من السهل أن يكتشف المعلم عدة أهداف خاصة في اي درس ويعمل على اكسابها الاطفال، الواحد تلو الآخر، لأن الهدف جزء وملاحظته واكتسابه أسهل من ملاحظة الكل أي الكفاية، ثم إن الكفاية المعرفية خاصة يجب أن تتجزأ لتقيّم، ولكن خوف المربين يكمن في أن يتوقف المعلم عند الاهداف أي الاجزاء فيتكرس مفهوم التجزئة، وبذلك نبتعد عن مبدأ الشمول والكل في التربية.
هذا الكلام لا يعني أننا نطالب بالغاء التعليم بالاهداف أو أن هناك تعارضاً بين التعليم بالاهداف والتعليم بالكفاية، بل على العكس، فالتعليم بالاهداف غايتنا ولكن على أساس انهاأجزاء من الكفاية باعتبارها كلاً، والاهداف أجزاء متفرعة من هذا الكل فمن الواجب اعادة دمجها به في عملية تركيبية. وان كانت التجزئة للكفايات التكوينية السابقة لا تصح لأنه كما قلنا اما أن تطبق أو لا تطبق، فان التجزئة للكفاية المعرفية واجبة استناداً الى قانون الاختيار العقلي القائل بأن الانسان سواء أكان راشداً أم طفلاً لا يستطيع عقله أن ينتبه ويستوعب معلومتين دفعة واحدة، والمثل العامي معروف: ''ما فينا نحمل بطيختين بيد واحدة''، فهل يستطيع انسان أن يكتب مقالاً وهو يستمع الى نشرة أخبار التلفاز مثلاً؟ لا بد من تركيز الانتباه على أحدهما.
والكفاية قد تتسع لتصل الى اللغة كلها، ثم تتجزأ الى كفايات فرعية، وهذه بدورها تتوزع الى اهداف عامة، ثم الى أهداف خاصة تؤخذ من كل درس، وقد تشتمل على مهارات لها ارتباط بالكفايات التكوينية مثل: القيم الاخلاقية والسلوك والعواطف والوطنيات وغيرها فلا يحق لمعلم اللغة الادعاء أن لا علاقة له بها فيهملها بل ينبغي معالجتها من ضمن الكفاية الفرعية، وبذلك يتم ''التكامل'' بين اللغة ونصوصها التي تحتمل جميع هذه المعلومات والمهارات، وبهذا التكامل تتكون مهارات: ثقافية وفكرية وعلمية ... الخ. تفرض التربية الكلية بشموليتها اكسابها المتعلمين.
هذه التجزئة من كفاية كبرى الى أخرى فرعية الى أهداف عامة وخاصة ثم اعادة دمجها في الكفاية، كل ذلك يعد وجهاً من أوجه الشمول العمودي.
نستنتج مما تقدم أن الكفاية المعرفية تتكون من القدرات الآتية:
- القدرة على تقديم المكتسبات المعرفية الملائمة لمستوى النماء العقلي، مع القدرة على ربطها بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الناشىء، ليتمكن من تطبيقها عند خروجه الى المجتمع، وبذلك يتحقق الهدف التربوي المتمثل باعداد المتعلم للحياة.
- القدرة على تحديد الطريقة والاساليب الملائمة لمستوى المكتسبات السابقة، والخاضعة للملاحظة والاستنتاج والقياس.
- القدرة على ايجاد المعايير الدقيقة الكفيلة بوضع مقاييس لتقييم هذه المكتسبات المعرفية: الاختبارات الدقيقة والمسابقات الواضحة.
- القدرة على تجزئة الكفاية المعرفية الى أهداف عامة، ثم الى أهداف خاصة، والشرط الاساسي في ذلك أن يعاد دمجها بالكفاية.
- القدرة على احداث ترابط بين مختلف الكفايات التكوينية، والاجرائية، والمعرفية، والمهارات المتنوعة...وبهذه القدرة يتجه مفهوم التكامل.
مفهوم التكامل
سنعالج مسألة ''التكامل'' باعتباره مظهراً من مظاهر الشمول في الكفايات المعرفية، عبر مشكلة نطرحها قابلة للتطبيق والمعالجة في نشاط تعاوني فريقي يستدعي البحث وتجميع المعلومات.
وها هي المشكلة موضوع البحث : غرق باخرة ''التيتَنِك''.
نبحث في الابعاد المكانية عن :
مكان انطلاقها ووجهة سيرها والمحيط الذي كانت تمخر عبابه وعن مكان غرقها بالدقة من خلال خريطة أو كرة أرضية. من هم ركابها ؟ ما البلدان التي أتوا منها؟ والى أي مكان يتوجهون ؟ هذه الابعاد تبين لنا مدى ارتباط الانسان الفرد بالعالم كله ومدى العلاقة الوثيقة التي تربط هذا الانسان بكوكب الارض بحاراً ويابسة.
فهذا هو التداخل بين الابعاد المكانية الجغرافية اللغوية الانشائية.
ثم ننتقل للبحث في التاريخ والابعاد الزمانية:
في أي زمن غرقت هذه الباخرة ؟ ما سبب غرقها ؟ بماذا اصطدمت؟ من اين تأتي جبال الجليد؟ وهنا نعود الى المكان )القطب المتجمد الشمالي(، وبهذا يتم التداخل بين الجغرافيا والتاريخ واللغة باعتبارها الأداة التي تجمع والقادرة على التركيب والبناء.
نكمل أسئلتنا باحثين فنربط بين الزمن الماضي العام ١9١٢ الذي غرقت فيه الباخرة، والزمن الحاضر، ونسأل: لماذا لم نعد نسمع ببواخر تصطدم بجبال من الجليد زاحفة في المحيط وقادمة من القطب الشمالي؟ محددين زمن انسلاخها وزحفها؟ ما الاختراع الذي حققه الانسان ليمنع مثل هذه الكوارث ؟ انه الرادار فما هو؟ وهكذا نجد ان المعلومات السابقة تقاطعت مع العلوم والاختراعات العلمية.
والبعد الثالث يتمثل بالقضايا الانسانية:
فعلى الرغم من ضعف وسائل الاعلام في ذلك الزمن، بالنسبة لما هي عليه اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين، فان غرق الباخرة اعتبر كارثة انسانية كتبت عنه جميع صحف العالم وتعاطف الناس مع الضحايا الذين بلغوا المئات، ولبنان نال نصيبه من هذه الكارثة، ...الخ.
ونحن نتذكر ذلك في أوائل العام ٢٠٠٥ نسمع بزلزال بحري يضرب بلدان الهند وسيرلانكا وسومطره وتايلاند فيقتل عشرات الالوف ويشرد الملايين ويخرب المدن والقرى، فتضج وسائل الاتصالات العالمية بالكارثة، وينبري العالم بأسره بدوله ومؤسساته يجمع المساعدات المالية والغذائية والسكنية، ويظهر تعاطف يدل على عمق ترابط الناس تحقيقاً للقول ''الانسان أخو الانسان اينما كان''.
وقد كانت هذه الكارثة مناسبة لتجعل الكتّاب في الصحف يتذكرون مثيلاتها في التاريخ، فربطوا بالبعد الزماني بين الماضي والحاضر والتفكير بالمستقبل، فذكرت بعض الصحف الزلزال الكبير الذي هدم بيروت ''أم الشرائع'' ابان العصر الروماني، واثبتت قصائد رثت هذه المدينة العظيمة، كما ذكرت بطوفان نهر ابي علي في طرابلس، والزلزال الذي ضرب منطقة الشوف في أواسط الخمسينيات من القرن العشرين ... هدفنا من سرد هذه الوقائع أمام المتعلمين حافزين اياهم على الادراك الواعي بأن القضايا البشرية واحدة، وهي متداخلة بعضها ببعض بشكل وثيق، فما يصيب منطقة من المناطق يصيب المناطق الاخرى وينعكس سلبا عليها.
البعد الرابع في معالجة موضوعنا:
هو بعد الانشاء والوصف والخيال، وفي هذا البعد تتداخل عدة علوم لغوية: علم النحو والاملاء والبلاغة والتخيل لنصوغ بها جميعها موضوعاً متكاملاً من جميع جوانبه.
محاور الأهتمام
وجه آخر من أوجه الشمول في التربية الكلية، هو محاور الاهتمام أو الدروس المحورية. إن محاور الاهتمام هي التي تدور حول موضوع واحد نجعله محوراً يعالج من جميع جوانبه. فكما أن الحياة وحدة متماسكة الحلقات، وأن حقائق الكون مترابطة، وأن شخصية الانسان واحدة بكل عناصرها كذلك يجب أن تكون نتائج التعليم كلاً مترابط الاجزاء، فلا يشعر التلميذ بوجود مواد منفصل بعضها عن بعض اذا أمكن، بل يدرك بوعي أن هناك حياة واحدة وعالما واحداً مترابطاً، وكوكباً أرضياً واحداً كلنا مسؤولون عنه ومرتبطون به مثل ارتباط الجزء بالكل.
محور الاهتمام اذاً هو بحده الاقصى مجموعة من مواد التعليم قد تكون جميعها كما في الحلقة الابتدائية الاولى وبحده الادنى مجموعة من دروس المادة الواحدة، كما في اللغة العربية في الحلقة الابتدائية الثانية وما بعدها، تدور حول موضوع واحد نجعله محوراً ويبقى مدة من الزمن قد تطول لتصل الى الفصل الكامل كما في الروضات مثلاً، وقد تقصر لتصل الى الاسبوعين أو الثلاثة أو الشهر، وهو بمعنى آخر يعني الترابط بين المواد أو الدروس، هذا الترابط الذي يؤدي الى ايجاد وحدة من المعلومات: منظمة، مترابطة العناصر، شاملة ...
واذا كان من الصعب علينا أن نجد روابط تشكل محاور بين مواد متباعدة، فانه ليس بمستحيل أن نعالج محاور عدة في السنة ثلاثة أو اربعة اذا تعاون منسقو هذه المواد، وقاموا بعمل مشترك، وعلى سبيل المثال لا الحصر طبعاً: موضوع الشجرة، من خلال المحافظة على البيئة يمكن التحدث عنه ومعالجة جوانبه المختلفة: الجمالية، والعلمية، والبيئية، والثروة الانتاجية، والمناخ ... الخ.
حتى لا يبعث تكرار الموضوع الواحد في نصوص عدة الملل في نفوس المتعلمين، لا بد من معالجة الموضوع من جميع جوانبه المتشابهة والمتضادة، السلبية والايجابية، من أجل التنويع من جهة، ومن أجل استيفاء المعالجة بكل ابعادها من جهة ثانية، لذلك نرى أن التداخل والتقاطع يغنيان المحور بالمعاني، ويلبيان طلباً يقتضيه الشمول بابعاده وتفرعاته.
فاذا كان الشمول قد تمثل في ''الكفاية'' بصورة عمودية تنازلية تحليلية أي من الكل الى الجزء، كذلك رأيناه اي الشمول قد تمثل عمودياً أيضاً في ''التكامل'' انما بتفكير تصاعدي تركيبي، وها نحن نصل اخيراً الى شمول افقي تمثل في محاور الاهتمام. أما من حيث الفوائد التي يجنيها المتعلمون من اتباع محاور الاهتمام في التعليم فهي :
١- تربوياً: تحصر انتباه التلاميذ وتجمع افكارهم حول موضوع واحد، وتعودهم الانتقال ببطء من موضوع الى آخر بعد دراسة مستفيضة، وتعودهم الترتيب والتدرج في التفكير، وتكسبهم طريقة تفكير شاملة كلية.
٢ - تعليمياً: تغني محاور الاهتمام ثروة التلميذ اللغوية المتجانسة، أو المتقاربة في الحقل المعجمي، وتمدهم بالافكار المتنوعة والمنتظمة في موضوع واحد، وتسهل حفظ الدروس لانها تربط بين معلوماتها برباط متين بوساطة تداعي الافكار والمعاني وترابطها.
٣ - اجتماعياً: تربط الدروس المحورية بين المدرسة والحياة الاجتماعية الواقعية، لأنها تفرض أن تكون مواضيع المحاور من صميم هذه الحياة، لأن أهم هدف للتربية أن نعد التلميذ للمجتمع والحياة الاجتماعية.
وجه آخر من أوجه الشمول في الكفايات المعرفية هو :
التواصل المعرفي: تحدثنا سابقاً عن التواصل العلائقي الانساني الهادف انمائياً، والقائم اساساً على المحبة والاحترام المتبادلين بين قطبي العملية التربوية المعلم والمتعلم، وذكرنا أن نجاح هذه الوضعية من التواصل يؤسس لانجاح التواصل المعرفي، ولكن ليس العكس صحيحاً، ويزيد من نتائجه الايجابية المتمثلة بالرغبة في اكتساب المعلومات والمعارف، لأن محبة المعلم تنتقل الى محبة المادة التي يعلمها، وعندما تتحقق الارادة والرغبة في الاكتساب يتم على أكمل وجه، والتواصل المعرفي يعتمد:
على اللغة باعتبارها الاداة الوحيدة لاكساب معارفها، والمعلومات المتداخلة بها أو المتقاطعة معها. في حين أن اللغة يأتي دورها ثانياً في التواصل العلائقي الانساني.
- ان التواصل الذي عماده اللغة، والذي يكون فيه واحد موصل وآخر متلق له مستويات عدة في استعمال اللغة ويحصل:
- بين قطبي العملية التربوية المعلم والمتعلم في الصف
- بين التلاميذ وآخرين : الاهل في المنزل، والرفاق في الملعب والحي، والناس في المجتمع.
فلا بد من التعرض لمستوى اللغة المستعملة في هذا التواصل، فهي الفصحى المبسطة في الصفوف الاولى، وترتقي قليلاً في الصفوف العليا.
تصطدم اللغة في اثناء التحدث بها باللهجة العامية المحكية فلا احد يستطيع أن يلغي هذه اللهجة، وهي وسيلة التواصل بين الناس في المجتمع. دورنا في التواصل أن نرتقي بمفردات اللهجة المحكية لتقارب الفصحى، حتى اذا تحدث بها الانسان العربي يفهم عليه الآخرون في أي دولة عربية كانوا، فتصبح لغة المثقفين ولا ينقصها سوى الاعراب.
فالتعبير فيه تواصل بين الانسان وذاته، وبين ذاته والآخرين، لذلك فاننا نصنف مستويات عدة من التعبير التواصلي :
أ - التعبير الذاتي الوجداني: حيث يتم التواصل بين الانسان وذاته حين يقرأ نصاً قراءة صامتة، أو يقف أمام لوحة يتأملها تأملاً ذاتياً وجدانياً ناقلاً المعاني والدلالات من الرموز الى ذهنه، أو كأن يكون في حلم من أحلام اليقظة حيث ينتقل من حال هو فيها الى حال مرتجاة.
ب - التعبير الشفهي الخطابي التلقيني: ويتم بنقل المعلومات والمعارف السابقة الى الآخرين بتفسيرها أو شرحها أو توضيحها، وفي هذا المعنى ورد في القرآن الكريم ''يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون'' أي تفسرون'' وهذا فيه تواصل مع الآخرين بأسلوب تلقيني خطابي، وان كان هذا الاسلوب غير مستحب في التربية والتعليم، انما يبقى اسلوباً لاختبار التلاميذ في معلوماتهم.
ج - التعبير الشفهي الذي يتم بالتحادث والتحاور بين المعلم الذي يمثل دور الموجه اسئلة هادفة، ليتلقى أجوبة تتضمن آراء شخصية أو أجوبة مستنتجة من نظر وتأمل لمنظر طبيعي أو مشهد من صورة أو لوحة، فكل منهم يعبر للآخر عما في نفسه أو عما يشاهد أو يشعر، وهذا هو التواصل الشفهي بأجلى مظاهره، اذ ينتهي دائماً بتأليف نص أو تركيب قاعدة أو مبدأ.
د - تغييب المدرك الحسي أو المعنوي، وتكوين صورة ذهنية عنه تسترجع بتواصل شفهي أو كتابي في نشاط تقييمي إختباري، بحسب عمر التلاميذ وقدرتهم.
ه - التواصل الذي يتم بين قارىء نص أو قصة أو قصيدة بانفعال، وبين مجموعة من الناس تتجاوب مع الانفعال بحماسة تتجسد بالتصفيق وصرخات الاعجاب.
و - التواصل الذي يتم بين المعلم باعتباره مستجوباً بعد ملاحظة ومقارنة، واستنتاج يخرج به التلاميذ، وهذا النوع لا مكان لابداء الرأي فيه والمناقشة حوله، فالجواب اما أن يكون صحيحاً أو خاطئاً.
ز - التواصل الكتابي: ويتم بالتعبير عما يختزنه التلميذ أو غيره من معلومات مكتسبة، يتواصل بها مع الآخرين في: كتاب، أو مقال في صحيفة ، أو مسابقة في امتحان...
بهذا نوجز أوجه الشمول في التربية المعرفية التي تعد اللغة فيها ركيزة أساسية، وتتمثل هذه الأوجه في: مفهوم الكفاية المعرفية، ومفهوم التكامل المعرفي، ومحاور الاهتمام، والتواصل المعرفي المتعدد الوضعيات والمستويات.
ويجب أن نشير الى أن هذه الأوجه ترتبط بعلم النفس التربوي وطرائق التدريس خاصة، أكثر من ارتباطها باللغة، وان كانت تساعد على اكتساب المعارف اللغوية بيسر ووضوح.
هوامش:
١) سمي الانباط بهذا الاسم لأنهم هم اول من جمعوا الماء في آبار صخرية في المملكة المعروفة باسمهم في الاردن اليوم.
٢) الطريقة هي الخطة الكبرى الموضوعة للوصول الى هدف معين، وقلما تتغير. والاسلوب هو الوسيلة المستعملة لتطبيق الطريقة.
٣) علم النفس التربوي الجزء الثاني حامد عبد القادر ومحمد الابراشي.
٤) مجلة الطفولة العربية، الكويت.