الافتتاحية
إن من نعم لله التي خص بها الانسان من دون سائر خلقه، أن جعله لا يعيش بالغريزة وحدها، وانما يكاد يولد صفحة بيضاء تكون بما تخطه عليها ايادي المربين في الاسرة والمدرسة والمجتمع، حتى يصلب عوده فيأخذ بالتعلم لذاته، مضيفاً ما بوسعه من ابتكار ينقله ذخيرة الى الجيل الذي يليه، يتربى عليها ويضيف اليها ليسلمها الى جيل جديد، وهكذا كان تعاقب الاجيال وتوالي الحضارات التي نقلت البشرية بخطى وئيدة من شظف الحياة العشائرية البدائية الى حضارة عصر العولمة والمعلوماتية. فالتربية هي الاساس في بناء المجتمعات وتنميتها، وإذا كانت التربية الارسطوية كنموذج للتربية القديمة تهدف الى صقل مواهب الفرد وتعزيز تمايزه عن اقرانه بما يتيح له القيام بنشاطات مستحبة لذاتها، ثم تحددت مع بدايات عصر النهضة الاوروبية في تعلم الفنون السبعة (المنطق والنحو والبلاغة والحساب والهندسة والفلك والموسيقى)، فإن التربية الحديثة لم تعد تتوخى الفرد لذاته فحسب بل وتتوسله ايضاً في تحقيق وظيفة اجتماعية واقتصادية، مما يستلزم وضع استراتيجية للتربية تؤمن تحقيق هذه الابعاد الثلاثة للتربية متكاملة.
ان الانسان الفرد كان وما زال الركيزة الاساس التي تتمحور من حولها العملية التربوية برمتها، يحفزه في ذلك تنمية قدراته وتلبية طموحاته الفكرية والارتقاء بمستواه الاجتماعي والاقتصادي، ولذلك جاء الدستور اللبناني والمواثيق الدولية تضمن لكل انسان الحق في التربية والتعليم بهدف انماء الشخصية الانسانية والشعور بكرامتها مع احترام الاختيار الحر للمنحى الذي يتلاءم مع مؤهلات الفرد ويؤمن صقل مواهبه وممارسة حريته في البحث العلمي والنشاط الخلاق ١
بيد ان اهمية البعد الاجتماعي للتربية تجاه المجتمع توازي اهمية بعدها الفردي في ما خص الفرد، لان المجتمع في حاجة الى تربية هادفة تؤدي الى بناء شخصية متماسكة للمجتمع وشد اواصر الوحدة الاجتماعية وتنمية قدراته الخلاقة في شتى ميادين الحضارة. فالوحدة الوطنية يبدأ بناؤها بتربية النشء على وحدة المواطنية، وكما تهدف التربية الى تنمية مواهب الفرد وتلبية تطلعاته ونوازعه، يجب ان تعمل التربية على توثيق عرى الروابط والنوازع والاهداف المشتركة التي تجمع بين ابناء الوطن الواحد، وبقدر ما تؤمن التربية للفرد الارتقاء بمستواه الاجتماعي والاقتصادي، فان اعتماد استراتيجية تربوية صالحة وبنّاءة يؤمن للمجتمع مستوى لائق بين سائر المجتمعات يوازي اسهامه في تقدم الحضارة البشرية.
أما البعد الاقتصادي للتربية فيأتي في المحصلة نتيجة حسن الاختيار واعتماد التخطيط العلمي لتوظيف البعدين الفردي والاجتماعي في سبيل تحقيق الجدوى الاقتصادية الافضل للتربية والتعليم، سواء بتوزيع الاختصاصات والمستويات في الفروع الاكاديمية والتقنية، أم بالتعليم المستمرّ الذي اضحى سمة اساسية وضرورة حتمية لاكتساب المعرفة العلمية ومواكبة القفزات المتسارعة في التقدم العلمي، بحيث لم يعد لاي شهادة اختصاص اي قيمة علمية ما لم يستمر حاملها في متابعة التطور الدائم في حقل اختصاصه.
إن المركز التربوي للبحوث والإنماء الذي انشئ منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين ليكون العقل المخطط للتربية والتعليم في لبنان اثبت جدارته في سنواته الاولى التي سبقت الاحداث الاليمة والتي عطلت مرافق الحياة العامة والخاصة طيلة عقد ونصف من الزمن، وها هو المركز اليوم بعد ان استعاد عافيته وقام باعداد المناهج التربوية الجديدة ومشروع الكتاب المدرسي، يعمل بالتعاون مع سائر اجهزة الوزارة على اعداد الاستراتيجية التربوية في إطار مشروع الانماء التربوي الممول بقرض من البنك الدولي للانشاء والتعمير، وكلنا امل في ان تكون هذه الاستراتيجية مرشداً في رسم هيكلية جديدة للوزارة ووضع خطة طويلة الامد للعمل التربوي وتلبية لطموحات هذه الاستراتيجية.
١- م ١٣ و ١٤ و ١٥ من المعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي اقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966 وانضم اليه لبنان بموجب القانون المنفذ بالمرسوم ٣٨٥٥ تاريخ 1/9/1972