التّدريب المستمرّ عن بعد: كيف نبدأ؟

التّدريب المستمرّ عن بعد : كيف نبدأ؟

 

حسام محي الدين مركز موارد زحلة لغة عربيةأتذكر، عند الحديث عن البعد والمسافات، تلك الأيام ، في بداية التسعينات من القرن العشرين، حين كنت ارتاد الجامعة اللبنانية في زحلة، طلباً للعلم والمعرفة. يومها، لم تكن حركة النقل بين أقاصي البقاع والجامعة في زحلة كما هي اليوم، إذ كنت أحجز مكاناً لي في سيارة الأجرة شبه الوحيدة في البلدة، قبل يوم أو يومين، كي أضمن الوصول إلى المحاضرة التي كنت أختارها، في الوقت المحدد: التكلفة لم تكن عادية لطالب كان لا يزال يشق طريقه في بداية حياة العمل. أتذكر يومها كيف داعبت مخليتي تلك الفكرة عن إمكانية "التعلم عن بعد" دون أن أتحمل مشقة الطريق الطويل، وظروف الوقت المتسارعة والقاهرة.

 

يومها كانت أفكاري عن "التعلم عن بعد" بدائية ومحدودة بمعرفتي المتواضعة عن التطورات التي كانت بدأت تظهر على الساحة العالمية. لم يكن الكمبيوترقد اخترق مجتمعاتنا كما هو اليوم، وأقصى أحلامي عن التعلم عن بعد كانت تنحصر في المراسلة والبريد الذي كان يشبه الحمام الزاجل مع بعض التعديلات. كنت أحلم لأهرب من الواقع، وكانت مخيلتي تضع للكمبيوتر تلك الصورة التي كنت أراها في بعض أفلام الخيال العلمي، صورة خيالية أشبه بفانوس سحري يصنع المعجزات، دون أن يكون لهذه المعجزات أية علاقة بالتعلم والتعليم. وعلى مستوى الاتصالات، لم يكن الانترنت قد وصل بعد، حيث كان التواصل يتم من خلال الهاتف العادي أو السنترالات الخاصة. وبالنسبة للهاتف الجوال، لم يكن قد دخل البلدة بعد، وما زلت أتذكر لحظة دخوله، تلك الأحاديث الطويلة عن صرعة جديدة، دعيت بالخليوي، تسمح بالتواصل مع العالم البعيد بسرعة متناهية، دون أن يخضع المتصل إلى عامل المكان وغرفة الهاتف العادي الذي كان نادراً أيضاً، في بلدات خرجت من الحرب الأهلية بحالة متدنية من الإهمال، ولكن "على قيد الحياة". كان عالم تكنولوجيا التواصل ما يزال بعيداً عن التماهي في حياتنا اليومية، في حين كانت مخيلتنا تحاكيه لسد حاجات لا تعد ولا تحصى، من الحياة اليومية إلى مستلزمات التعلم والتعليم.

   

بين التلقينية والبنائية الاجتماعية

ولم يستمر هذا الوضع طويلاً، حيث شهدت التسعينيات، المرحلة الانتقالية إلى تلك الثورة التي غيرت وجه العالم إلى غير رجعة. وقادتني الأقدام في تلك الفترة إلى دورة كومبيوتر كانت الأولى من نوعها في المنطقة، وبدأت أرى في الكمبيوتر مهمة جدية وجديدة تنحصر في طباعة صفحة أو أكثر على برنامج DOS، في وقت لم يكن Windows قد دخل بعد إلى الاستعلوحة مفاتيح للحاسوبمال الفردي بشكل مكثف. يومها انكسر جدار الجليد مع الكمبيوتر وأيقنت واقعيته، وبدأت أحلامي تتخذ مساراً جديداً عن دوره ومهامه.صحيح إن الاستخدامات الأولى للكمبيوتر على برنامج DOS، ولمستخدم عادي، لم تكن لتفتح الآفاق بشكل واسع، غير أنها كشفت الغطاء عن جهاز العصر الحديث المطيع، حيث تأمر فيستجيب، وفق لائحة تلقينية ضيقة من غير الممكن الخروج عليها. وكان السؤال الكبير الذي ظل يعترض حماسي لهذا الجهاز العجيب، هو في كيفية استثمار هذه التلقينية في إطار التعلم والتعليم في المدرسة. يومها لم تكن الإمكانية التكنولوجية المتوفرة بين يدي، تسمح بكثير أفكار وابتكارات، فالتعليم حينها في المدارس، كان يئن تحت وطأة التلقين، حيث كان المعلم يحتكر وحده حق المعرفة، لينقلها على طريقة الكمبيوتر البدائي ـ سمعاً وطاعةً ـ دون أية هوامش لمشاركة المتعلم الفاعلة والمتفاعلة. كان المتعلم أشبه بكمبيوتر يتلقى أوامر مرسومة سلفاً ليستجيب ويسترجع ما سمعه من معلمه الحكيم بكل أمور الحياة.

واليوم، أتذكر تلك الأيام وأضحك، مداعباً بأصابعي مفاتيح الحاسوب، لأحاكي معلومات العالم من حولي، من خلال شريان الانترنت، بتفاعل، بحرية، بفاعلية حيثما كنت. أرى العالم في نقطة ضوء تتحرك على شاشة صغيرة، وأتواصل بسرعة الضوء ليسقط مارد الوقت على أعتاب الشاشة المتحركة، ولينكسر حاجز المسافة بين القارات واللغات. اليوم، وأنا في التدريب المستمر، لم أعد عبداً للخيال العبثي، ولم أعد أحلم لأهرب من الواقع، بل دخلت عوالم الأحلام بقوة المعرفة لأحيله شيئاً فشيئاً إلى واقع وحقيقة: "أنا أحلم لأحقق أحلامي".

يد تحمل floppy disckفمع هذه الثورة التواصلية، ومع دخول البنائية في صلب المناهج الجديدة، بدأت تتضح شيئاً فشيئاً إمكانيات المزاوجة بين التعلم والتعليم من جهة، وبين بيئة التكنولوجيا التواصلية بما فتحته من آفاق ابتكارية. لقد ارتكزت النظرية البنائية على مبادئ "بياجيه" Piaget التي تعتبر التعلم عملية ذاتية يقوم المتعلم من خلالها بإدخال المعرفة لتصبح جزءاً منه، وذلك من خلال عمليات عقلية وعاطفية مختلفة؛ كما يقوم المتعلم على بناء المعرفة وإعادة بنائها من خلال التفاعل النشط مع الخبرة التعلمية، ومن خلال ربط العلم بالتكنولوجيا. ويتطلب هذا البناء الذاتي، توفر مصادر متنوعة للمعلومات لم تعد تنحصر بالمعرفة التي يمتلكها المعلم أو المتوفرة  في الكتاب، وذلك بغية وضع المتعلم وفق آليات العمل التعاوني، في إطار نشط، غني بالمعلومات، ينتقي من خلالها مكتسباته المعرفية لحل الاشكاليات التي توضع أمامه وفق المنهج. لقد جاء الكومبيوتر وعالمه التواصلي ليوفر هذه الحاجة، ولينقل التعلم والتعليم من التقليدية، إلى التنوع في أصول التدريس المواكب للتنوع في موارد المعرفة المفتوحة، حيث يقف المعلم كوسيط بين هذه المعرفة المفتوحة والمتعلم المتعطش لتصفح موارد معرفية بعيداً عن جدران الصف المتجلدة.

    

المعلم والمواكبة

أمام هذا الواقع المستجد، كان على المعلم أن يواكب استثمار هذه التقنية، كي يوفر للمتعلمين هذه الامكانية المدروسة لاستخدام التقانة في التعلم الهادف، من خلال التواصل والعمل التعاوني على الشبكة العنكبوتية، بدل استخدامها فقط في اللهو والترفيه: لقد نجح البعض في ذلك، فيما سقط الآخرون ضحية الخوف من المجهول ومعاداته.  لذلك، كانت الضرورة تفرض وجود جهاز دائم للتدريب، مستمر، يحمل في طياته بذور التواصل والتبادل والمواكبة، ويفتح مساحة التثاقف التربوي في بيئة كانت بأمس الحاجة إلى ذلك. غدا التدريب المستمر حقيقة في الوسط التربوي اللبناني، حقيقة تجاوز عمرها السنوات الثلاث، لترتبط بها كل آمالنا وآرائنا حول التواصل والتغيير المتبادل والارتقاء بالتربية والتعليم في لبنان، إلى مراتب أعلى مواكبة للعصرنة، وملقحة بأحدث ما توصل إليه العلم والعالم في مجالات التكنولوجيا؛ أجل التكنولوجيا في التعليم والتدريب، بل تكنولوجيا التعليم والتدريب!

ما زال التّدريب المستمرّ في خطواته الأولى يمشي حثيثاً باتجاه بناء مجتمع تربوي واقعي، يجمع كافة المعلمين من كل الأجيال الوظيفية، على مساحة من التواصل الموجّه، في موضوعات ومحاور مختارة بدقة، أملاً بإدخال كثير من الحيوية إلى غرفة الصف، بحثاً عن بيئة تربوية نشطة، وعن متعلم فاعل ومتفاعل أولاً، وعن معلم متفاعل ومنتج ثانياُ. وقد يثير البعض مسألة الجدوى من التدريب، في وقت يثقل العمر الوظيفي في مجال التعليم على كافة المعطيات الأخرى؛ والجواب بديهي للغاية: التربية كائن حي متطور بتطور الإنسان اجتماعياً، والمعلم كوسيط تربوي بين المعرفة والمتعلم، مدعو إلى المواكبة بل إلى "الحياة"، وإلا سقط بين سندان المعرفة المتنامية إلى ما لا نهاية، وبين مطرقة المتعلم الذي غدا يجد في موارد التكنولوجيا المتوفرة حالياً، مصدراً آخر للمعرفة بعيداً عن تجلد أسوار غرفة الصف، وتصلب المعلم، وسوداوية الأوراق الميتة لكتاب يحترق تحت ضغط الوقت والأساليب البدائية.

من منا كمعلمين، لم يواجه بسؤال يتجاوز حدود الكفايات، وجدران محتوى الكتاب ليقف بنا على عتبة معرفتنا، دافعاً إيانا إلى الهاوية !؟ سؤال وله إجابة في جعبة متعلم أدرك، كما نحن ندرك، أن المعرفة ليست ملكاً حصرياً لأحد، بل هي موجودة ومتوفرة، وما من شيء يمنعه من الحصول عليها؛ فلا احتكارية المعلم للمعرفة تمنع مروره، ولا إقطاعية التعليم تحرم وصوله إلى قنوات الانترنت ومشاعية التملك لأدواته ومهاراته. ألا نحتاج، معلمين، إلى المواكبة والتدريب المستمر كي لا نصبح معلمين تحت السنديانة في عصر المتعلمين في فضاء الانترنت !؟ بلى ولكن...!

    

التدريب عن بعد...

 في تجربة التدريب الأولى، غالباً ما كان يتهالك الزملاء المتدربون على عتبة الغير ممكن، وعجز التطبيق... ولكن ! ودائماً ما تواجهنا هذه العبارة، تتبعها عبارات “ضيق الوقت” و”ثقل المكان” و”عبء المسافة"... هذه المعوقات التقليدية التي تثقل رغبة المعلم بالمواكبة عبر التدريب المستمر، وتقف حائلاً بينه وبين متابعته لبعض المواضيع التي تلفت انتباهه في خطة التدريب. صحيح أننا نواجه هذه المعوقات بكثير من المقارنة والتبرير لتمتين الارادة في نفوس الزملاء المعلمين، ولرفع معدلات الصبر والتضحية في سبيل التواصل والاستزادة من العلم والمعرفة ... ولكن! أما من حل آخر...

 التدريب المستمر وجد ليكون هذه المساحة المباشرة لاستقبال المعلمين في مراكز تدريب وسطية حسب المناطق، وليمثل صلة الوصل الحيّة بين المعلمين وبين التربية المعاصرة، المتطورة، والمتغيرة باستمرار. غير أن هذا الواقع الأساسي لا يمنع من إدراج خيارات جديدة في هيكلية التدريب، لا تقضي على التدريب "الحي والمباشر"، بل تعززه وتزيد من أهميته ودوره على أرض التأهيل المهني، وفي آفاق الارتقاء نحو الاتقان في التعليم.

فكثيراً ما نواجه معلمين راغبين في الاستزادة من الدورات التدريبية، وتهمهم موضوعات أخرى غير تلك التي خضعوا لها، غير أن العوامل المذكورة تعيق تسجيلهم، وتمنع مشاركتهم الفاعلة، وتؤجل حماسهم إلى عامٍ قادم! اليس من الممكن الاستفادة من هذه الشريحة وغيرها، ممن تعوقهم وسائل المشاركة في الدورات "الحية"، بطريقة أو باخرى، تزاوج بين التدريب والتكنولوجيا؟! بلى، وكي لا تبقى الفكرة حلماً بعيدأً عن الواقع، يأتي التدريب عن بعد ليشكّل حلاً ملائماً في الامكانية والكيفية.

 

 ما هو التدريب عن بعد؟ كيف تتم آلياته؟ وماذا يحتاج من وسائل؟ وهل ينجح في لبنان؟

"التّدريب عن بعد" (Formation à distance) هو نظام تدريبي يسمح للأفراد بالتأهل المهني دون الانتقال إلى مكان التدريب ودون وجود مباشر للمدرب. "التدريب عن بعد" مختلف في آلياته عن التدريب المباشر، إذ يزاوج بين مجموع الوسائل التكنولوجية وبين الفكر البشري التأهيلي بشكل منظم، ليؤمن التعليم او التعلم لأفراد بعيدين عن مركز الموارد الفعلي. وهناك تمييز اليوم بين التدريب عن بعد و"التدريب المفتوح عن بعد" حيث يسمح للمتدرب الوصول الحرّ إلى موارد تربوية موضوعة مباشرة بتصرفه Online، دون أن يكون ملزماً بوتيرة معينة في دورة تدريبية مباشرة أو عن بعد، يتم عرضها بشكل تسلسلي.

على هذا الأساس يرتكز "التدريب عن بعد" على توفر شبكة الاتصالات الالكترونية Internet  أو Intranet وعلى تواجد الحواسيب، وعلى نظام برمجي Plate-forme de formation يجمع بين ثلاث مستخدمين رئيسيين: المدرّب، والمتدرّب ومدير النظام. كما يرتكز على توفر الامكانيات البشرية والمهارات الالكترونية الضرورية للتعاطي مع هذه الحزمة من الآليات الجديدة.

أمام هذه المتطلبات، قد يكون التأهيل المباشر Formation en présentiel أخفّ تعقيداً وأقل تشعيباً؛ ولا يعني ذلك أن التدريب عن بعد يجب أن يبقى على لائحة الانتظار ريثما يتم تأهيل مدراء نظام برمجي، ومدربين يزاوجون بين عدة اختصاصات، ومتدربين يتقنون العمل على أنطمة برمجية معقدة. بل من الممكن الاستفادة من بعض أدوات التواصل لبناء مجتمع تربوي افتراضي Communauté pédagogique virtuelle  يتبادل الخبرات التدريبية والمعارف التربوية من خلال خدمات برمجية بعيدة عن التعقيد. ولإطلاق هذه الخطوة لا بد من آليتين:

الطريقة الأولى وهي الأسهل، تبدأ بإنشاء مجموعة بريدية، بالاستفادة من الخدمات المجانية الالكترونية المجانية yahoogroups مثلاً، حيث تنشأ مجموعات متخصصة يدير كل منها مدرب. من خلال هذه المجموعة من الممكن، تبادل المعارف والخبرات المطلوبة، كما من السهل تبادل نماذج تحضيرية وملفات دون كثير تعقيد أو جهد. وعبر هذه الخدمة يمكن للمدرب أن يحوّل دورته التدريبية ومحاورها Modules de formation إلى موضوعات مناقشة يتم طرحها عبر تقنيتين مجانيتين على الانترنت: المدونات Blogs  أو المنتديات Forum حيث يصار إلى النقاش بطريقة غير مباشرة، وغير متزامنة، حول الموضوعات المطروحة. كما من الممكن فتح غرف دردشة Chatrooms  للتواصل "الحي" online  في الوقت ذاته، بشكل متزامن، مع إمكانية التواصل بالفيديو والصوت المباشرين. وتتوفر هذه الخدمات مجاناً على شبكة الانترنت ولا تكلف مستخدمها إلا تكلفة التواصل على الشبكة.

أما الطريقة الثانية، فهي تحتاج إلى كادر منظّم أكثر تأهيلاً، وتتطلب إنشاء موقع "بوابة تدريب" Portail de formation تسهل الوصول إلى لائحة بأسماء المدربين المتوفرين، كما تسهل الوصول إلى وحدات تدريبية مختلفة حسب الاختصاص. ويتم هذا التواصل بشكل غير مباشر عبر البريد الالكتروني مثلاً، حسب أوقات فراغ المدرب والمتدربين على السواء، أو من خلال التواصل المباشر في الوقت ذاته.

    

 "رحلة معرفية"

ربما كمرحلة أولى في لبنان، من الممكن إطلاق جيل جديد من الدورات التدريبية المهجنة Mix-Formation أو Blended formation  تجمع بين التدريب المباشر في مراكز التدريب En Présentiel وبين التدريب عن بعد Formation à distance.

وبهذه الطريقة يتواصل المدرب جزئياً بشكل حي ومباشر مع المتدربين في مركز التدريب، ليترك لهم فترة تواصل على الانترنت قد تمتد إلى أسابيع أو أشهر، ليعود بعدها إلى لقائهم في ورشة عمل تقييمية أو استنتاجية؛ وتسقط أمام هذه الآلية معوقات التوفّر حسب الدوام الرسمي، ومشكلة المسافة بين مكان السكن ومكان التدريب. ويخيّل للبعض أن هذه الطريق قد تفتقد إلى التنظيم والتخطيط. ولعل الحل والجواب يكمن في استخدام تقنية الرحلات المعرفية Webquest كنموذج تربوي فريد يجمع بين التخطيط التربوي المحكم، والاستثمار العقلاني للحاسوب والانترنت. إذ من الممكن تقسيم مجموعة المتدربين الى مجموعات صغرى، من خلال يوم تدريبي مباشر، حيث توزّع عليها ورش العمل أو الوحدات المعرفية للدورة على شكل أبحاث بعد القيام بالتمهيد اللازم. ويتمحور عمل المتدربين حول حل إشكالية محددة الأهداف يحدد فيها المدرب بالتوافق مع المجموعة، دور كل متدرب في ورشة العمل، كما يوصّف بشكل دقيق إجراءات العمل على الانترنت في سياق بحثي وتحليلي واستنتاجي، خلال مدة تنفيذ على المدى المتوسط أو الطويل. كما يقترح مجموعة من الروابط الالكترونية التي يكون قد اطلع عليها مسبقاً، كموارد يمكن للمجموعة الرجوع اليها في إنجاز عملها. في نهاية الرحلة المعرفية، تعرض المجموعة نتاجها من خلال مجموعة بريدية تجمع كل المتدربين، أو تعرض في إطار منتدى مجاني Forum ليصار إلى التعليق على كل الوحدات المنجزة من خلال الانترنت وفي مواعيد يحددها المدرب والمتدربون على السواء.

     إن طريقة "الرحلات المعرفية" مع غيرها من الابداعات التربوية الجديدة التي ترتكز على البنائية الاجتماعية في التربية Socio-constructivisme ، قد تشكل ومثيلاتها حجر الأساس في مشاريع التدريب المستمر عن بعد، تمهيداً لانجاز حلقة الكترونية متكاملة، تضع المدرب والمتدربين على موقع الكتروني عصري، يزاوج بين التربية  والتكنولوجيا، ويشكل مصدراً موثوقاً وأساسياً لكل مستجدات التربية، التي توضع بتصرف المعلم أينما كان. إن هذا التحدي ليس بالسهل، حيث تبرز قواعد الزمان والمكان الجديدة، في وجه المدرب قبل المتدرب، مما يتطلب جهداً مضاعفاً وتعاوناً لنقل المادة التربوية من "الملفات الورقية" إلى النشر الالكتروني، مع ما تتطلبه هذه النقلة من مهارات إضافية ينبغي أن يتمتع بها المدرب: إن عرض المادة التدريبية يفترض أن يسمح بوصول المتدرب السهل اليها دون كثير جهد أو مشقة.

إن التدريب المستمر عن بعد، خطوة من النضج التربوي، تدفع بالوسط التعليمي إلى مجتمع افتراضي، يتم فيه استثمار التكنولوجيا بثقة، لتُبنى، مدماك إثر مدماك، هياكل معرفية، تعزز التشارك المعرفي، وتشكل تطبيقاً فعلياً للبنائية الاجتماعية في سياق تواصلي وتعاوني. ليس هذا فحسب، بل إن التدريب عن بعد، وسيلة لتفعيل التدرب الذاتيِ Auto-Formation والتعلم الذاتي Auto-didactique، وهي سلوكيات معرفية ينبغي لكل معلم، يريد مواكبة العصر، ومعاصرة التربية في تطورها، أن يعيشها لتصبح جزءاً من شخصيته المهنية.

أن هذه التجربة فيما لو طبقت على مستوى التدريب، كفيلة وبشكل غير مباشر، أن تتوالد على أيدي المعلمين المتدربين، في غرف التدريس، ليعاد انتاج الاستراتيجيات الجديدة، مع متعلمين متشوقين ليشاهدوا لعبتهم المفضلة أي الكومبيوتر، تدخل رسمياً غرفة صفهم، بثوب معرفي جديد، يضعون لها بأنفسهم شرعة استخدام فاعلة ومتفاعلة على مسمع من المعلم المواكب، بدل أن تدخل هذه اللعبة لغة الممنوع في أحاديثهم وهمساتهم الصباحية.

العالم المعرفي يتمدد باستمرار، ونحن مازلنا عند النقاط الأولى من تردداته، ما لم نتحرك بسرعة وثبات. إننا مدعوون إلى بذل الكثير من الجهد، والى تثمير الكثير من الأفكار الجديدة والمفيدة بل والمبدعة، كي لا نتأخر عن القوافل المتجهة من حولنا نحو الآفاق الجديدة. لا تنقصنا الحكمة، ولا تعوزنا الوسائل، بل تعترينا قشعريرة الخوف من المجهول: فلنكسر جليد الخوف بالمعرفة، ولندخل فضاء الشبكات الالكترونية بشجاعة الرحالة الأوائل، فما زالت أمامنا قارات وعوالم تنتظر الاكتشاف.

التّدريب المستمرّ عن بعد: كيف نبدأ؟

التّدريب المستمرّ عن بعد : كيف نبدأ؟

 

حسام محي الدين مركز موارد زحلة لغة عربيةأتذكر، عند الحديث عن البعد والمسافات، تلك الأيام ، في بداية التسعينات من القرن العشرين، حين كنت ارتاد الجامعة اللبنانية في زحلة، طلباً للعلم والمعرفة. يومها، لم تكن حركة النقل بين أقاصي البقاع والجامعة في زحلة كما هي اليوم، إذ كنت أحجز مكاناً لي في سيارة الأجرة شبه الوحيدة في البلدة، قبل يوم أو يومين، كي أضمن الوصول إلى المحاضرة التي كنت أختارها، في الوقت المحدد: التكلفة لم تكن عادية لطالب كان لا يزال يشق طريقه في بداية حياة العمل. أتذكر يومها كيف داعبت مخليتي تلك الفكرة عن إمكانية "التعلم عن بعد" دون أن أتحمل مشقة الطريق الطويل، وظروف الوقت المتسارعة والقاهرة.

 

يومها كانت أفكاري عن "التعلم عن بعد" بدائية ومحدودة بمعرفتي المتواضعة عن التطورات التي كانت بدأت تظهر على الساحة العالمية. لم يكن الكمبيوترقد اخترق مجتمعاتنا كما هو اليوم، وأقصى أحلامي عن التعلم عن بعد كانت تنحصر في المراسلة والبريد الذي كان يشبه الحمام الزاجل مع بعض التعديلات. كنت أحلم لأهرب من الواقع، وكانت مخيلتي تضع للكمبيوتر تلك الصورة التي كنت أراها في بعض أفلام الخيال العلمي، صورة خيالية أشبه بفانوس سحري يصنع المعجزات، دون أن يكون لهذه المعجزات أية علاقة بالتعلم والتعليم. وعلى مستوى الاتصالات، لم يكن الانترنت قد وصل بعد، حيث كان التواصل يتم من خلال الهاتف العادي أو السنترالات الخاصة. وبالنسبة للهاتف الجوال، لم يكن قد دخل البلدة بعد، وما زلت أتذكر لحظة دخوله، تلك الأحاديث الطويلة عن صرعة جديدة، دعيت بالخليوي، تسمح بالتواصل مع العالم البعيد بسرعة متناهية، دون أن يخضع المتصل إلى عامل المكان وغرفة الهاتف العادي الذي كان نادراً أيضاً، في بلدات خرجت من الحرب الأهلية بحالة متدنية من الإهمال، ولكن "على قيد الحياة". كان عالم تكنولوجيا التواصل ما يزال بعيداً عن التماهي في حياتنا اليومية، في حين كانت مخيلتنا تحاكيه لسد حاجات لا تعد ولا تحصى، من الحياة اليومية إلى مستلزمات التعلم والتعليم.

   

بين التلقينية والبنائية الاجتماعية

ولم يستمر هذا الوضع طويلاً، حيث شهدت التسعينيات، المرحلة الانتقالية إلى تلك الثورة التي غيرت وجه العالم إلى غير رجعة. وقادتني الأقدام في تلك الفترة إلى دورة كومبيوتر كانت الأولى من نوعها في المنطقة، وبدأت أرى في الكمبيوتر مهمة جدية وجديدة تنحصر في طباعة صفحة أو أكثر على برنامج DOS، في وقت لم يكن Windows قد دخل بعد إلى الاستعلوحة مفاتيح للحاسوبمال الفردي بشكل مكثف. يومها انكسر جدار الجليد مع الكمبيوتر وأيقنت واقعيته، وبدأت أحلامي تتخذ مساراً جديداً عن دوره ومهامه.صحيح إن الاستخدامات الأولى للكمبيوتر على برنامج DOS، ولمستخدم عادي، لم تكن لتفتح الآفاق بشكل واسع، غير أنها كشفت الغطاء عن جهاز العصر الحديث المطيع، حيث تأمر فيستجيب، وفق لائحة تلقينية ضيقة من غير الممكن الخروج عليها. وكان السؤال الكبير الذي ظل يعترض حماسي لهذا الجهاز العجيب، هو في كيفية استثمار هذه التلقينية في إطار التعلم والتعليم في المدرسة. يومها لم تكن الإمكانية التكنولوجية المتوفرة بين يدي، تسمح بكثير أفكار وابتكارات، فالتعليم حينها في المدارس، كان يئن تحت وطأة التلقين، حيث كان المعلم يحتكر وحده حق المعرفة، لينقلها على طريقة الكمبيوتر البدائي ـ سمعاً وطاعةً ـ دون أية هوامش لمشاركة المتعلم الفاعلة والمتفاعلة. كان المتعلم أشبه بكمبيوتر يتلقى أوامر مرسومة سلفاً ليستجيب ويسترجع ما سمعه من معلمه الحكيم بكل أمور الحياة.

واليوم، أتذكر تلك الأيام وأضحك، مداعباً بأصابعي مفاتيح الحاسوب، لأحاكي معلومات العالم من حولي، من خلال شريان الانترنت، بتفاعل، بحرية، بفاعلية حيثما كنت. أرى العالم في نقطة ضوء تتحرك على شاشة صغيرة، وأتواصل بسرعة الضوء ليسقط مارد الوقت على أعتاب الشاشة المتحركة، ولينكسر حاجز المسافة بين القارات واللغات. اليوم، وأنا في التدريب المستمر، لم أعد عبداً للخيال العبثي، ولم أعد أحلم لأهرب من الواقع، بل دخلت عوالم الأحلام بقوة المعرفة لأحيله شيئاً فشيئاً إلى واقع وحقيقة: "أنا أحلم لأحقق أحلامي".

يد تحمل floppy disckفمع هذه الثورة التواصلية، ومع دخول البنائية في صلب المناهج الجديدة، بدأت تتضح شيئاً فشيئاً إمكانيات المزاوجة بين التعلم والتعليم من جهة، وبين بيئة التكنولوجيا التواصلية بما فتحته من آفاق ابتكارية. لقد ارتكزت النظرية البنائية على مبادئ "بياجيه" Piaget التي تعتبر التعلم عملية ذاتية يقوم المتعلم من خلالها بإدخال المعرفة لتصبح جزءاً منه، وذلك من خلال عمليات عقلية وعاطفية مختلفة؛ كما يقوم المتعلم على بناء المعرفة وإعادة بنائها من خلال التفاعل النشط مع الخبرة التعلمية، ومن خلال ربط العلم بالتكنولوجيا. ويتطلب هذا البناء الذاتي، توفر مصادر متنوعة للمعلومات لم تعد تنحصر بالمعرفة التي يمتلكها المعلم أو المتوفرة  في الكتاب، وذلك بغية وضع المتعلم وفق آليات العمل التعاوني، في إطار نشط، غني بالمعلومات، ينتقي من خلالها مكتسباته المعرفية لحل الاشكاليات التي توضع أمامه وفق المنهج. لقد جاء الكومبيوتر وعالمه التواصلي ليوفر هذه الحاجة، ولينقل التعلم والتعليم من التقليدية، إلى التنوع في أصول التدريس المواكب للتنوع في موارد المعرفة المفتوحة، حيث يقف المعلم كوسيط بين هذه المعرفة المفتوحة والمتعلم المتعطش لتصفح موارد معرفية بعيداً عن جدران الصف المتجلدة.

    

المعلم والمواكبة

أمام هذا الواقع المستجد، كان على المعلم أن يواكب استثمار هذه التقنية، كي يوفر للمتعلمين هذه الامكانية المدروسة لاستخدام التقانة في التعلم الهادف، من خلال التواصل والعمل التعاوني على الشبكة العنكبوتية، بدل استخدامها فقط في اللهو والترفيه: لقد نجح البعض في ذلك، فيما سقط الآخرون ضحية الخوف من المجهول ومعاداته.  لذلك، كانت الضرورة تفرض وجود جهاز دائم للتدريب، مستمر، يحمل في طياته بذور التواصل والتبادل والمواكبة، ويفتح مساحة التثاقف التربوي في بيئة كانت بأمس الحاجة إلى ذلك. غدا التدريب المستمر حقيقة في الوسط التربوي اللبناني، حقيقة تجاوز عمرها السنوات الثلاث، لترتبط بها كل آمالنا وآرائنا حول التواصل والتغيير المتبادل والارتقاء بالتربية والتعليم في لبنان، إلى مراتب أعلى مواكبة للعصرنة، وملقحة بأحدث ما توصل إليه العلم والعالم في مجالات التكنولوجيا؛ أجل التكنولوجيا في التعليم والتدريب، بل تكنولوجيا التعليم والتدريب!

ما زال التّدريب المستمرّ في خطواته الأولى يمشي حثيثاً باتجاه بناء مجتمع تربوي واقعي، يجمع كافة المعلمين من كل الأجيال الوظيفية، على مساحة من التواصل الموجّه، في موضوعات ومحاور مختارة بدقة، أملاً بإدخال كثير من الحيوية إلى غرفة الصف، بحثاً عن بيئة تربوية نشطة، وعن متعلم فاعل ومتفاعل أولاً، وعن معلم متفاعل ومنتج ثانياُ. وقد يثير البعض مسألة الجدوى من التدريب، في وقت يثقل العمر الوظيفي في مجال التعليم على كافة المعطيات الأخرى؛ والجواب بديهي للغاية: التربية كائن حي متطور بتطور الإنسان اجتماعياً، والمعلم كوسيط تربوي بين المعرفة والمتعلم، مدعو إلى المواكبة بل إلى "الحياة"، وإلا سقط بين سندان المعرفة المتنامية إلى ما لا نهاية، وبين مطرقة المتعلم الذي غدا يجد في موارد التكنولوجيا المتوفرة حالياً، مصدراً آخر للمعرفة بعيداً عن تجلد أسوار غرفة الصف، وتصلب المعلم، وسوداوية الأوراق الميتة لكتاب يحترق تحت ضغط الوقت والأساليب البدائية.

من منا كمعلمين، لم يواجه بسؤال يتجاوز حدود الكفايات، وجدران محتوى الكتاب ليقف بنا على عتبة معرفتنا، دافعاً إيانا إلى الهاوية !؟ سؤال وله إجابة في جعبة متعلم أدرك، كما نحن ندرك، أن المعرفة ليست ملكاً حصرياً لأحد، بل هي موجودة ومتوفرة، وما من شيء يمنعه من الحصول عليها؛ فلا احتكارية المعلم للمعرفة تمنع مروره، ولا إقطاعية التعليم تحرم وصوله إلى قنوات الانترنت ومشاعية التملك لأدواته ومهاراته. ألا نحتاج، معلمين، إلى المواكبة والتدريب المستمر كي لا نصبح معلمين تحت السنديانة في عصر المتعلمين في فضاء الانترنت !؟ بلى ولكن...!

    

التدريب عن بعد...

 في تجربة التدريب الأولى، غالباً ما كان يتهالك الزملاء المتدربون على عتبة الغير ممكن، وعجز التطبيق... ولكن ! ودائماً ما تواجهنا هذه العبارة، تتبعها عبارات “ضيق الوقت” و”ثقل المكان” و”عبء المسافة"... هذه المعوقات التقليدية التي تثقل رغبة المعلم بالمواكبة عبر التدريب المستمر، وتقف حائلاً بينه وبين متابعته لبعض المواضيع التي تلفت انتباهه في خطة التدريب. صحيح أننا نواجه هذه المعوقات بكثير من المقارنة والتبرير لتمتين الارادة في نفوس الزملاء المعلمين، ولرفع معدلات الصبر والتضحية في سبيل التواصل والاستزادة من العلم والمعرفة ... ولكن! أما من حل آخر...

 التدريب المستمر وجد ليكون هذه المساحة المباشرة لاستقبال المعلمين في مراكز تدريب وسطية حسب المناطق، وليمثل صلة الوصل الحيّة بين المعلمين وبين التربية المعاصرة، المتطورة، والمتغيرة باستمرار. غير أن هذا الواقع الأساسي لا يمنع من إدراج خيارات جديدة في هيكلية التدريب، لا تقضي على التدريب "الحي والمباشر"، بل تعززه وتزيد من أهميته ودوره على أرض التأهيل المهني، وفي آفاق الارتقاء نحو الاتقان في التعليم.

فكثيراً ما نواجه معلمين راغبين في الاستزادة من الدورات التدريبية، وتهمهم موضوعات أخرى غير تلك التي خضعوا لها، غير أن العوامل المذكورة تعيق تسجيلهم، وتمنع مشاركتهم الفاعلة، وتؤجل حماسهم إلى عامٍ قادم! اليس من الممكن الاستفادة من هذه الشريحة وغيرها، ممن تعوقهم وسائل المشاركة في الدورات "الحية"، بطريقة أو باخرى، تزاوج بين التدريب والتكنولوجيا؟! بلى، وكي لا تبقى الفكرة حلماً بعيدأً عن الواقع، يأتي التدريب عن بعد ليشكّل حلاً ملائماً في الامكانية والكيفية.

 

 ما هو التدريب عن بعد؟ كيف تتم آلياته؟ وماذا يحتاج من وسائل؟ وهل ينجح في لبنان؟

"التّدريب عن بعد" (Formation à distance) هو نظام تدريبي يسمح للأفراد بالتأهل المهني دون الانتقال إلى مكان التدريب ودون وجود مباشر للمدرب. "التدريب عن بعد" مختلف في آلياته عن التدريب المباشر، إذ يزاوج بين مجموع الوسائل التكنولوجية وبين الفكر البشري التأهيلي بشكل منظم، ليؤمن التعليم او التعلم لأفراد بعيدين عن مركز الموارد الفعلي. وهناك تمييز اليوم بين التدريب عن بعد و"التدريب المفتوح عن بعد" حيث يسمح للمتدرب الوصول الحرّ إلى موارد تربوية موضوعة مباشرة بتصرفه Online، دون أن يكون ملزماً بوتيرة معينة في دورة تدريبية مباشرة أو عن بعد، يتم عرضها بشكل تسلسلي.

على هذا الأساس يرتكز "التدريب عن بعد" على توفر شبكة الاتصالات الالكترونية Internet  أو Intranet وعلى تواجد الحواسيب، وعلى نظام برمجي Plate-forme de formation يجمع بين ثلاث مستخدمين رئيسيين: المدرّب، والمتدرّب ومدير النظام. كما يرتكز على توفر الامكانيات البشرية والمهارات الالكترونية الضرورية للتعاطي مع هذه الحزمة من الآليات الجديدة.

أمام هذه المتطلبات، قد يكون التأهيل المباشر Formation en présentiel أخفّ تعقيداً وأقل تشعيباً؛ ولا يعني ذلك أن التدريب عن بعد يجب أن يبقى على لائحة الانتظار ريثما يتم تأهيل مدراء نظام برمجي، ومدربين يزاوجون بين عدة اختصاصات، ومتدربين يتقنون العمل على أنطمة برمجية معقدة. بل من الممكن الاستفادة من بعض أدوات التواصل لبناء مجتمع تربوي افتراضي Communauté pédagogique virtuelle  يتبادل الخبرات التدريبية والمعارف التربوية من خلال خدمات برمجية بعيدة عن التعقيد. ولإطلاق هذه الخطوة لا بد من آليتين:

الطريقة الأولى وهي الأسهل، تبدأ بإنشاء مجموعة بريدية، بالاستفادة من الخدمات المجانية الالكترونية المجانية yahoogroups مثلاً، حيث تنشأ مجموعات متخصصة يدير كل منها مدرب. من خلال هذه المجموعة من الممكن، تبادل المعارف والخبرات المطلوبة، كما من السهل تبادل نماذج تحضيرية وملفات دون كثير تعقيد أو جهد. وعبر هذه الخدمة يمكن للمدرب أن يحوّل دورته التدريبية ومحاورها Modules de formation إلى موضوعات مناقشة يتم طرحها عبر تقنيتين مجانيتين على الانترنت: المدونات Blogs  أو المنتديات Forum حيث يصار إلى النقاش بطريقة غير مباشرة، وغير متزامنة، حول الموضوعات المطروحة. كما من الممكن فتح غرف دردشة Chatrooms  للتواصل "الحي" online  في الوقت ذاته، بشكل متزامن، مع إمكانية التواصل بالفيديو والصوت المباشرين. وتتوفر هذه الخدمات مجاناً على شبكة الانترنت ولا تكلف مستخدمها إلا تكلفة التواصل على الشبكة.

أما الطريقة الثانية، فهي تحتاج إلى كادر منظّم أكثر تأهيلاً، وتتطلب إنشاء موقع "بوابة تدريب" Portail de formation تسهل الوصول إلى لائحة بأسماء المدربين المتوفرين، كما تسهل الوصول إلى وحدات تدريبية مختلفة حسب الاختصاص. ويتم هذا التواصل بشكل غير مباشر عبر البريد الالكتروني مثلاً، حسب أوقات فراغ المدرب والمتدربين على السواء، أو من خلال التواصل المباشر في الوقت ذاته.

    

 "رحلة معرفية"

ربما كمرحلة أولى في لبنان، من الممكن إطلاق جيل جديد من الدورات التدريبية المهجنة Mix-Formation أو Blended formation  تجمع بين التدريب المباشر في مراكز التدريب En Présentiel وبين التدريب عن بعد Formation à distance.

وبهذه الطريقة يتواصل المدرب جزئياً بشكل حي ومباشر مع المتدربين في مركز التدريب، ليترك لهم فترة تواصل على الانترنت قد تمتد إلى أسابيع أو أشهر، ليعود بعدها إلى لقائهم في ورشة عمل تقييمية أو استنتاجية؛ وتسقط أمام هذه الآلية معوقات التوفّر حسب الدوام الرسمي، ومشكلة المسافة بين مكان السكن ومكان التدريب. ويخيّل للبعض أن هذه الطريق قد تفتقد إلى التنظيم والتخطيط. ولعل الحل والجواب يكمن في استخدام تقنية الرحلات المعرفية Webquest كنموذج تربوي فريد يجمع بين التخطيط التربوي المحكم، والاستثمار العقلاني للحاسوب والانترنت. إذ من الممكن تقسيم مجموعة المتدربين الى مجموعات صغرى، من خلال يوم تدريبي مباشر، حيث توزّع عليها ورش العمل أو الوحدات المعرفية للدورة على شكل أبحاث بعد القيام بالتمهيد اللازم. ويتمحور عمل المتدربين حول حل إشكالية محددة الأهداف يحدد فيها المدرب بالتوافق مع المجموعة، دور كل متدرب في ورشة العمل، كما يوصّف بشكل دقيق إجراءات العمل على الانترنت في سياق بحثي وتحليلي واستنتاجي، خلال مدة تنفيذ على المدى المتوسط أو الطويل. كما يقترح مجموعة من الروابط الالكترونية التي يكون قد اطلع عليها مسبقاً، كموارد يمكن للمجموعة الرجوع اليها في إنجاز عملها. في نهاية الرحلة المعرفية، تعرض المجموعة نتاجها من خلال مجموعة بريدية تجمع كل المتدربين، أو تعرض في إطار منتدى مجاني Forum ليصار إلى التعليق على كل الوحدات المنجزة من خلال الانترنت وفي مواعيد يحددها المدرب والمتدربون على السواء.

     إن طريقة "الرحلات المعرفية" مع غيرها من الابداعات التربوية الجديدة التي ترتكز على البنائية الاجتماعية في التربية Socio-constructivisme ، قد تشكل ومثيلاتها حجر الأساس في مشاريع التدريب المستمر عن بعد، تمهيداً لانجاز حلقة الكترونية متكاملة، تضع المدرب والمتدربين على موقع الكتروني عصري، يزاوج بين التربية  والتكنولوجيا، ويشكل مصدراً موثوقاً وأساسياً لكل مستجدات التربية، التي توضع بتصرف المعلم أينما كان. إن هذا التحدي ليس بالسهل، حيث تبرز قواعد الزمان والمكان الجديدة، في وجه المدرب قبل المتدرب، مما يتطلب جهداً مضاعفاً وتعاوناً لنقل المادة التربوية من "الملفات الورقية" إلى النشر الالكتروني، مع ما تتطلبه هذه النقلة من مهارات إضافية ينبغي أن يتمتع بها المدرب: إن عرض المادة التدريبية يفترض أن يسمح بوصول المتدرب السهل اليها دون كثير جهد أو مشقة.

إن التدريب المستمر عن بعد، خطوة من النضج التربوي، تدفع بالوسط التعليمي إلى مجتمع افتراضي، يتم فيه استثمار التكنولوجيا بثقة، لتُبنى، مدماك إثر مدماك، هياكل معرفية، تعزز التشارك المعرفي، وتشكل تطبيقاً فعلياً للبنائية الاجتماعية في سياق تواصلي وتعاوني. ليس هذا فحسب، بل إن التدريب عن بعد، وسيلة لتفعيل التدرب الذاتيِ Auto-Formation والتعلم الذاتي Auto-didactique، وهي سلوكيات معرفية ينبغي لكل معلم، يريد مواكبة العصر، ومعاصرة التربية في تطورها، أن يعيشها لتصبح جزءاً من شخصيته المهنية.

أن هذه التجربة فيما لو طبقت على مستوى التدريب، كفيلة وبشكل غير مباشر، أن تتوالد على أيدي المعلمين المتدربين، في غرف التدريس، ليعاد انتاج الاستراتيجيات الجديدة، مع متعلمين متشوقين ليشاهدوا لعبتهم المفضلة أي الكومبيوتر، تدخل رسمياً غرفة صفهم، بثوب معرفي جديد، يضعون لها بأنفسهم شرعة استخدام فاعلة ومتفاعلة على مسمع من المعلم المواكب، بدل أن تدخل هذه اللعبة لغة الممنوع في أحاديثهم وهمساتهم الصباحية.

العالم المعرفي يتمدد باستمرار، ونحن مازلنا عند النقاط الأولى من تردداته، ما لم نتحرك بسرعة وثبات. إننا مدعوون إلى بذل الكثير من الجهد، والى تثمير الكثير من الأفكار الجديدة والمفيدة بل والمبدعة، كي لا نتأخر عن القوافل المتجهة من حولنا نحو الآفاق الجديدة. لا تنقصنا الحكمة، ولا تعوزنا الوسائل، بل تعترينا قشعريرة الخوف من المجهول: فلنكسر جليد الخوف بالمعرفة، ولندخل فضاء الشبكات الالكترونية بشجاعة الرحالة الأوائل، فما زالت أمامنا قارات وعوالم تنتظر الاكتشاف.

التّدريب المستمرّ عن بعد: كيف نبدأ؟

التّدريب المستمرّ عن بعد : كيف نبدأ؟

 

حسام محي الدين مركز موارد زحلة لغة عربيةأتذكر، عند الحديث عن البعد والمسافات، تلك الأيام ، في بداية التسعينات من القرن العشرين، حين كنت ارتاد الجامعة اللبنانية في زحلة، طلباً للعلم والمعرفة. يومها، لم تكن حركة النقل بين أقاصي البقاع والجامعة في زحلة كما هي اليوم، إذ كنت أحجز مكاناً لي في سيارة الأجرة شبه الوحيدة في البلدة، قبل يوم أو يومين، كي أضمن الوصول إلى المحاضرة التي كنت أختارها، في الوقت المحدد: التكلفة لم تكن عادية لطالب كان لا يزال يشق طريقه في بداية حياة العمل. أتذكر يومها كيف داعبت مخليتي تلك الفكرة عن إمكانية "التعلم عن بعد" دون أن أتحمل مشقة الطريق الطويل، وظروف الوقت المتسارعة والقاهرة.

 

يومها كانت أفكاري عن "التعلم عن بعد" بدائية ومحدودة بمعرفتي المتواضعة عن التطورات التي كانت بدأت تظهر على الساحة العالمية. لم يكن الكمبيوترقد اخترق مجتمعاتنا كما هو اليوم، وأقصى أحلامي عن التعلم عن بعد كانت تنحصر في المراسلة والبريد الذي كان يشبه الحمام الزاجل مع بعض التعديلات. كنت أحلم لأهرب من الواقع، وكانت مخيلتي تضع للكمبيوتر تلك الصورة التي كنت أراها في بعض أفلام الخيال العلمي، صورة خيالية أشبه بفانوس سحري يصنع المعجزات، دون أن يكون لهذه المعجزات أية علاقة بالتعلم والتعليم. وعلى مستوى الاتصالات، لم يكن الانترنت قد وصل بعد، حيث كان التواصل يتم من خلال الهاتف العادي أو السنترالات الخاصة. وبالنسبة للهاتف الجوال، لم يكن قد دخل البلدة بعد، وما زلت أتذكر لحظة دخوله، تلك الأحاديث الطويلة عن صرعة جديدة، دعيت بالخليوي، تسمح بالتواصل مع العالم البعيد بسرعة متناهية، دون أن يخضع المتصل إلى عامل المكان وغرفة الهاتف العادي الذي كان نادراً أيضاً، في بلدات خرجت من الحرب الأهلية بحالة متدنية من الإهمال، ولكن "على قيد الحياة". كان عالم تكنولوجيا التواصل ما يزال بعيداً عن التماهي في حياتنا اليومية، في حين كانت مخيلتنا تحاكيه لسد حاجات لا تعد ولا تحصى، من الحياة اليومية إلى مستلزمات التعلم والتعليم.

   

بين التلقينية والبنائية الاجتماعية

ولم يستمر هذا الوضع طويلاً، حيث شهدت التسعينيات، المرحلة الانتقالية إلى تلك الثورة التي غيرت وجه العالم إلى غير رجعة. وقادتني الأقدام في تلك الفترة إلى دورة كومبيوتر كانت الأولى من نوعها في المنطقة، وبدأت أرى في الكمبيوتر مهمة جدية وجديدة تنحصر في طباعة صفحة أو أكثر على برنامج DOS، في وقت لم يكن Windows قد دخل بعد إلى الاستعلوحة مفاتيح للحاسوبمال الفردي بشكل مكثف. يومها انكسر جدار الجليد مع الكمبيوتر وأيقنت واقعيته، وبدأت أحلامي تتخذ مساراً جديداً عن دوره ومهامه.صحيح إن الاستخدامات الأولى للكمبيوتر على برنامج DOS، ولمستخدم عادي، لم تكن لتفتح الآفاق بشكل واسع، غير أنها كشفت الغطاء عن جهاز العصر الحديث المطيع، حيث تأمر فيستجيب، وفق لائحة تلقينية ضيقة من غير الممكن الخروج عليها. وكان السؤال الكبير الذي ظل يعترض حماسي لهذا الجهاز العجيب، هو في كيفية استثمار هذه التلقينية في إطار التعلم والتعليم في المدرسة. يومها لم تكن الإمكانية التكنولوجية المتوفرة بين يدي، تسمح بكثير أفكار وابتكارات، فالتعليم حينها في المدارس، كان يئن تحت وطأة التلقين، حيث كان المعلم يحتكر وحده حق المعرفة، لينقلها على طريقة الكمبيوتر البدائي ـ سمعاً وطاعةً ـ دون أية هوامش لمشاركة المتعلم الفاعلة والمتفاعلة. كان المتعلم أشبه بكمبيوتر يتلقى أوامر مرسومة سلفاً ليستجيب ويسترجع ما سمعه من معلمه الحكيم بكل أمور الحياة.

واليوم، أتذكر تلك الأيام وأضحك، مداعباً بأصابعي مفاتيح الحاسوب، لأحاكي معلومات العالم من حولي، من خلال شريان الانترنت، بتفاعل، بحرية، بفاعلية حيثما كنت. أرى العالم في نقطة ضوء تتحرك على شاشة صغيرة، وأتواصل بسرعة الضوء ليسقط مارد الوقت على أعتاب الشاشة المتحركة، ولينكسر حاجز المسافة بين القارات واللغات. اليوم، وأنا في التدريب المستمر، لم أعد عبداً للخيال العبثي، ولم أعد أحلم لأهرب من الواقع، بل دخلت عوالم الأحلام بقوة المعرفة لأحيله شيئاً فشيئاً إلى واقع وحقيقة: "أنا أحلم لأحقق أحلامي".

يد تحمل floppy disckفمع هذه الثورة التواصلية، ومع دخول البنائية في صلب المناهج الجديدة، بدأت تتضح شيئاً فشيئاً إمكانيات المزاوجة بين التعلم والتعليم من جهة، وبين بيئة التكنولوجيا التواصلية بما فتحته من آفاق ابتكارية. لقد ارتكزت النظرية البنائية على مبادئ "بياجيه" Piaget التي تعتبر التعلم عملية ذاتية يقوم المتعلم من خلالها بإدخال المعرفة لتصبح جزءاً منه، وذلك من خلال عمليات عقلية وعاطفية مختلفة؛ كما يقوم المتعلم على بناء المعرفة وإعادة بنائها من خلال التفاعل النشط مع الخبرة التعلمية، ومن خلال ربط العلم بالتكنولوجيا. ويتطلب هذا البناء الذاتي، توفر مصادر متنوعة للمعلومات لم تعد تنحصر بالمعرفة التي يمتلكها المعلم أو المتوفرة  في الكتاب، وذلك بغية وضع المتعلم وفق آليات العمل التعاوني، في إطار نشط، غني بالمعلومات، ينتقي من خلالها مكتسباته المعرفية لحل الاشكاليات التي توضع أمامه وفق المنهج. لقد جاء الكومبيوتر وعالمه التواصلي ليوفر هذه الحاجة، ولينقل التعلم والتعليم من التقليدية، إلى التنوع في أصول التدريس المواكب للتنوع في موارد المعرفة المفتوحة، حيث يقف المعلم كوسيط بين هذه المعرفة المفتوحة والمتعلم المتعطش لتصفح موارد معرفية بعيداً عن جدران الصف المتجلدة.

    

المعلم والمواكبة

أمام هذا الواقع المستجد، كان على المعلم أن يواكب استثمار هذه التقنية، كي يوفر للمتعلمين هذه الامكانية المدروسة لاستخدام التقانة في التعلم الهادف، من خلال التواصل والعمل التعاوني على الشبكة العنكبوتية، بدل استخدامها فقط في اللهو والترفيه: لقد نجح البعض في ذلك، فيما سقط الآخرون ضحية الخوف من المجهول ومعاداته.  لذلك، كانت الضرورة تفرض وجود جهاز دائم للتدريب، مستمر، يحمل في طياته بذور التواصل والتبادل والمواكبة، ويفتح مساحة التثاقف التربوي في بيئة كانت بأمس الحاجة إلى ذلك. غدا التدريب المستمر حقيقة في الوسط التربوي اللبناني، حقيقة تجاوز عمرها السنوات الثلاث، لترتبط بها كل آمالنا وآرائنا حول التواصل والتغيير المتبادل والارتقاء بالتربية والتعليم في لبنان، إلى مراتب أعلى مواكبة للعصرنة، وملقحة بأحدث ما توصل إليه العلم والعالم في مجالات التكنولوجيا؛ أجل التكنولوجيا في التعليم والتدريب، بل تكنولوجيا التعليم والتدريب!

ما زال التّدريب المستمرّ في خطواته الأولى يمشي حثيثاً باتجاه بناء مجتمع تربوي واقعي، يجمع كافة المعلمين من كل الأجيال الوظيفية، على مساحة من التواصل الموجّه، في موضوعات ومحاور مختارة بدقة، أملاً بإدخال كثير من الحيوية إلى غرفة الصف، بحثاً عن بيئة تربوية نشطة، وعن متعلم فاعل ومتفاعل أولاً، وعن معلم متفاعل ومنتج ثانياُ. وقد يثير البعض مسألة الجدوى من التدريب، في وقت يثقل العمر الوظيفي في مجال التعليم على كافة المعطيات الأخرى؛ والجواب بديهي للغاية: التربية كائن حي متطور بتطور الإنسان اجتماعياً، والمعلم كوسيط تربوي بين المعرفة والمتعلم، مدعو إلى المواكبة بل إلى "الحياة"، وإلا سقط بين سندان المعرفة المتنامية إلى ما لا نهاية، وبين مطرقة المتعلم الذي غدا يجد في موارد التكنولوجيا المتوفرة حالياً، مصدراً آخر للمعرفة بعيداً عن تجلد أسوار غرفة الصف، وتصلب المعلم، وسوداوية الأوراق الميتة لكتاب يحترق تحت ضغط الوقت والأساليب البدائية.

من منا كمعلمين، لم يواجه بسؤال يتجاوز حدود الكفايات، وجدران محتوى الكتاب ليقف بنا على عتبة معرفتنا، دافعاً إيانا إلى الهاوية !؟ سؤال وله إجابة في جعبة متعلم أدرك، كما نحن ندرك، أن المعرفة ليست ملكاً حصرياً لأحد، بل هي موجودة ومتوفرة، وما من شيء يمنعه من الحصول عليها؛ فلا احتكارية المعلم للمعرفة تمنع مروره، ولا إقطاعية التعليم تحرم وصوله إلى قنوات الانترنت ومشاعية التملك لأدواته ومهاراته. ألا نحتاج، معلمين، إلى المواكبة والتدريب المستمر كي لا نصبح معلمين تحت السنديانة في عصر المتعلمين في فضاء الانترنت !؟ بلى ولكن...!

    

التدريب عن بعد...

 في تجربة التدريب الأولى، غالباً ما كان يتهالك الزملاء المتدربون على عتبة الغير ممكن، وعجز التطبيق... ولكن ! ودائماً ما تواجهنا هذه العبارة، تتبعها عبارات “ضيق الوقت” و”ثقل المكان” و”عبء المسافة"... هذه المعوقات التقليدية التي تثقل رغبة المعلم بالمواكبة عبر التدريب المستمر، وتقف حائلاً بينه وبين متابعته لبعض المواضيع التي تلفت انتباهه في خطة التدريب. صحيح أننا نواجه هذه المعوقات بكثير من المقارنة والتبرير لتمتين الارادة في نفوس الزملاء المعلمين، ولرفع معدلات الصبر والتضحية في سبيل التواصل والاستزادة من العلم والمعرفة ... ولكن! أما من حل آخر...

 التدريب المستمر وجد ليكون هذه المساحة المباشرة لاستقبال المعلمين في مراكز تدريب وسطية حسب المناطق، وليمثل صلة الوصل الحيّة بين المعلمين وبين التربية المعاصرة، المتطورة، والمتغيرة باستمرار. غير أن هذا الواقع الأساسي لا يمنع من إدراج خيارات جديدة في هيكلية التدريب، لا تقضي على التدريب "الحي والمباشر"، بل تعززه وتزيد من أهميته ودوره على أرض التأهيل المهني، وفي آفاق الارتقاء نحو الاتقان في التعليم.

فكثيراً ما نواجه معلمين راغبين في الاستزادة من الدورات التدريبية، وتهمهم موضوعات أخرى غير تلك التي خضعوا لها، غير أن العوامل المذكورة تعيق تسجيلهم، وتمنع مشاركتهم الفاعلة، وتؤجل حماسهم إلى عامٍ قادم! اليس من الممكن الاستفادة من هذه الشريحة وغيرها، ممن تعوقهم وسائل المشاركة في الدورات "الحية"، بطريقة أو باخرى، تزاوج بين التدريب والتكنولوجيا؟! بلى، وكي لا تبقى الفكرة حلماً بعيدأً عن الواقع، يأتي التدريب عن بعد ليشكّل حلاً ملائماً في الامكانية والكيفية.

 

 ما هو التدريب عن بعد؟ كيف تتم آلياته؟ وماذا يحتاج من وسائل؟ وهل ينجح في لبنان؟

"التّدريب عن بعد" (Formation à distance) هو نظام تدريبي يسمح للأفراد بالتأهل المهني دون الانتقال إلى مكان التدريب ودون وجود مباشر للمدرب. "التدريب عن بعد" مختلف في آلياته عن التدريب المباشر، إذ يزاوج بين مجموع الوسائل التكنولوجية وبين الفكر البشري التأهيلي بشكل منظم، ليؤمن التعليم او التعلم لأفراد بعيدين عن مركز الموارد الفعلي. وهناك تمييز اليوم بين التدريب عن بعد و"التدريب المفتوح عن بعد" حيث يسمح للمتدرب الوصول الحرّ إلى موارد تربوية موضوعة مباشرة بتصرفه Online، دون أن يكون ملزماً بوتيرة معينة في دورة تدريبية مباشرة أو عن بعد، يتم عرضها بشكل تسلسلي.

على هذا الأساس يرتكز "التدريب عن بعد" على توفر شبكة الاتصالات الالكترونية Internet  أو Intranet وعلى تواجد الحواسيب، وعلى نظام برمجي Plate-forme de formation يجمع بين ثلاث مستخدمين رئيسيين: المدرّب، والمتدرّب ومدير النظام. كما يرتكز على توفر الامكانيات البشرية والمهارات الالكترونية الضرورية للتعاطي مع هذه الحزمة من الآليات الجديدة.

أمام هذه المتطلبات، قد يكون التأهيل المباشر Formation en présentiel أخفّ تعقيداً وأقل تشعيباً؛ ولا يعني ذلك أن التدريب عن بعد يجب أن يبقى على لائحة الانتظار ريثما يتم تأهيل مدراء نظام برمجي، ومدربين يزاوجون بين عدة اختصاصات، ومتدربين يتقنون العمل على أنطمة برمجية معقدة. بل من الممكن الاستفادة من بعض أدوات التواصل لبناء مجتمع تربوي افتراضي Communauté pédagogique virtuelle  يتبادل الخبرات التدريبية والمعارف التربوية من خلال خدمات برمجية بعيدة عن التعقيد. ولإطلاق هذه الخطوة لا بد من آليتين:

الطريقة الأولى وهي الأسهل، تبدأ بإنشاء مجموعة بريدية، بالاستفادة من الخدمات المجانية الالكترونية المجانية yahoogroups مثلاً، حيث تنشأ مجموعات متخصصة يدير كل منها مدرب. من خلال هذه المجموعة من الممكن، تبادل المعارف والخبرات المطلوبة، كما من السهل تبادل نماذج تحضيرية وملفات دون كثير تعقيد أو جهد. وعبر هذه الخدمة يمكن للمدرب أن يحوّل دورته التدريبية ومحاورها Modules de formation إلى موضوعات مناقشة يتم طرحها عبر تقنيتين مجانيتين على الانترنت: المدونات Blogs  أو المنتديات Forum حيث يصار إلى النقاش بطريقة غير مباشرة، وغير متزامنة، حول الموضوعات المطروحة. كما من الممكن فتح غرف دردشة Chatrooms  للتواصل "الحي" online  في الوقت ذاته، بشكل متزامن، مع إمكانية التواصل بالفيديو والصوت المباشرين. وتتوفر هذه الخدمات مجاناً على شبكة الانترنت ولا تكلف مستخدمها إلا تكلفة التواصل على الشبكة.

أما الطريقة الثانية، فهي تحتاج إلى كادر منظّم أكثر تأهيلاً، وتتطلب إنشاء موقع "بوابة تدريب" Portail de formation تسهل الوصول إلى لائحة بأسماء المدربين المتوفرين، كما تسهل الوصول إلى وحدات تدريبية مختلفة حسب الاختصاص. ويتم هذا التواصل بشكل غير مباشر عبر البريد الالكتروني مثلاً، حسب أوقات فراغ المدرب والمتدربين على السواء، أو من خلال التواصل المباشر في الوقت ذاته.

    

 "رحلة معرفية"

ربما كمرحلة أولى في لبنان، من الممكن إطلاق جيل جديد من الدورات التدريبية المهجنة Mix-Formation أو Blended formation  تجمع بين التدريب المباشر في مراكز التدريب En Présentiel وبين التدريب عن بعد Formation à distance.

وبهذه الطريقة يتواصل المدرب جزئياً بشكل حي ومباشر مع المتدربين في مركز التدريب، ليترك لهم فترة تواصل على الانترنت قد تمتد إلى أسابيع أو أشهر، ليعود بعدها إلى لقائهم في ورشة عمل تقييمية أو استنتاجية؛ وتسقط أمام هذه الآلية معوقات التوفّر حسب الدوام الرسمي، ومشكلة المسافة بين مكان السكن ومكان التدريب. ويخيّل للبعض أن هذه الطريق قد تفتقد إلى التنظيم والتخطيط. ولعل الحل والجواب يكمن في استخدام تقنية الرحلات المعرفية Webquest كنموذج تربوي فريد يجمع بين التخطيط التربوي المحكم، والاستثمار العقلاني للحاسوب والانترنت. إذ من الممكن تقسيم مجموعة المتدربين الى مجموعات صغرى، من خلال يوم تدريبي مباشر، حيث توزّع عليها ورش العمل أو الوحدات المعرفية للدورة على شكل أبحاث بعد القيام بالتمهيد اللازم. ويتمحور عمل المتدربين حول حل إشكالية محددة الأهداف يحدد فيها المدرب بالتوافق مع المجموعة، دور كل متدرب في ورشة العمل، كما يوصّف بشكل دقيق إجراءات العمل على الانترنت في سياق بحثي وتحليلي واستنتاجي، خلال مدة تنفيذ على المدى المتوسط أو الطويل. كما يقترح مجموعة من الروابط الالكترونية التي يكون قد اطلع عليها مسبقاً، كموارد يمكن للمجموعة الرجوع اليها في إنجاز عملها. في نهاية الرحلة المعرفية، تعرض المجموعة نتاجها من خلال مجموعة بريدية تجمع كل المتدربين، أو تعرض في إطار منتدى مجاني Forum ليصار إلى التعليق على كل الوحدات المنجزة من خلال الانترنت وفي مواعيد يحددها المدرب والمتدربون على السواء.

     إن طريقة "الرحلات المعرفية" مع غيرها من الابداعات التربوية الجديدة التي ترتكز على البنائية الاجتماعية في التربية Socio-constructivisme ، قد تشكل ومثيلاتها حجر الأساس في مشاريع التدريب المستمر عن بعد، تمهيداً لانجاز حلقة الكترونية متكاملة، تضع المدرب والمتدربين على موقع الكتروني عصري، يزاوج بين التربية  والتكنولوجيا، ويشكل مصدراً موثوقاً وأساسياً لكل مستجدات التربية، التي توضع بتصرف المعلم أينما كان. إن هذا التحدي ليس بالسهل، حيث تبرز قواعد الزمان والمكان الجديدة، في وجه المدرب قبل المتدرب، مما يتطلب جهداً مضاعفاً وتعاوناً لنقل المادة التربوية من "الملفات الورقية" إلى النشر الالكتروني، مع ما تتطلبه هذه النقلة من مهارات إضافية ينبغي أن يتمتع بها المدرب: إن عرض المادة التدريبية يفترض أن يسمح بوصول المتدرب السهل اليها دون كثير جهد أو مشقة.

إن التدريب المستمر عن بعد، خطوة من النضج التربوي، تدفع بالوسط التعليمي إلى مجتمع افتراضي، يتم فيه استثمار التكنولوجيا بثقة، لتُبنى، مدماك إثر مدماك، هياكل معرفية، تعزز التشارك المعرفي، وتشكل تطبيقاً فعلياً للبنائية الاجتماعية في سياق تواصلي وتعاوني. ليس هذا فحسب، بل إن التدريب عن بعد، وسيلة لتفعيل التدرب الذاتيِ Auto-Formation والتعلم الذاتي Auto-didactique، وهي سلوكيات معرفية ينبغي لكل معلم، يريد مواكبة العصر، ومعاصرة التربية في تطورها، أن يعيشها لتصبح جزءاً من شخصيته المهنية.

أن هذه التجربة فيما لو طبقت على مستوى التدريب، كفيلة وبشكل غير مباشر، أن تتوالد على أيدي المعلمين المتدربين، في غرف التدريس، ليعاد انتاج الاستراتيجيات الجديدة، مع متعلمين متشوقين ليشاهدوا لعبتهم المفضلة أي الكومبيوتر، تدخل رسمياً غرفة صفهم، بثوب معرفي جديد، يضعون لها بأنفسهم شرعة استخدام فاعلة ومتفاعلة على مسمع من المعلم المواكب، بدل أن تدخل هذه اللعبة لغة الممنوع في أحاديثهم وهمساتهم الصباحية.

العالم المعرفي يتمدد باستمرار، ونحن مازلنا عند النقاط الأولى من تردداته، ما لم نتحرك بسرعة وثبات. إننا مدعوون إلى بذل الكثير من الجهد، والى تثمير الكثير من الأفكار الجديدة والمفيدة بل والمبدعة، كي لا نتأخر عن القوافل المتجهة من حولنا نحو الآفاق الجديدة. لا تنقصنا الحكمة، ولا تعوزنا الوسائل، بل تعترينا قشعريرة الخوف من المجهول: فلنكسر جليد الخوف بالمعرفة، ولندخل فضاء الشبكات الالكترونية بشجاعة الرحالة الأوائل، فما زالت أمامنا قارات وعوالم تنتظر الاكتشاف.