حول أثر التّدريب المستمرّ
حول أثر التدريب المستمر
التربية حقل من حقول المعرفة يحتاج إلى تعلمه المشتغلون في هذا المجال. ويتم ذلك من خلال إعداد المعلمين.
ولأن هذا العلم تطبيقي فلا تظهر جدواه وفاعليته إلا في عملية التعليم، أي عملية توظيف المبادئ التربوية والمعارف النظرية.
وفي القرن الحادي والعشرين في عالم يزداد فيه اتساع دائرة المعارف وكذلك وسائط الحصول عليها، كما تتعمق التحولات في مناحي الحياة بأسرها يغدو تطوير العمل التربوي التعليمي أمراً ملحاً وأساسياً، ويغدو التدريب مفتاحاً للتحديث والتطوير في معظم المهن والأعمال، وقاعدة لإنماء المجتمع عبر طاقات أفراده ومهاراتهم، ومن ثمَّ تحقيق التناغم مع التحولات المعاصرة والتكيّف مع المستجدات المعرفية والتربوية والأساليب المستحدثة. وفي نهاية المطاف فإن عمليات التدريب تحدث حالة تجدد ذاتي لكل فرد عن طريق تجديد طرائق عمله ومهارات أدائه وتوسيع مداركه.
فالتدّريب المستمرّ الذي أطلقته وزارة التربية والتعليم العالي ممثلة بالمركز التربوي للبحوث والإنماء ، ترافقت خطوات إنجازه مع ثبات القناعة بأنه ذلك الحوار الدائم الذي يخلق ثقافة جديدة، ثقافة مهنية متكاملة نظرياً وتطبيقياً، لبناء رؤية مستنيرة قادرة على تغذية المتدرّب بأدوات التحوّل مفاهيمياً وعملياً، وبكفاءة التواصل مع المعرفة والإبداع.
ويمكن القول أن إستراتيجية التدريب تخطط لاختراق العمليات الفكرية الداخلية عند المتدرب، و دفع المستجد منها إلى الاندراج التلقائي في الممارسة العملية، أي في عملية التعليم.
لماذا التدريب ؟
لو سألنا أنفسنا عن الأهداف التي ارتسمت في خطة التدريب المستمر، والتي منها ننطلق لتقييم جدوى التدريب أو فاعليته في إحداث أثر تغييري أو تطويري، فبماذا نجيب؟
أولاً: تحسين طاقات المعلمين الفكرية والتفكيرية، فالمعلّم الذي يحقق مستوى فكرياً عالياً هو الأكثر قدرة على التكيّف والمرونة في ممارساته العملية.
ثانياً: تجديد المهارات العملية: انطلاقاً من أن التغير هو الثابت الوحيد في الحياة، صار التدريب ضرورة مستمرة لتطوير التجربة، ولفتح آفاق إمكانات التجدّد في الذات للوصول إلى التجديد في أساليب الأداء، والتفاعل الإيجابي مع الذات ومع الآخر ومع الأدوات والوسائل.
ثالثاً: تنمية علاقات التواصل بكل أبعادها وأشكالها، لغوياً واجتماعياً وتربوياً ومعرفياً، إذ أن التواصل هو علاقة مركبة، شديدة الأثر، ومرهونة بعمليات نفسية وسلوكية، وهي تشكل الملامح الأساسية للسلوك التعليمي – التعلّمي.
رابعاً: التدريب شكل من أشكال التعلّم المفتوح فيما يتعلق بالمعارف والمهارات التي تشتمل عليها العملية التربوية التعليمية، من تخطيط وتقييم وتصويب وتحفيز وتواصل للوصول إلى إبداع في حل المشكلات، وفي تحقيق تفاعل إيجابي مع متعلّم ناشط، وجعل المنهج أكثر نبضاً وحيوية.
ولعلّ اهتمامنا، وبعد تجربة التدريب على مدى أربع سنوات، يتجه نحو سبر انعكاسات هذا الجهد الجماعي الذي استلزمته خطة التدريب المستمر، والذي يحتاج رصده أبحاثاً وأرقاماً وتحليلاً ومتابعة مفصَّلة ومنظَّمة.
ولكنّ رصد ردود الفعل المباشرة والإصغاء إلى وجهات نظر بعض المشاركين في التدريب وعلى اختلاف المواقع وزوايا الرؤى، يمكّن الفضول المعرفي أن يستخلص بعض النتائج و ذلك من خلال السماع لبعض الملاحظات، وبعض الآراء التقييمية أو النقدية، كما من خلال المتابعة لمسار بعض الدورات، إبّان مرحلة تطبيقها وإنجازها وفي ما يليها من أشكال تواصل واتصال بالمتدربين، ويمكن صياغة هذه الآراء التقييمية لأثر التدريب المباشر وغير المباشر في عدة نقاط محددة وواضحة أبرزها:
احتكاك الخبرات وتفاعلهاا: من تأثيرات التدريب الشديدة الأهمية والتي يعبّر عنها معظم المتدربين. إن التلاقي والاحتكاك بالخبرات المتنوعة يحتاج إلى جهد لتفهم الاختلاف في الأساليب، أساليب التفكير والأداء، ومن المعروف أننا نتفاهم بسهولة مع الأشخاص الذين يشبهوننا في طريقة تفكيرهم، ونحتاج إلى مجهود أكبر للتفاهم مع المختلفين عنا، أو المغايرين في أسلوبهم.
التفاعل الشمولي لأنواع الذكاء اللغوي – المنطقي – البصري – السمعي- المكاني – الحركي: يرى المتدربون أحياناً أنهم أنجزوا الكثير ولكنهم لم يملّوا أو يتعبوا كثيراً، وما ذلك إلا لأنهم يعملون بفاعلية مع آخرين يمتلكون أشكالاً أخرى من الذكاء.فالتدريب مجال للدخول في علاقات مع الآخرين والاستفادة من مواردهم المتنوعة، ومن ثم فإنّ العدوى تنعكس على المتدرب الفرد فيضيف إلى قدرته العقلية، أو ينشّط نوعاً من الذكاء كان راكداً أو مهملاً؛ فهو في آن واحد يستخدم ذكاءه اللغوي ليعبّر ويناقش وينتقد، كما يستخدم ذكاءه المنطقي في الربط والمقارنة والاستنتاج، إضافة إلى الذكاء الحسي والحركي. ولعل هذا الأثر يستحق التركيز أكثر لأن إدراك الاختلاف هو إدراك للذات، وهذا بحد ذاته مهارة منسوجة من جدل التنوع الذي يتمازج ويتداخل للوصول إلى حد من التجانس.
تجاوز العزلة المهنية: يعبّر كثير من المتدربين عن ارتياحهم بعد المشاركة بعدة دورات، نتيجة إحساسهم بأنّ المشكلات التي يواجهونها والصعوبات التي تعترض أداءهم الهادف، ليست منفصلة أو بعيدة عما يواجهه زملاؤهم، و تالياً فإنّ التدريب يقدّم لهم مجالاً آمناً ويقظاً ومحرّضاً للحوار المهني بغية الوصول إلى حلول أو معالجة مستمدة من إجماع المجموعة، مما يعني المصداقية في تثبيت القناعة بأنّ البشر هم الذين يصنعون المعنى، وأن المعرفة تُبنى من التجربة.
التدريب ينمّي علاقة المعلّم بالمتعلّم: بعض من المتدربين ومن القيّمين على الإدارة أو التنسيق يؤكدون مدى نمو العلاقة الإيجابية داخل الصفوف، ومدى تحسن العلاقة مع المتعلمين. ولعل ذلك، كما يجيب بعض المتدربين، نتيجة إحساسهم بمزيد من الثقة بأساليبهم وبطرائق أدائهم، بينما يرى البعض أن ذلك نتيجة إدخال وسائل جديدة أو تقنيات تكشف مهارة المعلم، أو أنه نتيجة المرونة في إقامة أشكال من التواصل الإيجابي. ولعل الصواب أن تحسّن هذه العلاقة مَدينٌ للتغيّر الذي يحدث داخل فكر المعلم نفسه، ونتيجة إعادة تقييمه لذاته ولقدراته ولمهاراته، فالتجديد الذاتي يطوّر الهوية الشخصية والتربوية والمهنية. والفرد يمارس عملية التحول فعلياً حين ينتقل من حالة جمود وثبات وركود إلى حالة من النشاط والتفاعل والمراجعة الذاتية النقدية والمرونة الفكرية والعملية.
تحسين العملية التعليمية: يشهد بعض مدراء المدارس وبعض المنسقين وكثير من المتدربين الذين إلتقيناهم بفاعلية التدريب في تحسين الأداء العملي: تخطيطاً للمنهاج وللوحدات وللأنشطة، ثم تنفيذاً باستخدام وسائل جديدة وطرائق مبتكرة وتمرينات ممتعة ومجدية، وتقييماً في تحقيق نتائج أفضل مع تلاميذهم على مستوى التحصيل والاستيعاب والمشاركة والتحفيز والإنجاز ويمكن القول، وضمن هامش محدد، أنه و على مستوى الابتكار قد تحقق أيضاً بعض الإضافات.
ونحن نثق بالكثير مما يُدلي به المتدربون في تقييمهم للدورات ولتأثيرها على العملية التعليمية، لأن التدريب االناجح، هو الذي يجعل المعلم قادراً على تقييم أدائه، ومن ثمَّ تعديل سلوكه التعليمي ذاتياً، ولعلّ هذه النقطة الأخيرة هي من ضمن أهداف المستقبل القريب في مشروع التدريب المستمر، أي إنّ علينا بعد ضخ كمّي ونوعي للطرائق والوسائل والمعارف والمفاهيم، ولتطبيقاتها المتنوعة، علينا الوصول بمستوى تحسين طريقة تفكير المعلمين إلى درجة ألا نجعلهم يتمسكون بطريقة محددة ومفروضة في ممارسة عملهم، بل أن يسعوا هم بأنفسهم إلى تحديث فكرهم وأدائهم، وتدريب ذواتهم ليس فقط من خلال التركيز على الممارسات التعليمية الظاهرة، إنما التركيز أيضاً على إعادة تركيب ما يختفي خلف هذه الممارسات من أفكار تعليمية وثقافة تربوية ومواقف وقدرات.
طموحات مستقبلية :
ثمة تأثيرات مستقبلية نطمح إلى تحقيقها ألا وهي الوصول بالمعلّم إلى أن يغدو متفرداً، وإن من ضمن تجانسه مع الآخرين واتّساق فكره وعمله مع المنهج وأهدافه، كما يغدو خبيراً بكل تفاصيل العملية التعليمية، مطوّراً لذاته بذاته، منشّطاً لروح الفريق ولمبدأ العمل التعاوني، متكيفاً مع المتغيرات التكنولوجية والتقنيات المستحدثة كي يكون العنصر الأكثر دفعاً نحو تجديد للمجتمع وتدرجه في سلم الارتقاء والنَّماء، مع الإيمان بأنّ الثبات المعرفي ليس قانوناً لا في العلم ولا في الحياة. فلا بد إذن من التدريب لكسر الجمود، وإعادة تشكيل ذواتنا أي مفاهيمنا وآرائنا، وتحريرها من جفاف التكرار الممل وغير المجدي، كما لا بدّ من تَبنّي الفكر القائل بأنّ كلّ شيء يؤثّر في كل شيء آخر، لأنّ كلّ شيء يتفاعل مع كل شيء آخر، فالعالم الذي نعيش فيه عالم علاقات تحرّض الروح الاستفسارية وتدفعها لمغامرة المعرفة والصراع مع التحديات.
ولعلنا في التدريب المستمر نؤمن بأن أفضل طريقة لبناء المستقبل هي أن نبتكره؛ و سرّ ابتكار مستقبلنا كامن في التربية، في المدرسة، في المعلم الكفؤ وفي المؤسسات الموكل إليها أمر تحديث التعليم وتطويره أو أمر إعداد المعلّم وتدريبه.