مقال مجد لبنان وأمومة العربية
ها هي أجراس النهضة وأعراسها تعود من جديد، على إيقاع أُوَيْقات الوفاء، وفي مقام الحناجر والصناجات، والأقلام السيوف، وشلالات الوطنية.
وها هوذا، في أفق هذه الذكرى، ذلك الذي أيقظ فينا طبائع التحليق، وأزمنة الشجاعة والأصالة والعصيان.. سمّهِ، إن شئت، نسرًا من نسور المحيدثة، ومتن لبنان، ومجد لبنان. أو استعر منه وسمّهِ "يراعةٌ كم نَفَتْ عن مخطئ زللا..." أو، مستعيرًا منه أيضًا، لسانًا من ألسنة العرب:
قال لي: أنت لسان العرب
في مراميهم إلى أشرف سنّه
شرف عالٍ وعز مختبي
بين أعماد المواضي والأسنّة
وإذا أعوزت إلى مزيد من البيان والعنفوان، فاختر الأسهل والأجمل، وسمّهِ الشيخ ابراهيم المنذر.
كان لهذا الاسم وقعٌ رنان في عهد اليفاعة، وفي المطيّب والمذهب من أيام المواهب والمناقب، واجتمع لي من أسباب الموّدات ما لم يحل دونه انتماؤنا إلى جيلين متباعدين.
أول الموّدات إرث غال تحدّرَ عن والدي عبد لله غانم، إذ كانا على زمالة في الصحافة والشعر والتربية والخطابة، والتعلّقُ بالعربية كنزًا مرمريًا ولسانًا مبينًا وانتماء قوميًا وخزائن أدبية: فها هو المنذر يقول:
يا فتى لبنان غص فيها على درر من أدب يغنيك جم
وهي نور العلم والعرفان والفن والوحي السماوي، هي أمي!
وعبد لله يقول:
تبارك الأدب، يا أيها العرب، من صلة بها، توحد النسب، والشاسع اقترب.
وكانا إلى ذلك، على صداقة، بالرغم من العقدين اللذين باعدا بينهما زمنيًا، وقد روى لي أخي الشاعر جورج، أن الوالد قرأ على الشيخ مخطوطة "فوق الضباب"، فنالت منه إعجابًا لم يخلُ من مسامرات لغوية. وعندما وصل إليّ كتاب "أحاديث نائب"، خالجتني الغبطة عندما طالعتني إحدى صفحاته بصورة غلاف ديوان "العندليب" الذي أهداه الوالد مصحوبًا بهذا الإهداء:"إلى أستاذي الكبير العلاّمَة الشيخ ابراهيم المنذر".
وإذا كان والدي، وهو من هو في ميدان الشعر والبيان، يرى في العلاّمَة المنذر أستاذه الكبير، فيطيب لي أن أثني، وأزيد، وأنحني أمام صفحة حبيبة تعانقت فيها روح علمين، وأبوين نهضويين...
وثانيهما أنني كلما جلت في المتن صعودًا من شاطئه المتوسطي حتى صروده الصنينية. والصرود لا الجرود هي المصطلح المؤاتي على ما جاء في "عثرات الأقلام..." للمنذر، لأنها الأمكنة المرتفعة من الجبال في حين أن الجرود، هي الأراضي القاحلة. كلما قطعت هذه المسافة أمرُّ في المحيدثة الواقعة في وسط الطريق وفي وسط حبات القلب، وأرفع الرأس آن تخطر في البال قامات أطلقتها إلى الملأ في الشعر والفكر والسياسة والمناقب العليا.
وثالثها أنني ماض في الانحياز إلى رجال النهضة، نجوم النصف الأول من القرن العشرين. وبودّي أن أستعيد، في المقام المؤاتي، بعض ما قالته فيهم:
أنسيتم جنة كانوا فيها محتشدين:
المفكرون يعقدون المواثيق مع الأرض الجديدة.
الأدباء شرفات على العالم.
الشعراء يا لسكنى الريشة في مواطنَ غزلتها ساحرة تختبئ في قاع اللغة.
اللغويون يكشفون عن الذهب القديم ويصنعون منه حلى عصرية.
القانونيون فقهاء مجتهدون.
الخطباء جهارات أصوات تعلن ولادة الخطابة السياسية والخطابة القضائية في هذه الديار.
الصدور موسوعات، الأقلام مشاعل، الأفكار أنهار، السرائر صافيات، البصائر نافذات... رجال النهضة هؤلاء يا لأوراقهم وأحلامهم... لو كنا لا نزال نقرأ فيها لما كانت الغرائز، والحرائق، والطوطميات، والجاهليات الجديدة...
أستعيد هذه اللوحة لأنها تعكس، في الجم من خطوطها وألوانها، صورة المنذر العملاق. ولكنني مكتفٍ بالالتفات إلى واحدة متقدّمِة من مزاياه، إنها الروح الوطنية التي تغذّتَ من أركان أربعة هي الأرض، واللغة، والدعوة إلى قضاء وطني.
عن الأرض، يلفتنا أنها، في معتقده، الحصن الحصين ومنابت المجد، والمنارة والعزيزة ولو جارت:
"بلادي ولو جارت عليّ عزيزة
وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام"
يقول أحد الشعراء،
والمنذر يقول:
"وتذكَّروا مجد الجدود فأرضنا
مهد العلوم ومربض الآساد،
مهما يجرِ وطني عليّ وأهله
فالأرض أرضي والبلاد بلادي."
لا نثبت هذين القولين لمقابلة أو للدلالة على محاكاة، بل للتأكيد على أن الأرض هي ساحة الوطن ومرآة التاريخ ومسرح الروح، فهي إذًا ركن من أركان الوطنية.
وعن القضاء كان هذا القاضي عندما انتُخِبَ نائبًا رغم إرادة الأجنبي ينظر إلى مرفق العدالة من زاوية الغيرة الوطنية أيضًا، متصديًا لإذابة القضاء اللبناني بالقضاء الأجنبي، ولقتل اللغة العربية في المرافعات، ولأي امتهان يصيب أبناء هذه الأرض في تقاليدهم وثقافتهم وخصوصية محاكمهم.
وبعد
خذ بيدنا يا مقيل عثرات الأقلام، ويا داعيًا إلى بناء الوطن على صخر صوَّاني لا على أوهام ورمال.
خذ بيدنا وأعدنا إلى زمن الأصالات. وإذا غضضت الطرف، برحابَة منك وكِبر، عن شوائب وعثرات عارضة أصابت جسد اللغة وجسد الوطن، فأخالك لا تزال تقول: إياكم العَقوق والتنكُّر لهما... إن شِفار قلَمي لا تزالُ مسنونةً ومرفوعة!
رئيس مجلس القضاء الأعلى
القاضي غالب غانم
نبذة عن حياة الرئيس الأول
القاضي غالب غانم
د. غالب غانم مرجع قانوني، وكاتب وباحث ومفكّر، وأديب، وخطيب تصَّدر أبرز المنابر الفكرية والأدبية.
ولد عام 1943 وهو سليل عائلة ادبية وعلمية قدمت للنهضة والحداثة بعض اعلامهما. والده الشاعر والأديب والصحافي عبد لله غانم، زميل الشيخ ابراهيم المنذر في الصحافة والتربية والخطابة. أشقاؤه الشاعر جورج، والشاعر والصحافي روبير، والمحامي الاديب رفيق.
درس في مدرسة الفرير (دي لاسال) في بلدته بسكنتا، وفي مدرسة الحكمة في بيروت، وفي الجامعة اللبنانية، والجامعة اليسوعيّة، وجامعة السوربون في باريس. وحصّل إجازات جامعية عديدة: كالإجازة في الحقوق، والإجازة في الأدب العربي، ودبلوم الدراسات العليا ودبلوم الدراسات المعمقة والدكتوراه في الأدب العربي، ودبلوم الدراسات العليا في القانون وشهادة معهد الدروس القضائية (طليع الدورة) وشهادة في القانون المقارن.
كان لبيئته العلمية، ولجهده الشخصي، أثر بارز جعله يحصّل دروسه متبوّئِا في أحيان كثيرة مركز الصدارة.
من مؤلفاته:
1- في القانون:
- "قوانين التنفيذ في لبنان": أربعة اجزاء، بمشاركة القاضي غبريال سرياني (عضو المجلس الدستوري في لبنان).
- "القوانين والنظم عبر التاريخ".
- "من خزائن الاجتهاد" (في القانون التجاري): (مجموعة قرارات صادرة عن محكمة بداية بيروت التجارية التي كان رئيساً لها، مع فهرسة وتحليل).
- "من خزائن الاجتهاد" (في القضاء المستعجل): مجموعة قرارات صادرة في قضايا الأمور المستعجلة والتنفيذ عن محكمة استئناف جبل لبنان التي كان رئيسًا لها، مع فهرسة وتحليل).
- "في مدار القانون". (خمس عشرة محاضرة في مواضيع قانونيّة متفرّقة).
- حكم القانون، باللغات الثلاث: العربية والفرنسية والإنكليزية .
- Les fondements juridiques, financiers, fiscaux et comptables de la T.V.A.
بالفرنسية جزءان، بمشاركة القاضي رزق لله فريفر.
2- في الأدب القضائي:
- "من ايام القضاء، وجوه وكلمات"
3- في الادب:
- "شِعر اللبنانيين" باللغة الفرنسية، كتاب تأسيسي في هذا المجال ذَكَرته موسوعة لاروس الفرنسية في المقال الخاص بلبنان (منشورات الجامعة اللبنانية).
- "من الشائع الى الاصيل"، كتاب في الفكر النقدي الادبي، نال جائزة أدبية .
- "شِعر عبد لله غانم" دراسة في البنية والمحاور، منشورات الجامعة اللبنانية عام 1995.
- أبعَد من المنبر (جزءان): محاضرات، مقدّمَات، ومشاركات في الادب، وفيه يتجلى نهجه الخاص في الكتابة، وفي الخطاب الادبي، فكرًا وثقافة، وأسلوبا ادبيًاً مشرقًا .