إعداد المعلمين بين كلية التربية والمركز التربوي: معطيات وتساؤلات

فيصل طالب مفتش تربوي

الجدل القائم بين المرجعيات المختصة حول إعداد المعلمين في لبنان لم يعد دائراً فقط في غرف الاجتماعات واللقاءات ذات الطابع التربوي، سواء أكان ذلك على مستوى المعنيين بالموضوع في كلٍ من كلية التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، أم في حلقة النقاش التي افتتحتها اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة التربية النيابية في معرض مناقشة التقرير السنوي للتفتيش التربوي عن العام ٢٠٠٣ ، أم في نطاق سائر الإدارات الرسمية المعنية بهذا الأمر، كالمديرية العامة للتربية والمفتشية العامة التربوية في التفتيش المركزي، بل انتقلت مفاعيل هذا الجدل إلى صفحات الصحف، عرضاً وتحليلاً وانتصاراً لرأيٍ على آخر.

يهمنا في هذا السبيل أن نعرض لهذا الموضوع انطلاقاً من المعطيات والتساؤلات التالية:

  1. أنشئت دور المعلمين والمعلمات في العام ١٩٥٣ ، وكانت تتبع مصلحة إعداد المعلمين في "وزارة التربية والفنون الجميلة"، حتى تاريخ إنشاء المركز التربوي للبحوث والإنماء في العام ١٩٧٢ (مؤسسة عامة)، الذي صار مسؤولاً عن إعداد المعلمين لمرحلة التعليم الأساسي (بحسب التسمية المحددة في هيكلية التعليم الجديدة)، وتدرجت شروط قبول الطلاب من حيازة "الشهادة الابتدائية العالية" إلى إنهاء السنة الجامعية الأولى بنجاح، في دور المعلمين والمعلمات الابتدائية، والسنتين الأولى والثانية الجامعيتين، في دور المعلمين والمعلمات المتوسطة، على قاعدة الإعداد لمدة ثلاث سنوات بعد الابتدائية العالية، وسنةٍ واحدة بعد البكالوريا - القسم الثاني، وسنتين لاختصاص الرياضة والفنون، في دور المعلمين الابتدائية، وسنة واحدة في دور المعلمين المتوسطة. كما تغيرت تسمية الشهادة التي تمنحها الدور الابتدائية من الشهادة التعليمية الأولى (الابتدائية)، إلى شهادة البكالوريا التعليمية، إلى دبلوم دار المعلمين والمعلمات الابتدائية - إختصاص ...، والشهادة التي تمنحها الدور المتوسطة، من الشهادة التعليمية الثانية إلى دبلوم دار المعلمين والمعلمات المتوسطة - اختصاص ...
  2. تخرَّج في هذه الدور، منذ تاريخ إنشاء المركز التربوي وحتى العام ٢٠٠٢، 12121 معلماً ابتدائياً ومتوسطاً في الاختصاص العام واللغتين الفرنسية والإنكليزية والروضة والفنون والرياضة والعلوم والرياضيات(1)، أي ما يوازي تقريباً عدد المعلمين المتعاقدين في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية (13746 معلماً) بحسب إحصاءات العام 2003(2)
  3. توسع عدد الدور خلال السنوات الماضية ليصل إلى ٣٤ داراً، جرى تخصيص ست منها لتطبيق مشروع التدريب المستمر الذي بدأ العمل به خلال شهر شباط ٢٠٠٥ ؛ الأمر الذي جعل الدور الأخرى دون أية مهام أساسية، على قاعدة ما آلت إليه الأمور بعد صدور القانون 344/2001، الذي حظّرَ في مادته الخامسة الدخول إلى سلك التعليم إلا لحملةالإجازات وما فوق؛ وهو ما فسّر بأن مهمةإعداد المعلمين أصبحت على عاتق كلية التربية في الجامعة اللبنانية حصراً. هذا فضلاً عن الهدر الحاصل في  النطاقين البشري والمالي جراء توقف هذه الدور عن الاضطلاع بمهامها الأساسية في إعداد المعلمين وتأهيلهم (مئات الموظفين ومئات ملايين الليرات بدلات إيجار).
  4. لم يسبق أن سجل أي مسؤول تربوي، إن في نطاق الإدارة التسلسلية أو في إطار الرقابة المركزية، أن المتخرجين في دور المعلمين والمعلمات بصورةٍ عامة، لم يكونوا على قدر الآمال المعقودة عليهم، سواء على مستوى إعدادهم، أم في أثناء ممارستهم لأعمالهم الفعلية في المدارس التي ألحقوا بها؛ بل يمكن القول إن كثيراً من المدارس التي عرفت الترهل والتراجع عادت إليها الحياة ودفق في جسمها روح جديدة، بوساطة هؤلاء المعلمين المتخرجين. لقد كانوا الأعمدة التي قامت عليها المدرسة الرسمية في فترة ما قبل الحرب وفي مرحلة النهوض من الكبوة.
  5. لا يختلف اثنان على أهمية إعداد أفراد الهيئة التعليمية حتى في مرحلتي الروضة والتعليم الابتدائي تحت سقف المستوى المعرفي العالي (الإجازة وما فوق). ولكن هذا الطموح التربوي ليس منعزلاً عن إدراك القيمة الأساسية لمهمة التربية في معرفة واقع الحياة وهموم المجتمع، بعيداً عن تمثّلُ الأفكار المجردة، وبمعنى آخر قبول المجتمع وفهمه من أجل تطويره، أي أن المصلحة التربوية العليا غير مفصولة عن حركة المجتمع المتنامية والقائمة على أن أي إنجازٍ تربوي هو في واقع الحال إنجاز اجتماعي واقتصادي ووطني، والعكس صحيح ايضاً. من هنا يمكن القول إن اشتراط الإجازة الجامعية وما يليها من إعدادٍ تربوي لدخول سلك التعليم يشكل، في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وعدم توافر فرص العمل للشباب وخصوصاً في مستويات التحصيل العالي، تأخيراً في الانخراط المبكر للأجيال الجديدة في سوق العمل؛ الأمر الذي يزيد من تفاقم الأزمات الاجتماعية، من دون أن يكون ثمة بيّنِة على أن معلمة مرحلة الروضة مثلاً فشلت في أداء رسالتها استناداً إلى مستوى إعدادها في دار المعلمين.
  6. إن وجود دور المعلمين في المناطق قد تم النظر إليه باعتباره يشكل مراكز إشعاع تربوي وثقافي في محيطه، ومنطلقاً لحركيةٍ اجتماعية واقتصادية تتوافر لها الدينامية المطلوبة لجعل التنمية بأبعادها المختلفة تبدو أمراً واقعاً، بحيث لا يكون التموضع التربوي في بيئةٍ معينة، بتجلياته كافة (مدرسة، معلمون، ...) عارضاً أو طارئاً، بل مستقراً ومنتمياً وسبباً في تحريك عجلة الحياة في الاتجاهات التي تفضي إلى التقدم والتطور.
  7. من غير الجائز القول "إن أسس إعداد المعلمين لا يمكن أن يضطلع به إلا أساتذة ذوو اختصاصٍ عالٍ ومن حملة الدكتوراه، إذ إنه من الصعب على أساتذة دون المستوى توجيه المعلمين ناحية التفكير بمهنة التعليم ليس كتقنيات وأساليب، وإنما بوصفها وظيفة اجتماعية ذات أبعاد إنسانية وتربوية"(3). ذلك لأنه من غير المستحب وصف التربويين من غير حملة الدكتوراه بأنهم "دون المستوى". ومن المفيد الإشارة في هذا المجال إلى أن بعض السلبيات التي ظهرت من جراء تدريب المعلمين على المناهج الجديدة لم تُنسب فقط إلى مدربين من غير حملة الدكتوراه!
  8. إن تطبيق المادة الخامسة من القانون 344/2001، لجهة اعتبار كلية التربية مسؤولة عن اعداد المعلمين يطرح جملة من الأسئلة التي تدور حول: - مدى قدرة كلية التربية ببنيتها الحالية على توفير الموارد البشرية والمادية المناسبة لإعداد معلمين لمدارس لبنان بصورةٍ أفقية (لجميع المراحل) وبصورةٍ عمودية (لجميع الاختصاصات). - الصعوبات اللوجستية المتعلقة بانتقال الطلاب من مختلف أنحاء البلاد إلى مركزي الكلية في العاصمة وضواحيها، وبالعكس، وبتوفير مراكز التدريب الميداني ... وفي حال اللجوء إلى تفريع الكلية فإن الاتجاه سيكون بعكس السير، فضلاً عما يطرحه هذا الأمر من كلفةٍ باهظة لجهة تأمين الأبنية ومستلزماتها، وتوفير الكادرات التعليمية المناسبة.
  9. إن القول "بأن تراجع مستوى التعليم في لبنان مرضه الأساس مراحل الحضانة والابتدائي والمتوسط أو الأساسية. ومرد ذلك هو وضع الجهاز التعليمي الذي لا يملك المؤهلات الجامعية"(4)، هو قول ليس في محله على الإطلاق، لأن من التبسيط بمكان حصر اسباب هذا التراجع بالمعلم تحديداً، وبالمعلم غير المجاز بوجهٍ أدق؛ إذ إن القاصي والداني يعلم أن الأسباب تكمن في ضغوط الحرب وتراكماتها، وغياب سلطة القانون في أثنائها، وعدم تحديث الأنظمة المدرسية وأوضاع الأبنية والتجهيزات والوسائل التربوية، وبقاء مناهج تعليمية قديمة قيد التداول مدة ثلاثين سنة دون أي تعديل او تبديل، في ظل المتغيرات الضخمة التي تطرأ على عالمنا كل يوم، وتوقف دورات التأهيل والتدريب للمعلمين، وكذلك عمليات إعدادهم بصورةٍ منتظمة في ضوء الحاجات المستجدة في كل عامٍ دراسي؛ الأمر الذي كان يدفع باستمرار للاستعانة بمتعاقدين دون إعدادهم مسبقاً، وبخاصة في معرض تطبيق المناهج الجديدة التي تستلزم ثقافة تربوية وفنية تأتلف ومضمون هذه المناهج وتوجهاتها وأهدافها ٠ إن اللجوء إلى التعاقد بدا على مدى السنوات الطويلة الماضية أهون الحلول وليس أنجعها؛ إذ إن الحلول الحقيقية لمشكلة توفير المعلمين الأكفاء تكمن في أن تختط الدولة المسارات الطبيعية لإعداد المعلمين بصورة دورية ووفقاً للحاجات المبنية على الدراسات والاحصاءات، كما كانت عليه الحال قبل الحرب، حيث لم تكن مسألة التعاقد مطروحةً كمشكلة أساسية، على الرغم من أن دور المعلمين لم يكن يتجاوز عددها الست فقط. أما وأن عدد المتعاقدين قد بلغ ثلث أفراد الهيئة التعليمية في لبنان، فإن هذا الأمر يؤشر على الخطأ الكبير الذي وقع على المؤسسات التعليمية لجهة عدم تمكين المراجع المختصة من أداء دورها في إعداد المعلمين المختصين.
  10. إن تطبيق القانون 344/2001، لجهة عدم جواز الدخول إلى ملاك التعليم إلا لحملة الإجازات الجامعية وما فوق، إذا ماجرى تجاوز الظروف والمعطيات التي تعيق تحقيق أهدافه وبخاصة بالنسبة إلى أبناء المناطق النائية ومدارسها، لا يتعارض وإمكانية قيام دور المعلمين بمهمة الإعداد، على اساس أن الشهادة التي تمنحها للمتخرجين فيها هي دبلوم ممارسة التعليم التي لا تعادل أي شهادة أخرى وفقاً للقوانين والأنظمة، وهي ليست بالتالي شهادةً جامعية؛ وإلا فما هي المبررات القانونية والتعليمية التي سمحت للدور بإعداد معلمين للتعليم الابتدائي والمتوسط، إذا كان هذا الإعداد الذي يتم على قاعدة الشهادة الثانوية العامة يعني الدراسة الجامعية بالمعنى الأكاديمي للكلمة والتي تنتهي عادةً بشهادة جامعية؟ ولأن الأمر غير ذلك فإن القول بدورٍ جامعي تطمح إليه دور المعلمين "لا علاقة لها به لا من قريبٍ ولا من بعيد"(5)، هو قول في غير محله لسببين: -١- تجربة دور المعلمين المتوسطة في الفصل بين ماهو جامعي أكاديمي وفني تربوي، حيث تكفلت الجامعة اللبنانية بالجانب الأول والمركز التربوي بالجانب الثاني، من خلال المشاريع المشتركة التي قامت بين الجانبين في هذا السبيل. -٢- اعتبار كل إعداد تربوي على أساس الإجازة وما فوق هو دراسة جامعية لا يجوز لغير مؤسسة الجامعة أن تتولاها، يؤدي حكماً إلى الاعتبار نفسه بالنسبة إلى الإعداد على أساس الشهادة الثانوية العامة، لأن كل دراسة بعد هذه الشهادة، استناداً إلى هذا المعيار، هي دراسة جامعية. فهل كانت دور المعلمين إذاً تقوم، وعلى مدى سنواتٍ طويلة، بدورٍ جامعي من دون أن يعترض عليه أحد؟!

١١ - إن التاريخ التربوي للبلد يسجل بفخرٍ واعتزاز الدور الريادي لكلية التربية في رفد الجسم التعليمي بخيرة أعضائه العاملين في التعليم الثانوي الرسمي، وفي توفير بعض الاختصاصات التي استفاد منها أحياناً التعليم الخاص. إن مسيرة كلية التربية في هذا الصدد جعلت منها خزاناً ومعيناً للكفاءات التربوية بفعل ما تجمع لديها، على مر السنين، من خبراتٍ نوعية وقدراتٍ عالية.


إن المشكلات التربوية لم تكن يوماً في كلية التربية أو في المركز التربوي للبحوث والإنماء. ويوم كانت هاتان المؤسستان تؤديان دورهما، بالانفراد أو بالشراكة، كانت الحياة التربوية أكثر غنى وحيوية وتجدداً.
 

هوامش:
١- إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء.
٢- التقرير السنوي للمفتشية العامة التربوية عن العام ٢٠٠٣
٣- "محاولة من المركز التربوي لتعديل المادة الخامسة من القانون ٣٤٤ ، جريدة  السفير، 8/2/2005، صز 9
٤- المصدر نفسه.
٥- المصدر نفسه

إعداد المعلمين بين كلية التربية والمركز التربوي: معطيات وتساؤلات

فيصل طالب مفتش تربوي

الجدل القائم بين المرجعيات المختصة حول إعداد المعلمين في لبنان لم يعد دائراً فقط في غرف الاجتماعات واللقاءات ذات الطابع التربوي، سواء أكان ذلك على مستوى المعنيين بالموضوع في كلٍ من كلية التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، أم في حلقة النقاش التي افتتحتها اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة التربية النيابية في معرض مناقشة التقرير السنوي للتفتيش التربوي عن العام ٢٠٠٣ ، أم في نطاق سائر الإدارات الرسمية المعنية بهذا الأمر، كالمديرية العامة للتربية والمفتشية العامة التربوية في التفتيش المركزي، بل انتقلت مفاعيل هذا الجدل إلى صفحات الصحف، عرضاً وتحليلاً وانتصاراً لرأيٍ على آخر.

يهمنا في هذا السبيل أن نعرض لهذا الموضوع انطلاقاً من المعطيات والتساؤلات التالية:

  1. أنشئت دور المعلمين والمعلمات في العام ١٩٥٣ ، وكانت تتبع مصلحة إعداد المعلمين في "وزارة التربية والفنون الجميلة"، حتى تاريخ إنشاء المركز التربوي للبحوث والإنماء في العام ١٩٧٢ (مؤسسة عامة)، الذي صار مسؤولاً عن إعداد المعلمين لمرحلة التعليم الأساسي (بحسب التسمية المحددة في هيكلية التعليم الجديدة)، وتدرجت شروط قبول الطلاب من حيازة "الشهادة الابتدائية العالية" إلى إنهاء السنة الجامعية الأولى بنجاح، في دور المعلمين والمعلمات الابتدائية، والسنتين الأولى والثانية الجامعيتين، في دور المعلمين والمعلمات المتوسطة، على قاعدة الإعداد لمدة ثلاث سنوات بعد الابتدائية العالية، وسنةٍ واحدة بعد البكالوريا - القسم الثاني، وسنتين لاختصاص الرياضة والفنون، في دور المعلمين الابتدائية، وسنة واحدة في دور المعلمين المتوسطة. كما تغيرت تسمية الشهادة التي تمنحها الدور الابتدائية من الشهادة التعليمية الأولى (الابتدائية)، إلى شهادة البكالوريا التعليمية، إلى دبلوم دار المعلمين والمعلمات الابتدائية - إختصاص ...، والشهادة التي تمنحها الدور المتوسطة، من الشهادة التعليمية الثانية إلى دبلوم دار المعلمين والمعلمات المتوسطة - اختصاص ...
  2. تخرَّج في هذه الدور، منذ تاريخ إنشاء المركز التربوي وحتى العام ٢٠٠٢، 12121 معلماً ابتدائياً ومتوسطاً في الاختصاص العام واللغتين الفرنسية والإنكليزية والروضة والفنون والرياضة والعلوم والرياضيات(1)، أي ما يوازي تقريباً عدد المعلمين المتعاقدين في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية (13746 معلماً) بحسب إحصاءات العام 2003(2)
  3. توسع عدد الدور خلال السنوات الماضية ليصل إلى ٣٤ داراً، جرى تخصيص ست منها لتطبيق مشروع التدريب المستمر الذي بدأ العمل به خلال شهر شباط ٢٠٠٥ ؛ الأمر الذي جعل الدور الأخرى دون أية مهام أساسية، على قاعدة ما آلت إليه الأمور بعد صدور القانون 344/2001، الذي حظّرَ في مادته الخامسة الدخول إلى سلك التعليم إلا لحملةالإجازات وما فوق؛ وهو ما فسّر بأن مهمةإعداد المعلمين أصبحت على عاتق كلية التربية في الجامعة اللبنانية حصراً. هذا فضلاً عن الهدر الحاصل في  النطاقين البشري والمالي جراء توقف هذه الدور عن الاضطلاع بمهامها الأساسية في إعداد المعلمين وتأهيلهم (مئات الموظفين ومئات ملايين الليرات بدلات إيجار).
  4. لم يسبق أن سجل أي مسؤول تربوي، إن في نطاق الإدارة التسلسلية أو في إطار الرقابة المركزية، أن المتخرجين في دور المعلمين والمعلمات بصورةٍ عامة، لم يكونوا على قدر الآمال المعقودة عليهم، سواء على مستوى إعدادهم، أم في أثناء ممارستهم لأعمالهم الفعلية في المدارس التي ألحقوا بها؛ بل يمكن القول إن كثيراً من المدارس التي عرفت الترهل والتراجع عادت إليها الحياة ودفق في جسمها روح جديدة، بوساطة هؤلاء المعلمين المتخرجين. لقد كانوا الأعمدة التي قامت عليها المدرسة الرسمية في فترة ما قبل الحرب وفي مرحلة النهوض من الكبوة.
  5. لا يختلف اثنان على أهمية إعداد أفراد الهيئة التعليمية حتى في مرحلتي الروضة والتعليم الابتدائي تحت سقف المستوى المعرفي العالي (الإجازة وما فوق). ولكن هذا الطموح التربوي ليس منعزلاً عن إدراك القيمة الأساسية لمهمة التربية في معرفة واقع الحياة وهموم المجتمع، بعيداً عن تمثّلُ الأفكار المجردة، وبمعنى آخر قبول المجتمع وفهمه من أجل تطويره، أي أن المصلحة التربوية العليا غير مفصولة عن حركة المجتمع المتنامية والقائمة على أن أي إنجازٍ تربوي هو في واقع الحال إنجاز اجتماعي واقتصادي ووطني، والعكس صحيح ايضاً. من هنا يمكن القول إن اشتراط الإجازة الجامعية وما يليها من إعدادٍ تربوي لدخول سلك التعليم يشكل، في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وعدم توافر فرص العمل للشباب وخصوصاً في مستويات التحصيل العالي، تأخيراً في الانخراط المبكر للأجيال الجديدة في سوق العمل؛ الأمر الذي يزيد من تفاقم الأزمات الاجتماعية، من دون أن يكون ثمة بيّنِة على أن معلمة مرحلة الروضة مثلاً فشلت في أداء رسالتها استناداً إلى مستوى إعدادها في دار المعلمين.
  6. إن وجود دور المعلمين في المناطق قد تم النظر إليه باعتباره يشكل مراكز إشعاع تربوي وثقافي في محيطه، ومنطلقاً لحركيةٍ اجتماعية واقتصادية تتوافر لها الدينامية المطلوبة لجعل التنمية بأبعادها المختلفة تبدو أمراً واقعاً، بحيث لا يكون التموضع التربوي في بيئةٍ معينة، بتجلياته كافة (مدرسة، معلمون، ...) عارضاً أو طارئاً، بل مستقراً ومنتمياً وسبباً في تحريك عجلة الحياة في الاتجاهات التي تفضي إلى التقدم والتطور.
  7. من غير الجائز القول "إن أسس إعداد المعلمين لا يمكن أن يضطلع به إلا أساتذة ذوو اختصاصٍ عالٍ ومن حملة الدكتوراه، إذ إنه من الصعب على أساتذة دون المستوى توجيه المعلمين ناحية التفكير بمهنة التعليم ليس كتقنيات وأساليب، وإنما بوصفها وظيفة اجتماعية ذات أبعاد إنسانية وتربوية"(3). ذلك لأنه من غير المستحب وصف التربويين من غير حملة الدكتوراه بأنهم "دون المستوى". ومن المفيد الإشارة في هذا المجال إلى أن بعض السلبيات التي ظهرت من جراء تدريب المعلمين على المناهج الجديدة لم تُنسب فقط إلى مدربين من غير حملة الدكتوراه!
  8. إن تطبيق المادة الخامسة من القانون 344/2001، لجهة اعتبار كلية التربية مسؤولة عن اعداد المعلمين يطرح جملة من الأسئلة التي تدور حول: - مدى قدرة كلية التربية ببنيتها الحالية على توفير الموارد البشرية والمادية المناسبة لإعداد معلمين لمدارس لبنان بصورةٍ أفقية (لجميع المراحل) وبصورةٍ عمودية (لجميع الاختصاصات). - الصعوبات اللوجستية المتعلقة بانتقال الطلاب من مختلف أنحاء البلاد إلى مركزي الكلية في العاصمة وضواحيها، وبالعكس، وبتوفير مراكز التدريب الميداني ... وفي حال اللجوء إلى تفريع الكلية فإن الاتجاه سيكون بعكس السير، فضلاً عما يطرحه هذا الأمر من كلفةٍ باهظة لجهة تأمين الأبنية ومستلزماتها، وتوفير الكادرات التعليمية المناسبة.
  9. إن القول "بأن تراجع مستوى التعليم في لبنان مرضه الأساس مراحل الحضانة والابتدائي والمتوسط أو الأساسية. ومرد ذلك هو وضع الجهاز التعليمي الذي لا يملك المؤهلات الجامعية"(4)، هو قول ليس في محله على الإطلاق، لأن من التبسيط بمكان حصر اسباب هذا التراجع بالمعلم تحديداً، وبالمعلم غير المجاز بوجهٍ أدق؛ إذ إن القاصي والداني يعلم أن الأسباب تكمن في ضغوط الحرب وتراكماتها، وغياب سلطة القانون في أثنائها، وعدم تحديث الأنظمة المدرسية وأوضاع الأبنية والتجهيزات والوسائل التربوية، وبقاء مناهج تعليمية قديمة قيد التداول مدة ثلاثين سنة دون أي تعديل او تبديل، في ظل المتغيرات الضخمة التي تطرأ على عالمنا كل يوم، وتوقف دورات التأهيل والتدريب للمعلمين، وكذلك عمليات إعدادهم بصورةٍ منتظمة في ضوء الحاجات المستجدة في كل عامٍ دراسي؛ الأمر الذي كان يدفع باستمرار للاستعانة بمتعاقدين دون إعدادهم مسبقاً، وبخاصة في معرض تطبيق المناهج الجديدة التي تستلزم ثقافة تربوية وفنية تأتلف ومضمون هذه المناهج وتوجهاتها وأهدافها ٠ إن اللجوء إلى التعاقد بدا على مدى السنوات الطويلة الماضية أهون الحلول وليس أنجعها؛ إذ إن الحلول الحقيقية لمشكلة توفير المعلمين الأكفاء تكمن في أن تختط الدولة المسارات الطبيعية لإعداد المعلمين بصورة دورية ووفقاً للحاجات المبنية على الدراسات والاحصاءات، كما كانت عليه الحال قبل الحرب، حيث لم تكن مسألة التعاقد مطروحةً كمشكلة أساسية، على الرغم من أن دور المعلمين لم يكن يتجاوز عددها الست فقط. أما وأن عدد المتعاقدين قد بلغ ثلث أفراد الهيئة التعليمية في لبنان، فإن هذا الأمر يؤشر على الخطأ الكبير الذي وقع على المؤسسات التعليمية لجهة عدم تمكين المراجع المختصة من أداء دورها في إعداد المعلمين المختصين.
  10. إن تطبيق القانون 344/2001، لجهة عدم جواز الدخول إلى ملاك التعليم إلا لحملة الإجازات الجامعية وما فوق، إذا ماجرى تجاوز الظروف والمعطيات التي تعيق تحقيق أهدافه وبخاصة بالنسبة إلى أبناء المناطق النائية ومدارسها، لا يتعارض وإمكانية قيام دور المعلمين بمهمة الإعداد، على اساس أن الشهادة التي تمنحها للمتخرجين فيها هي دبلوم ممارسة التعليم التي لا تعادل أي شهادة أخرى وفقاً للقوانين والأنظمة، وهي ليست بالتالي شهادةً جامعية؛ وإلا فما هي المبررات القانونية والتعليمية التي سمحت للدور بإعداد معلمين للتعليم الابتدائي والمتوسط، إذا كان هذا الإعداد الذي يتم على قاعدة الشهادة الثانوية العامة يعني الدراسة الجامعية بالمعنى الأكاديمي للكلمة والتي تنتهي عادةً بشهادة جامعية؟ ولأن الأمر غير ذلك فإن القول بدورٍ جامعي تطمح إليه دور المعلمين "لا علاقة لها به لا من قريبٍ ولا من بعيد"(5)، هو قول في غير محله لسببين: -١- تجربة دور المعلمين المتوسطة في الفصل بين ماهو جامعي أكاديمي وفني تربوي، حيث تكفلت الجامعة اللبنانية بالجانب الأول والمركز التربوي بالجانب الثاني، من خلال المشاريع المشتركة التي قامت بين الجانبين في هذا السبيل. -٢- اعتبار كل إعداد تربوي على أساس الإجازة وما فوق هو دراسة جامعية لا يجوز لغير مؤسسة الجامعة أن تتولاها، يؤدي حكماً إلى الاعتبار نفسه بالنسبة إلى الإعداد على أساس الشهادة الثانوية العامة، لأن كل دراسة بعد هذه الشهادة، استناداً إلى هذا المعيار، هي دراسة جامعية. فهل كانت دور المعلمين إذاً تقوم، وعلى مدى سنواتٍ طويلة، بدورٍ جامعي من دون أن يعترض عليه أحد؟!

١١ - إن التاريخ التربوي للبلد يسجل بفخرٍ واعتزاز الدور الريادي لكلية التربية في رفد الجسم التعليمي بخيرة أعضائه العاملين في التعليم الثانوي الرسمي، وفي توفير بعض الاختصاصات التي استفاد منها أحياناً التعليم الخاص. إن مسيرة كلية التربية في هذا الصدد جعلت منها خزاناً ومعيناً للكفاءات التربوية بفعل ما تجمع لديها، على مر السنين، من خبراتٍ نوعية وقدراتٍ عالية.


إن المشكلات التربوية لم تكن يوماً في كلية التربية أو في المركز التربوي للبحوث والإنماء. ويوم كانت هاتان المؤسستان تؤديان دورهما، بالانفراد أو بالشراكة، كانت الحياة التربوية أكثر غنى وحيوية وتجدداً.
 

هوامش:
١- إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء.
٢- التقرير السنوي للمفتشية العامة التربوية عن العام ٢٠٠٣
٣- "محاولة من المركز التربوي لتعديل المادة الخامسة من القانون ٣٤٤ ، جريدة  السفير، 8/2/2005، صز 9
٤- المصدر نفسه.
٥- المصدر نفسه

إعداد المعلمين بين كلية التربية والمركز التربوي: معطيات وتساؤلات

فيصل طالب مفتش تربوي

الجدل القائم بين المرجعيات المختصة حول إعداد المعلمين في لبنان لم يعد دائراً فقط في غرف الاجتماعات واللقاءات ذات الطابع التربوي، سواء أكان ذلك على مستوى المعنيين بالموضوع في كلٍ من كلية التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، أم في حلقة النقاش التي افتتحتها اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة التربية النيابية في معرض مناقشة التقرير السنوي للتفتيش التربوي عن العام ٢٠٠٣ ، أم في نطاق سائر الإدارات الرسمية المعنية بهذا الأمر، كالمديرية العامة للتربية والمفتشية العامة التربوية في التفتيش المركزي، بل انتقلت مفاعيل هذا الجدل إلى صفحات الصحف، عرضاً وتحليلاً وانتصاراً لرأيٍ على آخر.

يهمنا في هذا السبيل أن نعرض لهذا الموضوع انطلاقاً من المعطيات والتساؤلات التالية:

  1. أنشئت دور المعلمين والمعلمات في العام ١٩٥٣ ، وكانت تتبع مصلحة إعداد المعلمين في "وزارة التربية والفنون الجميلة"، حتى تاريخ إنشاء المركز التربوي للبحوث والإنماء في العام ١٩٧٢ (مؤسسة عامة)، الذي صار مسؤولاً عن إعداد المعلمين لمرحلة التعليم الأساسي (بحسب التسمية المحددة في هيكلية التعليم الجديدة)، وتدرجت شروط قبول الطلاب من حيازة "الشهادة الابتدائية العالية" إلى إنهاء السنة الجامعية الأولى بنجاح، في دور المعلمين والمعلمات الابتدائية، والسنتين الأولى والثانية الجامعيتين، في دور المعلمين والمعلمات المتوسطة، على قاعدة الإعداد لمدة ثلاث سنوات بعد الابتدائية العالية، وسنةٍ واحدة بعد البكالوريا - القسم الثاني، وسنتين لاختصاص الرياضة والفنون، في دور المعلمين الابتدائية، وسنة واحدة في دور المعلمين المتوسطة. كما تغيرت تسمية الشهادة التي تمنحها الدور الابتدائية من الشهادة التعليمية الأولى (الابتدائية)، إلى شهادة البكالوريا التعليمية، إلى دبلوم دار المعلمين والمعلمات الابتدائية - إختصاص ...، والشهادة التي تمنحها الدور المتوسطة، من الشهادة التعليمية الثانية إلى دبلوم دار المعلمين والمعلمات المتوسطة - اختصاص ...
  2. تخرَّج في هذه الدور، منذ تاريخ إنشاء المركز التربوي وحتى العام ٢٠٠٢، 12121 معلماً ابتدائياً ومتوسطاً في الاختصاص العام واللغتين الفرنسية والإنكليزية والروضة والفنون والرياضة والعلوم والرياضيات(1)، أي ما يوازي تقريباً عدد المعلمين المتعاقدين في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية (13746 معلماً) بحسب إحصاءات العام 2003(2)
  3. توسع عدد الدور خلال السنوات الماضية ليصل إلى ٣٤ داراً، جرى تخصيص ست منها لتطبيق مشروع التدريب المستمر الذي بدأ العمل به خلال شهر شباط ٢٠٠٥ ؛ الأمر الذي جعل الدور الأخرى دون أية مهام أساسية، على قاعدة ما آلت إليه الأمور بعد صدور القانون 344/2001، الذي حظّرَ في مادته الخامسة الدخول إلى سلك التعليم إلا لحملةالإجازات وما فوق؛ وهو ما فسّر بأن مهمةإعداد المعلمين أصبحت على عاتق كلية التربية في الجامعة اللبنانية حصراً. هذا فضلاً عن الهدر الحاصل في  النطاقين البشري والمالي جراء توقف هذه الدور عن الاضطلاع بمهامها الأساسية في إعداد المعلمين وتأهيلهم (مئات الموظفين ومئات ملايين الليرات بدلات إيجار).
  4. لم يسبق أن سجل أي مسؤول تربوي، إن في نطاق الإدارة التسلسلية أو في إطار الرقابة المركزية، أن المتخرجين في دور المعلمين والمعلمات بصورةٍ عامة، لم يكونوا على قدر الآمال المعقودة عليهم، سواء على مستوى إعدادهم، أم في أثناء ممارستهم لأعمالهم الفعلية في المدارس التي ألحقوا بها؛ بل يمكن القول إن كثيراً من المدارس التي عرفت الترهل والتراجع عادت إليها الحياة ودفق في جسمها روح جديدة، بوساطة هؤلاء المعلمين المتخرجين. لقد كانوا الأعمدة التي قامت عليها المدرسة الرسمية في فترة ما قبل الحرب وفي مرحلة النهوض من الكبوة.
  5. لا يختلف اثنان على أهمية إعداد أفراد الهيئة التعليمية حتى في مرحلتي الروضة والتعليم الابتدائي تحت سقف المستوى المعرفي العالي (الإجازة وما فوق). ولكن هذا الطموح التربوي ليس منعزلاً عن إدراك القيمة الأساسية لمهمة التربية في معرفة واقع الحياة وهموم المجتمع، بعيداً عن تمثّلُ الأفكار المجردة، وبمعنى آخر قبول المجتمع وفهمه من أجل تطويره، أي أن المصلحة التربوية العليا غير مفصولة عن حركة المجتمع المتنامية والقائمة على أن أي إنجازٍ تربوي هو في واقع الحال إنجاز اجتماعي واقتصادي ووطني، والعكس صحيح ايضاً. من هنا يمكن القول إن اشتراط الإجازة الجامعية وما يليها من إعدادٍ تربوي لدخول سلك التعليم يشكل، في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية القائمة، وعدم توافر فرص العمل للشباب وخصوصاً في مستويات التحصيل العالي، تأخيراً في الانخراط المبكر للأجيال الجديدة في سوق العمل؛ الأمر الذي يزيد من تفاقم الأزمات الاجتماعية، من دون أن يكون ثمة بيّنِة على أن معلمة مرحلة الروضة مثلاً فشلت في أداء رسالتها استناداً إلى مستوى إعدادها في دار المعلمين.
  6. إن وجود دور المعلمين في المناطق قد تم النظر إليه باعتباره يشكل مراكز إشعاع تربوي وثقافي في محيطه، ومنطلقاً لحركيةٍ اجتماعية واقتصادية تتوافر لها الدينامية المطلوبة لجعل التنمية بأبعادها المختلفة تبدو أمراً واقعاً، بحيث لا يكون التموضع التربوي في بيئةٍ معينة، بتجلياته كافة (مدرسة، معلمون، ...) عارضاً أو طارئاً، بل مستقراً ومنتمياً وسبباً في تحريك عجلة الحياة في الاتجاهات التي تفضي إلى التقدم والتطور.
  7. من غير الجائز القول "إن أسس إعداد المعلمين لا يمكن أن يضطلع به إلا أساتذة ذوو اختصاصٍ عالٍ ومن حملة الدكتوراه، إذ إنه من الصعب على أساتذة دون المستوى توجيه المعلمين ناحية التفكير بمهنة التعليم ليس كتقنيات وأساليب، وإنما بوصفها وظيفة اجتماعية ذات أبعاد إنسانية وتربوية"(3). ذلك لأنه من غير المستحب وصف التربويين من غير حملة الدكتوراه بأنهم "دون المستوى". ومن المفيد الإشارة في هذا المجال إلى أن بعض السلبيات التي ظهرت من جراء تدريب المعلمين على المناهج الجديدة لم تُنسب فقط إلى مدربين من غير حملة الدكتوراه!
  8. إن تطبيق المادة الخامسة من القانون 344/2001، لجهة اعتبار كلية التربية مسؤولة عن اعداد المعلمين يطرح جملة من الأسئلة التي تدور حول: - مدى قدرة كلية التربية ببنيتها الحالية على توفير الموارد البشرية والمادية المناسبة لإعداد معلمين لمدارس لبنان بصورةٍ أفقية (لجميع المراحل) وبصورةٍ عمودية (لجميع الاختصاصات). - الصعوبات اللوجستية المتعلقة بانتقال الطلاب من مختلف أنحاء البلاد إلى مركزي الكلية في العاصمة وضواحيها، وبالعكس، وبتوفير مراكز التدريب الميداني ... وفي حال اللجوء إلى تفريع الكلية فإن الاتجاه سيكون بعكس السير، فضلاً عما يطرحه هذا الأمر من كلفةٍ باهظة لجهة تأمين الأبنية ومستلزماتها، وتوفير الكادرات التعليمية المناسبة.
  9. إن القول "بأن تراجع مستوى التعليم في لبنان مرضه الأساس مراحل الحضانة والابتدائي والمتوسط أو الأساسية. ومرد ذلك هو وضع الجهاز التعليمي الذي لا يملك المؤهلات الجامعية"(4)، هو قول ليس في محله على الإطلاق، لأن من التبسيط بمكان حصر اسباب هذا التراجع بالمعلم تحديداً، وبالمعلم غير المجاز بوجهٍ أدق؛ إذ إن القاصي والداني يعلم أن الأسباب تكمن في ضغوط الحرب وتراكماتها، وغياب سلطة القانون في أثنائها، وعدم تحديث الأنظمة المدرسية وأوضاع الأبنية والتجهيزات والوسائل التربوية، وبقاء مناهج تعليمية قديمة قيد التداول مدة ثلاثين سنة دون أي تعديل او تبديل، في ظل المتغيرات الضخمة التي تطرأ على عالمنا كل يوم، وتوقف دورات التأهيل والتدريب للمعلمين، وكذلك عمليات إعدادهم بصورةٍ منتظمة في ضوء الحاجات المستجدة في كل عامٍ دراسي؛ الأمر الذي كان يدفع باستمرار للاستعانة بمتعاقدين دون إعدادهم مسبقاً، وبخاصة في معرض تطبيق المناهج الجديدة التي تستلزم ثقافة تربوية وفنية تأتلف ومضمون هذه المناهج وتوجهاتها وأهدافها ٠ إن اللجوء إلى التعاقد بدا على مدى السنوات الطويلة الماضية أهون الحلول وليس أنجعها؛ إذ إن الحلول الحقيقية لمشكلة توفير المعلمين الأكفاء تكمن في أن تختط الدولة المسارات الطبيعية لإعداد المعلمين بصورة دورية ووفقاً للحاجات المبنية على الدراسات والاحصاءات، كما كانت عليه الحال قبل الحرب، حيث لم تكن مسألة التعاقد مطروحةً كمشكلة أساسية، على الرغم من أن دور المعلمين لم يكن يتجاوز عددها الست فقط. أما وأن عدد المتعاقدين قد بلغ ثلث أفراد الهيئة التعليمية في لبنان، فإن هذا الأمر يؤشر على الخطأ الكبير الذي وقع على المؤسسات التعليمية لجهة عدم تمكين المراجع المختصة من أداء دورها في إعداد المعلمين المختصين.
  10. إن تطبيق القانون 344/2001، لجهة عدم جواز الدخول إلى ملاك التعليم إلا لحملة الإجازات الجامعية وما فوق، إذا ماجرى تجاوز الظروف والمعطيات التي تعيق تحقيق أهدافه وبخاصة بالنسبة إلى أبناء المناطق النائية ومدارسها، لا يتعارض وإمكانية قيام دور المعلمين بمهمة الإعداد، على اساس أن الشهادة التي تمنحها للمتخرجين فيها هي دبلوم ممارسة التعليم التي لا تعادل أي شهادة أخرى وفقاً للقوانين والأنظمة، وهي ليست بالتالي شهادةً جامعية؛ وإلا فما هي المبررات القانونية والتعليمية التي سمحت للدور بإعداد معلمين للتعليم الابتدائي والمتوسط، إذا كان هذا الإعداد الذي يتم على قاعدة الشهادة الثانوية العامة يعني الدراسة الجامعية بالمعنى الأكاديمي للكلمة والتي تنتهي عادةً بشهادة جامعية؟ ولأن الأمر غير ذلك فإن القول بدورٍ جامعي تطمح إليه دور المعلمين "لا علاقة لها به لا من قريبٍ ولا من بعيد"(5)، هو قول في غير محله لسببين: -١- تجربة دور المعلمين المتوسطة في الفصل بين ماهو جامعي أكاديمي وفني تربوي، حيث تكفلت الجامعة اللبنانية بالجانب الأول والمركز التربوي بالجانب الثاني، من خلال المشاريع المشتركة التي قامت بين الجانبين في هذا السبيل. -٢- اعتبار كل إعداد تربوي على أساس الإجازة وما فوق هو دراسة جامعية لا يجوز لغير مؤسسة الجامعة أن تتولاها، يؤدي حكماً إلى الاعتبار نفسه بالنسبة إلى الإعداد على أساس الشهادة الثانوية العامة، لأن كل دراسة بعد هذه الشهادة، استناداً إلى هذا المعيار، هي دراسة جامعية. فهل كانت دور المعلمين إذاً تقوم، وعلى مدى سنواتٍ طويلة، بدورٍ جامعي من دون أن يعترض عليه أحد؟!

١١ - إن التاريخ التربوي للبلد يسجل بفخرٍ واعتزاز الدور الريادي لكلية التربية في رفد الجسم التعليمي بخيرة أعضائه العاملين في التعليم الثانوي الرسمي، وفي توفير بعض الاختصاصات التي استفاد منها أحياناً التعليم الخاص. إن مسيرة كلية التربية في هذا الصدد جعلت منها خزاناً ومعيناً للكفاءات التربوية بفعل ما تجمع لديها، على مر السنين، من خبراتٍ نوعية وقدراتٍ عالية.


إن المشكلات التربوية لم تكن يوماً في كلية التربية أو في المركز التربوي للبحوث والإنماء. ويوم كانت هاتان المؤسستان تؤديان دورهما، بالانفراد أو بالشراكة، كانت الحياة التربوية أكثر غنى وحيوية وتجدداً.
 

هوامش:
١- إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء.
٢- التقرير السنوي للمفتشية العامة التربوية عن العام ٢٠٠٣
٣- "محاولة من المركز التربوي لتعديل المادة الخامسة من القانون ٣٤٤ ، جريدة  السفير، 8/2/2005، صز 9
٤- المصدر نفسه.
٥- المصدر نفسه