الفنون في التربية دراسة في الواقع والجدوى والتطلعات

"يقول علماء الجمال والتربية إن الفن تربية وتعوّد، وإن الفن الهابط يقضي على الحاسة الجمالية عند الجمهور فيتدهور ذوقه تدهوراً سرعان ما ينتقل من مجال الفن إلى مجال الحياة ذاتها" (1)، ولمّا كانت التربية، نظرياً من خلال الفلسفات والأفكار والنظريات التربوية، وعملياً من خلال مؤسسة المدرسة، هي العامل الأكثر تأثيراً في خلق ظروف الحياة نفسها وفي رسم مسارات تطور المجتمعات، لذلك، تتوثّق علاقة الفنون بالحياة من خلال التربية.

لقد أكدت "المناهج الجديدة للتعليم في لبنان" على أهمية ربط التربية بحياة المواطن من خلال ''تنمية شخصية اللبناني كفرد وكعضو صالح ومنتج في مجتمع ديموقراطي حر، وكمواطن مدني ملتزم بالقوانين ومؤمن بمبادئ ومرتكزات الوطن ... "لبناء مجتمع متقدم ومتكامل يتلاحم فيه أبناؤه في مناخ من الحرية والعدالة والديموقراطية والمساواة (2). وإذا كان للمناهج الجديدة أن تحقق هذه الأهداف أو تسير باتجاهها فمن المؤكد أن التغيير المطلوب لا يمكن أن يكون جزئياً أو سطحياً، وأنه لا بد أن يكون شاملاً وجذرياً (3)". وانسجاماً مع هذا التوجه ومن ضمن خطوة التحديث والتغيير الكبرى التي جاءت بها المناهج الجديدة في لبنان، وتأكيداً على التأثير الإيجابي للفنون في حياة المواطن، تمّ اعتمادها كعنصر أساسي من بين العناصر المكونة للعملية التعليمية/ التربوية.

الفنون ممارسة حضارية

لا يخفى على أحد مدى ارتباط الفنون برقي وتحضُّر الشعوب وتقدم الأوطان، فحيث لا يزال يُنظر إلى الفنون كشكل من أشكال الكماليات هناك تأخر حضاري، وحيث هي حاجة من أساسيات الحياة لا يمكن العيش بدونها هناك تقدم وحضارة. من هذه المعادلة تكتسب الفنون مشروعيتها التربوية، فهي قبل كل شيء ممارسة حضارية، وهي وسيلة لتحقيق هدف تسعى إليه كل الشعوب، ألا وهو التقدم والارتقاء نحو الأفضل.

ولما كانت التربية كمؤسسة تعمل على تحقيق هذا التقدم والارتقاء وتستخدم كل الوسائل والسبل التي تؤدي بها إلى غاياتها، لم يعد ممكناً إبقاء هذا العنصر التربوي المؤثر خارج دائرة الاهتمام. فالفنون في المدرسة لم تعد ترفاً أو عنصر ترفيه وتسلية أو مادة لتعبئة ''ساعات الفراغ''، بل هي حاجة تربوية ملحّة، كلما تأخرنا في الاعتراف بها وفي استخدامها فعلياً وبطرق منهجية، تأخر بنا الزمن، وتخلفنا عن مواكبة العصر.

الدور التربوي للفنون في المناهج الجديدة

تلعب الفنون في التربية دوراً مهماً، انطلاقاً من كونها تمكّن المتعلم من الحصول على عملية-مسار (processus) كفايات وقدرات متنوعة، وتعمل على تنميتها من خلال مواقف تعليمية وطرائق وأساليب تستخدم الإطار الفني وتهدف إلى إحداث تغيير مرغوب فيه في أنماط المتعلم السلوكية والجسدية والفكرية والنفسية والاجتماعية، وذلك من أجل تحقيق غايات محددة ضمن الأهداف التربوية العامة. فالفنون في التربية هي وسيلة تسهم في تحقيق الأهداف، التربوية أولاً، والفنية الجمالية ثانياً، من هنا ضرورة إدخالها في المنهج وليس الاكتفاء بوضعها على هامش الممارسة التربوية، فالأهداف التربوية في مؤسسة المدرسة ليست تعليمية فقط، بل تتخطى ذلك إلى الجوانب النفسية والخلقية والجسدية والروحية والعصبية للتلميذ، أي بناء شخصيته بشكل متكامل ومتوازن، "ولكي تحقق التربية هذه الأهداف، تعِدّ مجموعة من الأنشطة والمعارف والمهارات يطلق عليها المنهج، الذي هو وسيلة التربية لإعداد الفرد للحياة، وعلى المنهج أن يتجدد ويتطور ليواكب النمو الحاصل في العالم، وذلك من خلال إعادة النظر كلّما دعت الضرورة في أدوات تعليمه، ليجدد فيها أو يضيف إليها ما يراه يساير طبيعة العصر ويحقق أهداف المجتمع" (4)، وتمكيناً لهذا التوجه، تلعب الفنون دوراً ريادياً خصوصاً من ناحية إعداد الفرد للحياة بجوانبها كافة.

عرض مسرحي احتفالي في احدى المدارس       معرض رسوم واشغال يدوية من اعمال التلاميذ

كما و"يتمثل دور التربية الصحيح في العمل على استقراء المتغيرات الثقافية على أساس كفاءة وظيفتها وانسجامها مع النمط الثقافي للمجتمع، ويكون ذلك عن طريق مسايرة الاتجاهات التربوية والمحتويات التعليمية لروح العصر وتقدمه العلمي والتكنولوجي" (5)، ما يحتّم على كل مؤسسة تربوية تطمح إلى التقدم، تطوير مناهجها التعليمية ورفدها بكل جديد ومفيد، ومن هذا المنطلق أكدّت "المناهج الجديدة للتعليم العام في لبنان" على المفاهيم التربوية الحديثة ومن ضمنها تعليم الفنون، حيث ورد فيها: "يعتمد التوجه الحديث في تعليم الفنون المفاهيم التربوية والتعليمية الآتية:

  1. التربية العملية (L'éducation active) التي توفّر للمتعلم فرصاً وافية للابتكار والانتاج.
  2. دينامية الجماعة (dynamique de groupe) التي تسوغ للمتعلم أن يؤثّر وأن يتأثر في إطار نشاط فني جماعي.
  3. الاهتمام بالتراث الذي يتيح للمتعلم إمكانية تجديد الروابط وتطويرها بينه وبين معارفه وجذوره الثقافية" (6)

أما الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان فقد أشارت في أكثر من مكان إلى أهمية اعتماد الفنون في العملية التعليمية وفي مختلف المراحل التعليمية. نقرأ مثلاً تحت عنوان "طرائق التعليم ووسائله". "اعتماد التنوع في طرائق التعليم واختيار الحديث منها في ضوء أوضاع المتعلمين وإمكانيات المدرسة وطبيعة المادة" (7). وحول دور الفنون في التربية، ورد في أهداف "الهيكلية الجديدة" في الفقرة ط:"تكوين المواطن الممارس القواعد الصحية المؤدية إلى النمو السوي جسدياً ونفسياً وخلقياً"، وفي الفقرة ي: "تكوين المواطن العامل على تنمية رصيده الثقافي والعلمي وتنمية ذوقه الفني وصقل طاقاته الإبداعية وتعزيز حسه الجمالي" (8). وفي الأسباب الموجبة لتعديل مناهج التعليم العام ورد: إن من يستعرض مناهجنا الحالية قد يصاب بشيء من الذهول بسبب إغفال مواد الفنون الجميلة إغفالاً شبه كلي، وكأن تلك المناهج تعتبر هذه المواد ترفاً ثقافياً، إن لم نقل هامشاً من هوامش التربية. في حين أن الفنون الجميلة يجب أن تضطلع بدور هام في تنمية شخصية المتعلم وتكاملها"، "والى ذلك، فقد جاءت المناهج المقترحة تسد هذه الثغرة بما أفردته من حصص تدريس ونشاطات لمختلف أنواع الفنون الجميلة، من موسيقى وتشكيل (رسم) ومسرح، وذلك ابتداءً من مرحلة الروضة ولغاية السنة الثالثة الثانوية التي تشكل خاتمة التعليم العام ما قبل الجامعي" (9). ونقرأ في مكان آخر: "إن تلميذنا في لبنان يستقي من جهاز التلفزيون والكمبيوتر وغيرهما من وسائل الإعلام المختلفة معلومات تجعل ما يتعلمه من المناهج الدراسية يبدو وكأنه إلى حد كبير ينتمي إلى عالم الماضي السحيق"، "هذا هو الانطباع الشمولي عن مناهجنا الحالية، علماً أننا إذا أنعمنا النظر فيها برزت لنا بوضوح الشوائب الآتية: في الفقرة ه:"افتقار المناهج إلى الفنون الجميلة" (10)  وتحت عنوان "مستجدات المناهج المقترحة" (الجديدة) ذكر في البند و: "إن المناهج الجديدة قد أغنت شخصية المتعلم بأبعاد الفنون الجميلة"(11). هذه المفاهيم والأفكار الطليعية التي اعتمدتها المناهج الجديدة تمثّل تغييرات جذرية في طريقة التعاطي مع الفنون من ضمن العملية التربوية، وهي بالرغم من عدم تطبيقها حتى اليوم، تعتبر بمثابة خطوة رائدة وطليعية في الفكر التربوي الحديث، على الأقل على الصعيد النظري، وهي في بعض جوانبها تخطت التجارب العالمية في مجال تطوير استخدام التربية الفنية في التعليم والإفادة منها تربوياً.


تعليم الفنون في لبنان بين النظرية والواقع

مشهد مسرحي تربوي من تمثيل التلاميذ في احتفال مدرسي

شهد لبنان في العقد الماضي اعترافاً ولو نظرياً بأهمية الفنون ودورها التربوي، وأعطيت المواد الفنية حيزاً مهماً في المناهج الجديدة التي أصدرها المركز التربوي للبحوث والإنماء عام ١٩٩٧ ، وتم إنجاز مناهجها وتأليف الكتب لمختلف موادها، وقد شكلت هذه الخطوة قفزة نوعية إلى الأمام من ناحية تغيير الذهنية في التعاطي مع الفنون، بالنظر إليها من الزاوية التربوية والتأكيد على أهميتها كوسيلة مساندة للعملية التربوية. وفي هذا السياق ورد في المقدمة العامة لمنهج الفنون ضمن مناهج التعليم العام: "ينعم الإنسان، مهما يكن أصله ومنبته وعمره بحس فني ومواهب فنية تبدأ قبولاً أو رفضاً غرائزياً وفطرياً وترتقي معرفة واختباراً. إن اختبار الحس الفني والمواهب الفنية أساسي في إدراك المرء ذاته ومحيطه، ويتم هذا الاختبار بالتعبير الجمالي عن المدركات والعواطف ونقل المعاني والمشاعر والأحاسيس إلى الآخرين بواسطة الأشكال أو الحركات أو الأصوات أو الألفاظ، وعن طريق العمل الذي يتميز بالصنعة والمهارة، ويعبر الفن عن ذات الفرد وبيئته، ويمثل بالتالي أحد أوجه التدوين الوثائقي لثقافة مجتمع ما وتمايزها.

إن اختبار القدرات الفنية يولد عند المرء فرحاً عميقاً وانفعالاً عاطفياً وإثارة نفسية تدعم فاعلية الفنون في التربية، وإن الممارسة المنهجية لتنمية القدرات الفنية تسير بالمتعلم إلى نمو متماسك لمختلف جوانب الشخصية، وإلى اندماج المعارف المكتسبة بالإمكانيات الذاتية" (12).

هذا الاعتراف الرسمي بالدور التربوي للفنون، وبالرغم من أهميته القانونية على صعيد التشريع لم يتحول إلى واقع تعليمي مُمارَس، ولم يسلك طريقه إلى التطبيق، وبالرغم من بعض المحاولات المتواضعة التي تبرز هنا وهناك في بعض المدارس اللبنانية، لا تزال الفنون بأشكالها كافة خارج الممارسة التربوية الهادفة والمفيدة. وهنا يمكننا الدخول في تحليل الأسباب التي وقفت ولا تزال عائقاً أمام دمج الفنون في العملية التربوية، ونبدأ من:
١- القرار الرسمي
بتاريخ ١٥ حزيران ٢٠٠١ صدر المرسوم رقم ٥٦٩٨ الذي يرمي إلى تنظيم الامتحانات الرسمية للشهادتين المتوسطة والثانوية العامة بفروعها الأربعة وفقاً للمناهج الجديدة، ولم يشمل هذا المرسوم مواد الفنون والتكنولوجيا والرياضة، ما عنى اعتبار هذه المواد ثانوية وغير أساسية، وما أدى بالنتيجة إلى إلغائها من البرامج التعليمية في المدارس. وبالرغم من أن بعض المدارس الرسمية كانت قد بدأت تعد العدّة للخوض في هذه التجربة الحديثة والواعدة، سارت رياح وزارة التربية آنذاك بعكس هذا التيار من ناحية الامتناع عن الموافقة على التعاقد مع معلمين لتعليم المواد الإجرائية ومنها مواد الفنون المستحدثة، وكان هذا القرار بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على هذه التجربة الرائدة قبل أن تولد، وترك الامر للمديرين بتدبير امورهم المالية على حساب مجالس الاهل او المساعدات الاهلية، وكلنا يعلم ان وضع مجالس الاهل يعاني من مشاكل كثيرة اهمها على الصعيد المادي.

إلاّ أن بعض المدارس الخاصة، والقلة النادرة من المدارس الرسمية المتميزة، وبمبادرة وقناعة وتمويل ذاتي، سارت بعكس التيار الرسمي، وتابعت السير في خطوة دمج الفنون في مناهجها، فاستقدمت المعلمين المتخصصين وخصّصت حصصاً أسبوعية لمختلف مواد الفنون إيماناً منها بالدور التربوي والنفسي الذي أثبتت التجارب انعكاسه إيجاباً على مستويات التحصيل التعلمي والتركيز والتحليل عند التلاميذ. ونحن نتكلّم هنا عن الفنون بحسب توصيف المناهج الجديدة لها ولا نقصد مواد الفنون (الرسم والموسيقى) التي تدرس منذ زمن بعيد في المدارس الرسمية بحسب المنهج القديم وتعاني من مشكلات كبيرة على صعيدي الاعتراف بدورها التربوي في العملية التربوية من جهة، وعدم التوازن في توزيع المعلمين على المدارس اللبنانية وعدم تخصص غالبيتهم في المجال الفني من جهة أخرى.

٢- اختصاصات التربية الفنية في كلية التربية
بعد انطلاق المناهج الجديدة عام ١٩٩٧ قامت كلية التربية في الجامعة اللبنانية بإنشاء قسم خاص بالتربية الفنية تضمّن اختصاصات التربية المسرحية والتربية الموسيقية والتربية الفنية(فنون تشكيلية)، وتم إعداد المناهج الجامعية وشروط ومعايير قبول الطلاب كما تم التعاقد مع مجموعة من الأساتذة من حملة الدكتوراه في الاختصاصات المستحدثة، وانطلق العمل في هذا القسم الذي استقبل المئات من الطلاب على مدى خمسة أعوام. وبعد تخريج الدفعة الثانية من معلمي مواد الفنون، صدر قرار تجميد استقبال الطلاب في قسم التربية المسرحية، استتبع في السنة الثانية بقرار مماثل في قسم الفنون التشكيلية، فيما استمر العمل في قسم التربية الموسيقية فقط.

رقصة فولكلورية يؤديها التلاميذ في احتفال مدرسي

الأسباب المعلنة التي أدت إلى تجميد الاختصاصين المستحدثين ومن وجهة نظر أصحاب القرار في كلية التربية آنذاك كانت تستند إلى الآتي:

  • قرار وزير التربية الذي أوقف العمل بتطبيق تعليم الفنون في المدارس.
  • الازدواجية في الاختصاص بين التربية الفنية في كلية التربية والاختصاصات الفنية في معهد الفنون الجميلة (مسرح، فنون تشكيلية).
  • عدم وجود فرص عمل للمتخرجين من هذا القسم.

لقد تم اتخاذ القرار بتجميد الاختصاصين، من دون الرجوع إلى آراء الأساتذة في الأقسام المختصة(13)، ومن دون مناقشة الأسباب الموجبة معهم، وبالرغم من المحاولات المتكررة والمتعددة التي قام بها أساتذة القسمين المذكورين بهدف ثني المسؤولين عن السير بهذه الخطوة "غير المبررة" و"غير المقنعة" أكاديمياً، لم تتم مناقشة الأمر معهم، وأخذ القرار طريقه إلى التطبيق وتم تجميد القسمين المذكورين.

إلاّ أن تطبيق القرار وحصول التجميد لم يعنيا مطلقاً صوابية ومشروعية القرار نفسه، فالمبررات التي شكلت أرضية لتطبيق القرار كانت واهية، وكان للأساتذة المتخصصين بالتربية الفنية (رسم) والمسرحية آراؤهم وردودهم المناقضة لقرار التجميد، وتمحورت هذه الآراء حول الآتي:

  • - أولاً: إن قرار وزير التربية القاضي بتجميد المواد الإجرائية كمواد خاضعة للامتحانات لم يكن يستهدف "وجود" الفنون في المدارس، بل استهدف مسألة إخضاعها للامتحانات، وبالتالي فإن الحاجة لهذه المواد، تبقى قائمة لا بل ضرورية، خصوصاً وأنها أثبتت تأثيرها الإيجابي على العملية التربوية عالمياً ومحلياً. واستطراداً، فإن القرار ذاته قد جمّد تطبيق مواد الفنون لأسباب مادية وليس لأسباب تربوية، ويؤكد على ذلك شمول المناهج الجديدة لهذه المواد باعتبارها إحدى الخطوات التحديثية في المناهج الجديدة، إضافة إلى وضع المناهج والكتب ودليل المعلم لمختلف الصفوف والمواد من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء.

ولما كانت كلية التربية هي مؤسسة للتعليم العالي وتعنى بالشأنين الأكاديمي والتربوي وليس بالشأن المالي الذيشكل السبب الرئيسي لصدور قرار الوزير بالتجميد، لذايسقط هذا المبرر تربوياً. خصوصاً وأن العمل التربوي بحسب عميد كلية التربية آنذاك هو"عمل ارتقابي استشرافي" (14)، وانسجاماً مع هذا التوصيف للعمل التربوي تم تفريع اختصاصات جديدة في الإجازة التعليمية ومن ضمنها  اختصاصات التربية الفنية، فكيف ينسجم قرار تجميد الاختصاصات مع مبدأ الاستشراف التربوي؟ سؤال لا يزال ينتظر الإجابة.

  • ثانياً: من حيث الازدواجية في الاختصاص بين كلية التربية ومعهد الفنون الجميلة، يؤكد أصحاب الاختصاص عدم وجود هكذا ازدواجية، خاصة وأن الاختلاف بين الاختصاصين ليس في مضمون مواد التدريس فقط، بل في الأهداف العامة والخاصة لكل منهما، ففي كلية التربية يهدف اختصاص "التربية الفنية" إلى تخريج معلمين تربويين متخصصين في تعليم مواد فنية، وليس فنانين (ممثلين ومخرجين ورسامين) كما هو الحال في معهد الفنون الجميلة، تماماً كما هو حاصل في مواد التعليم الأخرى في كلية التربية ذاتها، ولنأخذ مثلاً، مادة الكيمياء أو الفيزياء التي تدرس في كلية العلوم كاختصاص علمي لكنها تدرس في كلية التربية كاختصاص تعليمي، وينطبق هذا المثال على مواد واختصاصات أخرى كالجغرافيا والتاريخ والأدب العربي أو الفرنسي أو الإنكليزي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية التي يقابلها في كلية التربية اختصاصات تعليمية لهذه المواد. فلماذا لا يتم تطبيق المبدأ ذاته على الفنون خصوصاً وأن لكل مجال إطاره الأكاديمي ومضمونه التعليمي وأهدافه التربوية؟
  • ثالثاً: من حيث عدم وجود فرص عمل للمتخرجين من هذا القسم. لقد أثبتت الوقائع عكس ذلك، حيث أن غالبية المتخرجين من الاختصاصات الفنية يعملون في مدارس خاصة، ويزداد الطلب عليهم سنة بعد أخرى، وذلك بسبب توقف وزارة التربية عن توظيف المعلمين من خريجي كلية التربية في ملاك التعليم الرسمي، وينطبق هذا أيضاً على هؤلاء المتخرجين ما ينطبق على رفاقهم من متخرجي كلية التربية في الاختصاصات كافة، حيث يلتحق جميعهم بالمدارس الخاصة وليس الرسمية. وإضافة إلى ذلك، لماذا يساق هذا المبرر لتجميد اختصاص حديث فيما تستمر الجامعة بتخريج الآلاف من العاطلين عن العمل في كلية الحقوق والعلوم السياسية ومعهد العلوم الاجتماعية وكلية الآداب والعلوم الإنسانية وغيرها من الكليات والمعاهد.

لقد كان تجميد الاختصاصات الفنية في كلية التربية بمثابة خطوة إلى الوراء جاءت لتستكمل قرار تجميد تعليم الفنون في المدارس ولتشكل عائقاً أمام تحقيق القفزة النوعية التحديثية التي أطلت بها المناهج الجديدة عام ١٩٩٧ . وهنا كانت الخسارة مزدوجة، فلم نخسر مواد الفنون وأثرها الإيجابي في العملية التربوية فقط، بل وخسرنا أيضاً الجهود الفكرية والمادية الهائلة التي تكبدّتها خزينة الدولة من خلال عمل المركز التربوي للبحوث والإنماء على إعداد المناهج وتأليف الكتب التي لا تزال تنتظر العودة عن قرار التجميد.


٣- الكادر التعليمي الخاص بالفنون في المدارس الرسمية

تشير الإحصاءات التي يجريها المركز التربوي للبحوث والإنماء سنوياً إلى الوضع غير المتوازن لتوزيع معلمي الفنون على المدارس وعلى المناطق اللبنانية، وكذلك الأمر بالنسبة لتوزيع الحصص الأسبوعية لمواد الفنون، حيث يتبين وبوضوح تراجع موقع الفنون على سلم اهتمامات الإدارات المدرسية لحساب المواد العلمية واللغات الأجنبية بشكل خاص. وهذا يبيّن ويؤشر إلى أن الفكر التربوي الذي يدير العملية التعليمية داخل مؤسسة المدرسة لا يزال في معظمه تقليدياً (traditionnel)، وغير قادر على التكيّف مع ما يطرأ من تغيير وتطوير على الواقع التربوي، خصوصاً في ما يتعلق بالطرائق والوسائل التعليمية الحديثة - والفنون إحداها- المعتمدة عالمياً والتي تشهد تطوراً مستمراً. وهنا نشير إلى أنه حتى في ظل غياب القرار الرسمي حول تعليم الفنون كمواد أساسية، يمكن للإدارات المدرسية أن تعتمدها كنشاطات لا صفية أو كنشاطات ضمن الأندية المدرسية، بشرط التعاطي معها من ضمن الإطار التربوي وليس الترفيهي فقط، وخصوصاً في المدارس التي يوجد فيها معلمو فنون، مع الإشارة إلى أن بعض هؤلاء يعمل خارج الإطار التربوي المحدد لمواد الفنون وذلك لأسباب متعددة تربوية وتنظيمية.

تمرين موسيقى داخل قاعة الصف

واستناداً إلى إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء للعام ٢٠٠٤ ، يتبيّن لنا أن ثمة فوارق كبيرة بين محافظة وأخرى لجهة وجود معلمي الفنون في المدارس، كما يظهر وبوضوح أن توزيع المعلمين على المدارس غير متوازن، لا بل يشكل حرماناً لبعض التلاميذ من إمكانية الافادة من الفنون في حياتهم المدرسية والاجتماعية، وما يمكن أن ينعكس على مستقبل هؤلاء لاحقاً، وهذا ما يتعارض مع حقوق التلاميذ لجهة المساواة في التعليم وعدم التمييز بين تلميذ وآخر كون التعليم حقاً مكتسباً لكل مواطن لبناني، فنلاحظ مثلاً أن في محافظتي الشمال والبقاع لا وجود لأي معلم فنون تشكيلية (رسم) في أي ثانوية رسمية، فيما يوجد القليل منهم في ثانويات المحافظات الأخرى، فهل يجوز أن تغيب هذه المادة نهائياً عن العملية التعليمية في مرحلة مهمة من مراحل التعليم ؟!. ومن جهة أخرى تتحكم "العشوائية" بتوزيع معلمي مواد الفنون على المدارس وهذا مرتبط بالوضع العام لتوزيع المعلمين على المدارس والمناقلات التي لا تراعي حاجات المدارس بقدر مراعاتها للوضع المعيشي والسكني ولأوضاع أخرى للمعلم، وهذا بحث آخر لسنا بصدده الآن.

ونعرض فيما يأتي لعدد من الجداول الإحصائية التي تضيء على واقع تعليم الفنون في المدارس الرسمية من حيث عدد المعلمين وتوزيعهم على المحافظات وعلى المراحل التعليمية وبحسب مواد الفنون المعتمدة في المدارس اللبنانية حالياً، مع الإشارة إلى وجود عدد كبير من المعلمين المسجلين على اللوائح الإحصائية كمعلمي فنون فيما غالبيتهم غير متخصصة بالمواد الفنية، وتم وضعهم في مدارسهم في خانة معلمي الفنون كأمر واقع كونهم موظفين في الملاك ولا يوجد ساعات تعليم فعلية في اختصاصاتهم الأساسية، وهؤلاء المعلمون يعملون تحت عنوان الفنون والنشاطات المختلفة.

                                      فنون تشكيلية (رسم) (رسمي)

موسيقى تشكيلية - رسم/رسمي

موسيقى رسمي

فنون ونشاطات مختلفة - يضم هذا الجدول معلمي الفنون التشكيلية والموسيقى والنشاطات المختلفة

كما لاحظنا، تؤشّر هذه الإحصاءات إلى وجود مشكلة كبيرة تتعلق في عدم توازن توزيع المعلمين على المدارس بين المحافظات من جهة، وإلى الحاجة الماسة لأعداد كبيرة من معلمي الفنون لتغطية حاجات المدارس الرسمية في كل لبنان من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يمكن التفكير جدياً بضرورة العمل على إعداد معلمين لمواد الفنون بحسب المناهج الجديدة، على أن يتم توزيعهم على المدارس اللبنانية كافة مع ضبط التحاقهم وبقائهم في مدارسهم لاحقاً من خلال وضع التشريعات القانونية اللازمة لذلك. وهذا يدخل ضمن التطلعات التي نتمنى أن تتحقّقَ في المستقبل القريب.

كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم  كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم  كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم


تعليم الفنون في المدارس الخاصة

في الواقع، يتقدم موقع الفنون في المدارس الخاصة على مثيله في المدارس الرسمية، وذلك يعود من جهة إلى حرية الحركة والتفاعل مع التطورات التربوية الحديثة مما يتيح لأي مدرسة خاصة تعديل برامجها وإضافة ساعات فنون إليها، والتعاقد مع معلمين بسرعة وبدون أي عقبات إدارية. ومن جهة أخرى إلى تلازم فكرة التحديث في المناهج مع المصلحة المادية للمدرسة الخاصة، لتأمين استمراريتها كونها مجبرة بحكم الواقع على مجاراة الإنجازات التربوية التي تهم الأهل الذين هم بمثابة زبائن لدى مؤسسة المدرسة بالمعنى الإيجابي للكلمة، كونها تتقاضى أجراً مقابل تعليم أولادهم. وهذا ما يجعل الإدارة في المدرسة الخاصة مهتمه دائماً بتحقيق رغبات الأهل ضمن الإطار التربوي طبعاً، ولما كانت الفنون من النشاطات المحببة إلى قلوب الأهل والتلاميذ على السواء، نجد أن غالبية المدارس الخاصة تعتمد الفنون على أنواعها من رسم وموسيقى ومسرح. مع الإشارة إلى أن المدارس الخاصة تتعامل مع الفنون من زاويتي نظر، فمنها من تكتفي بوضعها ضمن إطار النشاطات اللاصفية والأندية المدرسية، ومنها من تتعاطى معها بوصفها وسيلة تربوية وتفرد لها موقعاً ضمن الساعات الأسبوعية وتتعامل معها كمواد تعليمية لا تقل أهمية عن غيرها. والملاحظ هنا أن المدارس الخاصة العريقة والمنفتحة على المناهج العالمية هي التي تضع الفنون على درجة عالية من سلم الاهتمامات التربوية، وكلما انحدر مستوى المدرسة الخاصة تربوياً تراجع اهتمامها بالفنون إلى درجة الانعدام في بعضها، بالرغم من بعض الاستثناءات القليلة في هذه المعادلة، ويلاحظ أيضاً في الآونة الأخيرة أن "عدوى" الفنون (وبخاصة المسرح لان الرسم والموسيقى موجودان أصلاً) تنتقل بسرعة بين المدارس الخاصة، وتجري مسابقات ومهرجانات ومعارض فنية للمدارس تقيمها المراكز الثقافية الأجنبية العاملة في لبنان وبعض الجمعيات اللبنانية التربوية الخاصة.

التطلعات

يشدد المهتمّون بالتربية الفنية في لبنان على ضرورة دمج الفنون بالعملية التربوية دمجاً حقيقياً وليس شكلياً، والانطلاق بهذه التجربة نحو الأمام لمواكبة التطورات العالمية في هذا المجال، مستندين إلى التجارب المحلية المتواضعة والأجنبية المتقدمة. وبالرغم من العقبات التي يمكن أن تواجه هذه الخطوة لأسباب متعددة أهمها حداثة التجربة وقلة الخبرة وغياب القناعة والاهتمام الرسمي بالفنون بشكل عام وبدورها التربوي بشكل خاص. بالرغم من كل ذلك، لا بد من السير نحو الأمام في هذا المسار وتحمل المشقات وتخطي العقبات لتحقيق الأهداف "التربوية" بامتياز، ولحصول ذلك لا بد من اتخاذ الخطوات الآتية:

  • المطالبة بالعودة عن قرار تجميد تعليم مواد الفنون في المدارس الرسمية والخاصة باعتبارها مواد أساسية من ضمن المنهج، حتى من دون إخضاعها للامتحانات، مع إيجاد الصيغة المناسبة للتقييم ولتعامل التلاميذ معها بجدية، مع الإشارة إلى أن ظروف العمل الفني وشروطه داخل المدرسة لا يتطلب تجهيزات كبيرة ومكلفة مادياً كما يظن البعض، بل من الممكن القيام بكل النشاطات الفنية من مسرح وموسيقى وفنون تشكيلية بكلفة زهيدة جداً وفي القاعة المتوافرة في المدرسة أو في قاعة الصف، لطالما كان العمل المطلوب هو في الإطار التربوي.
  • إعادة العمل في أقسام التربية الفنية في كلية التربية باختصاصاتها كافة، أو إعادة فتح دور المعلمين في حال استمرار تجميد الاختصاصات الفنية في كلية التربية، لتأمين إعداد أكبر عدد ممكن من المعلمين للمواد الفنية بحسب المناهج الجديدة، ووضع خطة سنوية أو خمسية لإعداد معلمين لمواد الفنون لكل المدارس الرسمية اللبنانية من دون تمييز أو تفضيل (14).
  • إعادة تدريب معلمي المواد الفنية الداخلين في الملاك على الطرائق الحديثة في تعليم التربية الفنية بما يتلاءم مع توجهات المناهج الجديدة وأهدافها.
  • إصدار التشريعات اللازمة لتأمين ثبات مواد الفنون ضمن المنهج وفتح الآفاق أمام تطورها وتفاعلها مع المؤسسات والهيئات الرسمية والأهلية المحلية والدولية المهتمة بالفنون.

 

هوامش:

  1. نبيل راغب،النقد الفني، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة، ١٩٩٦ ، ص. 20
  2. الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، المركز التربوي للبحوث والانماء، ص. ٣٣
  3. المرجع السابق، ص. ٢٤
  4. د. حسن رزق عبد النبي، المسرح التعليمي للأطفال،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة، ١٩٩٣، ص. ٤
  5. د. منير المرسي سرحان، في اجتماعيات التربية، دار النهضة العربية، بيروت، ١٩٨١، ص ١٤٤
  6. مناهج التعليم العام وأهدافها، المركز التربوي للبحوث والانماء، ص. ٧٧٩
  7. الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، ص. ٣٨
  8. المرجع السابق، ص. ٣٦
  9. مناهج التعليم العام وأهدافها، ص. ١٣
  10.  المرجع السابق، ص. ٧
  11. المرجع السابق، ص. ١٠
  12. المرجع السابق ، ص. ٧٧٩
  13. كاتب هذا المقال هو أستاذ ومنسق قسم التربية المسرحية في كلية التربية.
  14. نشير هنا إلى مفارقة إحصائية مهمة في إطار تنظيم توزيع معلمي الفنون على المدارس الرسمية. فالإحصاءات تشير إلى وجود ٨٧٠ معلم فنون تشكيلية (رسم) و ٥١٣ معلم موسيقى. كما تشير إلى وجود ٣٥٥٠ معلم "فنون ونشاطات مختلفة" ما يمثل مجموع معلمي الرسم والموسيقى إضافة إلى المعلمين الذين يعلّمون مواد فنية لكنهم غير متخصصين فيها. أي أن الصفة الوظيفية لهم في مدارسهم هي "معلم فنون ونشاطات مختلفة لكنهم في الحقيقة لا يتقنون تعليم الفنون بل هم أصحاب اختصاص في المواد التعليمية الأخرى، والتي لا يعلموها لاسباب متعددة أهمها عدم الكفاءة والأسباب الصحية وعدم وجود ساعات في المواد المطلوبة وعدم القدرة على نقلهم إلى مدارس أخرى. وبما أن عدد المدارس الرسمية هو ١٣٩٤ مدرسة، وعدد معلمي الفنون هو ٣٥٥٠ معلم. نستنتج انه لو كان هذا العدد من المعلمين الذين يتقاضون رواتبهم من الدولة متخصصين في الفنون بموجب صفتهم الوظيفية، ويعلمون الفنون بالطرق التربوية الصحيحة، وموزعين على المدارس الرسمية اللبنانية بالتساوي، لما كانت هناك مشكلة فيما يتعلق بتعليم الفنون، ولكان هذا العدد كافياً لتغطية المدارس الرسمية كافة بمعلمين لمواد الرسم والموسيقى والمسرح. ونستنتج في النهاية بأن الدولة تدفع رواتب معلمي الفنون لا كثرية لا تعلمها، وان الخاسر  الأكبر من جراء افتقار المناهج لمواد الفنون بحسب المنهجية الجديدة هو التلميذ.

الفنون في التربية دراسة في الواقع والجدوى والتطلعات

"يقول علماء الجمال والتربية إن الفن تربية وتعوّد، وإن الفن الهابط يقضي على الحاسة الجمالية عند الجمهور فيتدهور ذوقه تدهوراً سرعان ما ينتقل من مجال الفن إلى مجال الحياة ذاتها" (1)، ولمّا كانت التربية، نظرياً من خلال الفلسفات والأفكار والنظريات التربوية، وعملياً من خلال مؤسسة المدرسة، هي العامل الأكثر تأثيراً في خلق ظروف الحياة نفسها وفي رسم مسارات تطور المجتمعات، لذلك، تتوثّق علاقة الفنون بالحياة من خلال التربية.

لقد أكدت "المناهج الجديدة للتعليم في لبنان" على أهمية ربط التربية بحياة المواطن من خلال ''تنمية شخصية اللبناني كفرد وكعضو صالح ومنتج في مجتمع ديموقراطي حر، وكمواطن مدني ملتزم بالقوانين ومؤمن بمبادئ ومرتكزات الوطن ... "لبناء مجتمع متقدم ومتكامل يتلاحم فيه أبناؤه في مناخ من الحرية والعدالة والديموقراطية والمساواة (2). وإذا كان للمناهج الجديدة أن تحقق هذه الأهداف أو تسير باتجاهها فمن المؤكد أن التغيير المطلوب لا يمكن أن يكون جزئياً أو سطحياً، وأنه لا بد أن يكون شاملاً وجذرياً (3)". وانسجاماً مع هذا التوجه ومن ضمن خطوة التحديث والتغيير الكبرى التي جاءت بها المناهج الجديدة في لبنان، وتأكيداً على التأثير الإيجابي للفنون في حياة المواطن، تمّ اعتمادها كعنصر أساسي من بين العناصر المكونة للعملية التعليمية/ التربوية.

الفنون ممارسة حضارية

لا يخفى على أحد مدى ارتباط الفنون برقي وتحضُّر الشعوب وتقدم الأوطان، فحيث لا يزال يُنظر إلى الفنون كشكل من أشكال الكماليات هناك تأخر حضاري، وحيث هي حاجة من أساسيات الحياة لا يمكن العيش بدونها هناك تقدم وحضارة. من هذه المعادلة تكتسب الفنون مشروعيتها التربوية، فهي قبل كل شيء ممارسة حضارية، وهي وسيلة لتحقيق هدف تسعى إليه كل الشعوب، ألا وهو التقدم والارتقاء نحو الأفضل.

ولما كانت التربية كمؤسسة تعمل على تحقيق هذا التقدم والارتقاء وتستخدم كل الوسائل والسبل التي تؤدي بها إلى غاياتها، لم يعد ممكناً إبقاء هذا العنصر التربوي المؤثر خارج دائرة الاهتمام. فالفنون في المدرسة لم تعد ترفاً أو عنصر ترفيه وتسلية أو مادة لتعبئة ''ساعات الفراغ''، بل هي حاجة تربوية ملحّة، كلما تأخرنا في الاعتراف بها وفي استخدامها فعلياً وبطرق منهجية، تأخر بنا الزمن، وتخلفنا عن مواكبة العصر.

الدور التربوي للفنون في المناهج الجديدة

تلعب الفنون في التربية دوراً مهماً، انطلاقاً من كونها تمكّن المتعلم من الحصول على عملية-مسار (processus) كفايات وقدرات متنوعة، وتعمل على تنميتها من خلال مواقف تعليمية وطرائق وأساليب تستخدم الإطار الفني وتهدف إلى إحداث تغيير مرغوب فيه في أنماط المتعلم السلوكية والجسدية والفكرية والنفسية والاجتماعية، وذلك من أجل تحقيق غايات محددة ضمن الأهداف التربوية العامة. فالفنون في التربية هي وسيلة تسهم في تحقيق الأهداف، التربوية أولاً، والفنية الجمالية ثانياً، من هنا ضرورة إدخالها في المنهج وليس الاكتفاء بوضعها على هامش الممارسة التربوية، فالأهداف التربوية في مؤسسة المدرسة ليست تعليمية فقط، بل تتخطى ذلك إلى الجوانب النفسية والخلقية والجسدية والروحية والعصبية للتلميذ، أي بناء شخصيته بشكل متكامل ومتوازن، "ولكي تحقق التربية هذه الأهداف، تعِدّ مجموعة من الأنشطة والمعارف والمهارات يطلق عليها المنهج، الذي هو وسيلة التربية لإعداد الفرد للحياة، وعلى المنهج أن يتجدد ويتطور ليواكب النمو الحاصل في العالم، وذلك من خلال إعادة النظر كلّما دعت الضرورة في أدوات تعليمه، ليجدد فيها أو يضيف إليها ما يراه يساير طبيعة العصر ويحقق أهداف المجتمع" (4)، وتمكيناً لهذا التوجه، تلعب الفنون دوراً ريادياً خصوصاً من ناحية إعداد الفرد للحياة بجوانبها كافة.

عرض مسرحي احتفالي في احدى المدارس       معرض رسوم واشغال يدوية من اعمال التلاميذ

كما و"يتمثل دور التربية الصحيح في العمل على استقراء المتغيرات الثقافية على أساس كفاءة وظيفتها وانسجامها مع النمط الثقافي للمجتمع، ويكون ذلك عن طريق مسايرة الاتجاهات التربوية والمحتويات التعليمية لروح العصر وتقدمه العلمي والتكنولوجي" (5)، ما يحتّم على كل مؤسسة تربوية تطمح إلى التقدم، تطوير مناهجها التعليمية ورفدها بكل جديد ومفيد، ومن هذا المنطلق أكدّت "المناهج الجديدة للتعليم العام في لبنان" على المفاهيم التربوية الحديثة ومن ضمنها تعليم الفنون، حيث ورد فيها: "يعتمد التوجه الحديث في تعليم الفنون المفاهيم التربوية والتعليمية الآتية:

  1. التربية العملية (L'éducation active) التي توفّر للمتعلم فرصاً وافية للابتكار والانتاج.
  2. دينامية الجماعة (dynamique de groupe) التي تسوغ للمتعلم أن يؤثّر وأن يتأثر في إطار نشاط فني جماعي.
  3. الاهتمام بالتراث الذي يتيح للمتعلم إمكانية تجديد الروابط وتطويرها بينه وبين معارفه وجذوره الثقافية" (6)

أما الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان فقد أشارت في أكثر من مكان إلى أهمية اعتماد الفنون في العملية التعليمية وفي مختلف المراحل التعليمية. نقرأ مثلاً تحت عنوان "طرائق التعليم ووسائله". "اعتماد التنوع في طرائق التعليم واختيار الحديث منها في ضوء أوضاع المتعلمين وإمكانيات المدرسة وطبيعة المادة" (7). وحول دور الفنون في التربية، ورد في أهداف "الهيكلية الجديدة" في الفقرة ط:"تكوين المواطن الممارس القواعد الصحية المؤدية إلى النمو السوي جسدياً ونفسياً وخلقياً"، وفي الفقرة ي: "تكوين المواطن العامل على تنمية رصيده الثقافي والعلمي وتنمية ذوقه الفني وصقل طاقاته الإبداعية وتعزيز حسه الجمالي" (8). وفي الأسباب الموجبة لتعديل مناهج التعليم العام ورد: إن من يستعرض مناهجنا الحالية قد يصاب بشيء من الذهول بسبب إغفال مواد الفنون الجميلة إغفالاً شبه كلي، وكأن تلك المناهج تعتبر هذه المواد ترفاً ثقافياً، إن لم نقل هامشاً من هوامش التربية. في حين أن الفنون الجميلة يجب أن تضطلع بدور هام في تنمية شخصية المتعلم وتكاملها"، "والى ذلك، فقد جاءت المناهج المقترحة تسد هذه الثغرة بما أفردته من حصص تدريس ونشاطات لمختلف أنواع الفنون الجميلة، من موسيقى وتشكيل (رسم) ومسرح، وذلك ابتداءً من مرحلة الروضة ولغاية السنة الثالثة الثانوية التي تشكل خاتمة التعليم العام ما قبل الجامعي" (9). ونقرأ في مكان آخر: "إن تلميذنا في لبنان يستقي من جهاز التلفزيون والكمبيوتر وغيرهما من وسائل الإعلام المختلفة معلومات تجعل ما يتعلمه من المناهج الدراسية يبدو وكأنه إلى حد كبير ينتمي إلى عالم الماضي السحيق"، "هذا هو الانطباع الشمولي عن مناهجنا الحالية، علماً أننا إذا أنعمنا النظر فيها برزت لنا بوضوح الشوائب الآتية: في الفقرة ه:"افتقار المناهج إلى الفنون الجميلة" (10)  وتحت عنوان "مستجدات المناهج المقترحة" (الجديدة) ذكر في البند و: "إن المناهج الجديدة قد أغنت شخصية المتعلم بأبعاد الفنون الجميلة"(11). هذه المفاهيم والأفكار الطليعية التي اعتمدتها المناهج الجديدة تمثّل تغييرات جذرية في طريقة التعاطي مع الفنون من ضمن العملية التربوية، وهي بالرغم من عدم تطبيقها حتى اليوم، تعتبر بمثابة خطوة رائدة وطليعية في الفكر التربوي الحديث، على الأقل على الصعيد النظري، وهي في بعض جوانبها تخطت التجارب العالمية في مجال تطوير استخدام التربية الفنية في التعليم والإفادة منها تربوياً.


تعليم الفنون في لبنان بين النظرية والواقع

مشهد مسرحي تربوي من تمثيل التلاميذ في احتفال مدرسي

شهد لبنان في العقد الماضي اعترافاً ولو نظرياً بأهمية الفنون ودورها التربوي، وأعطيت المواد الفنية حيزاً مهماً في المناهج الجديدة التي أصدرها المركز التربوي للبحوث والإنماء عام ١٩٩٧ ، وتم إنجاز مناهجها وتأليف الكتب لمختلف موادها، وقد شكلت هذه الخطوة قفزة نوعية إلى الأمام من ناحية تغيير الذهنية في التعاطي مع الفنون، بالنظر إليها من الزاوية التربوية والتأكيد على أهميتها كوسيلة مساندة للعملية التربوية. وفي هذا السياق ورد في المقدمة العامة لمنهج الفنون ضمن مناهج التعليم العام: "ينعم الإنسان، مهما يكن أصله ومنبته وعمره بحس فني ومواهب فنية تبدأ قبولاً أو رفضاً غرائزياً وفطرياً وترتقي معرفة واختباراً. إن اختبار الحس الفني والمواهب الفنية أساسي في إدراك المرء ذاته ومحيطه، ويتم هذا الاختبار بالتعبير الجمالي عن المدركات والعواطف ونقل المعاني والمشاعر والأحاسيس إلى الآخرين بواسطة الأشكال أو الحركات أو الأصوات أو الألفاظ، وعن طريق العمل الذي يتميز بالصنعة والمهارة، ويعبر الفن عن ذات الفرد وبيئته، ويمثل بالتالي أحد أوجه التدوين الوثائقي لثقافة مجتمع ما وتمايزها.

إن اختبار القدرات الفنية يولد عند المرء فرحاً عميقاً وانفعالاً عاطفياً وإثارة نفسية تدعم فاعلية الفنون في التربية، وإن الممارسة المنهجية لتنمية القدرات الفنية تسير بالمتعلم إلى نمو متماسك لمختلف جوانب الشخصية، وإلى اندماج المعارف المكتسبة بالإمكانيات الذاتية" (12).

هذا الاعتراف الرسمي بالدور التربوي للفنون، وبالرغم من أهميته القانونية على صعيد التشريع لم يتحول إلى واقع تعليمي مُمارَس، ولم يسلك طريقه إلى التطبيق، وبالرغم من بعض المحاولات المتواضعة التي تبرز هنا وهناك في بعض المدارس اللبنانية، لا تزال الفنون بأشكالها كافة خارج الممارسة التربوية الهادفة والمفيدة. وهنا يمكننا الدخول في تحليل الأسباب التي وقفت ولا تزال عائقاً أمام دمج الفنون في العملية التربوية، ونبدأ من:
١- القرار الرسمي
بتاريخ ١٥ حزيران ٢٠٠١ صدر المرسوم رقم ٥٦٩٨ الذي يرمي إلى تنظيم الامتحانات الرسمية للشهادتين المتوسطة والثانوية العامة بفروعها الأربعة وفقاً للمناهج الجديدة، ولم يشمل هذا المرسوم مواد الفنون والتكنولوجيا والرياضة، ما عنى اعتبار هذه المواد ثانوية وغير أساسية، وما أدى بالنتيجة إلى إلغائها من البرامج التعليمية في المدارس. وبالرغم من أن بعض المدارس الرسمية كانت قد بدأت تعد العدّة للخوض في هذه التجربة الحديثة والواعدة، سارت رياح وزارة التربية آنذاك بعكس هذا التيار من ناحية الامتناع عن الموافقة على التعاقد مع معلمين لتعليم المواد الإجرائية ومنها مواد الفنون المستحدثة، وكان هذا القرار بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على هذه التجربة الرائدة قبل أن تولد، وترك الامر للمديرين بتدبير امورهم المالية على حساب مجالس الاهل او المساعدات الاهلية، وكلنا يعلم ان وضع مجالس الاهل يعاني من مشاكل كثيرة اهمها على الصعيد المادي.

إلاّ أن بعض المدارس الخاصة، والقلة النادرة من المدارس الرسمية المتميزة، وبمبادرة وقناعة وتمويل ذاتي، سارت بعكس التيار الرسمي، وتابعت السير في خطوة دمج الفنون في مناهجها، فاستقدمت المعلمين المتخصصين وخصّصت حصصاً أسبوعية لمختلف مواد الفنون إيماناً منها بالدور التربوي والنفسي الذي أثبتت التجارب انعكاسه إيجاباً على مستويات التحصيل التعلمي والتركيز والتحليل عند التلاميذ. ونحن نتكلّم هنا عن الفنون بحسب توصيف المناهج الجديدة لها ولا نقصد مواد الفنون (الرسم والموسيقى) التي تدرس منذ زمن بعيد في المدارس الرسمية بحسب المنهج القديم وتعاني من مشكلات كبيرة على صعيدي الاعتراف بدورها التربوي في العملية التربوية من جهة، وعدم التوازن في توزيع المعلمين على المدارس اللبنانية وعدم تخصص غالبيتهم في المجال الفني من جهة أخرى.

٢- اختصاصات التربية الفنية في كلية التربية
بعد انطلاق المناهج الجديدة عام ١٩٩٧ قامت كلية التربية في الجامعة اللبنانية بإنشاء قسم خاص بالتربية الفنية تضمّن اختصاصات التربية المسرحية والتربية الموسيقية والتربية الفنية(فنون تشكيلية)، وتم إعداد المناهج الجامعية وشروط ومعايير قبول الطلاب كما تم التعاقد مع مجموعة من الأساتذة من حملة الدكتوراه في الاختصاصات المستحدثة، وانطلق العمل في هذا القسم الذي استقبل المئات من الطلاب على مدى خمسة أعوام. وبعد تخريج الدفعة الثانية من معلمي مواد الفنون، صدر قرار تجميد استقبال الطلاب في قسم التربية المسرحية، استتبع في السنة الثانية بقرار مماثل في قسم الفنون التشكيلية، فيما استمر العمل في قسم التربية الموسيقية فقط.

رقصة فولكلورية يؤديها التلاميذ في احتفال مدرسي

الأسباب المعلنة التي أدت إلى تجميد الاختصاصين المستحدثين ومن وجهة نظر أصحاب القرار في كلية التربية آنذاك كانت تستند إلى الآتي:

  • قرار وزير التربية الذي أوقف العمل بتطبيق تعليم الفنون في المدارس.
  • الازدواجية في الاختصاص بين التربية الفنية في كلية التربية والاختصاصات الفنية في معهد الفنون الجميلة (مسرح، فنون تشكيلية).
  • عدم وجود فرص عمل للمتخرجين من هذا القسم.

لقد تم اتخاذ القرار بتجميد الاختصاصين، من دون الرجوع إلى آراء الأساتذة في الأقسام المختصة(13)، ومن دون مناقشة الأسباب الموجبة معهم، وبالرغم من المحاولات المتكررة والمتعددة التي قام بها أساتذة القسمين المذكورين بهدف ثني المسؤولين عن السير بهذه الخطوة "غير المبررة" و"غير المقنعة" أكاديمياً، لم تتم مناقشة الأمر معهم، وأخذ القرار طريقه إلى التطبيق وتم تجميد القسمين المذكورين.

إلاّ أن تطبيق القرار وحصول التجميد لم يعنيا مطلقاً صوابية ومشروعية القرار نفسه، فالمبررات التي شكلت أرضية لتطبيق القرار كانت واهية، وكان للأساتذة المتخصصين بالتربية الفنية (رسم) والمسرحية آراؤهم وردودهم المناقضة لقرار التجميد، وتمحورت هذه الآراء حول الآتي:

  • - أولاً: إن قرار وزير التربية القاضي بتجميد المواد الإجرائية كمواد خاضعة للامتحانات لم يكن يستهدف "وجود" الفنون في المدارس، بل استهدف مسألة إخضاعها للامتحانات، وبالتالي فإن الحاجة لهذه المواد، تبقى قائمة لا بل ضرورية، خصوصاً وأنها أثبتت تأثيرها الإيجابي على العملية التربوية عالمياً ومحلياً. واستطراداً، فإن القرار ذاته قد جمّد تطبيق مواد الفنون لأسباب مادية وليس لأسباب تربوية، ويؤكد على ذلك شمول المناهج الجديدة لهذه المواد باعتبارها إحدى الخطوات التحديثية في المناهج الجديدة، إضافة إلى وضع المناهج والكتب ودليل المعلم لمختلف الصفوف والمواد من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء.

ولما كانت كلية التربية هي مؤسسة للتعليم العالي وتعنى بالشأنين الأكاديمي والتربوي وليس بالشأن المالي الذيشكل السبب الرئيسي لصدور قرار الوزير بالتجميد، لذايسقط هذا المبرر تربوياً. خصوصاً وأن العمل التربوي بحسب عميد كلية التربية آنذاك هو"عمل ارتقابي استشرافي" (14)، وانسجاماً مع هذا التوصيف للعمل التربوي تم تفريع اختصاصات جديدة في الإجازة التعليمية ومن ضمنها  اختصاصات التربية الفنية، فكيف ينسجم قرار تجميد الاختصاصات مع مبدأ الاستشراف التربوي؟ سؤال لا يزال ينتظر الإجابة.

  • ثانياً: من حيث الازدواجية في الاختصاص بين كلية التربية ومعهد الفنون الجميلة، يؤكد أصحاب الاختصاص عدم وجود هكذا ازدواجية، خاصة وأن الاختلاف بين الاختصاصين ليس في مضمون مواد التدريس فقط، بل في الأهداف العامة والخاصة لكل منهما، ففي كلية التربية يهدف اختصاص "التربية الفنية" إلى تخريج معلمين تربويين متخصصين في تعليم مواد فنية، وليس فنانين (ممثلين ومخرجين ورسامين) كما هو الحال في معهد الفنون الجميلة، تماماً كما هو حاصل في مواد التعليم الأخرى في كلية التربية ذاتها، ولنأخذ مثلاً، مادة الكيمياء أو الفيزياء التي تدرس في كلية العلوم كاختصاص علمي لكنها تدرس في كلية التربية كاختصاص تعليمي، وينطبق هذا المثال على مواد واختصاصات أخرى كالجغرافيا والتاريخ والأدب العربي أو الفرنسي أو الإنكليزي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية التي يقابلها في كلية التربية اختصاصات تعليمية لهذه المواد. فلماذا لا يتم تطبيق المبدأ ذاته على الفنون خصوصاً وأن لكل مجال إطاره الأكاديمي ومضمونه التعليمي وأهدافه التربوية؟
  • ثالثاً: من حيث عدم وجود فرص عمل للمتخرجين من هذا القسم. لقد أثبتت الوقائع عكس ذلك، حيث أن غالبية المتخرجين من الاختصاصات الفنية يعملون في مدارس خاصة، ويزداد الطلب عليهم سنة بعد أخرى، وذلك بسبب توقف وزارة التربية عن توظيف المعلمين من خريجي كلية التربية في ملاك التعليم الرسمي، وينطبق هذا أيضاً على هؤلاء المتخرجين ما ينطبق على رفاقهم من متخرجي كلية التربية في الاختصاصات كافة، حيث يلتحق جميعهم بالمدارس الخاصة وليس الرسمية. وإضافة إلى ذلك، لماذا يساق هذا المبرر لتجميد اختصاص حديث فيما تستمر الجامعة بتخريج الآلاف من العاطلين عن العمل في كلية الحقوق والعلوم السياسية ومعهد العلوم الاجتماعية وكلية الآداب والعلوم الإنسانية وغيرها من الكليات والمعاهد.

لقد كان تجميد الاختصاصات الفنية في كلية التربية بمثابة خطوة إلى الوراء جاءت لتستكمل قرار تجميد تعليم الفنون في المدارس ولتشكل عائقاً أمام تحقيق القفزة النوعية التحديثية التي أطلت بها المناهج الجديدة عام ١٩٩٧ . وهنا كانت الخسارة مزدوجة، فلم نخسر مواد الفنون وأثرها الإيجابي في العملية التربوية فقط، بل وخسرنا أيضاً الجهود الفكرية والمادية الهائلة التي تكبدّتها خزينة الدولة من خلال عمل المركز التربوي للبحوث والإنماء على إعداد المناهج وتأليف الكتب التي لا تزال تنتظر العودة عن قرار التجميد.


٣- الكادر التعليمي الخاص بالفنون في المدارس الرسمية

تشير الإحصاءات التي يجريها المركز التربوي للبحوث والإنماء سنوياً إلى الوضع غير المتوازن لتوزيع معلمي الفنون على المدارس وعلى المناطق اللبنانية، وكذلك الأمر بالنسبة لتوزيع الحصص الأسبوعية لمواد الفنون، حيث يتبين وبوضوح تراجع موقع الفنون على سلم اهتمامات الإدارات المدرسية لحساب المواد العلمية واللغات الأجنبية بشكل خاص. وهذا يبيّن ويؤشر إلى أن الفكر التربوي الذي يدير العملية التعليمية داخل مؤسسة المدرسة لا يزال في معظمه تقليدياً (traditionnel)، وغير قادر على التكيّف مع ما يطرأ من تغيير وتطوير على الواقع التربوي، خصوصاً في ما يتعلق بالطرائق والوسائل التعليمية الحديثة - والفنون إحداها- المعتمدة عالمياً والتي تشهد تطوراً مستمراً. وهنا نشير إلى أنه حتى في ظل غياب القرار الرسمي حول تعليم الفنون كمواد أساسية، يمكن للإدارات المدرسية أن تعتمدها كنشاطات لا صفية أو كنشاطات ضمن الأندية المدرسية، بشرط التعاطي معها من ضمن الإطار التربوي وليس الترفيهي فقط، وخصوصاً في المدارس التي يوجد فيها معلمو فنون، مع الإشارة إلى أن بعض هؤلاء يعمل خارج الإطار التربوي المحدد لمواد الفنون وذلك لأسباب متعددة تربوية وتنظيمية.

تمرين موسيقى داخل قاعة الصف

واستناداً إلى إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء للعام ٢٠٠٤ ، يتبيّن لنا أن ثمة فوارق كبيرة بين محافظة وأخرى لجهة وجود معلمي الفنون في المدارس، كما يظهر وبوضوح أن توزيع المعلمين على المدارس غير متوازن، لا بل يشكل حرماناً لبعض التلاميذ من إمكانية الافادة من الفنون في حياتهم المدرسية والاجتماعية، وما يمكن أن ينعكس على مستقبل هؤلاء لاحقاً، وهذا ما يتعارض مع حقوق التلاميذ لجهة المساواة في التعليم وعدم التمييز بين تلميذ وآخر كون التعليم حقاً مكتسباً لكل مواطن لبناني، فنلاحظ مثلاً أن في محافظتي الشمال والبقاع لا وجود لأي معلم فنون تشكيلية (رسم) في أي ثانوية رسمية، فيما يوجد القليل منهم في ثانويات المحافظات الأخرى، فهل يجوز أن تغيب هذه المادة نهائياً عن العملية التعليمية في مرحلة مهمة من مراحل التعليم ؟!. ومن جهة أخرى تتحكم "العشوائية" بتوزيع معلمي مواد الفنون على المدارس وهذا مرتبط بالوضع العام لتوزيع المعلمين على المدارس والمناقلات التي لا تراعي حاجات المدارس بقدر مراعاتها للوضع المعيشي والسكني ولأوضاع أخرى للمعلم، وهذا بحث آخر لسنا بصدده الآن.

ونعرض فيما يأتي لعدد من الجداول الإحصائية التي تضيء على واقع تعليم الفنون في المدارس الرسمية من حيث عدد المعلمين وتوزيعهم على المحافظات وعلى المراحل التعليمية وبحسب مواد الفنون المعتمدة في المدارس اللبنانية حالياً، مع الإشارة إلى وجود عدد كبير من المعلمين المسجلين على اللوائح الإحصائية كمعلمي فنون فيما غالبيتهم غير متخصصة بالمواد الفنية، وتم وضعهم في مدارسهم في خانة معلمي الفنون كأمر واقع كونهم موظفين في الملاك ولا يوجد ساعات تعليم فعلية في اختصاصاتهم الأساسية، وهؤلاء المعلمون يعملون تحت عنوان الفنون والنشاطات المختلفة.

                                      فنون تشكيلية (رسم) (رسمي)

موسيقى تشكيلية - رسم/رسمي

موسيقى رسمي

فنون ونشاطات مختلفة - يضم هذا الجدول معلمي الفنون التشكيلية والموسيقى والنشاطات المختلفة

كما لاحظنا، تؤشّر هذه الإحصاءات إلى وجود مشكلة كبيرة تتعلق في عدم توازن توزيع المعلمين على المدارس بين المحافظات من جهة، وإلى الحاجة الماسة لأعداد كبيرة من معلمي الفنون لتغطية حاجات المدارس الرسمية في كل لبنان من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يمكن التفكير جدياً بضرورة العمل على إعداد معلمين لمواد الفنون بحسب المناهج الجديدة، على أن يتم توزيعهم على المدارس اللبنانية كافة مع ضبط التحاقهم وبقائهم في مدارسهم لاحقاً من خلال وضع التشريعات القانونية اللازمة لذلك. وهذا يدخل ضمن التطلعات التي نتمنى أن تتحقّقَ في المستقبل القريب.

كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم  كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم  كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم


تعليم الفنون في المدارس الخاصة

في الواقع، يتقدم موقع الفنون في المدارس الخاصة على مثيله في المدارس الرسمية، وذلك يعود من جهة إلى حرية الحركة والتفاعل مع التطورات التربوية الحديثة مما يتيح لأي مدرسة خاصة تعديل برامجها وإضافة ساعات فنون إليها، والتعاقد مع معلمين بسرعة وبدون أي عقبات إدارية. ومن جهة أخرى إلى تلازم فكرة التحديث في المناهج مع المصلحة المادية للمدرسة الخاصة، لتأمين استمراريتها كونها مجبرة بحكم الواقع على مجاراة الإنجازات التربوية التي تهم الأهل الذين هم بمثابة زبائن لدى مؤسسة المدرسة بالمعنى الإيجابي للكلمة، كونها تتقاضى أجراً مقابل تعليم أولادهم. وهذا ما يجعل الإدارة في المدرسة الخاصة مهتمه دائماً بتحقيق رغبات الأهل ضمن الإطار التربوي طبعاً، ولما كانت الفنون من النشاطات المحببة إلى قلوب الأهل والتلاميذ على السواء، نجد أن غالبية المدارس الخاصة تعتمد الفنون على أنواعها من رسم وموسيقى ومسرح. مع الإشارة إلى أن المدارس الخاصة تتعامل مع الفنون من زاويتي نظر، فمنها من تكتفي بوضعها ضمن إطار النشاطات اللاصفية والأندية المدرسية، ومنها من تتعاطى معها بوصفها وسيلة تربوية وتفرد لها موقعاً ضمن الساعات الأسبوعية وتتعامل معها كمواد تعليمية لا تقل أهمية عن غيرها. والملاحظ هنا أن المدارس الخاصة العريقة والمنفتحة على المناهج العالمية هي التي تضع الفنون على درجة عالية من سلم الاهتمامات التربوية، وكلما انحدر مستوى المدرسة الخاصة تربوياً تراجع اهتمامها بالفنون إلى درجة الانعدام في بعضها، بالرغم من بعض الاستثناءات القليلة في هذه المعادلة، ويلاحظ أيضاً في الآونة الأخيرة أن "عدوى" الفنون (وبخاصة المسرح لان الرسم والموسيقى موجودان أصلاً) تنتقل بسرعة بين المدارس الخاصة، وتجري مسابقات ومهرجانات ومعارض فنية للمدارس تقيمها المراكز الثقافية الأجنبية العاملة في لبنان وبعض الجمعيات اللبنانية التربوية الخاصة.

التطلعات

يشدد المهتمّون بالتربية الفنية في لبنان على ضرورة دمج الفنون بالعملية التربوية دمجاً حقيقياً وليس شكلياً، والانطلاق بهذه التجربة نحو الأمام لمواكبة التطورات العالمية في هذا المجال، مستندين إلى التجارب المحلية المتواضعة والأجنبية المتقدمة. وبالرغم من العقبات التي يمكن أن تواجه هذه الخطوة لأسباب متعددة أهمها حداثة التجربة وقلة الخبرة وغياب القناعة والاهتمام الرسمي بالفنون بشكل عام وبدورها التربوي بشكل خاص. بالرغم من كل ذلك، لا بد من السير نحو الأمام في هذا المسار وتحمل المشقات وتخطي العقبات لتحقيق الأهداف "التربوية" بامتياز، ولحصول ذلك لا بد من اتخاذ الخطوات الآتية:

  • المطالبة بالعودة عن قرار تجميد تعليم مواد الفنون في المدارس الرسمية والخاصة باعتبارها مواد أساسية من ضمن المنهج، حتى من دون إخضاعها للامتحانات، مع إيجاد الصيغة المناسبة للتقييم ولتعامل التلاميذ معها بجدية، مع الإشارة إلى أن ظروف العمل الفني وشروطه داخل المدرسة لا يتطلب تجهيزات كبيرة ومكلفة مادياً كما يظن البعض، بل من الممكن القيام بكل النشاطات الفنية من مسرح وموسيقى وفنون تشكيلية بكلفة زهيدة جداً وفي القاعة المتوافرة في المدرسة أو في قاعة الصف، لطالما كان العمل المطلوب هو في الإطار التربوي.
  • إعادة العمل في أقسام التربية الفنية في كلية التربية باختصاصاتها كافة، أو إعادة فتح دور المعلمين في حال استمرار تجميد الاختصاصات الفنية في كلية التربية، لتأمين إعداد أكبر عدد ممكن من المعلمين للمواد الفنية بحسب المناهج الجديدة، ووضع خطة سنوية أو خمسية لإعداد معلمين لمواد الفنون لكل المدارس الرسمية اللبنانية من دون تمييز أو تفضيل (14).
  • إعادة تدريب معلمي المواد الفنية الداخلين في الملاك على الطرائق الحديثة في تعليم التربية الفنية بما يتلاءم مع توجهات المناهج الجديدة وأهدافها.
  • إصدار التشريعات اللازمة لتأمين ثبات مواد الفنون ضمن المنهج وفتح الآفاق أمام تطورها وتفاعلها مع المؤسسات والهيئات الرسمية والأهلية المحلية والدولية المهتمة بالفنون.

 

هوامش:

  1. نبيل راغب،النقد الفني، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة، ١٩٩٦ ، ص. 20
  2. الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، المركز التربوي للبحوث والانماء، ص. ٣٣
  3. المرجع السابق، ص. ٢٤
  4. د. حسن رزق عبد النبي، المسرح التعليمي للأطفال،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة، ١٩٩٣، ص. ٤
  5. د. منير المرسي سرحان، في اجتماعيات التربية، دار النهضة العربية، بيروت، ١٩٨١، ص ١٤٤
  6. مناهج التعليم العام وأهدافها، المركز التربوي للبحوث والانماء، ص. ٧٧٩
  7. الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، ص. ٣٨
  8. المرجع السابق، ص. ٣٦
  9. مناهج التعليم العام وأهدافها، ص. ١٣
  10.  المرجع السابق، ص. ٧
  11. المرجع السابق، ص. ١٠
  12. المرجع السابق ، ص. ٧٧٩
  13. كاتب هذا المقال هو أستاذ ومنسق قسم التربية المسرحية في كلية التربية.
  14. نشير هنا إلى مفارقة إحصائية مهمة في إطار تنظيم توزيع معلمي الفنون على المدارس الرسمية. فالإحصاءات تشير إلى وجود ٨٧٠ معلم فنون تشكيلية (رسم) و ٥١٣ معلم موسيقى. كما تشير إلى وجود ٣٥٥٠ معلم "فنون ونشاطات مختلفة" ما يمثل مجموع معلمي الرسم والموسيقى إضافة إلى المعلمين الذين يعلّمون مواد فنية لكنهم غير متخصصين فيها. أي أن الصفة الوظيفية لهم في مدارسهم هي "معلم فنون ونشاطات مختلفة لكنهم في الحقيقة لا يتقنون تعليم الفنون بل هم أصحاب اختصاص في المواد التعليمية الأخرى، والتي لا يعلموها لاسباب متعددة أهمها عدم الكفاءة والأسباب الصحية وعدم وجود ساعات في المواد المطلوبة وعدم القدرة على نقلهم إلى مدارس أخرى. وبما أن عدد المدارس الرسمية هو ١٣٩٤ مدرسة، وعدد معلمي الفنون هو ٣٥٥٠ معلم. نستنتج انه لو كان هذا العدد من المعلمين الذين يتقاضون رواتبهم من الدولة متخصصين في الفنون بموجب صفتهم الوظيفية، ويعلمون الفنون بالطرق التربوية الصحيحة، وموزعين على المدارس الرسمية اللبنانية بالتساوي، لما كانت هناك مشكلة فيما يتعلق بتعليم الفنون، ولكان هذا العدد كافياً لتغطية المدارس الرسمية كافة بمعلمين لمواد الرسم والموسيقى والمسرح. ونستنتج في النهاية بأن الدولة تدفع رواتب معلمي الفنون لا كثرية لا تعلمها، وان الخاسر  الأكبر من جراء افتقار المناهج لمواد الفنون بحسب المنهجية الجديدة هو التلميذ.

الفنون في التربية دراسة في الواقع والجدوى والتطلعات

"يقول علماء الجمال والتربية إن الفن تربية وتعوّد، وإن الفن الهابط يقضي على الحاسة الجمالية عند الجمهور فيتدهور ذوقه تدهوراً سرعان ما ينتقل من مجال الفن إلى مجال الحياة ذاتها" (1)، ولمّا كانت التربية، نظرياً من خلال الفلسفات والأفكار والنظريات التربوية، وعملياً من خلال مؤسسة المدرسة، هي العامل الأكثر تأثيراً في خلق ظروف الحياة نفسها وفي رسم مسارات تطور المجتمعات، لذلك، تتوثّق علاقة الفنون بالحياة من خلال التربية.

لقد أكدت "المناهج الجديدة للتعليم في لبنان" على أهمية ربط التربية بحياة المواطن من خلال ''تنمية شخصية اللبناني كفرد وكعضو صالح ومنتج في مجتمع ديموقراطي حر، وكمواطن مدني ملتزم بالقوانين ومؤمن بمبادئ ومرتكزات الوطن ... "لبناء مجتمع متقدم ومتكامل يتلاحم فيه أبناؤه في مناخ من الحرية والعدالة والديموقراطية والمساواة (2). وإذا كان للمناهج الجديدة أن تحقق هذه الأهداف أو تسير باتجاهها فمن المؤكد أن التغيير المطلوب لا يمكن أن يكون جزئياً أو سطحياً، وأنه لا بد أن يكون شاملاً وجذرياً (3)". وانسجاماً مع هذا التوجه ومن ضمن خطوة التحديث والتغيير الكبرى التي جاءت بها المناهج الجديدة في لبنان، وتأكيداً على التأثير الإيجابي للفنون في حياة المواطن، تمّ اعتمادها كعنصر أساسي من بين العناصر المكونة للعملية التعليمية/ التربوية.

الفنون ممارسة حضارية

لا يخفى على أحد مدى ارتباط الفنون برقي وتحضُّر الشعوب وتقدم الأوطان، فحيث لا يزال يُنظر إلى الفنون كشكل من أشكال الكماليات هناك تأخر حضاري، وحيث هي حاجة من أساسيات الحياة لا يمكن العيش بدونها هناك تقدم وحضارة. من هذه المعادلة تكتسب الفنون مشروعيتها التربوية، فهي قبل كل شيء ممارسة حضارية، وهي وسيلة لتحقيق هدف تسعى إليه كل الشعوب، ألا وهو التقدم والارتقاء نحو الأفضل.

ولما كانت التربية كمؤسسة تعمل على تحقيق هذا التقدم والارتقاء وتستخدم كل الوسائل والسبل التي تؤدي بها إلى غاياتها، لم يعد ممكناً إبقاء هذا العنصر التربوي المؤثر خارج دائرة الاهتمام. فالفنون في المدرسة لم تعد ترفاً أو عنصر ترفيه وتسلية أو مادة لتعبئة ''ساعات الفراغ''، بل هي حاجة تربوية ملحّة، كلما تأخرنا في الاعتراف بها وفي استخدامها فعلياً وبطرق منهجية، تأخر بنا الزمن، وتخلفنا عن مواكبة العصر.

الدور التربوي للفنون في المناهج الجديدة

تلعب الفنون في التربية دوراً مهماً، انطلاقاً من كونها تمكّن المتعلم من الحصول على عملية-مسار (processus) كفايات وقدرات متنوعة، وتعمل على تنميتها من خلال مواقف تعليمية وطرائق وأساليب تستخدم الإطار الفني وتهدف إلى إحداث تغيير مرغوب فيه في أنماط المتعلم السلوكية والجسدية والفكرية والنفسية والاجتماعية، وذلك من أجل تحقيق غايات محددة ضمن الأهداف التربوية العامة. فالفنون في التربية هي وسيلة تسهم في تحقيق الأهداف، التربوية أولاً، والفنية الجمالية ثانياً، من هنا ضرورة إدخالها في المنهج وليس الاكتفاء بوضعها على هامش الممارسة التربوية، فالأهداف التربوية في مؤسسة المدرسة ليست تعليمية فقط، بل تتخطى ذلك إلى الجوانب النفسية والخلقية والجسدية والروحية والعصبية للتلميذ، أي بناء شخصيته بشكل متكامل ومتوازن، "ولكي تحقق التربية هذه الأهداف، تعِدّ مجموعة من الأنشطة والمعارف والمهارات يطلق عليها المنهج، الذي هو وسيلة التربية لإعداد الفرد للحياة، وعلى المنهج أن يتجدد ويتطور ليواكب النمو الحاصل في العالم، وذلك من خلال إعادة النظر كلّما دعت الضرورة في أدوات تعليمه، ليجدد فيها أو يضيف إليها ما يراه يساير طبيعة العصر ويحقق أهداف المجتمع" (4)، وتمكيناً لهذا التوجه، تلعب الفنون دوراً ريادياً خصوصاً من ناحية إعداد الفرد للحياة بجوانبها كافة.

عرض مسرحي احتفالي في احدى المدارس       معرض رسوم واشغال يدوية من اعمال التلاميذ

كما و"يتمثل دور التربية الصحيح في العمل على استقراء المتغيرات الثقافية على أساس كفاءة وظيفتها وانسجامها مع النمط الثقافي للمجتمع، ويكون ذلك عن طريق مسايرة الاتجاهات التربوية والمحتويات التعليمية لروح العصر وتقدمه العلمي والتكنولوجي" (5)، ما يحتّم على كل مؤسسة تربوية تطمح إلى التقدم، تطوير مناهجها التعليمية ورفدها بكل جديد ومفيد، ومن هذا المنطلق أكدّت "المناهج الجديدة للتعليم العام في لبنان" على المفاهيم التربوية الحديثة ومن ضمنها تعليم الفنون، حيث ورد فيها: "يعتمد التوجه الحديث في تعليم الفنون المفاهيم التربوية والتعليمية الآتية:

  1. التربية العملية (L'éducation active) التي توفّر للمتعلم فرصاً وافية للابتكار والانتاج.
  2. دينامية الجماعة (dynamique de groupe) التي تسوغ للمتعلم أن يؤثّر وأن يتأثر في إطار نشاط فني جماعي.
  3. الاهتمام بالتراث الذي يتيح للمتعلم إمكانية تجديد الروابط وتطويرها بينه وبين معارفه وجذوره الثقافية" (6)

أما الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان فقد أشارت في أكثر من مكان إلى أهمية اعتماد الفنون في العملية التعليمية وفي مختلف المراحل التعليمية. نقرأ مثلاً تحت عنوان "طرائق التعليم ووسائله". "اعتماد التنوع في طرائق التعليم واختيار الحديث منها في ضوء أوضاع المتعلمين وإمكانيات المدرسة وطبيعة المادة" (7). وحول دور الفنون في التربية، ورد في أهداف "الهيكلية الجديدة" في الفقرة ط:"تكوين المواطن الممارس القواعد الصحية المؤدية إلى النمو السوي جسدياً ونفسياً وخلقياً"، وفي الفقرة ي: "تكوين المواطن العامل على تنمية رصيده الثقافي والعلمي وتنمية ذوقه الفني وصقل طاقاته الإبداعية وتعزيز حسه الجمالي" (8). وفي الأسباب الموجبة لتعديل مناهج التعليم العام ورد: إن من يستعرض مناهجنا الحالية قد يصاب بشيء من الذهول بسبب إغفال مواد الفنون الجميلة إغفالاً شبه كلي، وكأن تلك المناهج تعتبر هذه المواد ترفاً ثقافياً، إن لم نقل هامشاً من هوامش التربية. في حين أن الفنون الجميلة يجب أن تضطلع بدور هام في تنمية شخصية المتعلم وتكاملها"، "والى ذلك، فقد جاءت المناهج المقترحة تسد هذه الثغرة بما أفردته من حصص تدريس ونشاطات لمختلف أنواع الفنون الجميلة، من موسيقى وتشكيل (رسم) ومسرح، وذلك ابتداءً من مرحلة الروضة ولغاية السنة الثالثة الثانوية التي تشكل خاتمة التعليم العام ما قبل الجامعي" (9). ونقرأ في مكان آخر: "إن تلميذنا في لبنان يستقي من جهاز التلفزيون والكمبيوتر وغيرهما من وسائل الإعلام المختلفة معلومات تجعل ما يتعلمه من المناهج الدراسية يبدو وكأنه إلى حد كبير ينتمي إلى عالم الماضي السحيق"، "هذا هو الانطباع الشمولي عن مناهجنا الحالية، علماً أننا إذا أنعمنا النظر فيها برزت لنا بوضوح الشوائب الآتية: في الفقرة ه:"افتقار المناهج إلى الفنون الجميلة" (10)  وتحت عنوان "مستجدات المناهج المقترحة" (الجديدة) ذكر في البند و: "إن المناهج الجديدة قد أغنت شخصية المتعلم بأبعاد الفنون الجميلة"(11). هذه المفاهيم والأفكار الطليعية التي اعتمدتها المناهج الجديدة تمثّل تغييرات جذرية في طريقة التعاطي مع الفنون من ضمن العملية التربوية، وهي بالرغم من عدم تطبيقها حتى اليوم، تعتبر بمثابة خطوة رائدة وطليعية في الفكر التربوي الحديث، على الأقل على الصعيد النظري، وهي في بعض جوانبها تخطت التجارب العالمية في مجال تطوير استخدام التربية الفنية في التعليم والإفادة منها تربوياً.


تعليم الفنون في لبنان بين النظرية والواقع

مشهد مسرحي تربوي من تمثيل التلاميذ في احتفال مدرسي

شهد لبنان في العقد الماضي اعترافاً ولو نظرياً بأهمية الفنون ودورها التربوي، وأعطيت المواد الفنية حيزاً مهماً في المناهج الجديدة التي أصدرها المركز التربوي للبحوث والإنماء عام ١٩٩٧ ، وتم إنجاز مناهجها وتأليف الكتب لمختلف موادها، وقد شكلت هذه الخطوة قفزة نوعية إلى الأمام من ناحية تغيير الذهنية في التعاطي مع الفنون، بالنظر إليها من الزاوية التربوية والتأكيد على أهميتها كوسيلة مساندة للعملية التربوية. وفي هذا السياق ورد في المقدمة العامة لمنهج الفنون ضمن مناهج التعليم العام: "ينعم الإنسان، مهما يكن أصله ومنبته وعمره بحس فني ومواهب فنية تبدأ قبولاً أو رفضاً غرائزياً وفطرياً وترتقي معرفة واختباراً. إن اختبار الحس الفني والمواهب الفنية أساسي في إدراك المرء ذاته ومحيطه، ويتم هذا الاختبار بالتعبير الجمالي عن المدركات والعواطف ونقل المعاني والمشاعر والأحاسيس إلى الآخرين بواسطة الأشكال أو الحركات أو الأصوات أو الألفاظ، وعن طريق العمل الذي يتميز بالصنعة والمهارة، ويعبر الفن عن ذات الفرد وبيئته، ويمثل بالتالي أحد أوجه التدوين الوثائقي لثقافة مجتمع ما وتمايزها.

إن اختبار القدرات الفنية يولد عند المرء فرحاً عميقاً وانفعالاً عاطفياً وإثارة نفسية تدعم فاعلية الفنون في التربية، وإن الممارسة المنهجية لتنمية القدرات الفنية تسير بالمتعلم إلى نمو متماسك لمختلف جوانب الشخصية، وإلى اندماج المعارف المكتسبة بالإمكانيات الذاتية" (12).

هذا الاعتراف الرسمي بالدور التربوي للفنون، وبالرغم من أهميته القانونية على صعيد التشريع لم يتحول إلى واقع تعليمي مُمارَس، ولم يسلك طريقه إلى التطبيق، وبالرغم من بعض المحاولات المتواضعة التي تبرز هنا وهناك في بعض المدارس اللبنانية، لا تزال الفنون بأشكالها كافة خارج الممارسة التربوية الهادفة والمفيدة. وهنا يمكننا الدخول في تحليل الأسباب التي وقفت ولا تزال عائقاً أمام دمج الفنون في العملية التربوية، ونبدأ من:
١- القرار الرسمي
بتاريخ ١٥ حزيران ٢٠٠١ صدر المرسوم رقم ٥٦٩٨ الذي يرمي إلى تنظيم الامتحانات الرسمية للشهادتين المتوسطة والثانوية العامة بفروعها الأربعة وفقاً للمناهج الجديدة، ولم يشمل هذا المرسوم مواد الفنون والتكنولوجيا والرياضة، ما عنى اعتبار هذه المواد ثانوية وغير أساسية، وما أدى بالنتيجة إلى إلغائها من البرامج التعليمية في المدارس. وبالرغم من أن بعض المدارس الرسمية كانت قد بدأت تعد العدّة للخوض في هذه التجربة الحديثة والواعدة، سارت رياح وزارة التربية آنذاك بعكس هذا التيار من ناحية الامتناع عن الموافقة على التعاقد مع معلمين لتعليم المواد الإجرائية ومنها مواد الفنون المستحدثة، وكان هذا القرار بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على هذه التجربة الرائدة قبل أن تولد، وترك الامر للمديرين بتدبير امورهم المالية على حساب مجالس الاهل او المساعدات الاهلية، وكلنا يعلم ان وضع مجالس الاهل يعاني من مشاكل كثيرة اهمها على الصعيد المادي.

إلاّ أن بعض المدارس الخاصة، والقلة النادرة من المدارس الرسمية المتميزة، وبمبادرة وقناعة وتمويل ذاتي، سارت بعكس التيار الرسمي، وتابعت السير في خطوة دمج الفنون في مناهجها، فاستقدمت المعلمين المتخصصين وخصّصت حصصاً أسبوعية لمختلف مواد الفنون إيماناً منها بالدور التربوي والنفسي الذي أثبتت التجارب انعكاسه إيجاباً على مستويات التحصيل التعلمي والتركيز والتحليل عند التلاميذ. ونحن نتكلّم هنا عن الفنون بحسب توصيف المناهج الجديدة لها ولا نقصد مواد الفنون (الرسم والموسيقى) التي تدرس منذ زمن بعيد في المدارس الرسمية بحسب المنهج القديم وتعاني من مشكلات كبيرة على صعيدي الاعتراف بدورها التربوي في العملية التربوية من جهة، وعدم التوازن في توزيع المعلمين على المدارس اللبنانية وعدم تخصص غالبيتهم في المجال الفني من جهة أخرى.

٢- اختصاصات التربية الفنية في كلية التربية
بعد انطلاق المناهج الجديدة عام ١٩٩٧ قامت كلية التربية في الجامعة اللبنانية بإنشاء قسم خاص بالتربية الفنية تضمّن اختصاصات التربية المسرحية والتربية الموسيقية والتربية الفنية(فنون تشكيلية)، وتم إعداد المناهج الجامعية وشروط ومعايير قبول الطلاب كما تم التعاقد مع مجموعة من الأساتذة من حملة الدكتوراه في الاختصاصات المستحدثة، وانطلق العمل في هذا القسم الذي استقبل المئات من الطلاب على مدى خمسة أعوام. وبعد تخريج الدفعة الثانية من معلمي مواد الفنون، صدر قرار تجميد استقبال الطلاب في قسم التربية المسرحية، استتبع في السنة الثانية بقرار مماثل في قسم الفنون التشكيلية، فيما استمر العمل في قسم التربية الموسيقية فقط.

رقصة فولكلورية يؤديها التلاميذ في احتفال مدرسي

الأسباب المعلنة التي أدت إلى تجميد الاختصاصين المستحدثين ومن وجهة نظر أصحاب القرار في كلية التربية آنذاك كانت تستند إلى الآتي:

  • قرار وزير التربية الذي أوقف العمل بتطبيق تعليم الفنون في المدارس.
  • الازدواجية في الاختصاص بين التربية الفنية في كلية التربية والاختصاصات الفنية في معهد الفنون الجميلة (مسرح، فنون تشكيلية).
  • عدم وجود فرص عمل للمتخرجين من هذا القسم.

لقد تم اتخاذ القرار بتجميد الاختصاصين، من دون الرجوع إلى آراء الأساتذة في الأقسام المختصة(13)، ومن دون مناقشة الأسباب الموجبة معهم، وبالرغم من المحاولات المتكررة والمتعددة التي قام بها أساتذة القسمين المذكورين بهدف ثني المسؤولين عن السير بهذه الخطوة "غير المبررة" و"غير المقنعة" أكاديمياً، لم تتم مناقشة الأمر معهم، وأخذ القرار طريقه إلى التطبيق وتم تجميد القسمين المذكورين.

إلاّ أن تطبيق القرار وحصول التجميد لم يعنيا مطلقاً صوابية ومشروعية القرار نفسه، فالمبررات التي شكلت أرضية لتطبيق القرار كانت واهية، وكان للأساتذة المتخصصين بالتربية الفنية (رسم) والمسرحية آراؤهم وردودهم المناقضة لقرار التجميد، وتمحورت هذه الآراء حول الآتي:

  • - أولاً: إن قرار وزير التربية القاضي بتجميد المواد الإجرائية كمواد خاضعة للامتحانات لم يكن يستهدف "وجود" الفنون في المدارس، بل استهدف مسألة إخضاعها للامتحانات، وبالتالي فإن الحاجة لهذه المواد، تبقى قائمة لا بل ضرورية، خصوصاً وأنها أثبتت تأثيرها الإيجابي على العملية التربوية عالمياً ومحلياً. واستطراداً، فإن القرار ذاته قد جمّد تطبيق مواد الفنون لأسباب مادية وليس لأسباب تربوية، ويؤكد على ذلك شمول المناهج الجديدة لهذه المواد باعتبارها إحدى الخطوات التحديثية في المناهج الجديدة، إضافة إلى وضع المناهج والكتب ودليل المعلم لمختلف الصفوف والمواد من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء.

ولما كانت كلية التربية هي مؤسسة للتعليم العالي وتعنى بالشأنين الأكاديمي والتربوي وليس بالشأن المالي الذيشكل السبب الرئيسي لصدور قرار الوزير بالتجميد، لذايسقط هذا المبرر تربوياً. خصوصاً وأن العمل التربوي بحسب عميد كلية التربية آنذاك هو"عمل ارتقابي استشرافي" (14)، وانسجاماً مع هذا التوصيف للعمل التربوي تم تفريع اختصاصات جديدة في الإجازة التعليمية ومن ضمنها  اختصاصات التربية الفنية، فكيف ينسجم قرار تجميد الاختصاصات مع مبدأ الاستشراف التربوي؟ سؤال لا يزال ينتظر الإجابة.

  • ثانياً: من حيث الازدواجية في الاختصاص بين كلية التربية ومعهد الفنون الجميلة، يؤكد أصحاب الاختصاص عدم وجود هكذا ازدواجية، خاصة وأن الاختلاف بين الاختصاصين ليس في مضمون مواد التدريس فقط، بل في الأهداف العامة والخاصة لكل منهما، ففي كلية التربية يهدف اختصاص "التربية الفنية" إلى تخريج معلمين تربويين متخصصين في تعليم مواد فنية، وليس فنانين (ممثلين ومخرجين ورسامين) كما هو الحال في معهد الفنون الجميلة، تماماً كما هو حاصل في مواد التعليم الأخرى في كلية التربية ذاتها، ولنأخذ مثلاً، مادة الكيمياء أو الفيزياء التي تدرس في كلية العلوم كاختصاص علمي لكنها تدرس في كلية التربية كاختصاص تعليمي، وينطبق هذا المثال على مواد واختصاصات أخرى كالجغرافيا والتاريخ والأدب العربي أو الفرنسي أو الإنكليزي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية التي يقابلها في كلية التربية اختصاصات تعليمية لهذه المواد. فلماذا لا يتم تطبيق المبدأ ذاته على الفنون خصوصاً وأن لكل مجال إطاره الأكاديمي ومضمونه التعليمي وأهدافه التربوية؟
  • ثالثاً: من حيث عدم وجود فرص عمل للمتخرجين من هذا القسم. لقد أثبتت الوقائع عكس ذلك، حيث أن غالبية المتخرجين من الاختصاصات الفنية يعملون في مدارس خاصة، ويزداد الطلب عليهم سنة بعد أخرى، وذلك بسبب توقف وزارة التربية عن توظيف المعلمين من خريجي كلية التربية في ملاك التعليم الرسمي، وينطبق هذا أيضاً على هؤلاء المتخرجين ما ينطبق على رفاقهم من متخرجي كلية التربية في الاختصاصات كافة، حيث يلتحق جميعهم بالمدارس الخاصة وليس الرسمية. وإضافة إلى ذلك، لماذا يساق هذا المبرر لتجميد اختصاص حديث فيما تستمر الجامعة بتخريج الآلاف من العاطلين عن العمل في كلية الحقوق والعلوم السياسية ومعهد العلوم الاجتماعية وكلية الآداب والعلوم الإنسانية وغيرها من الكليات والمعاهد.

لقد كان تجميد الاختصاصات الفنية في كلية التربية بمثابة خطوة إلى الوراء جاءت لتستكمل قرار تجميد تعليم الفنون في المدارس ولتشكل عائقاً أمام تحقيق القفزة النوعية التحديثية التي أطلت بها المناهج الجديدة عام ١٩٩٧ . وهنا كانت الخسارة مزدوجة، فلم نخسر مواد الفنون وأثرها الإيجابي في العملية التربوية فقط، بل وخسرنا أيضاً الجهود الفكرية والمادية الهائلة التي تكبدّتها خزينة الدولة من خلال عمل المركز التربوي للبحوث والإنماء على إعداد المناهج وتأليف الكتب التي لا تزال تنتظر العودة عن قرار التجميد.


٣- الكادر التعليمي الخاص بالفنون في المدارس الرسمية

تشير الإحصاءات التي يجريها المركز التربوي للبحوث والإنماء سنوياً إلى الوضع غير المتوازن لتوزيع معلمي الفنون على المدارس وعلى المناطق اللبنانية، وكذلك الأمر بالنسبة لتوزيع الحصص الأسبوعية لمواد الفنون، حيث يتبين وبوضوح تراجع موقع الفنون على سلم اهتمامات الإدارات المدرسية لحساب المواد العلمية واللغات الأجنبية بشكل خاص. وهذا يبيّن ويؤشر إلى أن الفكر التربوي الذي يدير العملية التعليمية داخل مؤسسة المدرسة لا يزال في معظمه تقليدياً (traditionnel)، وغير قادر على التكيّف مع ما يطرأ من تغيير وتطوير على الواقع التربوي، خصوصاً في ما يتعلق بالطرائق والوسائل التعليمية الحديثة - والفنون إحداها- المعتمدة عالمياً والتي تشهد تطوراً مستمراً. وهنا نشير إلى أنه حتى في ظل غياب القرار الرسمي حول تعليم الفنون كمواد أساسية، يمكن للإدارات المدرسية أن تعتمدها كنشاطات لا صفية أو كنشاطات ضمن الأندية المدرسية، بشرط التعاطي معها من ضمن الإطار التربوي وليس الترفيهي فقط، وخصوصاً في المدارس التي يوجد فيها معلمو فنون، مع الإشارة إلى أن بعض هؤلاء يعمل خارج الإطار التربوي المحدد لمواد الفنون وذلك لأسباب متعددة تربوية وتنظيمية.

تمرين موسيقى داخل قاعة الصف

واستناداً إلى إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء للعام ٢٠٠٤ ، يتبيّن لنا أن ثمة فوارق كبيرة بين محافظة وأخرى لجهة وجود معلمي الفنون في المدارس، كما يظهر وبوضوح أن توزيع المعلمين على المدارس غير متوازن، لا بل يشكل حرماناً لبعض التلاميذ من إمكانية الافادة من الفنون في حياتهم المدرسية والاجتماعية، وما يمكن أن ينعكس على مستقبل هؤلاء لاحقاً، وهذا ما يتعارض مع حقوق التلاميذ لجهة المساواة في التعليم وعدم التمييز بين تلميذ وآخر كون التعليم حقاً مكتسباً لكل مواطن لبناني، فنلاحظ مثلاً أن في محافظتي الشمال والبقاع لا وجود لأي معلم فنون تشكيلية (رسم) في أي ثانوية رسمية، فيما يوجد القليل منهم في ثانويات المحافظات الأخرى، فهل يجوز أن تغيب هذه المادة نهائياً عن العملية التعليمية في مرحلة مهمة من مراحل التعليم ؟!. ومن جهة أخرى تتحكم "العشوائية" بتوزيع معلمي مواد الفنون على المدارس وهذا مرتبط بالوضع العام لتوزيع المعلمين على المدارس والمناقلات التي لا تراعي حاجات المدارس بقدر مراعاتها للوضع المعيشي والسكني ولأوضاع أخرى للمعلم، وهذا بحث آخر لسنا بصدده الآن.

ونعرض فيما يأتي لعدد من الجداول الإحصائية التي تضيء على واقع تعليم الفنون في المدارس الرسمية من حيث عدد المعلمين وتوزيعهم على المحافظات وعلى المراحل التعليمية وبحسب مواد الفنون المعتمدة في المدارس اللبنانية حالياً، مع الإشارة إلى وجود عدد كبير من المعلمين المسجلين على اللوائح الإحصائية كمعلمي فنون فيما غالبيتهم غير متخصصة بالمواد الفنية، وتم وضعهم في مدارسهم في خانة معلمي الفنون كأمر واقع كونهم موظفين في الملاك ولا يوجد ساعات تعليم فعلية في اختصاصاتهم الأساسية، وهؤلاء المعلمون يعملون تحت عنوان الفنون والنشاطات المختلفة.

                                      فنون تشكيلية (رسم) (رسمي)

موسيقى تشكيلية - رسم/رسمي

موسيقى رسمي

فنون ونشاطات مختلفة - يضم هذا الجدول معلمي الفنون التشكيلية والموسيقى والنشاطات المختلفة

كما لاحظنا، تؤشّر هذه الإحصاءات إلى وجود مشكلة كبيرة تتعلق في عدم توازن توزيع المعلمين على المدارس بين المحافظات من جهة، وإلى الحاجة الماسة لأعداد كبيرة من معلمي الفنون لتغطية حاجات المدارس الرسمية في كل لبنان من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يمكن التفكير جدياً بضرورة العمل على إعداد معلمين لمواد الفنون بحسب المناهج الجديدة، على أن يتم توزيعهم على المدارس اللبنانية كافة مع ضبط التحاقهم وبقائهم في مدارسهم لاحقاً من خلال وضع التشريعات القانونية اللازمة لذلك. وهذا يدخل ضمن التطلعات التي نتمنى أن تتحقّقَ في المستقبل القريب.

كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم  كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم  كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم كتب تعليم المواد الفنية بانتظار استخدامها في التعليم


تعليم الفنون في المدارس الخاصة

في الواقع، يتقدم موقع الفنون في المدارس الخاصة على مثيله في المدارس الرسمية، وذلك يعود من جهة إلى حرية الحركة والتفاعل مع التطورات التربوية الحديثة مما يتيح لأي مدرسة خاصة تعديل برامجها وإضافة ساعات فنون إليها، والتعاقد مع معلمين بسرعة وبدون أي عقبات إدارية. ومن جهة أخرى إلى تلازم فكرة التحديث في المناهج مع المصلحة المادية للمدرسة الخاصة، لتأمين استمراريتها كونها مجبرة بحكم الواقع على مجاراة الإنجازات التربوية التي تهم الأهل الذين هم بمثابة زبائن لدى مؤسسة المدرسة بالمعنى الإيجابي للكلمة، كونها تتقاضى أجراً مقابل تعليم أولادهم. وهذا ما يجعل الإدارة في المدرسة الخاصة مهتمه دائماً بتحقيق رغبات الأهل ضمن الإطار التربوي طبعاً، ولما كانت الفنون من النشاطات المحببة إلى قلوب الأهل والتلاميذ على السواء، نجد أن غالبية المدارس الخاصة تعتمد الفنون على أنواعها من رسم وموسيقى ومسرح. مع الإشارة إلى أن المدارس الخاصة تتعامل مع الفنون من زاويتي نظر، فمنها من تكتفي بوضعها ضمن إطار النشاطات اللاصفية والأندية المدرسية، ومنها من تتعاطى معها بوصفها وسيلة تربوية وتفرد لها موقعاً ضمن الساعات الأسبوعية وتتعامل معها كمواد تعليمية لا تقل أهمية عن غيرها. والملاحظ هنا أن المدارس الخاصة العريقة والمنفتحة على المناهج العالمية هي التي تضع الفنون على درجة عالية من سلم الاهتمامات التربوية، وكلما انحدر مستوى المدرسة الخاصة تربوياً تراجع اهتمامها بالفنون إلى درجة الانعدام في بعضها، بالرغم من بعض الاستثناءات القليلة في هذه المعادلة، ويلاحظ أيضاً في الآونة الأخيرة أن "عدوى" الفنون (وبخاصة المسرح لان الرسم والموسيقى موجودان أصلاً) تنتقل بسرعة بين المدارس الخاصة، وتجري مسابقات ومهرجانات ومعارض فنية للمدارس تقيمها المراكز الثقافية الأجنبية العاملة في لبنان وبعض الجمعيات اللبنانية التربوية الخاصة.

التطلعات

يشدد المهتمّون بالتربية الفنية في لبنان على ضرورة دمج الفنون بالعملية التربوية دمجاً حقيقياً وليس شكلياً، والانطلاق بهذه التجربة نحو الأمام لمواكبة التطورات العالمية في هذا المجال، مستندين إلى التجارب المحلية المتواضعة والأجنبية المتقدمة. وبالرغم من العقبات التي يمكن أن تواجه هذه الخطوة لأسباب متعددة أهمها حداثة التجربة وقلة الخبرة وغياب القناعة والاهتمام الرسمي بالفنون بشكل عام وبدورها التربوي بشكل خاص. بالرغم من كل ذلك، لا بد من السير نحو الأمام في هذا المسار وتحمل المشقات وتخطي العقبات لتحقيق الأهداف "التربوية" بامتياز، ولحصول ذلك لا بد من اتخاذ الخطوات الآتية:

  • المطالبة بالعودة عن قرار تجميد تعليم مواد الفنون في المدارس الرسمية والخاصة باعتبارها مواد أساسية من ضمن المنهج، حتى من دون إخضاعها للامتحانات، مع إيجاد الصيغة المناسبة للتقييم ولتعامل التلاميذ معها بجدية، مع الإشارة إلى أن ظروف العمل الفني وشروطه داخل المدرسة لا يتطلب تجهيزات كبيرة ومكلفة مادياً كما يظن البعض، بل من الممكن القيام بكل النشاطات الفنية من مسرح وموسيقى وفنون تشكيلية بكلفة زهيدة جداً وفي القاعة المتوافرة في المدرسة أو في قاعة الصف، لطالما كان العمل المطلوب هو في الإطار التربوي.
  • إعادة العمل في أقسام التربية الفنية في كلية التربية باختصاصاتها كافة، أو إعادة فتح دور المعلمين في حال استمرار تجميد الاختصاصات الفنية في كلية التربية، لتأمين إعداد أكبر عدد ممكن من المعلمين للمواد الفنية بحسب المناهج الجديدة، ووضع خطة سنوية أو خمسية لإعداد معلمين لمواد الفنون لكل المدارس الرسمية اللبنانية من دون تمييز أو تفضيل (14).
  • إعادة تدريب معلمي المواد الفنية الداخلين في الملاك على الطرائق الحديثة في تعليم التربية الفنية بما يتلاءم مع توجهات المناهج الجديدة وأهدافها.
  • إصدار التشريعات اللازمة لتأمين ثبات مواد الفنون ضمن المنهج وفتح الآفاق أمام تطورها وتفاعلها مع المؤسسات والهيئات الرسمية والأهلية المحلية والدولية المهتمة بالفنون.

 

هوامش:

  1. نبيل راغب،النقد الفني، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة، ١٩٩٦ ، ص. 20
  2. الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، المركز التربوي للبحوث والانماء، ص. ٣٣
  3. المرجع السابق، ص. ٢٤
  4. د. حسن رزق عبد النبي، المسرح التعليمي للأطفال،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة، ١٩٩٣، ص. ٤
  5. د. منير المرسي سرحان، في اجتماعيات التربية، دار النهضة العربية، بيروت، ١٩٨١، ص ١٤٤
  6. مناهج التعليم العام وأهدافها، المركز التربوي للبحوث والانماء، ص. ٧٧٩
  7. الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان، ص. ٣٨
  8. المرجع السابق، ص. ٣٦
  9. مناهج التعليم العام وأهدافها، ص. ١٣
  10.  المرجع السابق، ص. ٧
  11. المرجع السابق، ص. ١٠
  12. المرجع السابق ، ص. ٧٧٩
  13. كاتب هذا المقال هو أستاذ ومنسق قسم التربية المسرحية في كلية التربية.
  14. نشير هنا إلى مفارقة إحصائية مهمة في إطار تنظيم توزيع معلمي الفنون على المدارس الرسمية. فالإحصاءات تشير إلى وجود ٨٧٠ معلم فنون تشكيلية (رسم) و ٥١٣ معلم موسيقى. كما تشير إلى وجود ٣٥٥٠ معلم "فنون ونشاطات مختلفة" ما يمثل مجموع معلمي الرسم والموسيقى إضافة إلى المعلمين الذين يعلّمون مواد فنية لكنهم غير متخصصين فيها. أي أن الصفة الوظيفية لهم في مدارسهم هي "معلم فنون ونشاطات مختلفة لكنهم في الحقيقة لا يتقنون تعليم الفنون بل هم أصحاب اختصاص في المواد التعليمية الأخرى، والتي لا يعلموها لاسباب متعددة أهمها عدم الكفاءة والأسباب الصحية وعدم وجود ساعات في المواد المطلوبة وعدم القدرة على نقلهم إلى مدارس أخرى. وبما أن عدد المدارس الرسمية هو ١٣٩٤ مدرسة، وعدد معلمي الفنون هو ٣٥٥٠ معلم. نستنتج انه لو كان هذا العدد من المعلمين الذين يتقاضون رواتبهم من الدولة متخصصين في الفنون بموجب صفتهم الوظيفية، ويعلمون الفنون بالطرق التربوية الصحيحة، وموزعين على المدارس الرسمية اللبنانية بالتساوي، لما كانت هناك مشكلة فيما يتعلق بتعليم الفنون، ولكان هذا العدد كافياً لتغطية المدارس الرسمية كافة بمعلمين لمواد الرسم والموسيقى والمسرح. ونستنتج في النهاية بأن الدولة تدفع رواتب معلمي الفنون لا كثرية لا تعلمها، وان الخاسر  الأكبر من جراء افتقار المناهج لمواد الفنون بحسب المنهجية الجديدة هو التلميذ.