صور الكتاب المدرسي مدخل المعرفة التكوينية - من عمر ٤ حتى ١٠ سنوات

د.منى دياب"الهدف من التربية تغيير كينونة اولادنا عما نحن عليه (شارلمان 742 - 814)

"الهدف الاول من التربية هو خلق اناس مبدعين ومكتشفين ومخترعين"(1) (جان بياجيه 1896 - 1980)

"صور الزهور في لوحاتي ستخلد اسمي" (ڤنسنت ڤان غوغ 1890- 1853)

 

التربية ليست عملية نقل للتراث، او عملية تثقيفية تلقينية، "مثاقفة" عبر الاجيال، بل هي عملية رفض للطابع السكوني الموجود في جيل معين، وهي عملية تعريف بالموجود المعرفي للانطلاق الى التجديد.
ويجدر بنا القول ان المدرسة فقدت دورها كأداة للحفاظ على الاوضاع القائمة، واستمرارها اليوم مرهون بخدمة الواقع المتطور المهيئ للابداع من عملية التربية، وباختصار شديد اصبحت التربية هي هذا "التفاعل الاجتماعي"(2) بين الجانب التربوي النظري والمتداخل كلياً مع الجانب التطبيقي التربوي الذي يولد المعايير والمفاهيم الاجتماعية والطفل والعلاقات بمحيطه المتمثل بالأسرة ثم المدرسة. وكلا هذين المنظورين، المنظور التطبيقي والنظري، لا يؤتيان ثمارهما الا ضمن
عمليتين: الاستيعاب = (assimilation) الملاءمة = (accommodation) فالطفل ليس فقط مستقبلاً لما حوله بل ومنتجاً لمعارفه ايضاً(3).

مكونات المعرفة التكوينية
الطفل اليوم يجب ألا يحدّ بنموذج التفكير المعلب والمقنن بل يجب اطلاقه الى عالم معرفي غير محدد، يستطيع من خلاله تشكيل نواة المعرفة التكوينية لمستقبل واعد: "القياس العقلي عند الاطفال يخضع لمبدأ الاستنباط العقلي، الذي يندرج في استخراج قوانينه وفقاً للاصول المنطقية من عدم تناقض،واستقلال المسلمات، والتمامية من دون اغفال المستوى للطفل من جسد الى عقل الى عاطفة الى اخلاق"(4)، فبنية الطفل كل متكامل، والبعد الاجتماعي هو عامل خلاق في النمو التكويني المعرفي.

هذا مع الاعتراف الدائم بالفوارق الفردية، لان التربية مسألة انسانية و"لا يجدر بالدراسات الانسانية اعتماد الاستدلال على القضايا الكلية، والا اصبح التعميم تعسفياً"(5)، فلا يجوز اطلاق احكام تعميمية ثابتة لموضوع متغير هو الانسان، والطفولة هي اولى مراحله.

ان مرحلة الطفولة عالم يصعب الولوج الى اعماقها، ما لم نتخل عن مواقفنا كراشدين فالفرق جمّ بين عالمنا وعالمهم، وابسط الاشياء في نظرنا معقدة عند الطفل، لذا على الدارس لنظم المعرفة التكوينية عند الطفل ان يتحرر من ان يعزو لايماءات الطفل المعنى الكامل الذي قد يكون لهذه الايماءات عنده، فالتخلي عن الاحكام المسبقة وانشاء علاقة مباشرة معه هي الطريق السوي لموضوعية التعمق وبناء المعرفة لدى الطفل، لان مدركاته ومفاهيمه هي بناء تدريجي متكامل ومتوازن مع مسيرة نموه.

صور الكتاب المدرسي وتطوير المناهج
بعد طرح مسألة تطوير المناهج وبعد ان اقرت السياسة التربوية الاهتمام بقدرات الطفل (منهج الروضة الاولى يهدف من خلال نشاطاته الى تأمين جو متكامل ينمو فيه الطفل جسدياً وعقلياً وعاطفياً واجتماعياً، ليتكيف مع البنية الجديدة التي هي المدرسة). وبعيداً عن النصوص نرى ان هدف تعليم القراءة في السنة الاولى الابتدائية تتلخص في تقويم لفظ التلميذ وتعريفه بعدد محدود من الجمل والمفردات واكتشاف الاصوات بالسماع تمهيداً للتعرف بالحروف من خلال جمل قصيرة سهلة الكلمات، ومن ثم تعويد الطفل على القراءة السريعة(6) . بغض النظر عما إذا كانت مواضيع القراءة هي من بيئة الطفل او مما يثير اهتمامه، او اذا كانت هذه المواضيع مترابطة او غير مترابطة، مع ان اطار علم الاجتماع التربوي يتمثل في كون العلوم الانسانية غير قابلة للانفصال بعضها عن بعض، بل على العكس هي لا تكتمل الا حين تتكامل.

واذ قدّمَنا بكل هذه الامور فلأن المنهجية الجديدة، وتطويرها المطروح اليوم لم يلحظ في حيثياته أي اشارة الى اهمية ومنهجية الرسوم والصور في حياة الطفل، مع ما لهذا الامر من اهمية، وفي نظرة تاريخية الى الحضارات نرى ان المراسلات تمت فيما بين شعوبها بالرسوم بل ودونت تاريخها بها(7)، فالرسوم اقدم الكلمات، والحروف اليوم التي تتشكل منها الكلمة والجملة ليست سوى تجريد للحياة اليومية التي نعيشها. من هنا لا بد من نظرة عميقة وعملية ومقننة الى مسألة الصور في الكتب المدرسية لما لها من تأثير على عقول الناشئة . كما لا بد من طرح اسئلة تنير جوانب الموضوع:

  • ما اهمية وجود رسوم في الكتاب المدرسي؟
  • ما الرؤية التي نبعثها من هذه الرسوم والصور؟
  • كيفية التعامل مع الرسوم والصور في الكتاب المدرسي؟
  • ما هي النتائج المعرفية لهذه الرسوم والصور؟

الصور والرسوم وعلاقتها بالحواس
الصورة مفهوم يتعلق بالحواس، واولها حاسة النظر وهي اول مداخل المعرفة وبوابة العقل، وهي أول خطوة في الإدراك، وأول وظيفة للصورة هي جعل المثير (موضوع الصورة) او جزء منه بؤرة اهتمام معرفي لدى الطفل او الرائي.

يبدأ مفعول الصورة منذ بدء الطفل بتمييز ذاته عن الاشياء من حوله ثم بتمييز الاشخاص المتعاملين معه (الام، الاب) عن غيرهم ثم تمييز الاشياء بعضها عن بعض، ثم بتمييز الصورة المغايرة لصورة اخرى. وتمييز النمو عن التعلم امر ملزم في هذه العملية فالنمو نابع من دوافع ذاتية تلقائية، بينما التعلم نابع من مواقف معينة وتجارب مصطنعة. (8) النمو عملية اساسية ويمكن تفسير التعلم استناداً اليها، فالطفل في عمر ٤ سنوات يقابله تعلّم مماثل، لان التعلم وظيفة من وظائف النمو وليس العكس.

من هنا نشأ ارتباط الصورة كمؤثر ناجح اذا ارتبط بعامل العمر الزمني للطفل، وكلما رمزت الصورة وارتبطت بمحيط الطفل نفسه، كلما ازداد فهمه لها. هذا بالاضافة الى ان ما يراه الاطفال ويلاحظونه لا يراه الكبار ولا يلاحظونه، فعنصر الحجم له مقاييس مختلفة لديهم، فكم يحاول الطفل ادخال قدمه في لعبة تمثل سيارة لا يزيد طولها عن خمسة سنتيمترات. فالمنطق والتجريد والمسافات لا تعني له شيئاً. وهذا ينعكس على الصورة او الرسم الذي يتناول حياته التعليمية اليومية فالطفل يفسر الصور بما يتناسب ومفاهيمه فيعطي اهمية ورهبة لرسم كبير لهرة صغيرة اكثر مما يعطي رهبة واهمية لرسم صغير لحية صغيرة.

الصورة عند الطفل تتعلق بالحواس والحيز المكاني والمفهوم العلائقي، فقد ينشئ الطفل علاقة مع صورة فيتحدث معها كما ينشئ علاقة مع طفل آخر، والذكاء الحسي الحركي هو مقياس التعامل مع الآخر - الآخر يعني كل ما هو غيره - فالرمز عند الطفل هو مجموعة (groupe) حتى صورته في المرآة - هذا طفل وانا آخر - والتجميعات (الطفلين) هي من التجميعات المعرفية الجبرية عنده نتيجة لتبسيطه للمعرفة. وهذا التبسيط يستمر حتى عمر خمس سنوات حيث لا يتقبل عقله التجريد عن الآخرين. وفعلياً التجريد لا يبدأ الا بعمر اثني عشر عاماً وما بعد(9). امكانات ربط الصور والرسوم بالمعرفة التكوينية لدى الطفل تتمحور حول درجة نمو الطفل ومقدراته الفكرية: ففي عمر سنتين ونصف يربط الصورة بالصوت (صورة الهرة والمواء)، وكلما تقدم عمره الزمني ربط الصورة بمعلوماته الادراكية مجتمعة من شكل ولون وحجم (ثلات مكونات)، وكلما كانت الصورة اقرب الى الواقع تمّ ربط المعلومة المقدمة بمكوناته الادراكية (لون الشوكولاته اسود، لون الحليب ابيض). والسؤال المتبادر الى الذهن هو متى يحسن بنا تقديم الصورة كموضوع تعلمي للطفل؟ ما مقدار محتوى الصورة الذي يمكن ان يستوعبه الطفل؟ ما هي الطريقة الفضلى التي تقدم فيها الصورة (ضمن اطار او ضمن موضوع)؟

معامل ارتباط معارف الطفل ومفاهيمه بالرسوم والصور وعامل العمر الزمني
تبدأ معرفة الطفل وادراكه لرسم يقدم اليه بعمر ثلاثين شهراً (سنتان ونصف)، أي بعد ان ينضج عنده ارتباط الرؤية والحس. اما العدد فلا يتوافر عنده قبل عمر الست سنوات ومعرفة الطفل بالعدد في هذا العمر لا تعني ادراكه لمفهوم الكمية او مفهوم "الكل" و "البعض" فاذا سألت طفلاً بعمر ٦
- ٨ سنوات: ما ثمن سيارة والدك؟ اجاب باعلى رقم يحفظه، وهو عامة مؤلف من ثلاثة ارقام(10) . واذا سألته مقارنة بين صورتين فيهما نفس العدد من الاشخاص ولكن باحجام مختلفة يعطي الرقم الاكبر للأكبر حجماً. فالطفل يجيب عن عدد اخوته قائلاً:
"عندي ثلاثة اخوة: سليم وكميل وانا". فمفهوم العدد لا يكتمل الا بعمر ١٢ سنة. كما ان الطفل في عمر ست سنوات لا يميز الزمن فالبارحة قد تعني عنده اولى الذكريات المندرجة في وعيه، كما ان قبل الظهر وبعد الظهر لا تعني عنده اكثر من اليوم والفصل (الشتاء او الصيف) مرتبط بزمنه المعيش. لذا يجب ان ترتبط الصورة المقدمة للطفل في كتابه المدرسي بالزمن المترافق معها. لانه لا يستطيع ربط صورة الثلج بفصل الشتاء اذا قدم له في الصيف فعامل الزمن عنده هو الحاضر والمكان هو المحيط به (12). فالتدرج الزمني مرتبط بالواقع والتجريد امر بعيد عن مدركاته، واي سلوك يؤدي عنده الى معرفة تتمحور حول نشاط واقع مرادف للسلوك من داخلي (الفكر والادراك) الى خارجي (ملموس)(13).

الصورة تعني لدى الطفل المفهوم الخاص المكون في مدركاته وليس المفهوم العام الذي تعنيه، ومفهومه الخاص يتمحور حول منتجه المعرفي عن محيطه، لذا لا يجوز ادراج رسم قد لا يتوافر في بيئته المعيشة (اجابة طفل يعيش في افريقية عن طفل "الاسكيمو" الذي يعيش في بيت ثلجي (igloo) هي طفل يغرق في وعاء من اللبن(14).

فالعملية الذهنية لفهم رؤية بصرية لا ينفصل عن النشاط الحيوي والمحيطي للطفل وتعبيره عنها لا ينفصل عن بيئته الذهنية وقدرته اللغوية، وتعبيره هذا هو التمثيل الاجرائي لما يمكنه استيعابه وملاءمة لادراكه، أي هو عملية تحويل مادة مثيرة لبؤرة معرفية الى نشاط حسي بنظم العلاقة بين المدخلات الادراكية والمخرجات اللفظية لترجمة عملية النشاط المعرفي(15).

تحفّز الصورة بؤرة اهتمام الطفل ليصل الى النشاط الذي وضعت لاجله لذا فلا انتاج لمعرفة طبيعية الا بالمرور عبر حاسة (الرؤية، البصر) (السمع، الصوت)(16) . وبعد اثارة الحاسة يأتي تحفيز الادراك للاحتفاظ بالمؤثر بشكل معرفة ومعلومات ناقلة لتجربة حسية معينة، ويظهرها الطفل بشكل تعابير لغوية. من هنا يبدأ ويُفتح المجال التعلمي بالصور كأهداف ادراكية وموصلة جيدة لمفاهيم المناهج(17) . ولمراعاة غياب المنطق عند الطفل يجدر بنا انتقاء المعقول البديهي في معايير اختيار الصور والرسوم لتجنب ارباك الطفل المعرفي فمواصفات صور ورسوم سلاسل الكتاب المدرسي على صعيد الذكر وليس الحصر يجب ان تراعي:

  1. ان تكون الصور من بيئة الطفل.
  2. ان تجاري زمنه العمري.
  3. ان تراعي العمليات العقلية لجهازه المنطقي.
  4. السهولة والوضوح.
  5. عدم تراكم المواضيع (وحدة الموضوع)
  6. ان تخدم الصورة هدفاً تعلمياً واحداً.
  7. ان تكرس الصورة وظيفة فهم اكثر للذات وتمييزها عن الآخرين.
  8. ان توازن الصورة بين الوجود المادي والعاطفي للطفل لان الطريق الاقرب للتعلم هو علاقة الطفل باحاسيسه.

واخيراً ان الصورة توحد مختلف النشاطات المنطقية والابداعية والاجتماعية عند الطفل، وهي مرتكز يجب الاهتمام به لانه يشكل اللبنة الاولى في صرح التعلم عند الاطفال(18) .


المراجع:

1- بياجيه، مدخل الى المعرفة التكوينية، دار المعارف، القاهرة ١٩٥٩ ، ص ٥ 

    راجع ايضا: (Piaget. J. introduction à l'épistémologie génétique - Paris, Presses universitaires de France, 1950)

2 - اسحق ناتان، مقال عن بياجيه، الخطوط العريضة الهادفة في عمل بياجيه، لندن ١٩٧٢ ، نشر فوربل العالمية للتربية.

3- Piaget. J. La naissance de l'intelligence,  Neuchâtel, Delachaux et  Neistle, 1969.

4 - راجع د. فاخوري عادل، المنطق الرياضي، دار المعرفة، ١٩٨٠

5 - الامام محمد باقر الصدر، الاسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف . للمطبوعات، ط ٤، لبنان، ١٩٧٩ ، ص ٢٠

6 - المنهجية الجديدة، المركز التربوي للبحوث والإنماء.

7 - الحضارة السومرية ٧ آلاف سنة قبل الميلاد، دائرة المعارف.

8 - غسان يعقوب، التطور المعرفي للطفل عند بياجيه، دار الكتاب اللبناني، . بيروت ١٩٧٣ ، ط ١، ص ١٥١

9- Piaget. J. Le langage et la pensée chez l'enfant (2d), Neuchâtel, Delachaux 1930

10- Piaget. J. Le jugement et la raisonnement chez l'enfant, Neuchâtel, Delachaux 1960

11- Binet. l'Alfred mesure du développement de l'intelligence chez les enfants, Paris, Gaillard

12- Piaget. J. ,La représentation du monde chez l'enfant(m.ed) Paris, PUF, Alcan,1938

13- بياجيه، علم النفس المعرفي، منشورات اليونسكو 1949 - 1950، ص 10.

14- بياجيه، علم نفس الطفل، ترجمة د. عبد الرزاق، 1969

15- د. دسوقي كمال، الادراك الكلي عند الطفل، مكتبة الانجلو- مصرية، القاهرة، ١٩٧٨ ص ١١٠ وما بعدها.

16 - د. غسان يعقوب، تطور الطفل عند بياجيه، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1973، ط. 1، ص 67

17 - م.س. ص ٢٣ . راجع ايضاً:         Piaget. J. construction du réel chez L'enfant, (ed.2), Neuchâtel, Delachaux 1950, P.192

18- Piaget. J. la naissance de l'intelligence chez l'enfant, Neuchâtel, Delachaux 1969

صور الكتاب المدرسي مدخل المعرفة التكوينية - من عمر ٤ حتى ١٠ سنوات

د.منى دياب"الهدف من التربية تغيير كينونة اولادنا عما نحن عليه (شارلمان 742 - 814)

"الهدف الاول من التربية هو خلق اناس مبدعين ومكتشفين ومخترعين"(1) (جان بياجيه 1896 - 1980)

"صور الزهور في لوحاتي ستخلد اسمي" (ڤنسنت ڤان غوغ 1890- 1853)

 

التربية ليست عملية نقل للتراث، او عملية تثقيفية تلقينية، "مثاقفة" عبر الاجيال، بل هي عملية رفض للطابع السكوني الموجود في جيل معين، وهي عملية تعريف بالموجود المعرفي للانطلاق الى التجديد.
ويجدر بنا القول ان المدرسة فقدت دورها كأداة للحفاظ على الاوضاع القائمة، واستمرارها اليوم مرهون بخدمة الواقع المتطور المهيئ للابداع من عملية التربية، وباختصار شديد اصبحت التربية هي هذا "التفاعل الاجتماعي"(2) بين الجانب التربوي النظري والمتداخل كلياً مع الجانب التطبيقي التربوي الذي يولد المعايير والمفاهيم الاجتماعية والطفل والعلاقات بمحيطه المتمثل بالأسرة ثم المدرسة. وكلا هذين المنظورين، المنظور التطبيقي والنظري، لا يؤتيان ثمارهما الا ضمن
عمليتين: الاستيعاب = (assimilation) الملاءمة = (accommodation) فالطفل ليس فقط مستقبلاً لما حوله بل ومنتجاً لمعارفه ايضاً(3).

مكونات المعرفة التكوينية
الطفل اليوم يجب ألا يحدّ بنموذج التفكير المعلب والمقنن بل يجب اطلاقه الى عالم معرفي غير محدد، يستطيع من خلاله تشكيل نواة المعرفة التكوينية لمستقبل واعد: "القياس العقلي عند الاطفال يخضع لمبدأ الاستنباط العقلي، الذي يندرج في استخراج قوانينه وفقاً للاصول المنطقية من عدم تناقض،واستقلال المسلمات، والتمامية من دون اغفال المستوى للطفل من جسد الى عقل الى عاطفة الى اخلاق"(4)، فبنية الطفل كل متكامل، والبعد الاجتماعي هو عامل خلاق في النمو التكويني المعرفي.

هذا مع الاعتراف الدائم بالفوارق الفردية، لان التربية مسألة انسانية و"لا يجدر بالدراسات الانسانية اعتماد الاستدلال على القضايا الكلية، والا اصبح التعميم تعسفياً"(5)، فلا يجوز اطلاق احكام تعميمية ثابتة لموضوع متغير هو الانسان، والطفولة هي اولى مراحله.

ان مرحلة الطفولة عالم يصعب الولوج الى اعماقها، ما لم نتخل عن مواقفنا كراشدين فالفرق جمّ بين عالمنا وعالمهم، وابسط الاشياء في نظرنا معقدة عند الطفل، لذا على الدارس لنظم المعرفة التكوينية عند الطفل ان يتحرر من ان يعزو لايماءات الطفل المعنى الكامل الذي قد يكون لهذه الايماءات عنده، فالتخلي عن الاحكام المسبقة وانشاء علاقة مباشرة معه هي الطريق السوي لموضوعية التعمق وبناء المعرفة لدى الطفل، لان مدركاته ومفاهيمه هي بناء تدريجي متكامل ومتوازن مع مسيرة نموه.

صور الكتاب المدرسي وتطوير المناهج
بعد طرح مسألة تطوير المناهج وبعد ان اقرت السياسة التربوية الاهتمام بقدرات الطفل (منهج الروضة الاولى يهدف من خلال نشاطاته الى تأمين جو متكامل ينمو فيه الطفل جسدياً وعقلياً وعاطفياً واجتماعياً، ليتكيف مع البنية الجديدة التي هي المدرسة). وبعيداً عن النصوص نرى ان هدف تعليم القراءة في السنة الاولى الابتدائية تتلخص في تقويم لفظ التلميذ وتعريفه بعدد محدود من الجمل والمفردات واكتشاف الاصوات بالسماع تمهيداً للتعرف بالحروف من خلال جمل قصيرة سهلة الكلمات، ومن ثم تعويد الطفل على القراءة السريعة(6) . بغض النظر عما إذا كانت مواضيع القراءة هي من بيئة الطفل او مما يثير اهتمامه، او اذا كانت هذه المواضيع مترابطة او غير مترابطة، مع ان اطار علم الاجتماع التربوي يتمثل في كون العلوم الانسانية غير قابلة للانفصال بعضها عن بعض، بل على العكس هي لا تكتمل الا حين تتكامل.

واذ قدّمَنا بكل هذه الامور فلأن المنهجية الجديدة، وتطويرها المطروح اليوم لم يلحظ في حيثياته أي اشارة الى اهمية ومنهجية الرسوم والصور في حياة الطفل، مع ما لهذا الامر من اهمية، وفي نظرة تاريخية الى الحضارات نرى ان المراسلات تمت فيما بين شعوبها بالرسوم بل ودونت تاريخها بها(7)، فالرسوم اقدم الكلمات، والحروف اليوم التي تتشكل منها الكلمة والجملة ليست سوى تجريد للحياة اليومية التي نعيشها. من هنا لا بد من نظرة عميقة وعملية ومقننة الى مسألة الصور في الكتب المدرسية لما لها من تأثير على عقول الناشئة . كما لا بد من طرح اسئلة تنير جوانب الموضوع:

  • ما اهمية وجود رسوم في الكتاب المدرسي؟
  • ما الرؤية التي نبعثها من هذه الرسوم والصور؟
  • كيفية التعامل مع الرسوم والصور في الكتاب المدرسي؟
  • ما هي النتائج المعرفية لهذه الرسوم والصور؟

الصور والرسوم وعلاقتها بالحواس
الصورة مفهوم يتعلق بالحواس، واولها حاسة النظر وهي اول مداخل المعرفة وبوابة العقل، وهي أول خطوة في الإدراك، وأول وظيفة للصورة هي جعل المثير (موضوع الصورة) او جزء منه بؤرة اهتمام معرفي لدى الطفل او الرائي.

يبدأ مفعول الصورة منذ بدء الطفل بتمييز ذاته عن الاشياء من حوله ثم بتمييز الاشخاص المتعاملين معه (الام، الاب) عن غيرهم ثم تمييز الاشياء بعضها عن بعض، ثم بتمييز الصورة المغايرة لصورة اخرى. وتمييز النمو عن التعلم امر ملزم في هذه العملية فالنمو نابع من دوافع ذاتية تلقائية، بينما التعلم نابع من مواقف معينة وتجارب مصطنعة. (8) النمو عملية اساسية ويمكن تفسير التعلم استناداً اليها، فالطفل في عمر ٤ سنوات يقابله تعلّم مماثل، لان التعلم وظيفة من وظائف النمو وليس العكس.

من هنا نشأ ارتباط الصورة كمؤثر ناجح اذا ارتبط بعامل العمر الزمني للطفل، وكلما رمزت الصورة وارتبطت بمحيط الطفل نفسه، كلما ازداد فهمه لها. هذا بالاضافة الى ان ما يراه الاطفال ويلاحظونه لا يراه الكبار ولا يلاحظونه، فعنصر الحجم له مقاييس مختلفة لديهم، فكم يحاول الطفل ادخال قدمه في لعبة تمثل سيارة لا يزيد طولها عن خمسة سنتيمترات. فالمنطق والتجريد والمسافات لا تعني له شيئاً. وهذا ينعكس على الصورة او الرسم الذي يتناول حياته التعليمية اليومية فالطفل يفسر الصور بما يتناسب ومفاهيمه فيعطي اهمية ورهبة لرسم كبير لهرة صغيرة اكثر مما يعطي رهبة واهمية لرسم صغير لحية صغيرة.

الصورة عند الطفل تتعلق بالحواس والحيز المكاني والمفهوم العلائقي، فقد ينشئ الطفل علاقة مع صورة فيتحدث معها كما ينشئ علاقة مع طفل آخر، والذكاء الحسي الحركي هو مقياس التعامل مع الآخر - الآخر يعني كل ما هو غيره - فالرمز عند الطفل هو مجموعة (groupe) حتى صورته في المرآة - هذا طفل وانا آخر - والتجميعات (الطفلين) هي من التجميعات المعرفية الجبرية عنده نتيجة لتبسيطه للمعرفة. وهذا التبسيط يستمر حتى عمر خمس سنوات حيث لا يتقبل عقله التجريد عن الآخرين. وفعلياً التجريد لا يبدأ الا بعمر اثني عشر عاماً وما بعد(9). امكانات ربط الصور والرسوم بالمعرفة التكوينية لدى الطفل تتمحور حول درجة نمو الطفل ومقدراته الفكرية: ففي عمر سنتين ونصف يربط الصورة بالصوت (صورة الهرة والمواء)، وكلما تقدم عمره الزمني ربط الصورة بمعلوماته الادراكية مجتمعة من شكل ولون وحجم (ثلات مكونات)، وكلما كانت الصورة اقرب الى الواقع تمّ ربط المعلومة المقدمة بمكوناته الادراكية (لون الشوكولاته اسود، لون الحليب ابيض). والسؤال المتبادر الى الذهن هو متى يحسن بنا تقديم الصورة كموضوع تعلمي للطفل؟ ما مقدار محتوى الصورة الذي يمكن ان يستوعبه الطفل؟ ما هي الطريقة الفضلى التي تقدم فيها الصورة (ضمن اطار او ضمن موضوع)؟

معامل ارتباط معارف الطفل ومفاهيمه بالرسوم والصور وعامل العمر الزمني
تبدأ معرفة الطفل وادراكه لرسم يقدم اليه بعمر ثلاثين شهراً (سنتان ونصف)، أي بعد ان ينضج عنده ارتباط الرؤية والحس. اما العدد فلا يتوافر عنده قبل عمر الست سنوات ومعرفة الطفل بالعدد في هذا العمر لا تعني ادراكه لمفهوم الكمية او مفهوم "الكل" و "البعض" فاذا سألت طفلاً بعمر ٦
- ٨ سنوات: ما ثمن سيارة والدك؟ اجاب باعلى رقم يحفظه، وهو عامة مؤلف من ثلاثة ارقام(10) . واذا سألته مقارنة بين صورتين فيهما نفس العدد من الاشخاص ولكن باحجام مختلفة يعطي الرقم الاكبر للأكبر حجماً. فالطفل يجيب عن عدد اخوته قائلاً:
"عندي ثلاثة اخوة: سليم وكميل وانا". فمفهوم العدد لا يكتمل الا بعمر ١٢ سنة. كما ان الطفل في عمر ست سنوات لا يميز الزمن فالبارحة قد تعني عنده اولى الذكريات المندرجة في وعيه، كما ان قبل الظهر وبعد الظهر لا تعني عنده اكثر من اليوم والفصل (الشتاء او الصيف) مرتبط بزمنه المعيش. لذا يجب ان ترتبط الصورة المقدمة للطفل في كتابه المدرسي بالزمن المترافق معها. لانه لا يستطيع ربط صورة الثلج بفصل الشتاء اذا قدم له في الصيف فعامل الزمن عنده هو الحاضر والمكان هو المحيط به (12). فالتدرج الزمني مرتبط بالواقع والتجريد امر بعيد عن مدركاته، واي سلوك يؤدي عنده الى معرفة تتمحور حول نشاط واقع مرادف للسلوك من داخلي (الفكر والادراك) الى خارجي (ملموس)(13).

الصورة تعني لدى الطفل المفهوم الخاص المكون في مدركاته وليس المفهوم العام الذي تعنيه، ومفهومه الخاص يتمحور حول منتجه المعرفي عن محيطه، لذا لا يجوز ادراج رسم قد لا يتوافر في بيئته المعيشة (اجابة طفل يعيش في افريقية عن طفل "الاسكيمو" الذي يعيش في بيت ثلجي (igloo) هي طفل يغرق في وعاء من اللبن(14).

فالعملية الذهنية لفهم رؤية بصرية لا ينفصل عن النشاط الحيوي والمحيطي للطفل وتعبيره عنها لا ينفصل عن بيئته الذهنية وقدرته اللغوية، وتعبيره هذا هو التمثيل الاجرائي لما يمكنه استيعابه وملاءمة لادراكه، أي هو عملية تحويل مادة مثيرة لبؤرة معرفية الى نشاط حسي بنظم العلاقة بين المدخلات الادراكية والمخرجات اللفظية لترجمة عملية النشاط المعرفي(15).

تحفّز الصورة بؤرة اهتمام الطفل ليصل الى النشاط الذي وضعت لاجله لذا فلا انتاج لمعرفة طبيعية الا بالمرور عبر حاسة (الرؤية، البصر) (السمع، الصوت)(16) . وبعد اثارة الحاسة يأتي تحفيز الادراك للاحتفاظ بالمؤثر بشكل معرفة ومعلومات ناقلة لتجربة حسية معينة، ويظهرها الطفل بشكل تعابير لغوية. من هنا يبدأ ويُفتح المجال التعلمي بالصور كأهداف ادراكية وموصلة جيدة لمفاهيم المناهج(17) . ولمراعاة غياب المنطق عند الطفل يجدر بنا انتقاء المعقول البديهي في معايير اختيار الصور والرسوم لتجنب ارباك الطفل المعرفي فمواصفات صور ورسوم سلاسل الكتاب المدرسي على صعيد الذكر وليس الحصر يجب ان تراعي:

  1. ان تكون الصور من بيئة الطفل.
  2. ان تجاري زمنه العمري.
  3. ان تراعي العمليات العقلية لجهازه المنطقي.
  4. السهولة والوضوح.
  5. عدم تراكم المواضيع (وحدة الموضوع)
  6. ان تخدم الصورة هدفاً تعلمياً واحداً.
  7. ان تكرس الصورة وظيفة فهم اكثر للذات وتمييزها عن الآخرين.
  8. ان توازن الصورة بين الوجود المادي والعاطفي للطفل لان الطريق الاقرب للتعلم هو علاقة الطفل باحاسيسه.

واخيراً ان الصورة توحد مختلف النشاطات المنطقية والابداعية والاجتماعية عند الطفل، وهي مرتكز يجب الاهتمام به لانه يشكل اللبنة الاولى في صرح التعلم عند الاطفال(18) .


المراجع:

1- بياجيه، مدخل الى المعرفة التكوينية، دار المعارف، القاهرة ١٩٥٩ ، ص ٥ 

    راجع ايضا: (Piaget. J. introduction à l'épistémologie génétique - Paris, Presses universitaires de France, 1950)

2 - اسحق ناتان، مقال عن بياجيه، الخطوط العريضة الهادفة في عمل بياجيه، لندن ١٩٧٢ ، نشر فوربل العالمية للتربية.

3- Piaget. J. La naissance de l'intelligence,  Neuchâtel, Delachaux et  Neistle, 1969.

4 - راجع د. فاخوري عادل، المنطق الرياضي، دار المعرفة، ١٩٨٠

5 - الامام محمد باقر الصدر، الاسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف . للمطبوعات، ط ٤، لبنان، ١٩٧٩ ، ص ٢٠

6 - المنهجية الجديدة، المركز التربوي للبحوث والإنماء.

7 - الحضارة السومرية ٧ آلاف سنة قبل الميلاد، دائرة المعارف.

8 - غسان يعقوب، التطور المعرفي للطفل عند بياجيه، دار الكتاب اللبناني، . بيروت ١٩٧٣ ، ط ١، ص ١٥١

9- Piaget. J. Le langage et la pensée chez l'enfant (2d), Neuchâtel, Delachaux 1930

10- Piaget. J. Le jugement et la raisonnement chez l'enfant, Neuchâtel, Delachaux 1960

11- Binet. l'Alfred mesure du développement de l'intelligence chez les enfants, Paris, Gaillard

12- Piaget. J. ,La représentation du monde chez l'enfant(m.ed) Paris, PUF, Alcan,1938

13- بياجيه، علم النفس المعرفي، منشورات اليونسكو 1949 - 1950، ص 10.

14- بياجيه، علم نفس الطفل، ترجمة د. عبد الرزاق، 1969

15- د. دسوقي كمال، الادراك الكلي عند الطفل، مكتبة الانجلو- مصرية، القاهرة، ١٩٧٨ ص ١١٠ وما بعدها.

16 - د. غسان يعقوب، تطور الطفل عند بياجيه، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1973، ط. 1، ص 67

17 - م.س. ص ٢٣ . راجع ايضاً:         Piaget. J. construction du réel chez L'enfant, (ed.2), Neuchâtel, Delachaux 1950, P.192

18- Piaget. J. la naissance de l'intelligence chez l'enfant, Neuchâtel, Delachaux 1969

صور الكتاب المدرسي مدخل المعرفة التكوينية - من عمر ٤ حتى ١٠ سنوات

د.منى دياب"الهدف من التربية تغيير كينونة اولادنا عما نحن عليه (شارلمان 742 - 814)

"الهدف الاول من التربية هو خلق اناس مبدعين ومكتشفين ومخترعين"(1) (جان بياجيه 1896 - 1980)

"صور الزهور في لوحاتي ستخلد اسمي" (ڤنسنت ڤان غوغ 1890- 1853)

 

التربية ليست عملية نقل للتراث، او عملية تثقيفية تلقينية، "مثاقفة" عبر الاجيال، بل هي عملية رفض للطابع السكوني الموجود في جيل معين، وهي عملية تعريف بالموجود المعرفي للانطلاق الى التجديد.
ويجدر بنا القول ان المدرسة فقدت دورها كأداة للحفاظ على الاوضاع القائمة، واستمرارها اليوم مرهون بخدمة الواقع المتطور المهيئ للابداع من عملية التربية، وباختصار شديد اصبحت التربية هي هذا "التفاعل الاجتماعي"(2) بين الجانب التربوي النظري والمتداخل كلياً مع الجانب التطبيقي التربوي الذي يولد المعايير والمفاهيم الاجتماعية والطفل والعلاقات بمحيطه المتمثل بالأسرة ثم المدرسة. وكلا هذين المنظورين، المنظور التطبيقي والنظري، لا يؤتيان ثمارهما الا ضمن
عمليتين: الاستيعاب = (assimilation) الملاءمة = (accommodation) فالطفل ليس فقط مستقبلاً لما حوله بل ومنتجاً لمعارفه ايضاً(3).

مكونات المعرفة التكوينية
الطفل اليوم يجب ألا يحدّ بنموذج التفكير المعلب والمقنن بل يجب اطلاقه الى عالم معرفي غير محدد، يستطيع من خلاله تشكيل نواة المعرفة التكوينية لمستقبل واعد: "القياس العقلي عند الاطفال يخضع لمبدأ الاستنباط العقلي، الذي يندرج في استخراج قوانينه وفقاً للاصول المنطقية من عدم تناقض،واستقلال المسلمات، والتمامية من دون اغفال المستوى للطفل من جسد الى عقل الى عاطفة الى اخلاق"(4)، فبنية الطفل كل متكامل، والبعد الاجتماعي هو عامل خلاق في النمو التكويني المعرفي.

هذا مع الاعتراف الدائم بالفوارق الفردية، لان التربية مسألة انسانية و"لا يجدر بالدراسات الانسانية اعتماد الاستدلال على القضايا الكلية، والا اصبح التعميم تعسفياً"(5)، فلا يجوز اطلاق احكام تعميمية ثابتة لموضوع متغير هو الانسان، والطفولة هي اولى مراحله.

ان مرحلة الطفولة عالم يصعب الولوج الى اعماقها، ما لم نتخل عن مواقفنا كراشدين فالفرق جمّ بين عالمنا وعالمهم، وابسط الاشياء في نظرنا معقدة عند الطفل، لذا على الدارس لنظم المعرفة التكوينية عند الطفل ان يتحرر من ان يعزو لايماءات الطفل المعنى الكامل الذي قد يكون لهذه الايماءات عنده، فالتخلي عن الاحكام المسبقة وانشاء علاقة مباشرة معه هي الطريق السوي لموضوعية التعمق وبناء المعرفة لدى الطفل، لان مدركاته ومفاهيمه هي بناء تدريجي متكامل ومتوازن مع مسيرة نموه.

صور الكتاب المدرسي وتطوير المناهج
بعد طرح مسألة تطوير المناهج وبعد ان اقرت السياسة التربوية الاهتمام بقدرات الطفل (منهج الروضة الاولى يهدف من خلال نشاطاته الى تأمين جو متكامل ينمو فيه الطفل جسدياً وعقلياً وعاطفياً واجتماعياً، ليتكيف مع البنية الجديدة التي هي المدرسة). وبعيداً عن النصوص نرى ان هدف تعليم القراءة في السنة الاولى الابتدائية تتلخص في تقويم لفظ التلميذ وتعريفه بعدد محدود من الجمل والمفردات واكتشاف الاصوات بالسماع تمهيداً للتعرف بالحروف من خلال جمل قصيرة سهلة الكلمات، ومن ثم تعويد الطفل على القراءة السريعة(6) . بغض النظر عما إذا كانت مواضيع القراءة هي من بيئة الطفل او مما يثير اهتمامه، او اذا كانت هذه المواضيع مترابطة او غير مترابطة، مع ان اطار علم الاجتماع التربوي يتمثل في كون العلوم الانسانية غير قابلة للانفصال بعضها عن بعض، بل على العكس هي لا تكتمل الا حين تتكامل.

واذ قدّمَنا بكل هذه الامور فلأن المنهجية الجديدة، وتطويرها المطروح اليوم لم يلحظ في حيثياته أي اشارة الى اهمية ومنهجية الرسوم والصور في حياة الطفل، مع ما لهذا الامر من اهمية، وفي نظرة تاريخية الى الحضارات نرى ان المراسلات تمت فيما بين شعوبها بالرسوم بل ودونت تاريخها بها(7)، فالرسوم اقدم الكلمات، والحروف اليوم التي تتشكل منها الكلمة والجملة ليست سوى تجريد للحياة اليومية التي نعيشها. من هنا لا بد من نظرة عميقة وعملية ومقننة الى مسألة الصور في الكتب المدرسية لما لها من تأثير على عقول الناشئة . كما لا بد من طرح اسئلة تنير جوانب الموضوع:

  • ما اهمية وجود رسوم في الكتاب المدرسي؟
  • ما الرؤية التي نبعثها من هذه الرسوم والصور؟
  • كيفية التعامل مع الرسوم والصور في الكتاب المدرسي؟
  • ما هي النتائج المعرفية لهذه الرسوم والصور؟

الصور والرسوم وعلاقتها بالحواس
الصورة مفهوم يتعلق بالحواس، واولها حاسة النظر وهي اول مداخل المعرفة وبوابة العقل، وهي أول خطوة في الإدراك، وأول وظيفة للصورة هي جعل المثير (موضوع الصورة) او جزء منه بؤرة اهتمام معرفي لدى الطفل او الرائي.

يبدأ مفعول الصورة منذ بدء الطفل بتمييز ذاته عن الاشياء من حوله ثم بتمييز الاشخاص المتعاملين معه (الام، الاب) عن غيرهم ثم تمييز الاشياء بعضها عن بعض، ثم بتمييز الصورة المغايرة لصورة اخرى. وتمييز النمو عن التعلم امر ملزم في هذه العملية فالنمو نابع من دوافع ذاتية تلقائية، بينما التعلم نابع من مواقف معينة وتجارب مصطنعة. (8) النمو عملية اساسية ويمكن تفسير التعلم استناداً اليها، فالطفل في عمر ٤ سنوات يقابله تعلّم مماثل، لان التعلم وظيفة من وظائف النمو وليس العكس.

من هنا نشأ ارتباط الصورة كمؤثر ناجح اذا ارتبط بعامل العمر الزمني للطفل، وكلما رمزت الصورة وارتبطت بمحيط الطفل نفسه، كلما ازداد فهمه لها. هذا بالاضافة الى ان ما يراه الاطفال ويلاحظونه لا يراه الكبار ولا يلاحظونه، فعنصر الحجم له مقاييس مختلفة لديهم، فكم يحاول الطفل ادخال قدمه في لعبة تمثل سيارة لا يزيد طولها عن خمسة سنتيمترات. فالمنطق والتجريد والمسافات لا تعني له شيئاً. وهذا ينعكس على الصورة او الرسم الذي يتناول حياته التعليمية اليومية فالطفل يفسر الصور بما يتناسب ومفاهيمه فيعطي اهمية ورهبة لرسم كبير لهرة صغيرة اكثر مما يعطي رهبة واهمية لرسم صغير لحية صغيرة.

الصورة عند الطفل تتعلق بالحواس والحيز المكاني والمفهوم العلائقي، فقد ينشئ الطفل علاقة مع صورة فيتحدث معها كما ينشئ علاقة مع طفل آخر، والذكاء الحسي الحركي هو مقياس التعامل مع الآخر - الآخر يعني كل ما هو غيره - فالرمز عند الطفل هو مجموعة (groupe) حتى صورته في المرآة - هذا طفل وانا آخر - والتجميعات (الطفلين) هي من التجميعات المعرفية الجبرية عنده نتيجة لتبسيطه للمعرفة. وهذا التبسيط يستمر حتى عمر خمس سنوات حيث لا يتقبل عقله التجريد عن الآخرين. وفعلياً التجريد لا يبدأ الا بعمر اثني عشر عاماً وما بعد(9). امكانات ربط الصور والرسوم بالمعرفة التكوينية لدى الطفل تتمحور حول درجة نمو الطفل ومقدراته الفكرية: ففي عمر سنتين ونصف يربط الصورة بالصوت (صورة الهرة والمواء)، وكلما تقدم عمره الزمني ربط الصورة بمعلوماته الادراكية مجتمعة من شكل ولون وحجم (ثلات مكونات)، وكلما كانت الصورة اقرب الى الواقع تمّ ربط المعلومة المقدمة بمكوناته الادراكية (لون الشوكولاته اسود، لون الحليب ابيض). والسؤال المتبادر الى الذهن هو متى يحسن بنا تقديم الصورة كموضوع تعلمي للطفل؟ ما مقدار محتوى الصورة الذي يمكن ان يستوعبه الطفل؟ ما هي الطريقة الفضلى التي تقدم فيها الصورة (ضمن اطار او ضمن موضوع)؟

معامل ارتباط معارف الطفل ومفاهيمه بالرسوم والصور وعامل العمر الزمني
تبدأ معرفة الطفل وادراكه لرسم يقدم اليه بعمر ثلاثين شهراً (سنتان ونصف)، أي بعد ان ينضج عنده ارتباط الرؤية والحس. اما العدد فلا يتوافر عنده قبل عمر الست سنوات ومعرفة الطفل بالعدد في هذا العمر لا تعني ادراكه لمفهوم الكمية او مفهوم "الكل" و "البعض" فاذا سألت طفلاً بعمر ٦
- ٨ سنوات: ما ثمن سيارة والدك؟ اجاب باعلى رقم يحفظه، وهو عامة مؤلف من ثلاثة ارقام(10) . واذا سألته مقارنة بين صورتين فيهما نفس العدد من الاشخاص ولكن باحجام مختلفة يعطي الرقم الاكبر للأكبر حجماً. فالطفل يجيب عن عدد اخوته قائلاً:
"عندي ثلاثة اخوة: سليم وكميل وانا". فمفهوم العدد لا يكتمل الا بعمر ١٢ سنة. كما ان الطفل في عمر ست سنوات لا يميز الزمن فالبارحة قد تعني عنده اولى الذكريات المندرجة في وعيه، كما ان قبل الظهر وبعد الظهر لا تعني عنده اكثر من اليوم والفصل (الشتاء او الصيف) مرتبط بزمنه المعيش. لذا يجب ان ترتبط الصورة المقدمة للطفل في كتابه المدرسي بالزمن المترافق معها. لانه لا يستطيع ربط صورة الثلج بفصل الشتاء اذا قدم له في الصيف فعامل الزمن عنده هو الحاضر والمكان هو المحيط به (12). فالتدرج الزمني مرتبط بالواقع والتجريد امر بعيد عن مدركاته، واي سلوك يؤدي عنده الى معرفة تتمحور حول نشاط واقع مرادف للسلوك من داخلي (الفكر والادراك) الى خارجي (ملموس)(13).

الصورة تعني لدى الطفل المفهوم الخاص المكون في مدركاته وليس المفهوم العام الذي تعنيه، ومفهومه الخاص يتمحور حول منتجه المعرفي عن محيطه، لذا لا يجوز ادراج رسم قد لا يتوافر في بيئته المعيشة (اجابة طفل يعيش في افريقية عن طفل "الاسكيمو" الذي يعيش في بيت ثلجي (igloo) هي طفل يغرق في وعاء من اللبن(14).

فالعملية الذهنية لفهم رؤية بصرية لا ينفصل عن النشاط الحيوي والمحيطي للطفل وتعبيره عنها لا ينفصل عن بيئته الذهنية وقدرته اللغوية، وتعبيره هذا هو التمثيل الاجرائي لما يمكنه استيعابه وملاءمة لادراكه، أي هو عملية تحويل مادة مثيرة لبؤرة معرفية الى نشاط حسي بنظم العلاقة بين المدخلات الادراكية والمخرجات اللفظية لترجمة عملية النشاط المعرفي(15).

تحفّز الصورة بؤرة اهتمام الطفل ليصل الى النشاط الذي وضعت لاجله لذا فلا انتاج لمعرفة طبيعية الا بالمرور عبر حاسة (الرؤية، البصر) (السمع، الصوت)(16) . وبعد اثارة الحاسة يأتي تحفيز الادراك للاحتفاظ بالمؤثر بشكل معرفة ومعلومات ناقلة لتجربة حسية معينة، ويظهرها الطفل بشكل تعابير لغوية. من هنا يبدأ ويُفتح المجال التعلمي بالصور كأهداف ادراكية وموصلة جيدة لمفاهيم المناهج(17) . ولمراعاة غياب المنطق عند الطفل يجدر بنا انتقاء المعقول البديهي في معايير اختيار الصور والرسوم لتجنب ارباك الطفل المعرفي فمواصفات صور ورسوم سلاسل الكتاب المدرسي على صعيد الذكر وليس الحصر يجب ان تراعي:

  1. ان تكون الصور من بيئة الطفل.
  2. ان تجاري زمنه العمري.
  3. ان تراعي العمليات العقلية لجهازه المنطقي.
  4. السهولة والوضوح.
  5. عدم تراكم المواضيع (وحدة الموضوع)
  6. ان تخدم الصورة هدفاً تعلمياً واحداً.
  7. ان تكرس الصورة وظيفة فهم اكثر للذات وتمييزها عن الآخرين.
  8. ان توازن الصورة بين الوجود المادي والعاطفي للطفل لان الطريق الاقرب للتعلم هو علاقة الطفل باحاسيسه.

واخيراً ان الصورة توحد مختلف النشاطات المنطقية والابداعية والاجتماعية عند الطفل، وهي مرتكز يجب الاهتمام به لانه يشكل اللبنة الاولى في صرح التعلم عند الاطفال(18) .


المراجع:

1- بياجيه، مدخل الى المعرفة التكوينية، دار المعارف، القاهرة ١٩٥٩ ، ص ٥ 

    راجع ايضا: (Piaget. J. introduction à l'épistémologie génétique - Paris, Presses universitaires de France, 1950)

2 - اسحق ناتان، مقال عن بياجيه، الخطوط العريضة الهادفة في عمل بياجيه، لندن ١٩٧٢ ، نشر فوربل العالمية للتربية.

3- Piaget. J. La naissance de l'intelligence,  Neuchâtel, Delachaux et  Neistle, 1969.

4 - راجع د. فاخوري عادل، المنطق الرياضي، دار المعرفة، ١٩٨٠

5 - الامام محمد باقر الصدر، الاسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف . للمطبوعات، ط ٤، لبنان، ١٩٧٩ ، ص ٢٠

6 - المنهجية الجديدة، المركز التربوي للبحوث والإنماء.

7 - الحضارة السومرية ٧ آلاف سنة قبل الميلاد، دائرة المعارف.

8 - غسان يعقوب، التطور المعرفي للطفل عند بياجيه، دار الكتاب اللبناني، . بيروت ١٩٧٣ ، ط ١، ص ١٥١

9- Piaget. J. Le langage et la pensée chez l'enfant (2d), Neuchâtel, Delachaux 1930

10- Piaget. J. Le jugement et la raisonnement chez l'enfant, Neuchâtel, Delachaux 1960

11- Binet. l'Alfred mesure du développement de l'intelligence chez les enfants, Paris, Gaillard

12- Piaget. J. ,La représentation du monde chez l'enfant(m.ed) Paris, PUF, Alcan,1938

13- بياجيه، علم النفس المعرفي، منشورات اليونسكو 1949 - 1950، ص 10.

14- بياجيه، علم نفس الطفل، ترجمة د. عبد الرزاق، 1969

15- د. دسوقي كمال، الادراك الكلي عند الطفل، مكتبة الانجلو- مصرية، القاهرة، ١٩٧٨ ص ١١٠ وما بعدها.

16 - د. غسان يعقوب، تطور الطفل عند بياجيه، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1973، ط. 1، ص 67

17 - م.س. ص ٢٣ . راجع ايضاً:         Piaget. J. construction du réel chez L'enfant, (ed.2), Neuchâtel, Delachaux 1950, P.192

18- Piaget. J. la naissance de l'intelligence chez l'enfant, Neuchâtel, Delachaux 1969