لبنان الأسطورة في شعر سعيد عقل

لبنان الأسطورة في شعر سعيد عقل

د. هند أديب دورليان أستاذة الأدب الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية )كلية الآداب(

 

 

 

لبنان سعيد عقل كناية عن تاريخ أسطوري وإنساني، وقد أراد له الشاعر أن يكون مبتدأ كل الحضارات وكل القيم وكل العلوم، كما أراد له أن يكون مركزًا للإشعاع يختزن كمًّا من التاريخ الإنساني والإنجازات. أبدع سعيد عقل في صوغ كيان خيالي للبنان أبدي مثلما نجح في بناء عمارته الشعرية الفذّة.

 يبدأ سعيد عقل(1)، المولود في زحلة (البقاع)، مسيرته الأدبيَّة والمِهَنيَّة عام(2)   1930  لدى قُدومه إلى بيروت ليعملَ صِحافيًا في مجلَّة كان يديرها الشــاعر اللُّبنانيّ الكبير بشارة الخوري الملقَّب بالأخطل الصَّغير.

 عام 1935، تُكَرِّسه إحدى الجوائز الأدبيَّة شاعرًا كبيرًا، وذلك عن مسرحيَّته الشِّعريَّة المستوحاة من التَّوراة "بنت يفتاح"(3). بعد سنتين، ينشر عقل عمله الثَّاني "المَجْدَليَّة"(4)، وهو قصيدة سَرْدِيَّة من مئة وعشرة أبيات مستوحاة من "العهد الجديد" تَرْوي قِصة لقاء مريم المَجْدليَّة، المرأة المُثيرة والخاطئة، المسيحَ، وسيدفع ذلك اللِّقاء مريم المجدليَّة إلى إنكار ماضيها وترسُّم طريق المسيح.

 وبعد أن يذيع صِيتُه، توكِل إليه مدرسة الحِكْمة - على غِرار ما فعلت الـ"كوليج دي فرانس" لپول -فاليري - كُرْسِيَّ الشِّعر الذي استُحْدِث خِصِّيصًا من أجله لِيُلْقيَ على طُلاَّب الصُّفوف المنتهية محاضراتٍ حول تَيَّاراتِ الشِّعر العربيّ وتطوّره. وحتَّى صدور مسرحية "قَدْموس"(5)، راح الشَّــاعر– على الرُّغم من مرضٍ أقعده لِسَنتين – يُواصِل، إلى جانب التَّدريس في "مدرسة الآداب العليا" (Ecole Supérieure des Lettres)  التابعة لأكاديميَّة ليون في فرنسا، وتنسيق مادَّة اللُّغة العربيَّة في المدرسة الشَّرقية في زحلة أبحاثه حول تاريخ لبنان التي سوف تؤدّي به إلى ترسيخ اقتناعاته التَّاريخية والسياسية، والتي يُشكّل "قَدْموس" نوعًا من التَّعبير المسرحيّ عنها. بَيْدَ أَنَّ قَدْمُوس هو أيضًا خاتمة مرحلة أدبيَّة ساد فيها تأثير الكلاسيكية الفرنسيَّة (بنت يفتاح، المَجْدلِيَّة، قَدْمُوس) وفاتحة لِمَرحلة غنائيَّة كانت إرهاصاتها واضحة في مقدّمة "المَجْدَليَّة".

أمَّا "رِنْدَلى"(6) فهو أول دواوين المرحلة الغِنائيَّة - الرُّومانسيَّة. وسيصدر عقل تِباعًا: "أجمل منك؟ لا"(7)، "أجراس الياسَمين"(8)، "كتاب الورد"(9)، "قصائد من دفترها"(10) و"دُلْزَى".

 مع "دُلْزَى"(11) - الذي يعتبر على الصَّعيد الشَّكْلِيّ عودة إلى "رِنْدَلى" - تنتهي المرحلة الغنائيَّة-الرُّومانسيَّة لتبدأ مرحلة ثالثة يجوز لنا - في غياب تسمية أدبيَّة مَحْضة - أن نطلق عليها اسم "مرحلة النُّضْج" أو إذا أردنا "مرحلة الخُماسِيَّات". وإذ ينحاز عقل إلى التأمُّل الدِّيني-الفلسفيّ، والتأمّل في الكون والطَّبيعة، والتفكّر في الوضع الإنسانيّ كما إلى المواضيع الأدبيَّة التَّقليديَّة كالحُبّ والفخر وتمجيد الأَنا، يختار "الخماسية" كشكل شِعْرِيّ ثابت يعبّر من خلاله عن أفكاره ومشـــاعره. وتقترب هذه "الخُماسِيَّات"، الَّتي تعتمد التَّكثيف، من الحكم البليغة وتمتدّ على خمسة أشطر. لكن عقل لم يحزم أمر نشر هذه "الخُمَاسِيات" التّسع والتِّسعين المكتوبة بالعربيَّة الفُصْحى والجاهزة منذ عام 1978، إلاّ سنة 1991.

 

عام 1974، ينشر سعيد عقل "كَـــما الأعمدة"، وهو ديوان من أربع وعشرين قصيدةً من شعر المُناسَبات، وقد كتبت وأُلقيت في مناسبات عِدَّة. فكان الشَّاعر، الذي يتلقّى دعوة عند كلّ حدث، سواءٌ أكان هذا الحدث فنيًا أم سياسيًا أم مجرَّد مناسبة اجتماعيَّة، يؤلّف - إمَّا بلفتة كريمة منه وإمَّا عن قناعة عميقة - قصيدة من وَحْي المناسبة الَّتي قد تكون موت شاعر أو فَنَّان، تكريم كاتب أجنبيّ أو ذكرى كِبار رجالات التَّاريخ، أو مناسبة دينيَّة، إلخ. وتَكْشِف تلك القصائد، على الرّغم من كونها من شعر المناسبات، عن وِجْدانيَّة أصيلة لا تغيب عنها الـ"أنا" أبدًا.

 وبمُوازاة نتاجه الشِّعْرِيّ، ينشر سعيد عقل بين عامي 1950 و1963 (وهي تباعًا تواريخ نشر رِنْدَلى و دُلْزى) أعمالاً نثرية هي: "يوم النُّخبة"(12)، "كأس لِخَمْر"(13) و"لبنان إن حَكَى(14).

 

إلاّ أن سعيد عقل، الذي وصل إلى ذُروة مجده الأدبيّ والَّذي كرّسه العالم العربيّ بأَكمله شاعرًا كبيرًا، يطلق سنة 1961 مع "يــارا" مشروعَ تَحدٍّ لتثوير اللُّغة والأبجديَّة، فيختار الكتابة بالعاميَّة اللُّبنانيَّة ويستنبط لها أبجديَّة خاصَّة مستوحاة من اللاَّتينيَّة الَّتي يعتبرها إحدى تنويعات اللُّغة الفينيقيَّة. ويصدر هذا الموقف اللُّغويّ عن اقتناع تاريخي-إيديولوجي حول فَرادة الحضارة والأمَّة اللُّبنانيَّتين. وستضع هذه القناعات - كما تطبيقاتها على المستويين الأدبيّ واللُّغوي - الشَّاعر في موقع سِجالي مع دُعاة انتماء لبنان إلى تاريخ العرب وحضارتهم والمحافظة على العربيَّة الفُصْحى كدليل على هذا الانتماء. ومن دون الدخول في تفاصيل هذا السِّجال الإيديولوجِيّ-الأدبيّ، تجدر بنا الإشارة إلى أنَّ سعيد عقل سيُواصل مشروعه وسيتابع، على الرّغم من كلِّ العَقَبات، الكتابة بـ"اللغة اللُّبنانية"، كما يطيب له أن يقول، وسيصدر عام 1978 ديوانًا عنوانه "خُماسيَّات" (وهي غير "الخُماسِيَّات" المكتوبة بالعربيَّة الفصحى). بيد أن سعيد عقل يبقى في نظر أصدقائه كما خصومه أحد أكبر الشُّعراء العرب في الخَمسينيَّات والسِّتّينيَّات من القرن الماضي(15).

ويشـــارك سعيد عقل، الشَّــاعر والكاتب والمُساجل - ورجل الفِعْل أيضًا - في أحداث بلاده السِّياسيِّة، فيتمرّد سنة 1935 مع أهالي بلدته زحلة ضِدّ ظُلم حكومة الانتداب، ويُلْقي خلال تجمّع شعبيّ خِطابًا يدعو فيه مُواطنيه إلى الكفاح من أجل الاستقلال، ما سيؤدّي إلى اعتقاله بضعة أيام بناءً على أمرٍ من السُّلطات الفرنسيَّة. عام 1948، أي بعد مرور سنة واحدة على استقلال لبنان الفِعليُّ، نراه مجدّدًا مع ثُوّار زحلة يطالب بجمهوريَّة مستقلّة. سيضعه هذا الموقف السِّياسيّ في مواجهة مع الحكومة اللُّبنانية وبشكل خاصّ مع رئيس الجمهورية آنذاك بشــارة الخوري الَّذي سيضغط على مدير "مدرسة الآداب العليا" (Ecole Supérieure des Lettres)  وعلى مدير مجلَّة "الشِّـــراع" بهدف إيقاف التَّعاون مع الشَّاعر. فلا يبقى أمام هذا الأخير إلاَّ أن يرسل قصائده إلى مدير الإذاعة السُّوريَّة أحمد عَسِّي الذي يقوم بقراءتها في برنامج خاصّ. ولكن بعد سقوط بشــارة الخوري عام 1952، يعاود نشاطاته المهنيَّة والأدبيَّة.

 عام 1962 ينشئ عقل، بمناسبة عيد ميلاده الخمسين، "جائزة سعيد عقل" وقيمتُها ألف ليرة لبنانيَّة يقدّمها شهريًا إلى الفَنَّانين والعلماء العاملين على تطوير الفنون والعلوم في لبنان. وبعد انتخابه عضوًا في مجلس بلديَّة زحلة، يقدّم استقالته ليترشَّح إلى الانتخابات النِّيابيَّة الفرعيَّة عام 1965 من دون أن يحالفه الحَظّ. بين عامي 1975 و1976، عند بداية الحرب في لبنان، ينضمّ سعيد عقل إلى "جبهة الحُرِّيَّة والإنســان" إلى جانب أبرز الأحزاب والشَّخصيَّات السِّياسيَّة المنتمية إلى اليمين المَسِيحيّ. وسيترك عقل هذه الجبهة بسبب خلافات مع السِّياسيين التقليديِّين. سنة 1977 يصدر يوميَّة ناطقة بـ"اللُّغة اللُّبنانيَّة"، "لبنان"، وفيها يحاول الشَّاعر مع نفر قليل من الأصدقاء التَّرويج لأفكاره الخاصَّة وتصوُّراته السِّياسيَّة.

 

موقع سعيد عقل في الشِّعر العربي المعاصر

لم تشكّل أعمال سعيد عقل حتّىَ الساعة موضوع تحقيق منتظم ومعمّقَ من قِبَل النّقَد الأدبيّ والجامعيّ. إذ باتت الآراء حول شعره والمكان الّذَي يشغله في الشِّعْر العربيّ المعاصر مبْهَمة وذاتيّة. فبين مديح مُغالٍ واتّهام جارح، لم تجد أعماله مكانَتَها المناسبة. ما يعني أن أعمال سعيد عقل هي الوَحِيدة رُبّمَا الّتَي اختلفت آراء النّقُّاَد حولها. ولكنّ لِهذه الآراء المتناقضة أسبابًا موضوعيّةَ وذاتيّةَ معًا.

فكاتب جدّي مثل أدونيس الذي يصنّف سعيد عقل على عجلة في تيّار الرُّومنطيقيّة الشَّكْليّة، لم يجد شيئًا يقوله حول أعماله سوى أنّهَا تَحْتلُّ مركزًا بارزًا وحاسِمًا في تنقية اللّغُة الشِّعْريّة. (16) وآخرون أكثر جَزْمًا منه رأوا فيه ممثّلاً لِنَوعٍ من الرَّمزيّة. (17) أمّاَ إيليا حاوي، الأكثر دِقّةَ، فيجد أنّ شعرسعيد عقل رومنطيقيّ مصبوغٌ بتصنّعُ ذِهْنِي. (18)  وفي الخَطّ عينه، يصف يوسف الخال، إِمام حركة الحَداثة في لبنان، ورئيس تحرير مَجَلّةَ ''شعر''، شعر سعيد عقل بالرُّومنطيقيّةَ ''المَصْبُوغة برمزيّة القرن التّاَسعَ عَشَر الفرنسيّ''.(19) وأخيرًا، يتردّد كمال خير بك في تعيين موقعه ما  بين الرَّمْزِيّة والرُّومنطيقيّة. (20)

في جميع الأحوال، فالتّحَيّرُ الذي يَسِمُ موقف النّقَد تُجاه الانتماء الحقيقيّ لسعيد عقل إلى مدرسة أدبيّة محدّدة، رومنطيقيّة أو رمزيّة، يقابله موقف قاطع لجهة عَدَمِ الرَّغبة في تصنيفه من بين الشُّعراء المُحْدَثِينَ، على الرُّغم من أن أعماله أثّرت في كوكبة من الشُّعراء الشُّبّاَن مثل جورج رَجّي، جورج غانم، شوقي أبي شقرا، جوزيف نجيم الذين كانوا في عداد جماعة ''شِعْر''.
حتّىَ إن يوسف الخال نفسَه تأثّر باكرًا بنظريّةَ سعيد عقل في استعمال اللّغُة المَحْكِيّةَ والتّخَلّي عن الفُصْحَى (21)  بذلك أصبح شعر سعيد عقل ظاهرةً غير قابلة للتّصَنيف، تُحاكي فُرادتها شخصيّته الفذّة. 

 

عقل والحداثة: تزامن أم لقاء؟
يرجع هذا الالتباس في الأعمال والمكانة الّتَي تشغلها إلى عوامل ملازمة لها وأخرى خارجة عنها. وعلينا في سِياق العوامل الخارجيَّة عدم الاستخفاف بالتَّطابُق الزَّمنِيّ. في الواقع تمتدّ المرحلة الخِصْبة لنتاج سعيد عقل، والتي أسَّست لِشُهْرته، بين ١٩٥٠ و ١٩٧٤ ، وهي مرحلة دعوناها غنائيّة. تتطابق هذه المرحلة تمامًا مع بدايات الشِّعر الحديث في لبنان وفي العالم العَرَبيّ. (22)  إلاّ أَنّ علاقة سعيد عقل بالحداثة الشِّعريّة لم تكن علاقة اندماج أو ذَوَبان. لقد أنتج هذا التّطَابُق توازيًا لا يقبل الجدل. وعلى الرُّغم منِ التقاء نتاج سعيد عقل بنتاج المُحْدَثين في بعض النّقِاط، إلاّ أن الواحد بقي بلا مَنْفذ إلى الآخر. ويرجع هذا بدوره إلى عدّة عوامل.

إن تزامن ظهور أعمال سعيد عقل الشِّعريّة مع محاولات المُحدَثين الأُولى، لم يشكّل سببًا كافيًا لِتَشابُه المصادر والاهتمامات والمَرامِي. ففي الوقت الذي خَطا فيه جِيل الشُّعراء الشَّباب، مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السَّيّاب وعبد الوَهَّاب البيّاَتي في العراق وصلاح عبد الصَّبُور في مصر وفَدْوَى طوقان في فلسطين ويوسف الخال وأدونيس في لبنان، الخطوات الأولى في مجال الشِّعر وكانوا شِبْهَ مَغْمُورين، كان سعيد عقل يتمتّع بشهرة أكيدة  نتيجة الأعمال التي قَدّمَها منذ سنة ١٩٣٥ : ''بنت يفتاح'' (1935)، ''المجدليّة'' ( ١٩٣٧) و''قدموس'' ( ١٩٤٤ ) الَّتي رَسَّخت شهرته. وكان يتحضّر في سنة (١٩٥٠) للبَدْء بتجربة شعريّةَ جديدة.

لم يُكتب لهذا التّزَامن أن يتطوَّر إلى لقاء. إذ لم يستطع الشَّاعر الكبير الّذَي كان أربعينيّاً أن يتصادق مع جيل شباب حديثي العهد من المتردّدين والمتحيّرين. وذلك لأنّ فارق العمر واختلاف الاقتناعات والانتماء إلى جيلين مختلفين كان أقوى من مصادفة جَمَعتْهم في زمنٍ واحد وعلى دَرْب الشِّعر الواحد... إذ كان سعيد عقل مكمّلاً للماضي، وبالتالي محافظًا بحيث لم يكن ليُعجب جيل الشَّباب.

ومع ذلك التقت أعمال سعيد عقل في بعض أوجهها مع محاولات المحدَثين حتّىَ إنّهَا سبقتها في بعض الأحيان. لقد ركّزنا في تحليلنا للبنى العَرُوضيّةَ على رغبته الانعتاق من النّمَوذج العَرُوضِيّ التّقَليديّ: تلاعب بالأوزان والتّفَعيلات، اعتماد الرَّجَز، استعمال البحور القصيرة التي كان الشِّعر التّقَليديّ نادرًا ما يستخدمها، إضافة إلى خَلْط إيقاعات مختلفة في القصيدة نفسِها. هذا الغَلَيان التّحَديثي الّذَي ظَهَر في ''رِندلى'' وعُمّمِ َفي ''أجمل منكِ-لا'' (١٩٦٠ )و''قصائد من دفترها'' ( ١٩٧٣) سيهدأ في ''دُلْزَى'' ليسترجعَ مجدّدا الأشكال العَرُوضيّةَ التّقَليديّة في ''كما الأعمدة''.

هذا التَّحديث الذي لا يهدم كلّيًّا أسس البِنْية العَرُوضِيَّة الكلاسيكيّةَ هو بالضَّبط ما حاول أن يقوم به الشُّعراء المُسَمّون مُحْدَثِين. لقد تطرّق ناجي علّوش، في مقدّمته لل''أعمال الكاملة'' لِبَدْر شاكر السيّاب، إلى مسألة استعمال البُحور لدى هذا الشَّاعر الطليعي والممثّل الأبرز للشِّعر الحديث في العالم العربيّ، مظهرًا كيف أنّ بدر شاكر السيّاب استطاع أن يستفيد من بُحُور الشعر العربي، فاستخدم الرَّجَز، مَطِيّةَ الشُّعراء القدماء والمعاصرين، ليجعلَ منها حِصانًا كما في ''أنشودة المطر''، والسَّريع كما في ''رسالة من مقبرة''، والمُتدارَك في ''المَسِيح بعد الصَّلب''. ففيما يبالغ أكثريّةَ الشُّعراء المعاصرين في استخدامهم الرَّجَز، وفي اعتمادهم له كبحرٍ مألوف، ينوّع بدر شاكِر السيَّاب شعره ويستخدم الكامل والوافر والرَّمَل والمتقارِب والمَتدارَك.

لقد اعتمد بدر شاكر السيّاَب غالباً الانتقال من بحرٍ إلى آخر ليستفيدَ من التّنَوُّع الإيقاعي، كما في شعره ''المَغْرِب العَرَبيّ'' و''جَيكور والمدينة''. وقد نوّع أحيانًا في استخدام التّفَعيلات كما في ''المسيح بعد الصَّلب'' بإدخاله مشتقّاً من التّفَعيلة الأساسيّة ''فَعِلٌ'' بطريقة منتظمة في القصيدة كلّها (23) يمكننا تطبيق هذا التّقَييم لشعر بدر شاكر السَّيّاَب، الشَّاعر الأكثر تمثيلاً للشِّعر العربي الحديث،
من دون أي تعديلات على أعمال سعيد عقل:


١- يكثر سعيد عقل من استخدام الرَّجَز؛ إنّهَ البحر الأكثر استخدامًا في شعره، وهو أيضًا البحر المُفَضَّل في أغلبيّةَ قصائد ''أجمل منكِ-لا'' ( ١٩٦٠ ) و''أجراس الياسَمين'' ( ١٩٧١ ) و''قصائد من دفترها'' ( ١٩٧٣ )
٢- لا يحدّ سعيد عقل شعره ببحر الرَّجز فقط، وإنّمَا مِرْوحة بحوره واسعة ومتنوّعة وتصل إلى أربعة عَشَرَ بَحْرًا.
٣ - يستخدم سعيد عقل عِدّةَ بحور في بعض قصائده، مثلاً  السَّريع والمُتَقارِب في ''ماذا؟ انتهى كلّ شيء؟. (24)
٤ - يستخدم سعيد عقل التّفَعيلة ومشتقّاتِها (ال ''فع'' الشهيرة) بطريقة منتظمة في بعض قَصَائدِه من أجل خَلْقِ تَنَوُّع إيقاعيّ يَكْسِر رتابةَ البحر الواحد...

وعلى صعيد آخر، وفي مسألة أولويّةَ استعمال البحر الّذَي تجادل حوله طويلاً بدر شاكر السيّاَب ونازك الملائكة (25) ، يمكننا حسمُ هذا الجِدال والتّأَكيد بأن سعيد عقل قد سبقهما في العام 1944 عندما تصرّف بحرّيّة في استعمال الكامل في الأبيات الأربعة  والأربعين الخاصَّة بالكَوْرَس في ''قَدْموس''. (26)

فإنّ مسألة النّمَوذج العَرُوضيّ شَغَلت الشُّعراء والنّقُّاَد الأدبيّيِن، وأصبحت المعيار الذي على أساسه يَتِمّ تقييم دَرَجة الحداثة أو التقليديّةَ في كلِّ نتاج شعريّ عربيّ، حتّىَ إنّ ناقدًا بارزًا محدثًا  مثل عز الدّيِن إسماعيل قد أُخِذَ هو أيضًا بسحر هذه الإشكالية. (27) إلاّ أنّ ما حاولت دراستنا بَرْهنته- وهذا ربّما أحد إسهاماتها غير المباشرة - هو أنّ مسألة الحَداثة في الشِّعر لا يمكن حَصْرُها بهذه الظّاَهرة الشَّكليّة الوحيدة على الرغم من أهمّيتها.

وبعبارة أُخرى، إذا كان التَّحَرُّر من النَّماذج العَروضِيّة التقليديّة هو السّمِةَ الضَّروريّةَ لأَيّ حدَاثة شِعْريّةَ، إلاّ أنّهَا ليست كافيةً للدّلَالة على الحداثة. وفي هذا السياق كان حَدْسُ الشُّعراء- النّقُّاَد والمنظّرين المُحْدَثين حول هذه النّقُطة بالغ الأهمّيِةَّ، إذ لم يتعرّفوا في أعمال سعيد عقل الغنائية على تجربة مشابهة لشعراء الحداثة على الرغم من وجود بعض السّمِات الشَّكليةّ المطابقة. ومع ذلك، لا يعود إلى المضمون أو إلى الموضوعات تعيينُ درجة الحداثة والتّقَليد في شعر ما، بل إنّ هذا التّعَيين يَتِمّ على مستوى العلاقة بين الشَّكْلِ والمَضْمُون مُبيّنًا قيمة العمل، وموقعه في تطوّر التّجَرِبة الشِّعريّة.

ضِمْن هذا السّيِاق، لم يخطئ كثيراً بعض النّقُّاَد المُتَحفّظِين تُجاهَ شعر سعيد عقل عندما رأوا في أعماله شكليّة سَطْحيّة مرتبطة بمضمون طُفُوليّ. (28)  أمّاَ الآخرون، وهم أقلّ تحفّظًُا مثل أدونيس، فحصروا إسهامه بتنقية اللّغُة الشِّعريّة فقط، وعَدّوُه ''ماليرب'' (Malherbe) الشِّعر العربيّ المعاصر (29)  بالنّسِبة إلى هؤلاء، إنَّ تَحَرَّر سعيد عقل من النّمَاذج العَرُوضِيّةَ لم يكن له أيّ وظيفة أساسيّة وإنّما اقتصر على مجرّد لعبة شكليّة وسطحيّة.

ما هي دلالة-وظيفة - تفكُّك البنى العَروضِيّة التّقَليدية في الشِّعر العربيّ المُعاصر- رأى بعض نقّاد الفنّ ومنظّرِيه في اللّجُوء إلى تهديم الشُّعراء المعاصرين للبنى العَرُوضيّةَ التقليديّة الّذَين عايشوا أحداث ١٩٤٨ (30) ، ظاهرة مُساوية لِسُقُوط البنى  التّقَليديّة في المجتمع العربيّ. أدرك ناجي علّوش هذه المعادلة في قوله: ''لم يكن سُقُوط المجتمع العربيّ التّقَليديّ مجرَّد سقوط، فقد بدأت قِيَم هذا المجتمع المتأخّر والمحافظ بالانهيار أمام الحركة الصَّاعدة، تحت تأثير عوامل داخليّة وخارجيّة. تميّزت هذه الحركة بعمقٍ بلغ الشِّعر العربيّ الّذَي لم يعد يُمكنه أن يبقى حيث حَدّدَ له موقعه الخليل بن أحمدالفَراهِيدي. (31) وببلوغ هذا الانقلاب إلى الشِّعر العربيّ، استعاد هذا الأخير مكانته في حركة التّقَدّمُ. لكي تندفع تجربةُ الشِّعر العربي''. (32)  ويعدّد الكاتب العوامل السّيِاسيةّ والاجتماعيّةَ والفِكْريّة لِهذه التّجَربة إضافة إلى أهمّيّة استيعابٍ أكثرَ وَعْيًا للتّجَربة الشِّعريّة الغربيّة وتأثير الماركسيّة.

بالنّسِبة إلى ناجي علّوش، حيث النّفَْحة اليَساريّة للسّتِّيِنياَّت واضحة، فإنّ سقوط الأشكال العَرُوضِيَّة التقليديّة يشكّل رَدّاً لانْهيار البنى الاجتماعيّةَ المُهَيمِنة في المجتمع العربيّ حتّىَ سنة ١٩٤٨ . فالنّفَحة الثّوَريّة، الّتَي كانت في أساس الخَيالِ الشِّعْرِيّ في تلك الحِقبة(الخمسينيّاَت والسّتِّيِنياَّت) والّتَي سعت إلى تحريك كلّ شيء، لم يكن بإمكانها أن تتعايش مع بنية عَرُوضِيّةَ بالية تعبّر عن الأزمنة الغابِرة والمجتمع القديم. فسُقُوطها كان ضرورة جماليّة شكليّة وجوهريّةَ.

 

عقل والحداثة
لذلك شكَّل شعر سعيد عقل وشعر المُحْدَثين في الخمسينيّاَت والسّتِِّينيَّات تعبيرًا عن حساسيّتين مختلفتين، عن تَصَوُّرين متناقضين للإنسان والعالم والمستقبل. فالشِّعر الحديث، نتاج وضع أيديولوجيّ-سياسيّ مُعَيّنَ، وهو تَطَلّعُات اجتماعيّة واضحة، لم يجد في شعر سعيد عقل ذي النّزَعة الفرديّة نموذجًا أو مِثالاً يحتذى.

فبالنّسِبة إلى سعيد عقل، لاقت المسألة الإيديولوجيّة إجابة مقنعَة وغير قابلة للدّحَْض منذ ١٩٤٠ ، وقد عَرَضها في ''قَدْموس''. ففي وجه القوميّةَ العربيّةَ الّتَي اجتاحت العالم العربيّ، رَفَع سعيد عقل لواء ''قوميّةَ لبنانيّة'' تبحث في عمق التاريخ القديم عن هُوِيّةَ لبنانيّةَ تاريخيّة وإيديولوجيّةَ وجغرافيّة لم تغيّرها أو تُلْغِها-الغزوات- العربية أو غيرها- عوارض التاريخ حسب قوله...بينما كان المحدَثون أكثر ميلاً لدمج لبنان بالعالم العربيّ ويرون في الجذور الفينيقيّة التي يدعو إليها سعيد عقل حقيقة طوباويّة وباطلة وغير تاريخيّة. مقابل العمق التاريخي لسعيد عقل، رفع المحدَثون فضاء العالم العربي: تاريخان، وجغرافيّتان، وتصوّران متمايزان للإنسان والمجتمع والزَّمن وتاليًا الشعر.

وبتحوّله شعرًا، سيتّخذ كلّ من التّصَوُّرين المتقابلين أشكالاً مختلفةً تتميّزَ بالقلق الحاضر هُنا، والغائب هناك. فسعيد عقل الذي كان قد اختار طريقًا أوصلته إلى المُطْلَق، فلا وُجُودَ للقلق عنده، أمّاَ الشُّعراء المُحْدَثُون فإنّ القلق يُضْنِيهم من كلِّ صوب، فلا يقين يعوّض عنه. سيحدّد هذا التّبَاين في وجهات النّظَر توجّههم في ما يتعلّق باختيار مَراجِعِهم الغربيّة. فشِعْر سعيد عقل المَصْبُوغ بِنَوع من الرُّومنطيقيّة والرَّمزيّة، هو قبل كلّ شيء كلاسيكيّ - في المعنى الفرنسيّ لِلكلمة - وپرناسي إذ يولي الشَّكل اهتمامًا من دون سواه، ومراجعه هي خير معبّر عن هذه الميول: شكسبير، راسين، مالارميه، ڤاليري. أمّاَ الشُّعراء المحدَثون الذين وقعوا فريسة القلق الوجودي، فنماذجهم هم: السرياليّون، سان جون برس، ت. س.  اليوت، ريمبو، ميشو، غارسيا لوركا..  (33)

التّاَريخ، بالنّسِبة إلى سعيد عقل، مكتمل سَلَفًا. فالمطلوب منّاَ اتّباع الدّرَب المَرْسُوم للوصول إلى الرفاه والمجد والعظمة. الغرب لا يشغله، فهو من خلق الإنسان اللّبُنانيّ- الفينيقيّ، ألاّ يحمل اسم ''أوروب''، أميرة فينيقيا وشقيقة البطل الأسطوريّ ''قَدْموس''؟ الميتولوجيا مصدر نستقي منه قوّتنا وليس ضعفنا. أمّاَ الماضي، فعلينا معرفة قراءَة رموزه الّتَي تصنع مَجْدَنا، ورفض كلّ ما يحطّ من قَدْرنا. القطيعة غير موجودة بالنّسِبة إليه، فالإنسان اللّبُنانيّ بقي على ما كان عليه دائمًا، قوّة حيويّة تواجه المصاعب. فما عليه حاضرًا إلاّ أن يعي عمقه التّاَريخيّ وإِرثه الفريد ليندفع من جديد لغزو المستقبل. يمكننا، الآن، فَهْمُ غياب القلق في أعماله، وعدمّ وُرُود مُصْطَلَحي القلق والرَّيبة في معجمه. يكفيه أن يؤمن بالله  وبلبنان ليبلغَ المجد والسَّلام والرَّفاه والغِبْطة. وهذه الأخيرة تجسّد حالة عامّةَ على مستوى الفرد: المجد الوطنيّ والغِبْطة الفَرْدِيّةَ يخلقان عَظَمةَ اللّبُناني. وسعيد عقل هو تجسيدٌ لهذه المعادلة.

إنّ هذه المسيحانيَّة المطمئنَّة والهانئة غريبة عن أعمال الشُّعراء المحدَثِين الّذَين يشعرون أنفسهم مَحْرُومِين من كلّ سُكُون واستقرار داخليّين. فهم يَتُوقُون إلى إعادة صنع التّاَريخ، وإعادة بناء المجتمع، وإعادة تعريف الإنسان. كلّ شيء قطيعة بالنّسِبة إليهم، وبالتّاَلي عدم. إنّهم مُحاطُون بالفراغ، وغير قادرين على التّقََدّمُ. فالماضي موضع استفهام، والمستقبل مُشَوَّش والحاضر مُحْبَط. عليهم أن يَهْدِموا كلَّ شيء ليبنوه من جديد. من هُنا كان اضطرابهم، وقلقهم، وارتيابهم، وتحيُّرُهم. ومن هُنا كانت إنسانيّتَهم، وتمرُّدهم الفَرْدِيّ كتعبيرٍ عن التّمَرُّد الاجتماعيّ العامّ. لا يمكن للشِّعر عندهم أن يُحَدّ بغنائيّة عاشقة هادئة وصافية. حتّىَ الحُبُّ عندهم حزينٌ وممزَّق. تَجربة كتلك الّتَي عرفها المسيح ليست مجرّد نِزاع بين الرَّذيلة والفضيلة. فالمسيح، كما في قصيدة السيّاَب، يوجز كلّ الضَّمير الشَّقِيّ للإنسانيّةَ، إنّهَ مجاهدٌ، وليس إنسانًا خارقًا نيتشويّاً كما عند سعيد عقل.

هل يمكن القول إنّ تجاوز شكل الكتابة المعروفة بالتّقَليديّة يجب أن يستجيب لمتطلّبات اجتماعيّةَ وإيديولوجيّة؟ إذا كانت هذه المتطلّبات تفسّرِ اللّجُوء إلى هدَْم الأشكال العَرُوضِيّةَ التّقَليديّة لدى الشُّعراء المحدَثين، هل هذا يعني أن أيّ هدم آخر هو تُرَّهة شكليّة أو مجرّد لعبة أسلوبية؟ هلِ البُعد الإيديولوجيّ هو العامل الوحيد لأيّ تغيير؟ وهل للاضطراب والقلق الإنسانييّن الحَصْرِيّةَ في كلّ عَمَلِيّةَ تَغْيير؟...

إنّ تاريخ الأدب وبالأخصّ تاريخ تحولّات أنماط الكتابة يُبرزان لنا حالات لم يتمّ فيها بالضَّرورة تجاوز الأشكال المَوْرُوثة وكذلك المَضامِين من خلال وَعْي مَوْضُوعي للمعطيات السوسيولوجيّة والإيديولوجيّة: بودلير، ريمبو، مالارميه، فلوبير (خاصَّة في روايته ''التّرَبية العاطفيّةَ'')، پروست، وسيلين أسْهَمُوا بطريقة حاسمة، من خلال تجارب وهموم شخصيّة بحتة، في أشكال الكتابة وتاليًا الموضوعات.

إنّ التّأويل الإيديولوجي، وعلى الرَّغم من صوابيّتَه في بعض الحالات، لا يمكنه وَحْدَه أن يحتكر تفسير الظّاَهرة الأدبيّة وفهمها، حتّىَ إنه يؤدّي في حالات أخرى إلى تصنيف ذاتيّ للغاية يستخفّ بكلّ فنّان لا تستجيب أعماله لاقتناعات النّاَقد الإيديولوجيّة. من الصَّعب أن نصادف نقادًا مثل جورج لوكاش يعرفون التّمَييز بين  البُعْد الإيديولوجيّ الظّاَهر في عمل ما ومَرْماه الكامِن.(34)

على صعيد آخر، إذا ''كانت الحاجة أمّ الاختراع''، فهل يمكن للاضطراب أوالقلق وَحْدَه أن يكون في أساس الإبداع الفَنّيِّ؟ ألا يحقّ للفَرَح والغِبطة والمجد أن تَسْتَوْطِنَ جمهوريّة الفنّ وتُسْهِمَ في تقدّم الأشكال الفنّية؟...كلّ تمييز وكل احتكار يجب أن يلغى من المجال الفنّي. تكمن قيمة العمل في نتيجة التّفَاعل بين مضمون وشكل، تفاعل جَدَليّ يَنْساهُ الجدليّون أنفسهم أحيانًا. فلِلضَّمير الفَرِح كما للضَّمير الشَّقِيّ حقّ في الفنّ. ويمثّل سعيد عقل هذا الضمير الفَرِح في الشّعر العربي المعاصر؛ وسيكون من الإجحاف ألاّ نعترف له به.

 

مراحل الشعر العربيّ الحديث
مَرَّ الشِّعر العربيّ في النّصِف الأوّل من القرن العشرين في ثلاث مراحل: مرحلة تقليديّة أنتجت الموضوعات والأشكال الموروثة، ومرحلة ثانية مجدّدِة على مستويي المضمون والشَّكل، ومرحلة ثالثة رومنطيقيّة مُشْبَعة بالحُزن والغضب والتّمَرُّد من  جهة، ومأخوذة من جهة أُخرى بالزَّخرفة والتجميل الشكليّين. (35) في هذا التّصَنيف المعتمد لَدَى العديد من مؤرّخي الأدب العربيّ المعاصر، يحتلّ سعيد عقل موقعه في هذه المرحلة الثالثة الرومنطيقيّة ذات المظهر الشَّكْلي.

ولهذه المراحل المختلفة ممثّلوها: أحمد شوقي يمثّل المرحلة التقليديّة، وجبران خليل جبران يمثّل وَحْدَه المرحلة الثّاَنية، والياس أبو شبكة والأخطل الصَّغير وصلاح لبكي يمثّلون الرُّومنطيقيّة الكئيبة للمرحلة الثّاَلثة؛ وبين الرُّومنطيقيّة الكئيبة والرومنطيقيّة الشَّكليّة يتعيّن موقع خليل مطران الذي معه تحقّقت وحدة القصيدة العربيّة؛ وأخيرًا الرُّومنطيقيّة الشكليّة التي هي مَيْلٌ مُغْلق من دون أيّ انفتاح على العالم، (بحسب أدونيس) و من دون أيِّ رؤية، فهي عودة جديدة إلى المُيُول التقليديّة في بداية القرن: هنا في هذه المرحلة الأخيرة، يتعيّن  موقع سعيد عقل الشاعر سعيد عقل مع د. هند أديب دورليان(36)

في الواقع، بعد الحزن والكآبة الرُّومنطيقيّين المتمثّلين بأبي شبكة ومطران، جاء سعيد عقل ليدخل البَهْجة والأمل إلى شِعْرٍ يتآكله اليأس، وليكمّل المشروع الذي شَرَع به جبران، والّذَي تابعه مطران جزئيّاً في ما يتعلّق بالقُيود المفروضة على اللّغُة الشِّعريّة وضَرورة التّحَرُّر منها. لا يشكّل فن سعيد عقل عودة إلى موضوعات الشعر الكلاسيكيّ التقليديّة تحت مظاهر شكليّة مُحْدَثَة. بل على العكس احتلّت موضوعات الفرح والمجد والمطلق والكون مكاناً شعريّاً جديدًا لم يَسْبِق أن عرفه الشِّعر العربيّ بهذا الاتّساع. لقد أدخل سعيد عقل شعريّة جديدة منبثقة من رؤية وتصوّر للإنسان والعالم. في ذلك أيضًا، يكمّل سعيد عقل جبران، صاحب الرُّؤى الّذَي سعى إلى عالم أفضل.

 

خصوصيّةَ سعيد عقل وموقعه المميّز

هذا التّغَيير الموضوعاتيّ تطلّبَ ابتكار أشكال تعبيريّةَ جديدة، لذلك عمد سعيد عقل إلى لغة شعريّة جديدة إنْ من حيث الصُّوَر الشِّعْرِيّةَ، أو الأشكال العَرُوضِيّةَ، أو اللّغُة وتراكيبها.

في ما يَخُصُّ الصُّوَر الشِّعريّةَ، كان سعيد عقل أحد الشُّعراء القلائل الذين أجادوا استخدامها بشكل شِبْه منتظم. إنّ تنقية اللّغُة الشِّعريّة الّتَي تكلّم عليسعيد عقلها أدونيس تكمن في هذا الإلغاء المَرْجِعِي لصالح تعبير مصوّر للعواطف والأحاسيس والدّوَافع الداخليّة. وبذلك تصبح الصُّورة المجازيّةَ خاصّيِةَّ اللّغُة الشّعِريةّ السعقليّة لم يسبقه أحد إليها. ولبلوغ هذا المستوى الرَّفيع من الشَّفافيّةَ الشِّعريّة، كان عليه أن يذلّل كلّ عائق يبرز أمامه إِن من ناحية العَرُوض أو من ناحية التّرَاكيب النّحَْويّةَ. هذا ما يفسّر اللّجُوء إلى تفكيك البنى العَرُوضِيّةَ انطلاقًا من حاجات تختلف عن تلك التي حدت بالمحدَثين لإنجاز مثل هذه العمليّة. فالفرح كما الحزن، والسُّكون كما الاضطراب، يمكنهما أن يحوّلا العالم... والبنى العَرُوضيّةَ.

تستجيب الصُّوَر الشِّعرية، إضافة إلى تفكيك البنى العَروضيّةَ، لِضَرورات تعبيريّة، وهي ليست لعبة شكلانيّة من دون هدف أو غائيّة. فحداثة هذا الشعر تتطابق مع حداثة الموضوعات الجديدة في الشِّعر العربيّ. وبذلك يتحقّق تماسُك شعريّ آخر بين الشكل والمضمون على أُسس مختلفة عن تلك الَّتي مَيَّزت شِعْرَ الحَداثة العربيّ في الخمسينيّات والستّينيّات. إذًا إن سقوط نموذج شكلي ليس  مرتبطًا بسقوط بنية اجتماعيّةَ، فهناك أسباب أكثر تعقيدًا تحدّد الانتقال من شكل تعبيريّ إلى آخر.

لقد تمكّن شعر سعيد عقل من خلال مضمون أعماله وبناها العَروضيّةَ وصورها ولغتها أن يخلق تماسكًا وتجانسًا نادرًا ما بلغهما الشُّعراء العرب في القرن العشرين. لذا نجد صعوبة في تصنيفه داخل تيّار محدّد، إنّهَ ينتمي إلى كلّ التيّارات وليس إلى تيّارٍ واحد. ويصبح هذا التصنيف أكثر صعوبة في حال كان المِعْيار الذي نعتمده هو المِعْيار الأوروبي-الفرنسي. فسعيد عقل ليس رومنطيقيّاً بحتًا، ولا رمزيّاً بحتًا، ولا برناسيّاً بَحْتًا. إنّه أحد أوائل الشُّعراء الحقيقيّين في مجال الحَداثة الشعريّة، إذا كنّا نفهم ''الحداثة'' استقلالاً عن النماذج الغربيّة من دون أن يعني ذلك قطيعة، ولكن تفاعل ومحاكاة حرّة وغير مستعبدة كما أَحَبّ الكلاسيكيّون الفرنسيّون ترداده

 

  1. ولد سعيد عقل في الرابع من تموز 1912 في زحلة، وتابع فيها دراسته الثَّانويَّة حتَّى سنّ الثَّامنة عشرة. وخلافًا لما قد يظنّه بعضُهم لم تكن لديه أيُّ مُيُول شعريَّة واضحة. فكان بحكم تفوّقه في مادَّة الرِّياضيِّات يستعدّ لدراسة الهندسة المِعْماريَّة.
  2. كان قد نشر ذلك العامَ "إنجيل الحب" وهو مجموعة قصائد كتبها حتَّى سِنِّ الثَّامنة عَشْرَةَ. بَيْدَ أنَّه اعتبر تلك المجموعة مُراهقةًً شِعريَّة حيث لم تكن شخصيَّته الأدبيَّة والفَّنِّيَّة قد تشكَّلت بَعْدُ، فلم يُعِدْ طباعتها.
  3.  صدرت هذه المسرحيَّة عن المطبعة الكاثوليكيَّة في طبعة فاخرة من الحجم الوسطِ وبلغ عدد صفحاتها السِّتِّين. ولم يُعد نشرها بعد ذلك. وتتألّف هذه المسرحية الشعرية من فَصْلين ومقدِّمة قصيرة من ثماني صفحات تتضمّن جزأين: الأول عرضٌ موجز لمدرستين كلاسيكيّتين، الفرنسيَّة والشَّكسبيريَّة، والثَّاني مجموعة ملاحظات حول المنهجية التي استخدمها الكاتب في إعداد موضوعه. وتروي المسرحيَّة المستوحاة من العهد القديم، حكاية يَفْتاح -  وهو رجل قويّ أنكرته قبيلته لأنَّ أمّه كانت مومسًا مجنونة -  يرحل عن منطقته ويسمِّي نفسه جَلْعاد. يربّي هذا الأخير ابنته راحيل، ومن دون أن يعلمها بحقيقة أمره، على حبّ وطنها وبغض المدعوِّ  يفتاح. وإذ يهدّد العدوّ بني إسرائيل، يستغيث هؤلاء بيَفْتاح الذي يستجيب لطلبهم بعد حَيرة وتردّد. ونظرًا لِخُطورة العدوّ ينذر يفتاح أن يضحّي بأوَّل فَرْد من عائلته يخرج لمُلاقاته في حال عاد منتصرًا. ولِسُوء الحَظَّ تكون ابنته الوحِيدة أوَّل من يخرج: فيمزّق ثيابه حزنًا ويَكْشِف لراحيل عن نَذْره لإل?ه إسرائيل. وتستمهله راحيل شهرين لتعتكفَ فيهما في الجبال، باكيةً على شبابها و خَسارة رفاقها. فيستجيب لطلبها. (أعيد طبع هذه المسرحيَّة سنة 1991 وأصدرتها دار نوبليس في مجموعة آثار لسعيد عقل بعنوان: سَعيد عقل شعره والنَّثر..)
  4.  أعيد نشر هذا الديوان عام 1960 و1971 و1991.
  5. كتبت هذه المسرحية عام 1939 وجرى تنقيحها عام 1944 في طبعتها الرسميَّة. كما أعيد نشرها عام 1961 و 1971 و 1991. وقد وضع لها عقل مقدّمة عرض فيها تصوّره لتاريخ لبنان. وهذه المسرحيَّة المؤلّفة من ثلاثة فصول والمتأثرة بالمدرسة الكلاسيكيَّة الفرنسيَّة تستمدّ موضوعها من الميثولوجيا الإغريقيَّة-الفينيقيَّة. وفيها يطارد قَدْمُوس أخته أوروپ التي اختطفها زويس، ملك الآلهة اليونانية، كي يُعيدها إلى لبنان. ويتمكّن قَدْموس من القضاء على تنّين كان يحرس أوروپ غير أن خبر انتحار هذه الأخيرة يفسد عليه فرحة الانتصار.
  6.  بعد صدور هذا الدِّيوان عام 1950، أعيدت طباعته في الأعوام 1956 و 1960 و 1971 و 1991 (مع بعض التنقيحات والإضافات). وهو يتضمّن ثلاثًا وأربعين قصيدة حبّ نشرت تباعًا بين عامي 1940 و 1948 في مجلة  "الشِّـــراع" الاُسبوعيَّة.
  7.  صدر هذا الدِّيوان عام 1960 وأعيدت طباعته عام 1971. وهو يتضمّن 31 قصيدة. كما طبع سنة 1991.
  8.   يتألّف هذا الدِّيوان الصادر عام 1971 من 49 قصيدة يغلب عليها الإحســـاس بالطَّبيعة.
  9.  يضمّ هذا الدِّيوان الصادر عام 1972 قصائد نثريِّة ويكشِف في مجمله عن نوع من التَّرتيب التعاقبي-السردي ويتألّف من ثلاثة أجزاء: "غصّة الناي" (العاشق)، "هموم الوردة" (العاشقة)، "عهد الوردة الملتفّة على الناي" (حوار بين النَّاي/العاشق والوردة/العاشقة). ويتخفّف الشَّاعر في هذا الدِّيوان من قيود البحور الشعرية.
  10. يحوي هذا الدِّيوان الصَّادر عام 1973 خمسين قصيدة توجّهها العاشقة إلى الشَّاعر-الحبيب.
  11. في قصائد هذا الدِّيوان، والبالغ عددها الستين، يعود الشَّاعر إلى الجماليَّة الشَّعرية الَّتي صنعت نجاح "رِنْدَلى" وشهرة الشَّاعر.
  12. يضمّ هذا الكتاب الصَّادر عام 1954 مجموعة من المقالات الَّتي تناقش مســائل مختلفة.
  13. يحتوي الكتاب على مقالات في النَّقد الأدبيّ، ومحاضرات ومقدّمات كتبها لأِعمال أدباءَ معاصرين. ويَعْرِض فيها عقل تصوُّره الجَماليّ.
  14. ديوان من سبع وثلاثين حكاية نثريَّة مستلهمة من الأساطير الفينيقية. وفيها يحاول عقل أن يبرز خصوصيَّة الحضارة اللُّبنانيَّة-الفينيقيَّة ومجدها ورجالاتها، بالإضافة إلى الأحداث التي أثَّرت في مصير هذا الشَّعب.
  15. بالإضافة إلى عدد من النَّشاطات، يَعْكِف عقل على نقل الرَّوائع العالميَّة إلى "اللغة اللُّبنانية" واضعًا لها مقدّمات باللُّغة اللبنانية نفسها.
  16. أدونيس، ''مقدّمة.لشعر العرب''، دار العودة، بيروت، ١٩٧١ ، ص. ٩٦
  17. أنطوان غطاس كرم، ''الرَّمزية و الأدب العربي الحديث''، إصدار دار الكشاف، بيروت، ١٩٤٩ ، ص. ١٥٣-173
  • محمّد فتّوح أحمد، ''الرَّمز و الرَّمزية في الشعر المعاصر''، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٧٨ ، ص. ٢١٣-٣٦١- ٢٢٨ و ٣٥٦
  • درويش جندي، ''الرمزيّة في الأدب العربي''، نهضة مصر، القاهرة، ١٩٥٨
  • صلاح لبكي، ''لبنان الشاعر''، دار الحضارة، الطبعة الثانية، بيروت، ١٩٦٢ ، ص. ٢٣٦- ٢٤٩
  1. إيليا حاوي، ''الرمزيّة والسرياليّة في الشعر الغربي والعربي''، دار الثقافة، بيروت، ١٩٨٠ ، ص..١٦٥- ١٥٥
  2. Le manifeste de Youssef el-Khal?, cité par Kamal Kheir Beik, Le mouvement moderniste de la poésie arabe contemporaine, publications orientalistes de France, paris, 1978, p. 51.-
  3.  Idem, p. 16-
  4. كمال خير بك، م.س. صفحة ٤٤ و ١٠٣-105
  5. المصدر نفسه ، ص. ٢١-46
  6. ناجي علّوش، ''مقدّمة لأعمال بدر شاكر السيّاب الكاملة''، دار العودة، بيروت، ١٩٧١ ، ص. ووو-ززز .
  7. رندلى، ص. ١٠٧
  8. راجع ناجي علّوش، مصدر سابق، وكمال خير بك، مصدر سابق.
  9. أنظر الجزء الأول من كتابنا ''شعرية سعيد عقل'': ''البنى العروضيّة في شعر سعيد عقل''، دار الفارابي، بيروت، ٢٠١٠
  10. عز الدين اسماعيل، ''الشعر العربي المعاصر''، دار العودة، بيروت، ط ٢-١٩٨١ ،
  11. إيليا حاوي، ''الرمزيّة و السرياليّة في الشعر الغربي والعربي''، دار الثقافة، بيروت ١٩٨٠ ، ص. ١٥٨
  12.  أدونيس، ''مقدّمة...''، س.ذ. ص. ٩٦
  13.  احتلال فلسطين و هزيمة الجيوش العربيّة المفجعة.
  14. هو أوّل منظّر للعروض العربيّة، فقد ابتكر نماذج البحور الخمسة عشر، أمّا البحر السادس عشر ''المتدارك'' فقد أدخله الأخفش.
  15. ناجي علّوش، ''مقدّمة ديوان بدر شاكر السيّاَب''، م.س.. ص. ٩
  16. Voir Kamal Kheir Beik, Le mouvement moderniste, op. cit., p. 56, note no 2
  17. Georges Luckacs,Balzac et le réalisme français, petite Collection maspero,1967,p.14
  18.  أدونيس، م.س.، ص. ٧٨-٩٧-
  19. أدونيس، م.س.، ص. ٧8-٩٧

لبنان الأسطورة في شعر سعيد عقل

لبنان الأسطورة في شعر سعيد عقل

د. هند أديب دورليان أستاذة الأدب الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية )كلية الآداب(

 

 

 

لبنان سعيد عقل كناية عن تاريخ أسطوري وإنساني، وقد أراد له الشاعر أن يكون مبتدأ كل الحضارات وكل القيم وكل العلوم، كما أراد له أن يكون مركزًا للإشعاع يختزن كمًّا من التاريخ الإنساني والإنجازات. أبدع سعيد عقل في صوغ كيان خيالي للبنان أبدي مثلما نجح في بناء عمارته الشعرية الفذّة.

 يبدأ سعيد عقل(1)، المولود في زحلة (البقاع)، مسيرته الأدبيَّة والمِهَنيَّة عام(2)   1930  لدى قُدومه إلى بيروت ليعملَ صِحافيًا في مجلَّة كان يديرها الشــاعر اللُّبنانيّ الكبير بشارة الخوري الملقَّب بالأخطل الصَّغير.

 عام 1935، تُكَرِّسه إحدى الجوائز الأدبيَّة شاعرًا كبيرًا، وذلك عن مسرحيَّته الشِّعريَّة المستوحاة من التَّوراة "بنت يفتاح"(3). بعد سنتين، ينشر عقل عمله الثَّاني "المَجْدَليَّة"(4)، وهو قصيدة سَرْدِيَّة من مئة وعشرة أبيات مستوحاة من "العهد الجديد" تَرْوي قِصة لقاء مريم المَجْدليَّة، المرأة المُثيرة والخاطئة، المسيحَ، وسيدفع ذلك اللِّقاء مريم المجدليَّة إلى إنكار ماضيها وترسُّم طريق المسيح.

 وبعد أن يذيع صِيتُه، توكِل إليه مدرسة الحِكْمة - على غِرار ما فعلت الـ"كوليج دي فرانس" لپول -فاليري - كُرْسِيَّ الشِّعر الذي استُحْدِث خِصِّيصًا من أجله لِيُلْقيَ على طُلاَّب الصُّفوف المنتهية محاضراتٍ حول تَيَّاراتِ الشِّعر العربيّ وتطوّره. وحتَّى صدور مسرحية "قَدْموس"(5)، راح الشَّــاعر– على الرُّغم من مرضٍ أقعده لِسَنتين – يُواصِل، إلى جانب التَّدريس في "مدرسة الآداب العليا" (Ecole Supérieure des Lettres)  التابعة لأكاديميَّة ليون في فرنسا، وتنسيق مادَّة اللُّغة العربيَّة في المدرسة الشَّرقية في زحلة أبحاثه حول تاريخ لبنان التي سوف تؤدّي به إلى ترسيخ اقتناعاته التَّاريخية والسياسية، والتي يُشكّل "قَدْموس" نوعًا من التَّعبير المسرحيّ عنها. بَيْدَ أَنَّ قَدْمُوس هو أيضًا خاتمة مرحلة أدبيَّة ساد فيها تأثير الكلاسيكية الفرنسيَّة (بنت يفتاح، المَجْدلِيَّة، قَدْمُوس) وفاتحة لِمَرحلة غنائيَّة كانت إرهاصاتها واضحة في مقدّمة "المَجْدَليَّة".

أمَّا "رِنْدَلى"(6) فهو أول دواوين المرحلة الغِنائيَّة - الرُّومانسيَّة. وسيصدر عقل تِباعًا: "أجمل منك؟ لا"(7)، "أجراس الياسَمين"(8)، "كتاب الورد"(9)، "قصائد من دفترها"(10) و"دُلْزَى".

 مع "دُلْزَى"(11) - الذي يعتبر على الصَّعيد الشَّكْلِيّ عودة إلى "رِنْدَلى" - تنتهي المرحلة الغنائيَّة-الرُّومانسيَّة لتبدأ مرحلة ثالثة يجوز لنا - في غياب تسمية أدبيَّة مَحْضة - أن نطلق عليها اسم "مرحلة النُّضْج" أو إذا أردنا "مرحلة الخُماسِيَّات". وإذ ينحاز عقل إلى التأمُّل الدِّيني-الفلسفيّ، والتأمّل في الكون والطَّبيعة، والتفكّر في الوضع الإنسانيّ كما إلى المواضيع الأدبيَّة التَّقليديَّة كالحُبّ والفخر وتمجيد الأَنا، يختار "الخماسية" كشكل شِعْرِيّ ثابت يعبّر من خلاله عن أفكاره ومشـــاعره. وتقترب هذه "الخُماسِيَّات"، الَّتي تعتمد التَّكثيف، من الحكم البليغة وتمتدّ على خمسة أشطر. لكن عقل لم يحزم أمر نشر هذه "الخُمَاسِيات" التّسع والتِّسعين المكتوبة بالعربيَّة الفُصْحى والجاهزة منذ عام 1978، إلاّ سنة 1991.

 

عام 1974، ينشر سعيد عقل "كَـــما الأعمدة"، وهو ديوان من أربع وعشرين قصيدةً من شعر المُناسَبات، وقد كتبت وأُلقيت في مناسبات عِدَّة. فكان الشَّاعر، الذي يتلقّى دعوة عند كلّ حدث، سواءٌ أكان هذا الحدث فنيًا أم سياسيًا أم مجرَّد مناسبة اجتماعيَّة، يؤلّف - إمَّا بلفتة كريمة منه وإمَّا عن قناعة عميقة - قصيدة من وَحْي المناسبة الَّتي قد تكون موت شاعر أو فَنَّان، تكريم كاتب أجنبيّ أو ذكرى كِبار رجالات التَّاريخ، أو مناسبة دينيَّة، إلخ. وتَكْشِف تلك القصائد، على الرّغم من كونها من شعر المناسبات، عن وِجْدانيَّة أصيلة لا تغيب عنها الـ"أنا" أبدًا.

 وبمُوازاة نتاجه الشِّعْرِيّ، ينشر سعيد عقل بين عامي 1950 و1963 (وهي تباعًا تواريخ نشر رِنْدَلى و دُلْزى) أعمالاً نثرية هي: "يوم النُّخبة"(12)، "كأس لِخَمْر"(13) و"لبنان إن حَكَى(14).

 

إلاّ أن سعيد عقل، الذي وصل إلى ذُروة مجده الأدبيّ والَّذي كرّسه العالم العربيّ بأَكمله شاعرًا كبيرًا، يطلق سنة 1961 مع "يــارا" مشروعَ تَحدٍّ لتثوير اللُّغة والأبجديَّة، فيختار الكتابة بالعاميَّة اللُّبنانيَّة ويستنبط لها أبجديَّة خاصَّة مستوحاة من اللاَّتينيَّة الَّتي يعتبرها إحدى تنويعات اللُّغة الفينيقيَّة. ويصدر هذا الموقف اللُّغويّ عن اقتناع تاريخي-إيديولوجي حول فَرادة الحضارة والأمَّة اللُّبنانيَّتين. وستضع هذه القناعات - كما تطبيقاتها على المستويين الأدبيّ واللُّغوي - الشَّاعر في موقع سِجالي مع دُعاة انتماء لبنان إلى تاريخ العرب وحضارتهم والمحافظة على العربيَّة الفُصْحى كدليل على هذا الانتماء. ومن دون الدخول في تفاصيل هذا السِّجال الإيديولوجِيّ-الأدبيّ، تجدر بنا الإشارة إلى أنَّ سعيد عقل سيُواصل مشروعه وسيتابع، على الرّغم من كلِّ العَقَبات، الكتابة بـ"اللغة اللُّبنانية"، كما يطيب له أن يقول، وسيصدر عام 1978 ديوانًا عنوانه "خُماسيَّات" (وهي غير "الخُماسِيَّات" المكتوبة بالعربيَّة الفصحى). بيد أن سعيد عقل يبقى في نظر أصدقائه كما خصومه أحد أكبر الشُّعراء العرب في الخَمسينيَّات والسِّتّينيَّات من القرن الماضي(15).

ويشـــارك سعيد عقل، الشَّــاعر والكاتب والمُساجل - ورجل الفِعْل أيضًا - في أحداث بلاده السِّياسيِّة، فيتمرّد سنة 1935 مع أهالي بلدته زحلة ضِدّ ظُلم حكومة الانتداب، ويُلْقي خلال تجمّع شعبيّ خِطابًا يدعو فيه مُواطنيه إلى الكفاح من أجل الاستقلال، ما سيؤدّي إلى اعتقاله بضعة أيام بناءً على أمرٍ من السُّلطات الفرنسيَّة. عام 1948، أي بعد مرور سنة واحدة على استقلال لبنان الفِعليُّ، نراه مجدّدًا مع ثُوّار زحلة يطالب بجمهوريَّة مستقلّة. سيضعه هذا الموقف السِّياسيّ في مواجهة مع الحكومة اللُّبنانية وبشكل خاصّ مع رئيس الجمهورية آنذاك بشــارة الخوري الَّذي سيضغط على مدير "مدرسة الآداب العليا" (Ecole Supérieure des Lettres)  وعلى مدير مجلَّة "الشِّـــراع" بهدف إيقاف التَّعاون مع الشَّاعر. فلا يبقى أمام هذا الأخير إلاَّ أن يرسل قصائده إلى مدير الإذاعة السُّوريَّة أحمد عَسِّي الذي يقوم بقراءتها في برنامج خاصّ. ولكن بعد سقوط بشــارة الخوري عام 1952، يعاود نشاطاته المهنيَّة والأدبيَّة.

 عام 1962 ينشئ عقل، بمناسبة عيد ميلاده الخمسين، "جائزة سعيد عقل" وقيمتُها ألف ليرة لبنانيَّة يقدّمها شهريًا إلى الفَنَّانين والعلماء العاملين على تطوير الفنون والعلوم في لبنان. وبعد انتخابه عضوًا في مجلس بلديَّة زحلة، يقدّم استقالته ليترشَّح إلى الانتخابات النِّيابيَّة الفرعيَّة عام 1965 من دون أن يحالفه الحَظّ. بين عامي 1975 و1976، عند بداية الحرب في لبنان، ينضمّ سعيد عقل إلى "جبهة الحُرِّيَّة والإنســان" إلى جانب أبرز الأحزاب والشَّخصيَّات السِّياسيَّة المنتمية إلى اليمين المَسِيحيّ. وسيترك عقل هذه الجبهة بسبب خلافات مع السِّياسيين التقليديِّين. سنة 1977 يصدر يوميَّة ناطقة بـ"اللُّغة اللُّبنانيَّة"، "لبنان"، وفيها يحاول الشَّاعر مع نفر قليل من الأصدقاء التَّرويج لأفكاره الخاصَّة وتصوُّراته السِّياسيَّة.

 

موقع سعيد عقل في الشِّعر العربي المعاصر

لم تشكّل أعمال سعيد عقل حتّىَ الساعة موضوع تحقيق منتظم ومعمّقَ من قِبَل النّقَد الأدبيّ والجامعيّ. إذ باتت الآراء حول شعره والمكان الّذَي يشغله في الشِّعْر العربيّ المعاصر مبْهَمة وذاتيّة. فبين مديح مُغالٍ واتّهام جارح، لم تجد أعماله مكانَتَها المناسبة. ما يعني أن أعمال سعيد عقل هي الوَحِيدة رُبّمَا الّتَي اختلفت آراء النّقُّاَد حولها. ولكنّ لِهذه الآراء المتناقضة أسبابًا موضوعيّةَ وذاتيّةَ معًا.

فكاتب جدّي مثل أدونيس الذي يصنّف سعيد عقل على عجلة في تيّار الرُّومنطيقيّة الشَّكْليّة، لم يجد شيئًا يقوله حول أعماله سوى أنّهَا تَحْتلُّ مركزًا بارزًا وحاسِمًا في تنقية اللّغُة الشِّعْريّة. (16) وآخرون أكثر جَزْمًا منه رأوا فيه ممثّلاً لِنَوعٍ من الرَّمزيّة. (17) أمّاَ إيليا حاوي، الأكثر دِقّةَ، فيجد أنّ شعرسعيد عقل رومنطيقيّ مصبوغٌ بتصنّعُ ذِهْنِي. (18)  وفي الخَطّ عينه، يصف يوسف الخال، إِمام حركة الحَداثة في لبنان، ورئيس تحرير مَجَلّةَ ''شعر''، شعر سعيد عقل بالرُّومنطيقيّةَ ''المَصْبُوغة برمزيّة القرن التّاَسعَ عَشَر الفرنسيّ''.(19) وأخيرًا، يتردّد كمال خير بك في تعيين موقعه ما  بين الرَّمْزِيّة والرُّومنطيقيّة. (20)

في جميع الأحوال، فالتّحَيّرُ الذي يَسِمُ موقف النّقَد تُجاه الانتماء الحقيقيّ لسعيد عقل إلى مدرسة أدبيّة محدّدة، رومنطيقيّة أو رمزيّة، يقابله موقف قاطع لجهة عَدَمِ الرَّغبة في تصنيفه من بين الشُّعراء المُحْدَثِينَ، على الرُّغم من أن أعماله أثّرت في كوكبة من الشُّعراء الشُّبّاَن مثل جورج رَجّي، جورج غانم، شوقي أبي شقرا، جوزيف نجيم الذين كانوا في عداد جماعة ''شِعْر''.
حتّىَ إن يوسف الخال نفسَه تأثّر باكرًا بنظريّةَ سعيد عقل في استعمال اللّغُة المَحْكِيّةَ والتّخَلّي عن الفُصْحَى (21)  بذلك أصبح شعر سعيد عقل ظاهرةً غير قابلة للتّصَنيف، تُحاكي فُرادتها شخصيّته الفذّة. 

 

عقل والحداثة: تزامن أم لقاء؟
يرجع هذا الالتباس في الأعمال والمكانة الّتَي تشغلها إلى عوامل ملازمة لها وأخرى خارجة عنها. وعلينا في سِياق العوامل الخارجيَّة عدم الاستخفاف بالتَّطابُق الزَّمنِيّ. في الواقع تمتدّ المرحلة الخِصْبة لنتاج سعيد عقل، والتي أسَّست لِشُهْرته، بين ١٩٥٠ و ١٩٧٤ ، وهي مرحلة دعوناها غنائيّة. تتطابق هذه المرحلة تمامًا مع بدايات الشِّعر الحديث في لبنان وفي العالم العَرَبيّ. (22)  إلاّ أَنّ علاقة سعيد عقل بالحداثة الشِّعريّة لم تكن علاقة اندماج أو ذَوَبان. لقد أنتج هذا التّطَابُق توازيًا لا يقبل الجدل. وعلى الرُّغم منِ التقاء نتاج سعيد عقل بنتاج المُحْدَثين في بعض النّقِاط، إلاّ أن الواحد بقي بلا مَنْفذ إلى الآخر. ويرجع هذا بدوره إلى عدّة عوامل.

إن تزامن ظهور أعمال سعيد عقل الشِّعريّة مع محاولات المُحدَثين الأُولى، لم يشكّل سببًا كافيًا لِتَشابُه المصادر والاهتمامات والمَرامِي. ففي الوقت الذي خَطا فيه جِيل الشُّعراء الشَّباب، مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السَّيّاب وعبد الوَهَّاب البيّاَتي في العراق وصلاح عبد الصَّبُور في مصر وفَدْوَى طوقان في فلسطين ويوسف الخال وأدونيس في لبنان، الخطوات الأولى في مجال الشِّعر وكانوا شِبْهَ مَغْمُورين، كان سعيد عقل يتمتّع بشهرة أكيدة  نتيجة الأعمال التي قَدّمَها منذ سنة ١٩٣٥ : ''بنت يفتاح'' (1935)، ''المجدليّة'' ( ١٩٣٧) و''قدموس'' ( ١٩٤٤ ) الَّتي رَسَّخت شهرته. وكان يتحضّر في سنة (١٩٥٠) للبَدْء بتجربة شعريّةَ جديدة.

لم يُكتب لهذا التّزَامن أن يتطوَّر إلى لقاء. إذ لم يستطع الشَّاعر الكبير الّذَي كان أربعينيّاً أن يتصادق مع جيل شباب حديثي العهد من المتردّدين والمتحيّرين. وذلك لأنّ فارق العمر واختلاف الاقتناعات والانتماء إلى جيلين مختلفين كان أقوى من مصادفة جَمَعتْهم في زمنٍ واحد وعلى دَرْب الشِّعر الواحد... إذ كان سعيد عقل مكمّلاً للماضي، وبالتالي محافظًا بحيث لم يكن ليُعجب جيل الشَّباب.

ومع ذلك التقت أعمال سعيد عقل في بعض أوجهها مع محاولات المحدَثين حتّىَ إنّهَا سبقتها في بعض الأحيان. لقد ركّزنا في تحليلنا للبنى العَرُوضيّةَ على رغبته الانعتاق من النّمَوذج العَرُوضِيّ التّقَليديّ: تلاعب بالأوزان والتّفَعيلات، اعتماد الرَّجَز، استعمال البحور القصيرة التي كان الشِّعر التّقَليديّ نادرًا ما يستخدمها، إضافة إلى خَلْط إيقاعات مختلفة في القصيدة نفسِها. هذا الغَلَيان التّحَديثي الّذَي ظَهَر في ''رِندلى'' وعُمّمِ َفي ''أجمل منكِ-لا'' (١٩٦٠ )و''قصائد من دفترها'' ( ١٩٧٣) سيهدأ في ''دُلْزَى'' ليسترجعَ مجدّدا الأشكال العَرُوضيّةَ التّقَليديّة في ''كما الأعمدة''.

هذا التَّحديث الذي لا يهدم كلّيًّا أسس البِنْية العَرُوضِيَّة الكلاسيكيّةَ هو بالضَّبط ما حاول أن يقوم به الشُّعراء المُسَمّون مُحْدَثِين. لقد تطرّق ناجي علّوش، في مقدّمته لل''أعمال الكاملة'' لِبَدْر شاكر السيّاب، إلى مسألة استعمال البُحور لدى هذا الشَّاعر الطليعي والممثّل الأبرز للشِّعر الحديث في العالم العربيّ، مظهرًا كيف أنّ بدر شاكر السيّاب استطاع أن يستفيد من بُحُور الشعر العربي، فاستخدم الرَّجَز، مَطِيّةَ الشُّعراء القدماء والمعاصرين، ليجعلَ منها حِصانًا كما في ''أنشودة المطر''، والسَّريع كما في ''رسالة من مقبرة''، والمُتدارَك في ''المَسِيح بعد الصَّلب''. ففيما يبالغ أكثريّةَ الشُّعراء المعاصرين في استخدامهم الرَّجَز، وفي اعتمادهم له كبحرٍ مألوف، ينوّع بدر شاكِر السيَّاب شعره ويستخدم الكامل والوافر والرَّمَل والمتقارِب والمَتدارَك.

لقد اعتمد بدر شاكر السيّاَب غالباً الانتقال من بحرٍ إلى آخر ليستفيدَ من التّنَوُّع الإيقاعي، كما في شعره ''المَغْرِب العَرَبيّ'' و''جَيكور والمدينة''. وقد نوّع أحيانًا في استخدام التّفَعيلات كما في ''المسيح بعد الصَّلب'' بإدخاله مشتقّاً من التّفَعيلة الأساسيّة ''فَعِلٌ'' بطريقة منتظمة في القصيدة كلّها (23) يمكننا تطبيق هذا التّقَييم لشعر بدر شاكر السَّيّاَب، الشَّاعر الأكثر تمثيلاً للشِّعر العربي الحديث،
من دون أي تعديلات على أعمال سعيد عقل:


١- يكثر سعيد عقل من استخدام الرَّجَز؛ إنّهَ البحر الأكثر استخدامًا في شعره، وهو أيضًا البحر المُفَضَّل في أغلبيّةَ قصائد ''أجمل منكِ-لا'' ( ١٩٦٠ ) و''أجراس الياسَمين'' ( ١٩٧١ ) و''قصائد من دفترها'' ( ١٩٧٣ )
٢- لا يحدّ سعيد عقل شعره ببحر الرَّجز فقط، وإنّمَا مِرْوحة بحوره واسعة ومتنوّعة وتصل إلى أربعة عَشَرَ بَحْرًا.
٣ - يستخدم سعيد عقل عِدّةَ بحور في بعض قصائده، مثلاً  السَّريع والمُتَقارِب في ''ماذا؟ انتهى كلّ شيء؟. (24)
٤ - يستخدم سعيد عقل التّفَعيلة ومشتقّاتِها (ال ''فع'' الشهيرة) بطريقة منتظمة في بعض قَصَائدِه من أجل خَلْقِ تَنَوُّع إيقاعيّ يَكْسِر رتابةَ البحر الواحد...

وعلى صعيد آخر، وفي مسألة أولويّةَ استعمال البحر الّذَي تجادل حوله طويلاً بدر شاكر السيّاَب ونازك الملائكة (25) ، يمكننا حسمُ هذا الجِدال والتّأَكيد بأن سعيد عقل قد سبقهما في العام 1944 عندما تصرّف بحرّيّة في استعمال الكامل في الأبيات الأربعة  والأربعين الخاصَّة بالكَوْرَس في ''قَدْموس''. (26)

فإنّ مسألة النّمَوذج العَرُوضيّ شَغَلت الشُّعراء والنّقُّاَد الأدبيّيِن، وأصبحت المعيار الذي على أساسه يَتِمّ تقييم دَرَجة الحداثة أو التقليديّةَ في كلِّ نتاج شعريّ عربيّ، حتّىَ إنّ ناقدًا بارزًا محدثًا  مثل عز الدّيِن إسماعيل قد أُخِذَ هو أيضًا بسحر هذه الإشكالية. (27) إلاّ أنّ ما حاولت دراستنا بَرْهنته- وهذا ربّما أحد إسهاماتها غير المباشرة - هو أنّ مسألة الحَداثة في الشِّعر لا يمكن حَصْرُها بهذه الظّاَهرة الشَّكليّة الوحيدة على الرغم من أهمّيتها.

وبعبارة أُخرى، إذا كان التَّحَرُّر من النَّماذج العَروضِيّة التقليديّة هو السّمِةَ الضَّروريّةَ لأَيّ حدَاثة شِعْريّةَ، إلاّ أنّهَا ليست كافيةً للدّلَالة على الحداثة. وفي هذا السياق كان حَدْسُ الشُّعراء- النّقُّاَد والمنظّرين المُحْدَثين حول هذه النّقُطة بالغ الأهمّيِةَّ، إذ لم يتعرّفوا في أعمال سعيد عقل الغنائية على تجربة مشابهة لشعراء الحداثة على الرغم من وجود بعض السّمِات الشَّكليةّ المطابقة. ومع ذلك، لا يعود إلى المضمون أو إلى الموضوعات تعيينُ درجة الحداثة والتّقَليد في شعر ما، بل إنّ هذا التّعَيين يَتِمّ على مستوى العلاقة بين الشَّكْلِ والمَضْمُون مُبيّنًا قيمة العمل، وموقعه في تطوّر التّجَرِبة الشِّعريّة.

ضِمْن هذا السّيِاق، لم يخطئ كثيراً بعض النّقُّاَد المُتَحفّظِين تُجاهَ شعر سعيد عقل عندما رأوا في أعماله شكليّة سَطْحيّة مرتبطة بمضمون طُفُوليّ. (28)  أمّاَ الآخرون، وهم أقلّ تحفّظًُا مثل أدونيس، فحصروا إسهامه بتنقية اللّغُة الشِّعريّة فقط، وعَدّوُه ''ماليرب'' (Malherbe) الشِّعر العربيّ المعاصر (29)  بالنّسِبة إلى هؤلاء، إنَّ تَحَرَّر سعيد عقل من النّمَاذج العَرُوضِيّةَ لم يكن له أيّ وظيفة أساسيّة وإنّما اقتصر على مجرّد لعبة شكليّة وسطحيّة.

ما هي دلالة-وظيفة - تفكُّك البنى العَروضِيّة التّقَليدية في الشِّعر العربيّ المُعاصر- رأى بعض نقّاد الفنّ ومنظّرِيه في اللّجُوء إلى تهديم الشُّعراء المعاصرين للبنى العَرُوضيّةَ التقليديّة الّذَين عايشوا أحداث ١٩٤٨ (30) ، ظاهرة مُساوية لِسُقُوط البنى  التّقَليديّة في المجتمع العربيّ. أدرك ناجي علّوش هذه المعادلة في قوله: ''لم يكن سُقُوط المجتمع العربيّ التّقَليديّ مجرَّد سقوط، فقد بدأت قِيَم هذا المجتمع المتأخّر والمحافظ بالانهيار أمام الحركة الصَّاعدة، تحت تأثير عوامل داخليّة وخارجيّة. تميّزت هذه الحركة بعمقٍ بلغ الشِّعر العربيّ الّذَي لم يعد يُمكنه أن يبقى حيث حَدّدَ له موقعه الخليل بن أحمدالفَراهِيدي. (31) وببلوغ هذا الانقلاب إلى الشِّعر العربيّ، استعاد هذا الأخير مكانته في حركة التّقَدّمُ. لكي تندفع تجربةُ الشِّعر العربي''. (32)  ويعدّد الكاتب العوامل السّيِاسيةّ والاجتماعيّةَ والفِكْريّة لِهذه التّجَربة إضافة إلى أهمّيّة استيعابٍ أكثرَ وَعْيًا للتّجَربة الشِّعريّة الغربيّة وتأثير الماركسيّة.

بالنّسِبة إلى ناجي علّوش، حيث النّفَْحة اليَساريّة للسّتِّيِنياَّت واضحة، فإنّ سقوط الأشكال العَرُوضِيَّة التقليديّة يشكّل رَدّاً لانْهيار البنى الاجتماعيّةَ المُهَيمِنة في المجتمع العربيّ حتّىَ سنة ١٩٤٨ . فالنّفَحة الثّوَريّة، الّتَي كانت في أساس الخَيالِ الشِّعْرِيّ في تلك الحِقبة(الخمسينيّاَت والسّتِّيِنياَّت) والّتَي سعت إلى تحريك كلّ شيء، لم يكن بإمكانها أن تتعايش مع بنية عَرُوضِيّةَ بالية تعبّر عن الأزمنة الغابِرة والمجتمع القديم. فسُقُوطها كان ضرورة جماليّة شكليّة وجوهريّةَ.

 

عقل والحداثة
لذلك شكَّل شعر سعيد عقل وشعر المُحْدَثين في الخمسينيّاَت والسّتِِّينيَّات تعبيرًا عن حساسيّتين مختلفتين، عن تَصَوُّرين متناقضين للإنسان والعالم والمستقبل. فالشِّعر الحديث، نتاج وضع أيديولوجيّ-سياسيّ مُعَيّنَ، وهو تَطَلّعُات اجتماعيّة واضحة، لم يجد في شعر سعيد عقل ذي النّزَعة الفرديّة نموذجًا أو مِثالاً يحتذى.

فبالنّسِبة إلى سعيد عقل، لاقت المسألة الإيديولوجيّة إجابة مقنعَة وغير قابلة للدّحَْض منذ ١٩٤٠ ، وقد عَرَضها في ''قَدْموس''. ففي وجه القوميّةَ العربيّةَ الّتَي اجتاحت العالم العربيّ، رَفَع سعيد عقل لواء ''قوميّةَ لبنانيّة'' تبحث في عمق التاريخ القديم عن هُوِيّةَ لبنانيّةَ تاريخيّة وإيديولوجيّةَ وجغرافيّة لم تغيّرها أو تُلْغِها-الغزوات- العربية أو غيرها- عوارض التاريخ حسب قوله...بينما كان المحدَثون أكثر ميلاً لدمج لبنان بالعالم العربيّ ويرون في الجذور الفينيقيّة التي يدعو إليها سعيد عقل حقيقة طوباويّة وباطلة وغير تاريخيّة. مقابل العمق التاريخي لسعيد عقل، رفع المحدَثون فضاء العالم العربي: تاريخان، وجغرافيّتان، وتصوّران متمايزان للإنسان والمجتمع والزَّمن وتاليًا الشعر.

وبتحوّله شعرًا، سيتّخذ كلّ من التّصَوُّرين المتقابلين أشكالاً مختلفةً تتميّزَ بالقلق الحاضر هُنا، والغائب هناك. فسعيد عقل الذي كان قد اختار طريقًا أوصلته إلى المُطْلَق، فلا وُجُودَ للقلق عنده، أمّاَ الشُّعراء المُحْدَثُون فإنّ القلق يُضْنِيهم من كلِّ صوب، فلا يقين يعوّض عنه. سيحدّد هذا التّبَاين في وجهات النّظَر توجّههم في ما يتعلّق باختيار مَراجِعِهم الغربيّة. فشِعْر سعيد عقل المَصْبُوغ بِنَوع من الرُّومنطيقيّة والرَّمزيّة، هو قبل كلّ شيء كلاسيكيّ - في المعنى الفرنسيّ لِلكلمة - وپرناسي إذ يولي الشَّكل اهتمامًا من دون سواه، ومراجعه هي خير معبّر عن هذه الميول: شكسبير، راسين، مالارميه، ڤاليري. أمّاَ الشُّعراء المحدَثون الذين وقعوا فريسة القلق الوجودي، فنماذجهم هم: السرياليّون، سان جون برس، ت. س.  اليوت، ريمبو، ميشو، غارسيا لوركا..  (33)

التّاَريخ، بالنّسِبة إلى سعيد عقل، مكتمل سَلَفًا. فالمطلوب منّاَ اتّباع الدّرَب المَرْسُوم للوصول إلى الرفاه والمجد والعظمة. الغرب لا يشغله، فهو من خلق الإنسان اللّبُنانيّ- الفينيقيّ، ألاّ يحمل اسم ''أوروب''، أميرة فينيقيا وشقيقة البطل الأسطوريّ ''قَدْموس''؟ الميتولوجيا مصدر نستقي منه قوّتنا وليس ضعفنا. أمّاَ الماضي، فعلينا معرفة قراءَة رموزه الّتَي تصنع مَجْدَنا، ورفض كلّ ما يحطّ من قَدْرنا. القطيعة غير موجودة بالنّسِبة إليه، فالإنسان اللّبُنانيّ بقي على ما كان عليه دائمًا، قوّة حيويّة تواجه المصاعب. فما عليه حاضرًا إلاّ أن يعي عمقه التّاَريخيّ وإِرثه الفريد ليندفع من جديد لغزو المستقبل. يمكننا، الآن، فَهْمُ غياب القلق في أعماله، وعدمّ وُرُود مُصْطَلَحي القلق والرَّيبة في معجمه. يكفيه أن يؤمن بالله  وبلبنان ليبلغَ المجد والسَّلام والرَّفاه والغِبْطة. وهذه الأخيرة تجسّد حالة عامّةَ على مستوى الفرد: المجد الوطنيّ والغِبْطة الفَرْدِيّةَ يخلقان عَظَمةَ اللّبُناني. وسعيد عقل هو تجسيدٌ لهذه المعادلة.

إنّ هذه المسيحانيَّة المطمئنَّة والهانئة غريبة عن أعمال الشُّعراء المحدَثِين الّذَين يشعرون أنفسهم مَحْرُومِين من كلّ سُكُون واستقرار داخليّين. فهم يَتُوقُون إلى إعادة صنع التّاَريخ، وإعادة بناء المجتمع، وإعادة تعريف الإنسان. كلّ شيء قطيعة بالنّسِبة إليهم، وبالتّاَلي عدم. إنّهم مُحاطُون بالفراغ، وغير قادرين على التّقََدّمُ. فالماضي موضع استفهام، والمستقبل مُشَوَّش والحاضر مُحْبَط. عليهم أن يَهْدِموا كلَّ شيء ليبنوه من جديد. من هُنا كان اضطرابهم، وقلقهم، وارتيابهم، وتحيُّرُهم. ومن هُنا كانت إنسانيّتَهم، وتمرُّدهم الفَرْدِيّ كتعبيرٍ عن التّمَرُّد الاجتماعيّ العامّ. لا يمكن للشِّعر عندهم أن يُحَدّ بغنائيّة عاشقة هادئة وصافية. حتّىَ الحُبُّ عندهم حزينٌ وممزَّق. تَجربة كتلك الّتَي عرفها المسيح ليست مجرّد نِزاع بين الرَّذيلة والفضيلة. فالمسيح، كما في قصيدة السيّاَب، يوجز كلّ الضَّمير الشَّقِيّ للإنسانيّةَ، إنّهَ مجاهدٌ، وليس إنسانًا خارقًا نيتشويّاً كما عند سعيد عقل.

هل يمكن القول إنّ تجاوز شكل الكتابة المعروفة بالتّقَليديّة يجب أن يستجيب لمتطلّبات اجتماعيّةَ وإيديولوجيّة؟ إذا كانت هذه المتطلّبات تفسّرِ اللّجُوء إلى هدَْم الأشكال العَرُوضِيّةَ التّقَليديّة لدى الشُّعراء المحدَثين، هل هذا يعني أن أيّ هدم آخر هو تُرَّهة شكليّة أو مجرّد لعبة أسلوبية؟ هلِ البُعد الإيديولوجيّ هو العامل الوحيد لأيّ تغيير؟ وهل للاضطراب والقلق الإنسانييّن الحَصْرِيّةَ في كلّ عَمَلِيّةَ تَغْيير؟...

إنّ تاريخ الأدب وبالأخصّ تاريخ تحولّات أنماط الكتابة يُبرزان لنا حالات لم يتمّ فيها بالضَّرورة تجاوز الأشكال المَوْرُوثة وكذلك المَضامِين من خلال وَعْي مَوْضُوعي للمعطيات السوسيولوجيّة والإيديولوجيّة: بودلير، ريمبو، مالارميه، فلوبير (خاصَّة في روايته ''التّرَبية العاطفيّةَ'')، پروست، وسيلين أسْهَمُوا بطريقة حاسمة، من خلال تجارب وهموم شخصيّة بحتة، في أشكال الكتابة وتاليًا الموضوعات.

إنّ التّأويل الإيديولوجي، وعلى الرَّغم من صوابيّتَه في بعض الحالات، لا يمكنه وَحْدَه أن يحتكر تفسير الظّاَهرة الأدبيّة وفهمها، حتّىَ إنه يؤدّي في حالات أخرى إلى تصنيف ذاتيّ للغاية يستخفّ بكلّ فنّان لا تستجيب أعماله لاقتناعات النّاَقد الإيديولوجيّة. من الصَّعب أن نصادف نقادًا مثل جورج لوكاش يعرفون التّمَييز بين  البُعْد الإيديولوجيّ الظّاَهر في عمل ما ومَرْماه الكامِن.(34)

على صعيد آخر، إذا ''كانت الحاجة أمّ الاختراع''، فهل يمكن للاضطراب أوالقلق وَحْدَه أن يكون في أساس الإبداع الفَنّيِّ؟ ألا يحقّ للفَرَح والغِبطة والمجد أن تَسْتَوْطِنَ جمهوريّة الفنّ وتُسْهِمَ في تقدّم الأشكال الفنّية؟...كلّ تمييز وكل احتكار يجب أن يلغى من المجال الفنّي. تكمن قيمة العمل في نتيجة التّفَاعل بين مضمون وشكل، تفاعل جَدَليّ يَنْساهُ الجدليّون أنفسهم أحيانًا. فلِلضَّمير الفَرِح كما للضَّمير الشَّقِيّ حقّ في الفنّ. ويمثّل سعيد عقل هذا الضمير الفَرِح في الشّعر العربي المعاصر؛ وسيكون من الإجحاف ألاّ نعترف له به.

 

مراحل الشعر العربيّ الحديث
مَرَّ الشِّعر العربيّ في النّصِف الأوّل من القرن العشرين في ثلاث مراحل: مرحلة تقليديّة أنتجت الموضوعات والأشكال الموروثة، ومرحلة ثانية مجدّدِة على مستويي المضمون والشَّكل، ومرحلة ثالثة رومنطيقيّة مُشْبَعة بالحُزن والغضب والتّمَرُّد من  جهة، ومأخوذة من جهة أُخرى بالزَّخرفة والتجميل الشكليّين. (35) في هذا التّصَنيف المعتمد لَدَى العديد من مؤرّخي الأدب العربيّ المعاصر، يحتلّ سعيد عقل موقعه في هذه المرحلة الثالثة الرومنطيقيّة ذات المظهر الشَّكْلي.

ولهذه المراحل المختلفة ممثّلوها: أحمد شوقي يمثّل المرحلة التقليديّة، وجبران خليل جبران يمثّل وَحْدَه المرحلة الثّاَنية، والياس أبو شبكة والأخطل الصَّغير وصلاح لبكي يمثّلون الرُّومنطيقيّة الكئيبة للمرحلة الثّاَلثة؛ وبين الرُّومنطيقيّة الكئيبة والرومنطيقيّة الشَّكليّة يتعيّن موقع خليل مطران الذي معه تحقّقت وحدة القصيدة العربيّة؛ وأخيرًا الرُّومنطيقيّة الشكليّة التي هي مَيْلٌ مُغْلق من دون أيّ انفتاح على العالم، (بحسب أدونيس) و من دون أيِّ رؤية، فهي عودة جديدة إلى المُيُول التقليديّة في بداية القرن: هنا في هذه المرحلة الأخيرة، يتعيّن  موقع سعيد عقل الشاعر سعيد عقل مع د. هند أديب دورليان(36)

في الواقع، بعد الحزن والكآبة الرُّومنطيقيّين المتمثّلين بأبي شبكة ومطران، جاء سعيد عقل ليدخل البَهْجة والأمل إلى شِعْرٍ يتآكله اليأس، وليكمّل المشروع الذي شَرَع به جبران، والّذَي تابعه مطران جزئيّاً في ما يتعلّق بالقُيود المفروضة على اللّغُة الشِّعريّة وضَرورة التّحَرُّر منها. لا يشكّل فن سعيد عقل عودة إلى موضوعات الشعر الكلاسيكيّ التقليديّة تحت مظاهر شكليّة مُحْدَثَة. بل على العكس احتلّت موضوعات الفرح والمجد والمطلق والكون مكاناً شعريّاً جديدًا لم يَسْبِق أن عرفه الشِّعر العربيّ بهذا الاتّساع. لقد أدخل سعيد عقل شعريّة جديدة منبثقة من رؤية وتصوّر للإنسان والعالم. في ذلك أيضًا، يكمّل سعيد عقل جبران، صاحب الرُّؤى الّذَي سعى إلى عالم أفضل.

 

خصوصيّةَ سعيد عقل وموقعه المميّز

هذا التّغَيير الموضوعاتيّ تطلّبَ ابتكار أشكال تعبيريّةَ جديدة، لذلك عمد سعيد عقل إلى لغة شعريّة جديدة إنْ من حيث الصُّوَر الشِّعْرِيّةَ، أو الأشكال العَرُوضِيّةَ، أو اللّغُة وتراكيبها.

في ما يَخُصُّ الصُّوَر الشِّعريّةَ، كان سعيد عقل أحد الشُّعراء القلائل الذين أجادوا استخدامها بشكل شِبْه منتظم. إنّ تنقية اللّغُة الشِّعريّة الّتَي تكلّم عليسعيد عقلها أدونيس تكمن في هذا الإلغاء المَرْجِعِي لصالح تعبير مصوّر للعواطف والأحاسيس والدّوَافع الداخليّة. وبذلك تصبح الصُّورة المجازيّةَ خاصّيِةَّ اللّغُة الشّعِريةّ السعقليّة لم يسبقه أحد إليها. ولبلوغ هذا المستوى الرَّفيع من الشَّفافيّةَ الشِّعريّة، كان عليه أن يذلّل كلّ عائق يبرز أمامه إِن من ناحية العَرُوض أو من ناحية التّرَاكيب النّحَْويّةَ. هذا ما يفسّر اللّجُوء إلى تفكيك البنى العَرُوضِيّةَ انطلاقًا من حاجات تختلف عن تلك التي حدت بالمحدَثين لإنجاز مثل هذه العمليّة. فالفرح كما الحزن، والسُّكون كما الاضطراب، يمكنهما أن يحوّلا العالم... والبنى العَرُوضيّةَ.

تستجيب الصُّوَر الشِّعرية، إضافة إلى تفكيك البنى العَروضيّةَ، لِضَرورات تعبيريّة، وهي ليست لعبة شكلانيّة من دون هدف أو غائيّة. فحداثة هذا الشعر تتطابق مع حداثة الموضوعات الجديدة في الشِّعر العربيّ. وبذلك يتحقّق تماسُك شعريّ آخر بين الشكل والمضمون على أُسس مختلفة عن تلك الَّتي مَيَّزت شِعْرَ الحَداثة العربيّ في الخمسينيّات والستّينيّات. إذًا إن سقوط نموذج شكلي ليس  مرتبطًا بسقوط بنية اجتماعيّةَ، فهناك أسباب أكثر تعقيدًا تحدّد الانتقال من شكل تعبيريّ إلى آخر.

لقد تمكّن شعر سعيد عقل من خلال مضمون أعماله وبناها العَروضيّةَ وصورها ولغتها أن يخلق تماسكًا وتجانسًا نادرًا ما بلغهما الشُّعراء العرب في القرن العشرين. لذا نجد صعوبة في تصنيفه داخل تيّار محدّد، إنّهَ ينتمي إلى كلّ التيّارات وليس إلى تيّارٍ واحد. ويصبح هذا التصنيف أكثر صعوبة في حال كان المِعْيار الذي نعتمده هو المِعْيار الأوروبي-الفرنسي. فسعيد عقل ليس رومنطيقيّاً بحتًا، ولا رمزيّاً بحتًا، ولا برناسيّاً بَحْتًا. إنّه أحد أوائل الشُّعراء الحقيقيّين في مجال الحَداثة الشعريّة، إذا كنّا نفهم ''الحداثة'' استقلالاً عن النماذج الغربيّة من دون أن يعني ذلك قطيعة، ولكن تفاعل ومحاكاة حرّة وغير مستعبدة كما أَحَبّ الكلاسيكيّون الفرنسيّون ترداده

 

  1. ولد سعيد عقل في الرابع من تموز 1912 في زحلة، وتابع فيها دراسته الثَّانويَّة حتَّى سنّ الثَّامنة عشرة. وخلافًا لما قد يظنّه بعضُهم لم تكن لديه أيُّ مُيُول شعريَّة واضحة. فكان بحكم تفوّقه في مادَّة الرِّياضيِّات يستعدّ لدراسة الهندسة المِعْماريَّة.
  2. كان قد نشر ذلك العامَ "إنجيل الحب" وهو مجموعة قصائد كتبها حتَّى سِنِّ الثَّامنة عَشْرَةَ. بَيْدَ أنَّه اعتبر تلك المجموعة مُراهقةًً شِعريَّة حيث لم تكن شخصيَّته الأدبيَّة والفَّنِّيَّة قد تشكَّلت بَعْدُ، فلم يُعِدْ طباعتها.
  3.  صدرت هذه المسرحيَّة عن المطبعة الكاثوليكيَّة في طبعة فاخرة من الحجم الوسطِ وبلغ عدد صفحاتها السِّتِّين. ولم يُعد نشرها بعد ذلك. وتتألّف هذه المسرحية الشعرية من فَصْلين ومقدِّمة قصيرة من ثماني صفحات تتضمّن جزأين: الأول عرضٌ موجز لمدرستين كلاسيكيّتين، الفرنسيَّة والشَّكسبيريَّة، والثَّاني مجموعة ملاحظات حول المنهجية التي استخدمها الكاتب في إعداد موضوعه. وتروي المسرحيَّة المستوحاة من العهد القديم، حكاية يَفْتاح -  وهو رجل قويّ أنكرته قبيلته لأنَّ أمّه كانت مومسًا مجنونة -  يرحل عن منطقته ويسمِّي نفسه جَلْعاد. يربّي هذا الأخير ابنته راحيل، ومن دون أن يعلمها بحقيقة أمره، على حبّ وطنها وبغض المدعوِّ  يفتاح. وإذ يهدّد العدوّ بني إسرائيل، يستغيث هؤلاء بيَفْتاح الذي يستجيب لطلبهم بعد حَيرة وتردّد. ونظرًا لِخُطورة العدوّ ينذر يفتاح أن يضحّي بأوَّل فَرْد من عائلته يخرج لمُلاقاته في حال عاد منتصرًا. ولِسُوء الحَظَّ تكون ابنته الوحِيدة أوَّل من يخرج: فيمزّق ثيابه حزنًا ويَكْشِف لراحيل عن نَذْره لإل?ه إسرائيل. وتستمهله راحيل شهرين لتعتكفَ فيهما في الجبال، باكيةً على شبابها و خَسارة رفاقها. فيستجيب لطلبها. (أعيد طبع هذه المسرحيَّة سنة 1991 وأصدرتها دار نوبليس في مجموعة آثار لسعيد عقل بعنوان: سَعيد عقل شعره والنَّثر..)
  4.  أعيد نشر هذا الديوان عام 1960 و1971 و1991.
  5. كتبت هذه المسرحية عام 1939 وجرى تنقيحها عام 1944 في طبعتها الرسميَّة. كما أعيد نشرها عام 1961 و 1971 و 1991. وقد وضع لها عقل مقدّمة عرض فيها تصوّره لتاريخ لبنان. وهذه المسرحيَّة المؤلّفة من ثلاثة فصول والمتأثرة بالمدرسة الكلاسيكيَّة الفرنسيَّة تستمدّ موضوعها من الميثولوجيا الإغريقيَّة-الفينيقيَّة. وفيها يطارد قَدْمُوس أخته أوروپ التي اختطفها زويس، ملك الآلهة اليونانية، كي يُعيدها إلى لبنان. ويتمكّن قَدْموس من القضاء على تنّين كان يحرس أوروپ غير أن خبر انتحار هذه الأخيرة يفسد عليه فرحة الانتصار.
  6.  بعد صدور هذا الدِّيوان عام 1950، أعيدت طباعته في الأعوام 1956 و 1960 و 1971 و 1991 (مع بعض التنقيحات والإضافات). وهو يتضمّن ثلاثًا وأربعين قصيدة حبّ نشرت تباعًا بين عامي 1940 و 1948 في مجلة  "الشِّـــراع" الاُسبوعيَّة.
  7.  صدر هذا الدِّيوان عام 1960 وأعيدت طباعته عام 1971. وهو يتضمّن 31 قصيدة. كما طبع سنة 1991.
  8.   يتألّف هذا الدِّيوان الصادر عام 1971 من 49 قصيدة يغلب عليها الإحســـاس بالطَّبيعة.
  9.  يضمّ هذا الدِّيوان الصادر عام 1972 قصائد نثريِّة ويكشِف في مجمله عن نوع من التَّرتيب التعاقبي-السردي ويتألّف من ثلاثة أجزاء: "غصّة الناي" (العاشق)، "هموم الوردة" (العاشقة)، "عهد الوردة الملتفّة على الناي" (حوار بين النَّاي/العاشق والوردة/العاشقة). ويتخفّف الشَّاعر في هذا الدِّيوان من قيود البحور الشعرية.
  10. يحوي هذا الدِّيوان الصَّادر عام 1973 خمسين قصيدة توجّهها العاشقة إلى الشَّاعر-الحبيب.
  11. في قصائد هذا الدِّيوان، والبالغ عددها الستين، يعود الشَّاعر إلى الجماليَّة الشَّعرية الَّتي صنعت نجاح "رِنْدَلى" وشهرة الشَّاعر.
  12. يضمّ هذا الكتاب الصَّادر عام 1954 مجموعة من المقالات الَّتي تناقش مســائل مختلفة.
  13. يحتوي الكتاب على مقالات في النَّقد الأدبيّ، ومحاضرات ومقدّمات كتبها لأِعمال أدباءَ معاصرين. ويَعْرِض فيها عقل تصوُّره الجَماليّ.
  14. ديوان من سبع وثلاثين حكاية نثريَّة مستلهمة من الأساطير الفينيقية. وفيها يحاول عقل أن يبرز خصوصيَّة الحضارة اللُّبنانيَّة-الفينيقيَّة ومجدها ورجالاتها، بالإضافة إلى الأحداث التي أثَّرت في مصير هذا الشَّعب.
  15. بالإضافة إلى عدد من النَّشاطات، يَعْكِف عقل على نقل الرَّوائع العالميَّة إلى "اللغة اللُّبنانية" واضعًا لها مقدّمات باللُّغة اللبنانية نفسها.
  16. أدونيس، ''مقدّمة.لشعر العرب''، دار العودة، بيروت، ١٩٧١ ، ص. ٩٦
  17. أنطوان غطاس كرم، ''الرَّمزية و الأدب العربي الحديث''، إصدار دار الكشاف، بيروت، ١٩٤٩ ، ص. ١٥٣-173
  • محمّد فتّوح أحمد، ''الرَّمز و الرَّمزية في الشعر المعاصر''، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٧٨ ، ص. ٢١٣-٣٦١- ٢٢٨ و ٣٥٦
  • درويش جندي، ''الرمزيّة في الأدب العربي''، نهضة مصر، القاهرة، ١٩٥٨
  • صلاح لبكي، ''لبنان الشاعر''، دار الحضارة، الطبعة الثانية، بيروت، ١٩٦٢ ، ص. ٢٣٦- ٢٤٩
  1. إيليا حاوي، ''الرمزيّة والسرياليّة في الشعر الغربي والعربي''، دار الثقافة، بيروت، ١٩٨٠ ، ص..١٦٥- ١٥٥
  2. Le manifeste de Youssef el-Khal?, cité par Kamal Kheir Beik, Le mouvement moderniste de la poésie arabe contemporaine, publications orientalistes de France, paris, 1978, p. 51.-
  3.  Idem, p. 16-
  4. كمال خير بك، م.س. صفحة ٤٤ و ١٠٣-105
  5. المصدر نفسه ، ص. ٢١-46
  6. ناجي علّوش، ''مقدّمة لأعمال بدر شاكر السيّاب الكاملة''، دار العودة، بيروت، ١٩٧١ ، ص. ووو-ززز .
  7. رندلى، ص. ١٠٧
  8. راجع ناجي علّوش، مصدر سابق، وكمال خير بك، مصدر سابق.
  9. أنظر الجزء الأول من كتابنا ''شعرية سعيد عقل'': ''البنى العروضيّة في شعر سعيد عقل''، دار الفارابي، بيروت، ٢٠١٠
  10. عز الدين اسماعيل، ''الشعر العربي المعاصر''، دار العودة، بيروت، ط ٢-١٩٨١ ،
  11. إيليا حاوي، ''الرمزيّة و السرياليّة في الشعر الغربي والعربي''، دار الثقافة، بيروت ١٩٨٠ ، ص. ١٥٨
  12.  أدونيس، ''مقدّمة...''، س.ذ. ص. ٩٦
  13.  احتلال فلسطين و هزيمة الجيوش العربيّة المفجعة.
  14. هو أوّل منظّر للعروض العربيّة، فقد ابتكر نماذج البحور الخمسة عشر، أمّا البحر السادس عشر ''المتدارك'' فقد أدخله الأخفش.
  15. ناجي علّوش، ''مقدّمة ديوان بدر شاكر السيّاَب''، م.س.. ص. ٩
  16. Voir Kamal Kheir Beik, Le mouvement moderniste, op. cit., p. 56, note no 2
  17. Georges Luckacs,Balzac et le réalisme français, petite Collection maspero,1967,p.14
  18.  أدونيس، م.س.، ص. ٧٨-٩٧-
  19. أدونيس، م.س.، ص. ٧8-٩٧

لبنان الأسطورة في شعر سعيد عقل

لبنان الأسطورة في شعر سعيد عقل

د. هند أديب دورليان أستاذة الأدب الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية )كلية الآداب(

 

 

 

لبنان سعيد عقل كناية عن تاريخ أسطوري وإنساني، وقد أراد له الشاعر أن يكون مبتدأ كل الحضارات وكل القيم وكل العلوم، كما أراد له أن يكون مركزًا للإشعاع يختزن كمًّا من التاريخ الإنساني والإنجازات. أبدع سعيد عقل في صوغ كيان خيالي للبنان أبدي مثلما نجح في بناء عمارته الشعرية الفذّة.

 يبدأ سعيد عقل(1)، المولود في زحلة (البقاع)، مسيرته الأدبيَّة والمِهَنيَّة عام(2)   1930  لدى قُدومه إلى بيروت ليعملَ صِحافيًا في مجلَّة كان يديرها الشــاعر اللُّبنانيّ الكبير بشارة الخوري الملقَّب بالأخطل الصَّغير.

 عام 1935، تُكَرِّسه إحدى الجوائز الأدبيَّة شاعرًا كبيرًا، وذلك عن مسرحيَّته الشِّعريَّة المستوحاة من التَّوراة "بنت يفتاح"(3). بعد سنتين، ينشر عقل عمله الثَّاني "المَجْدَليَّة"(4)، وهو قصيدة سَرْدِيَّة من مئة وعشرة أبيات مستوحاة من "العهد الجديد" تَرْوي قِصة لقاء مريم المَجْدليَّة، المرأة المُثيرة والخاطئة، المسيحَ، وسيدفع ذلك اللِّقاء مريم المجدليَّة إلى إنكار ماضيها وترسُّم طريق المسيح.

 وبعد أن يذيع صِيتُه، توكِل إليه مدرسة الحِكْمة - على غِرار ما فعلت الـ"كوليج دي فرانس" لپول -فاليري - كُرْسِيَّ الشِّعر الذي استُحْدِث خِصِّيصًا من أجله لِيُلْقيَ على طُلاَّب الصُّفوف المنتهية محاضراتٍ حول تَيَّاراتِ الشِّعر العربيّ وتطوّره. وحتَّى صدور مسرحية "قَدْموس"(5)، راح الشَّــاعر– على الرُّغم من مرضٍ أقعده لِسَنتين – يُواصِل، إلى جانب التَّدريس في "مدرسة الآداب العليا" (Ecole Supérieure des Lettres)  التابعة لأكاديميَّة ليون في فرنسا، وتنسيق مادَّة اللُّغة العربيَّة في المدرسة الشَّرقية في زحلة أبحاثه حول تاريخ لبنان التي سوف تؤدّي به إلى ترسيخ اقتناعاته التَّاريخية والسياسية، والتي يُشكّل "قَدْموس" نوعًا من التَّعبير المسرحيّ عنها. بَيْدَ أَنَّ قَدْمُوس هو أيضًا خاتمة مرحلة أدبيَّة ساد فيها تأثير الكلاسيكية الفرنسيَّة (بنت يفتاح، المَجْدلِيَّة، قَدْمُوس) وفاتحة لِمَرحلة غنائيَّة كانت إرهاصاتها واضحة في مقدّمة "المَجْدَليَّة".

أمَّا "رِنْدَلى"(6) فهو أول دواوين المرحلة الغِنائيَّة - الرُّومانسيَّة. وسيصدر عقل تِباعًا: "أجمل منك؟ لا"(7)، "أجراس الياسَمين"(8)، "كتاب الورد"(9)، "قصائد من دفترها"(10) و"دُلْزَى".

 مع "دُلْزَى"(11) - الذي يعتبر على الصَّعيد الشَّكْلِيّ عودة إلى "رِنْدَلى" - تنتهي المرحلة الغنائيَّة-الرُّومانسيَّة لتبدأ مرحلة ثالثة يجوز لنا - في غياب تسمية أدبيَّة مَحْضة - أن نطلق عليها اسم "مرحلة النُّضْج" أو إذا أردنا "مرحلة الخُماسِيَّات". وإذ ينحاز عقل إلى التأمُّل الدِّيني-الفلسفيّ، والتأمّل في الكون والطَّبيعة، والتفكّر في الوضع الإنسانيّ كما إلى المواضيع الأدبيَّة التَّقليديَّة كالحُبّ والفخر وتمجيد الأَنا، يختار "الخماسية" كشكل شِعْرِيّ ثابت يعبّر من خلاله عن أفكاره ومشـــاعره. وتقترب هذه "الخُماسِيَّات"، الَّتي تعتمد التَّكثيف، من الحكم البليغة وتمتدّ على خمسة أشطر. لكن عقل لم يحزم أمر نشر هذه "الخُمَاسِيات" التّسع والتِّسعين المكتوبة بالعربيَّة الفُصْحى والجاهزة منذ عام 1978، إلاّ سنة 1991.

 

عام 1974، ينشر سعيد عقل "كَـــما الأعمدة"، وهو ديوان من أربع وعشرين قصيدةً من شعر المُناسَبات، وقد كتبت وأُلقيت في مناسبات عِدَّة. فكان الشَّاعر، الذي يتلقّى دعوة عند كلّ حدث، سواءٌ أكان هذا الحدث فنيًا أم سياسيًا أم مجرَّد مناسبة اجتماعيَّة، يؤلّف - إمَّا بلفتة كريمة منه وإمَّا عن قناعة عميقة - قصيدة من وَحْي المناسبة الَّتي قد تكون موت شاعر أو فَنَّان، تكريم كاتب أجنبيّ أو ذكرى كِبار رجالات التَّاريخ، أو مناسبة دينيَّة، إلخ. وتَكْشِف تلك القصائد، على الرّغم من كونها من شعر المناسبات، عن وِجْدانيَّة أصيلة لا تغيب عنها الـ"أنا" أبدًا.

 وبمُوازاة نتاجه الشِّعْرِيّ، ينشر سعيد عقل بين عامي 1950 و1963 (وهي تباعًا تواريخ نشر رِنْدَلى و دُلْزى) أعمالاً نثرية هي: "يوم النُّخبة"(12)، "كأس لِخَمْر"(13) و"لبنان إن حَكَى(14).

 

إلاّ أن سعيد عقل، الذي وصل إلى ذُروة مجده الأدبيّ والَّذي كرّسه العالم العربيّ بأَكمله شاعرًا كبيرًا، يطلق سنة 1961 مع "يــارا" مشروعَ تَحدٍّ لتثوير اللُّغة والأبجديَّة، فيختار الكتابة بالعاميَّة اللُّبنانيَّة ويستنبط لها أبجديَّة خاصَّة مستوحاة من اللاَّتينيَّة الَّتي يعتبرها إحدى تنويعات اللُّغة الفينيقيَّة. ويصدر هذا الموقف اللُّغويّ عن اقتناع تاريخي-إيديولوجي حول فَرادة الحضارة والأمَّة اللُّبنانيَّتين. وستضع هذه القناعات - كما تطبيقاتها على المستويين الأدبيّ واللُّغوي - الشَّاعر في موقع سِجالي مع دُعاة انتماء لبنان إلى تاريخ العرب وحضارتهم والمحافظة على العربيَّة الفُصْحى كدليل على هذا الانتماء. ومن دون الدخول في تفاصيل هذا السِّجال الإيديولوجِيّ-الأدبيّ، تجدر بنا الإشارة إلى أنَّ سعيد عقل سيُواصل مشروعه وسيتابع، على الرّغم من كلِّ العَقَبات، الكتابة بـ"اللغة اللُّبنانية"، كما يطيب له أن يقول، وسيصدر عام 1978 ديوانًا عنوانه "خُماسيَّات" (وهي غير "الخُماسِيَّات" المكتوبة بالعربيَّة الفصحى). بيد أن سعيد عقل يبقى في نظر أصدقائه كما خصومه أحد أكبر الشُّعراء العرب في الخَمسينيَّات والسِّتّينيَّات من القرن الماضي(15).

ويشـــارك سعيد عقل، الشَّــاعر والكاتب والمُساجل - ورجل الفِعْل أيضًا - في أحداث بلاده السِّياسيِّة، فيتمرّد سنة 1935 مع أهالي بلدته زحلة ضِدّ ظُلم حكومة الانتداب، ويُلْقي خلال تجمّع شعبيّ خِطابًا يدعو فيه مُواطنيه إلى الكفاح من أجل الاستقلال، ما سيؤدّي إلى اعتقاله بضعة أيام بناءً على أمرٍ من السُّلطات الفرنسيَّة. عام 1948، أي بعد مرور سنة واحدة على استقلال لبنان الفِعليُّ، نراه مجدّدًا مع ثُوّار زحلة يطالب بجمهوريَّة مستقلّة. سيضعه هذا الموقف السِّياسيّ في مواجهة مع الحكومة اللُّبنانية وبشكل خاصّ مع رئيس الجمهورية آنذاك بشــارة الخوري الَّذي سيضغط على مدير "مدرسة الآداب العليا" (Ecole Supérieure des Lettres)  وعلى مدير مجلَّة "الشِّـــراع" بهدف إيقاف التَّعاون مع الشَّاعر. فلا يبقى أمام هذا الأخير إلاَّ أن يرسل قصائده إلى مدير الإذاعة السُّوريَّة أحمد عَسِّي الذي يقوم بقراءتها في برنامج خاصّ. ولكن بعد سقوط بشــارة الخوري عام 1952، يعاود نشاطاته المهنيَّة والأدبيَّة.

 عام 1962 ينشئ عقل، بمناسبة عيد ميلاده الخمسين، "جائزة سعيد عقل" وقيمتُها ألف ليرة لبنانيَّة يقدّمها شهريًا إلى الفَنَّانين والعلماء العاملين على تطوير الفنون والعلوم في لبنان. وبعد انتخابه عضوًا في مجلس بلديَّة زحلة، يقدّم استقالته ليترشَّح إلى الانتخابات النِّيابيَّة الفرعيَّة عام 1965 من دون أن يحالفه الحَظّ. بين عامي 1975 و1976، عند بداية الحرب في لبنان، ينضمّ سعيد عقل إلى "جبهة الحُرِّيَّة والإنســان" إلى جانب أبرز الأحزاب والشَّخصيَّات السِّياسيَّة المنتمية إلى اليمين المَسِيحيّ. وسيترك عقل هذه الجبهة بسبب خلافات مع السِّياسيين التقليديِّين. سنة 1977 يصدر يوميَّة ناطقة بـ"اللُّغة اللُّبنانيَّة"، "لبنان"، وفيها يحاول الشَّاعر مع نفر قليل من الأصدقاء التَّرويج لأفكاره الخاصَّة وتصوُّراته السِّياسيَّة.

 

موقع سعيد عقل في الشِّعر العربي المعاصر

لم تشكّل أعمال سعيد عقل حتّىَ الساعة موضوع تحقيق منتظم ومعمّقَ من قِبَل النّقَد الأدبيّ والجامعيّ. إذ باتت الآراء حول شعره والمكان الّذَي يشغله في الشِّعْر العربيّ المعاصر مبْهَمة وذاتيّة. فبين مديح مُغالٍ واتّهام جارح، لم تجد أعماله مكانَتَها المناسبة. ما يعني أن أعمال سعيد عقل هي الوَحِيدة رُبّمَا الّتَي اختلفت آراء النّقُّاَد حولها. ولكنّ لِهذه الآراء المتناقضة أسبابًا موضوعيّةَ وذاتيّةَ معًا.

فكاتب جدّي مثل أدونيس الذي يصنّف سعيد عقل على عجلة في تيّار الرُّومنطيقيّة الشَّكْليّة، لم يجد شيئًا يقوله حول أعماله سوى أنّهَا تَحْتلُّ مركزًا بارزًا وحاسِمًا في تنقية اللّغُة الشِّعْريّة. (16) وآخرون أكثر جَزْمًا منه رأوا فيه ممثّلاً لِنَوعٍ من الرَّمزيّة. (17) أمّاَ إيليا حاوي، الأكثر دِقّةَ، فيجد أنّ شعرسعيد عقل رومنطيقيّ مصبوغٌ بتصنّعُ ذِهْنِي. (18)  وفي الخَطّ عينه، يصف يوسف الخال، إِمام حركة الحَداثة في لبنان، ورئيس تحرير مَجَلّةَ ''شعر''، شعر سعيد عقل بالرُّومنطيقيّةَ ''المَصْبُوغة برمزيّة القرن التّاَسعَ عَشَر الفرنسيّ''.(19) وأخيرًا، يتردّد كمال خير بك في تعيين موقعه ما  بين الرَّمْزِيّة والرُّومنطيقيّة. (20)

في جميع الأحوال، فالتّحَيّرُ الذي يَسِمُ موقف النّقَد تُجاه الانتماء الحقيقيّ لسعيد عقل إلى مدرسة أدبيّة محدّدة، رومنطيقيّة أو رمزيّة، يقابله موقف قاطع لجهة عَدَمِ الرَّغبة في تصنيفه من بين الشُّعراء المُحْدَثِينَ، على الرُّغم من أن أعماله أثّرت في كوكبة من الشُّعراء الشُّبّاَن مثل جورج رَجّي، جورج غانم، شوقي أبي شقرا، جوزيف نجيم الذين كانوا في عداد جماعة ''شِعْر''.
حتّىَ إن يوسف الخال نفسَه تأثّر باكرًا بنظريّةَ سعيد عقل في استعمال اللّغُة المَحْكِيّةَ والتّخَلّي عن الفُصْحَى (21)  بذلك أصبح شعر سعيد عقل ظاهرةً غير قابلة للتّصَنيف، تُحاكي فُرادتها شخصيّته الفذّة. 

 

عقل والحداثة: تزامن أم لقاء؟
يرجع هذا الالتباس في الأعمال والمكانة الّتَي تشغلها إلى عوامل ملازمة لها وأخرى خارجة عنها. وعلينا في سِياق العوامل الخارجيَّة عدم الاستخفاف بالتَّطابُق الزَّمنِيّ. في الواقع تمتدّ المرحلة الخِصْبة لنتاج سعيد عقل، والتي أسَّست لِشُهْرته، بين ١٩٥٠ و ١٩٧٤ ، وهي مرحلة دعوناها غنائيّة. تتطابق هذه المرحلة تمامًا مع بدايات الشِّعر الحديث في لبنان وفي العالم العَرَبيّ. (22)  إلاّ أَنّ علاقة سعيد عقل بالحداثة الشِّعريّة لم تكن علاقة اندماج أو ذَوَبان. لقد أنتج هذا التّطَابُق توازيًا لا يقبل الجدل. وعلى الرُّغم منِ التقاء نتاج سعيد عقل بنتاج المُحْدَثين في بعض النّقِاط، إلاّ أن الواحد بقي بلا مَنْفذ إلى الآخر. ويرجع هذا بدوره إلى عدّة عوامل.

إن تزامن ظهور أعمال سعيد عقل الشِّعريّة مع محاولات المُحدَثين الأُولى، لم يشكّل سببًا كافيًا لِتَشابُه المصادر والاهتمامات والمَرامِي. ففي الوقت الذي خَطا فيه جِيل الشُّعراء الشَّباب، مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السَّيّاب وعبد الوَهَّاب البيّاَتي في العراق وصلاح عبد الصَّبُور في مصر وفَدْوَى طوقان في فلسطين ويوسف الخال وأدونيس في لبنان، الخطوات الأولى في مجال الشِّعر وكانوا شِبْهَ مَغْمُورين، كان سعيد عقل يتمتّع بشهرة أكيدة  نتيجة الأعمال التي قَدّمَها منذ سنة ١٩٣٥ : ''بنت يفتاح'' (1935)، ''المجدليّة'' ( ١٩٣٧) و''قدموس'' ( ١٩٤٤ ) الَّتي رَسَّخت شهرته. وكان يتحضّر في سنة (١٩٥٠) للبَدْء بتجربة شعريّةَ جديدة.

لم يُكتب لهذا التّزَامن أن يتطوَّر إلى لقاء. إذ لم يستطع الشَّاعر الكبير الّذَي كان أربعينيّاً أن يتصادق مع جيل شباب حديثي العهد من المتردّدين والمتحيّرين. وذلك لأنّ فارق العمر واختلاف الاقتناعات والانتماء إلى جيلين مختلفين كان أقوى من مصادفة جَمَعتْهم في زمنٍ واحد وعلى دَرْب الشِّعر الواحد... إذ كان سعيد عقل مكمّلاً للماضي، وبالتالي محافظًا بحيث لم يكن ليُعجب جيل الشَّباب.

ومع ذلك التقت أعمال سعيد عقل في بعض أوجهها مع محاولات المحدَثين حتّىَ إنّهَا سبقتها في بعض الأحيان. لقد ركّزنا في تحليلنا للبنى العَرُوضيّةَ على رغبته الانعتاق من النّمَوذج العَرُوضِيّ التّقَليديّ: تلاعب بالأوزان والتّفَعيلات، اعتماد الرَّجَز، استعمال البحور القصيرة التي كان الشِّعر التّقَليديّ نادرًا ما يستخدمها، إضافة إلى خَلْط إيقاعات مختلفة في القصيدة نفسِها. هذا الغَلَيان التّحَديثي الّذَي ظَهَر في ''رِندلى'' وعُمّمِ َفي ''أجمل منكِ-لا'' (١٩٦٠ )و''قصائد من دفترها'' ( ١٩٧٣) سيهدأ في ''دُلْزَى'' ليسترجعَ مجدّدا الأشكال العَرُوضيّةَ التّقَليديّة في ''كما الأعمدة''.

هذا التَّحديث الذي لا يهدم كلّيًّا أسس البِنْية العَرُوضِيَّة الكلاسيكيّةَ هو بالضَّبط ما حاول أن يقوم به الشُّعراء المُسَمّون مُحْدَثِين. لقد تطرّق ناجي علّوش، في مقدّمته لل''أعمال الكاملة'' لِبَدْر شاكر السيّاب، إلى مسألة استعمال البُحور لدى هذا الشَّاعر الطليعي والممثّل الأبرز للشِّعر الحديث في العالم العربيّ، مظهرًا كيف أنّ بدر شاكر السيّاب استطاع أن يستفيد من بُحُور الشعر العربي، فاستخدم الرَّجَز، مَطِيّةَ الشُّعراء القدماء والمعاصرين، ليجعلَ منها حِصانًا كما في ''أنشودة المطر''، والسَّريع كما في ''رسالة من مقبرة''، والمُتدارَك في ''المَسِيح بعد الصَّلب''. ففيما يبالغ أكثريّةَ الشُّعراء المعاصرين في استخدامهم الرَّجَز، وفي اعتمادهم له كبحرٍ مألوف، ينوّع بدر شاكِر السيَّاب شعره ويستخدم الكامل والوافر والرَّمَل والمتقارِب والمَتدارَك.

لقد اعتمد بدر شاكر السيّاَب غالباً الانتقال من بحرٍ إلى آخر ليستفيدَ من التّنَوُّع الإيقاعي، كما في شعره ''المَغْرِب العَرَبيّ'' و''جَيكور والمدينة''. وقد نوّع أحيانًا في استخدام التّفَعيلات كما في ''المسيح بعد الصَّلب'' بإدخاله مشتقّاً من التّفَعيلة الأساسيّة ''فَعِلٌ'' بطريقة منتظمة في القصيدة كلّها (23) يمكننا تطبيق هذا التّقَييم لشعر بدر شاكر السَّيّاَب، الشَّاعر الأكثر تمثيلاً للشِّعر العربي الحديث،
من دون أي تعديلات على أعمال سعيد عقل:


١- يكثر سعيد عقل من استخدام الرَّجَز؛ إنّهَ البحر الأكثر استخدامًا في شعره، وهو أيضًا البحر المُفَضَّل في أغلبيّةَ قصائد ''أجمل منكِ-لا'' ( ١٩٦٠ ) و''أجراس الياسَمين'' ( ١٩٧١ ) و''قصائد من دفترها'' ( ١٩٧٣ )
٢- لا يحدّ سعيد عقل شعره ببحر الرَّجز فقط، وإنّمَا مِرْوحة بحوره واسعة ومتنوّعة وتصل إلى أربعة عَشَرَ بَحْرًا.
٣ - يستخدم سعيد عقل عِدّةَ بحور في بعض قصائده، مثلاً  السَّريع والمُتَقارِب في ''ماذا؟ انتهى كلّ شيء؟. (24)
٤ - يستخدم سعيد عقل التّفَعيلة ومشتقّاتِها (ال ''فع'' الشهيرة) بطريقة منتظمة في بعض قَصَائدِه من أجل خَلْقِ تَنَوُّع إيقاعيّ يَكْسِر رتابةَ البحر الواحد...

وعلى صعيد آخر، وفي مسألة أولويّةَ استعمال البحر الّذَي تجادل حوله طويلاً بدر شاكر السيّاَب ونازك الملائكة (25) ، يمكننا حسمُ هذا الجِدال والتّأَكيد بأن سعيد عقل قد سبقهما في العام 1944 عندما تصرّف بحرّيّة في استعمال الكامل في الأبيات الأربعة  والأربعين الخاصَّة بالكَوْرَس في ''قَدْموس''. (26)

فإنّ مسألة النّمَوذج العَرُوضيّ شَغَلت الشُّعراء والنّقُّاَد الأدبيّيِن، وأصبحت المعيار الذي على أساسه يَتِمّ تقييم دَرَجة الحداثة أو التقليديّةَ في كلِّ نتاج شعريّ عربيّ، حتّىَ إنّ ناقدًا بارزًا محدثًا  مثل عز الدّيِن إسماعيل قد أُخِذَ هو أيضًا بسحر هذه الإشكالية. (27) إلاّ أنّ ما حاولت دراستنا بَرْهنته- وهذا ربّما أحد إسهاماتها غير المباشرة - هو أنّ مسألة الحَداثة في الشِّعر لا يمكن حَصْرُها بهذه الظّاَهرة الشَّكليّة الوحيدة على الرغم من أهمّيتها.

وبعبارة أُخرى، إذا كان التَّحَرُّر من النَّماذج العَروضِيّة التقليديّة هو السّمِةَ الضَّروريّةَ لأَيّ حدَاثة شِعْريّةَ، إلاّ أنّهَا ليست كافيةً للدّلَالة على الحداثة. وفي هذا السياق كان حَدْسُ الشُّعراء- النّقُّاَد والمنظّرين المُحْدَثين حول هذه النّقُطة بالغ الأهمّيِةَّ، إذ لم يتعرّفوا في أعمال سعيد عقل الغنائية على تجربة مشابهة لشعراء الحداثة على الرغم من وجود بعض السّمِات الشَّكليةّ المطابقة. ومع ذلك، لا يعود إلى المضمون أو إلى الموضوعات تعيينُ درجة الحداثة والتّقَليد في شعر ما، بل إنّ هذا التّعَيين يَتِمّ على مستوى العلاقة بين الشَّكْلِ والمَضْمُون مُبيّنًا قيمة العمل، وموقعه في تطوّر التّجَرِبة الشِّعريّة.

ضِمْن هذا السّيِاق، لم يخطئ كثيراً بعض النّقُّاَد المُتَحفّظِين تُجاهَ شعر سعيد عقل عندما رأوا في أعماله شكليّة سَطْحيّة مرتبطة بمضمون طُفُوليّ. (28)  أمّاَ الآخرون، وهم أقلّ تحفّظًُا مثل أدونيس، فحصروا إسهامه بتنقية اللّغُة الشِّعريّة فقط، وعَدّوُه ''ماليرب'' (Malherbe) الشِّعر العربيّ المعاصر (29)  بالنّسِبة إلى هؤلاء، إنَّ تَحَرَّر سعيد عقل من النّمَاذج العَرُوضِيّةَ لم يكن له أيّ وظيفة أساسيّة وإنّما اقتصر على مجرّد لعبة شكليّة وسطحيّة.

ما هي دلالة-وظيفة - تفكُّك البنى العَروضِيّة التّقَليدية في الشِّعر العربيّ المُعاصر- رأى بعض نقّاد الفنّ ومنظّرِيه في اللّجُوء إلى تهديم الشُّعراء المعاصرين للبنى العَرُوضيّةَ التقليديّة الّذَين عايشوا أحداث ١٩٤٨ (30) ، ظاهرة مُساوية لِسُقُوط البنى  التّقَليديّة في المجتمع العربيّ. أدرك ناجي علّوش هذه المعادلة في قوله: ''لم يكن سُقُوط المجتمع العربيّ التّقَليديّ مجرَّد سقوط، فقد بدأت قِيَم هذا المجتمع المتأخّر والمحافظ بالانهيار أمام الحركة الصَّاعدة، تحت تأثير عوامل داخليّة وخارجيّة. تميّزت هذه الحركة بعمقٍ بلغ الشِّعر العربيّ الّذَي لم يعد يُمكنه أن يبقى حيث حَدّدَ له موقعه الخليل بن أحمدالفَراهِيدي. (31) وببلوغ هذا الانقلاب إلى الشِّعر العربيّ، استعاد هذا الأخير مكانته في حركة التّقَدّمُ. لكي تندفع تجربةُ الشِّعر العربي''. (32)  ويعدّد الكاتب العوامل السّيِاسيةّ والاجتماعيّةَ والفِكْريّة لِهذه التّجَربة إضافة إلى أهمّيّة استيعابٍ أكثرَ وَعْيًا للتّجَربة الشِّعريّة الغربيّة وتأثير الماركسيّة.

بالنّسِبة إلى ناجي علّوش، حيث النّفَْحة اليَساريّة للسّتِّيِنياَّت واضحة، فإنّ سقوط الأشكال العَرُوضِيَّة التقليديّة يشكّل رَدّاً لانْهيار البنى الاجتماعيّةَ المُهَيمِنة في المجتمع العربيّ حتّىَ سنة ١٩٤٨ . فالنّفَحة الثّوَريّة، الّتَي كانت في أساس الخَيالِ الشِّعْرِيّ في تلك الحِقبة(الخمسينيّاَت والسّتِّيِنياَّت) والّتَي سعت إلى تحريك كلّ شيء، لم يكن بإمكانها أن تتعايش مع بنية عَرُوضِيّةَ بالية تعبّر عن الأزمنة الغابِرة والمجتمع القديم. فسُقُوطها كان ضرورة جماليّة شكليّة وجوهريّةَ.

 

عقل والحداثة
لذلك شكَّل شعر سعيد عقل وشعر المُحْدَثين في الخمسينيّاَت والسّتِِّينيَّات تعبيرًا عن حساسيّتين مختلفتين، عن تَصَوُّرين متناقضين للإنسان والعالم والمستقبل. فالشِّعر الحديث، نتاج وضع أيديولوجيّ-سياسيّ مُعَيّنَ، وهو تَطَلّعُات اجتماعيّة واضحة، لم يجد في شعر سعيد عقل ذي النّزَعة الفرديّة نموذجًا أو مِثالاً يحتذى.

فبالنّسِبة إلى سعيد عقل، لاقت المسألة الإيديولوجيّة إجابة مقنعَة وغير قابلة للدّحَْض منذ ١٩٤٠ ، وقد عَرَضها في ''قَدْموس''. ففي وجه القوميّةَ العربيّةَ الّتَي اجتاحت العالم العربيّ، رَفَع سعيد عقل لواء ''قوميّةَ لبنانيّة'' تبحث في عمق التاريخ القديم عن هُوِيّةَ لبنانيّةَ تاريخيّة وإيديولوجيّةَ وجغرافيّة لم تغيّرها أو تُلْغِها-الغزوات- العربية أو غيرها- عوارض التاريخ حسب قوله...بينما كان المحدَثون أكثر ميلاً لدمج لبنان بالعالم العربيّ ويرون في الجذور الفينيقيّة التي يدعو إليها سعيد عقل حقيقة طوباويّة وباطلة وغير تاريخيّة. مقابل العمق التاريخي لسعيد عقل، رفع المحدَثون فضاء العالم العربي: تاريخان، وجغرافيّتان، وتصوّران متمايزان للإنسان والمجتمع والزَّمن وتاليًا الشعر.

وبتحوّله شعرًا، سيتّخذ كلّ من التّصَوُّرين المتقابلين أشكالاً مختلفةً تتميّزَ بالقلق الحاضر هُنا، والغائب هناك. فسعيد عقل الذي كان قد اختار طريقًا أوصلته إلى المُطْلَق، فلا وُجُودَ للقلق عنده، أمّاَ الشُّعراء المُحْدَثُون فإنّ القلق يُضْنِيهم من كلِّ صوب، فلا يقين يعوّض عنه. سيحدّد هذا التّبَاين في وجهات النّظَر توجّههم في ما يتعلّق باختيار مَراجِعِهم الغربيّة. فشِعْر سعيد عقل المَصْبُوغ بِنَوع من الرُّومنطيقيّة والرَّمزيّة، هو قبل كلّ شيء كلاسيكيّ - في المعنى الفرنسيّ لِلكلمة - وپرناسي إذ يولي الشَّكل اهتمامًا من دون سواه، ومراجعه هي خير معبّر عن هذه الميول: شكسبير، راسين، مالارميه، ڤاليري. أمّاَ الشُّعراء المحدَثون الذين وقعوا فريسة القلق الوجودي، فنماذجهم هم: السرياليّون، سان جون برس، ت. س.  اليوت، ريمبو، ميشو، غارسيا لوركا..  (33)

التّاَريخ، بالنّسِبة إلى سعيد عقل، مكتمل سَلَفًا. فالمطلوب منّاَ اتّباع الدّرَب المَرْسُوم للوصول إلى الرفاه والمجد والعظمة. الغرب لا يشغله، فهو من خلق الإنسان اللّبُنانيّ- الفينيقيّ، ألاّ يحمل اسم ''أوروب''، أميرة فينيقيا وشقيقة البطل الأسطوريّ ''قَدْموس''؟ الميتولوجيا مصدر نستقي منه قوّتنا وليس ضعفنا. أمّاَ الماضي، فعلينا معرفة قراءَة رموزه الّتَي تصنع مَجْدَنا، ورفض كلّ ما يحطّ من قَدْرنا. القطيعة غير موجودة بالنّسِبة إليه، فالإنسان اللّبُنانيّ بقي على ما كان عليه دائمًا، قوّة حيويّة تواجه المصاعب. فما عليه حاضرًا إلاّ أن يعي عمقه التّاَريخيّ وإِرثه الفريد ليندفع من جديد لغزو المستقبل. يمكننا، الآن، فَهْمُ غياب القلق في أعماله، وعدمّ وُرُود مُصْطَلَحي القلق والرَّيبة في معجمه. يكفيه أن يؤمن بالله  وبلبنان ليبلغَ المجد والسَّلام والرَّفاه والغِبْطة. وهذه الأخيرة تجسّد حالة عامّةَ على مستوى الفرد: المجد الوطنيّ والغِبْطة الفَرْدِيّةَ يخلقان عَظَمةَ اللّبُناني. وسعيد عقل هو تجسيدٌ لهذه المعادلة.

إنّ هذه المسيحانيَّة المطمئنَّة والهانئة غريبة عن أعمال الشُّعراء المحدَثِين الّذَين يشعرون أنفسهم مَحْرُومِين من كلّ سُكُون واستقرار داخليّين. فهم يَتُوقُون إلى إعادة صنع التّاَريخ، وإعادة بناء المجتمع، وإعادة تعريف الإنسان. كلّ شيء قطيعة بالنّسِبة إليهم، وبالتّاَلي عدم. إنّهم مُحاطُون بالفراغ، وغير قادرين على التّقََدّمُ. فالماضي موضع استفهام، والمستقبل مُشَوَّش والحاضر مُحْبَط. عليهم أن يَهْدِموا كلَّ شيء ليبنوه من جديد. من هُنا كان اضطرابهم، وقلقهم، وارتيابهم، وتحيُّرُهم. ومن هُنا كانت إنسانيّتَهم، وتمرُّدهم الفَرْدِيّ كتعبيرٍ عن التّمَرُّد الاجتماعيّ العامّ. لا يمكن للشِّعر عندهم أن يُحَدّ بغنائيّة عاشقة هادئة وصافية. حتّىَ الحُبُّ عندهم حزينٌ وممزَّق. تَجربة كتلك الّتَي عرفها المسيح ليست مجرّد نِزاع بين الرَّذيلة والفضيلة. فالمسيح، كما في قصيدة السيّاَب، يوجز كلّ الضَّمير الشَّقِيّ للإنسانيّةَ، إنّهَ مجاهدٌ، وليس إنسانًا خارقًا نيتشويّاً كما عند سعيد عقل.

هل يمكن القول إنّ تجاوز شكل الكتابة المعروفة بالتّقَليديّة يجب أن يستجيب لمتطلّبات اجتماعيّةَ وإيديولوجيّة؟ إذا كانت هذه المتطلّبات تفسّرِ اللّجُوء إلى هدَْم الأشكال العَرُوضِيّةَ التّقَليديّة لدى الشُّعراء المحدَثين، هل هذا يعني أن أيّ هدم آخر هو تُرَّهة شكليّة أو مجرّد لعبة أسلوبية؟ هلِ البُعد الإيديولوجيّ هو العامل الوحيد لأيّ تغيير؟ وهل للاضطراب والقلق الإنسانييّن الحَصْرِيّةَ في كلّ عَمَلِيّةَ تَغْيير؟...

إنّ تاريخ الأدب وبالأخصّ تاريخ تحولّات أنماط الكتابة يُبرزان لنا حالات لم يتمّ فيها بالضَّرورة تجاوز الأشكال المَوْرُوثة وكذلك المَضامِين من خلال وَعْي مَوْضُوعي للمعطيات السوسيولوجيّة والإيديولوجيّة: بودلير، ريمبو، مالارميه، فلوبير (خاصَّة في روايته ''التّرَبية العاطفيّةَ'')، پروست، وسيلين أسْهَمُوا بطريقة حاسمة، من خلال تجارب وهموم شخصيّة بحتة، في أشكال الكتابة وتاليًا الموضوعات.

إنّ التّأويل الإيديولوجي، وعلى الرَّغم من صوابيّتَه في بعض الحالات، لا يمكنه وَحْدَه أن يحتكر تفسير الظّاَهرة الأدبيّة وفهمها، حتّىَ إنه يؤدّي في حالات أخرى إلى تصنيف ذاتيّ للغاية يستخفّ بكلّ فنّان لا تستجيب أعماله لاقتناعات النّاَقد الإيديولوجيّة. من الصَّعب أن نصادف نقادًا مثل جورج لوكاش يعرفون التّمَييز بين  البُعْد الإيديولوجيّ الظّاَهر في عمل ما ومَرْماه الكامِن.(34)

على صعيد آخر، إذا ''كانت الحاجة أمّ الاختراع''، فهل يمكن للاضطراب أوالقلق وَحْدَه أن يكون في أساس الإبداع الفَنّيِّ؟ ألا يحقّ للفَرَح والغِبطة والمجد أن تَسْتَوْطِنَ جمهوريّة الفنّ وتُسْهِمَ في تقدّم الأشكال الفنّية؟...كلّ تمييز وكل احتكار يجب أن يلغى من المجال الفنّي. تكمن قيمة العمل في نتيجة التّفَاعل بين مضمون وشكل، تفاعل جَدَليّ يَنْساهُ الجدليّون أنفسهم أحيانًا. فلِلضَّمير الفَرِح كما للضَّمير الشَّقِيّ حقّ في الفنّ. ويمثّل سعيد عقل هذا الضمير الفَرِح في الشّعر العربي المعاصر؛ وسيكون من الإجحاف ألاّ نعترف له به.

 

مراحل الشعر العربيّ الحديث
مَرَّ الشِّعر العربيّ في النّصِف الأوّل من القرن العشرين في ثلاث مراحل: مرحلة تقليديّة أنتجت الموضوعات والأشكال الموروثة، ومرحلة ثانية مجدّدِة على مستويي المضمون والشَّكل، ومرحلة ثالثة رومنطيقيّة مُشْبَعة بالحُزن والغضب والتّمَرُّد من  جهة، ومأخوذة من جهة أُخرى بالزَّخرفة والتجميل الشكليّين. (35) في هذا التّصَنيف المعتمد لَدَى العديد من مؤرّخي الأدب العربيّ المعاصر، يحتلّ سعيد عقل موقعه في هذه المرحلة الثالثة الرومنطيقيّة ذات المظهر الشَّكْلي.

ولهذه المراحل المختلفة ممثّلوها: أحمد شوقي يمثّل المرحلة التقليديّة، وجبران خليل جبران يمثّل وَحْدَه المرحلة الثّاَنية، والياس أبو شبكة والأخطل الصَّغير وصلاح لبكي يمثّلون الرُّومنطيقيّة الكئيبة للمرحلة الثّاَلثة؛ وبين الرُّومنطيقيّة الكئيبة والرومنطيقيّة الشَّكليّة يتعيّن موقع خليل مطران الذي معه تحقّقت وحدة القصيدة العربيّة؛ وأخيرًا الرُّومنطيقيّة الشكليّة التي هي مَيْلٌ مُغْلق من دون أيّ انفتاح على العالم، (بحسب أدونيس) و من دون أيِّ رؤية، فهي عودة جديدة إلى المُيُول التقليديّة في بداية القرن: هنا في هذه المرحلة الأخيرة، يتعيّن  موقع سعيد عقل الشاعر سعيد عقل مع د. هند أديب دورليان(36)

في الواقع، بعد الحزن والكآبة الرُّومنطيقيّين المتمثّلين بأبي شبكة ومطران، جاء سعيد عقل ليدخل البَهْجة والأمل إلى شِعْرٍ يتآكله اليأس، وليكمّل المشروع الذي شَرَع به جبران، والّذَي تابعه مطران جزئيّاً في ما يتعلّق بالقُيود المفروضة على اللّغُة الشِّعريّة وضَرورة التّحَرُّر منها. لا يشكّل فن سعيد عقل عودة إلى موضوعات الشعر الكلاسيكيّ التقليديّة تحت مظاهر شكليّة مُحْدَثَة. بل على العكس احتلّت موضوعات الفرح والمجد والمطلق والكون مكاناً شعريّاً جديدًا لم يَسْبِق أن عرفه الشِّعر العربيّ بهذا الاتّساع. لقد أدخل سعيد عقل شعريّة جديدة منبثقة من رؤية وتصوّر للإنسان والعالم. في ذلك أيضًا، يكمّل سعيد عقل جبران، صاحب الرُّؤى الّذَي سعى إلى عالم أفضل.

 

خصوصيّةَ سعيد عقل وموقعه المميّز

هذا التّغَيير الموضوعاتيّ تطلّبَ ابتكار أشكال تعبيريّةَ جديدة، لذلك عمد سعيد عقل إلى لغة شعريّة جديدة إنْ من حيث الصُّوَر الشِّعْرِيّةَ، أو الأشكال العَرُوضِيّةَ، أو اللّغُة وتراكيبها.

في ما يَخُصُّ الصُّوَر الشِّعريّةَ، كان سعيد عقل أحد الشُّعراء القلائل الذين أجادوا استخدامها بشكل شِبْه منتظم. إنّ تنقية اللّغُة الشِّعريّة الّتَي تكلّم عليسعيد عقلها أدونيس تكمن في هذا الإلغاء المَرْجِعِي لصالح تعبير مصوّر للعواطف والأحاسيس والدّوَافع الداخليّة. وبذلك تصبح الصُّورة المجازيّةَ خاصّيِةَّ اللّغُة الشّعِريةّ السعقليّة لم يسبقه أحد إليها. ولبلوغ هذا المستوى الرَّفيع من الشَّفافيّةَ الشِّعريّة، كان عليه أن يذلّل كلّ عائق يبرز أمامه إِن من ناحية العَرُوض أو من ناحية التّرَاكيب النّحَْويّةَ. هذا ما يفسّر اللّجُوء إلى تفكيك البنى العَرُوضِيّةَ انطلاقًا من حاجات تختلف عن تلك التي حدت بالمحدَثين لإنجاز مثل هذه العمليّة. فالفرح كما الحزن، والسُّكون كما الاضطراب، يمكنهما أن يحوّلا العالم... والبنى العَرُوضيّةَ.

تستجيب الصُّوَر الشِّعرية، إضافة إلى تفكيك البنى العَروضيّةَ، لِضَرورات تعبيريّة، وهي ليست لعبة شكلانيّة من دون هدف أو غائيّة. فحداثة هذا الشعر تتطابق مع حداثة الموضوعات الجديدة في الشِّعر العربيّ. وبذلك يتحقّق تماسُك شعريّ آخر بين الشكل والمضمون على أُسس مختلفة عن تلك الَّتي مَيَّزت شِعْرَ الحَداثة العربيّ في الخمسينيّات والستّينيّات. إذًا إن سقوط نموذج شكلي ليس  مرتبطًا بسقوط بنية اجتماعيّةَ، فهناك أسباب أكثر تعقيدًا تحدّد الانتقال من شكل تعبيريّ إلى آخر.

لقد تمكّن شعر سعيد عقل من خلال مضمون أعماله وبناها العَروضيّةَ وصورها ولغتها أن يخلق تماسكًا وتجانسًا نادرًا ما بلغهما الشُّعراء العرب في القرن العشرين. لذا نجد صعوبة في تصنيفه داخل تيّار محدّد، إنّهَ ينتمي إلى كلّ التيّارات وليس إلى تيّارٍ واحد. ويصبح هذا التصنيف أكثر صعوبة في حال كان المِعْيار الذي نعتمده هو المِعْيار الأوروبي-الفرنسي. فسعيد عقل ليس رومنطيقيّاً بحتًا، ولا رمزيّاً بحتًا، ولا برناسيّاً بَحْتًا. إنّه أحد أوائل الشُّعراء الحقيقيّين في مجال الحَداثة الشعريّة، إذا كنّا نفهم ''الحداثة'' استقلالاً عن النماذج الغربيّة من دون أن يعني ذلك قطيعة، ولكن تفاعل ومحاكاة حرّة وغير مستعبدة كما أَحَبّ الكلاسيكيّون الفرنسيّون ترداده

 

  1. ولد سعيد عقل في الرابع من تموز 1912 في زحلة، وتابع فيها دراسته الثَّانويَّة حتَّى سنّ الثَّامنة عشرة. وخلافًا لما قد يظنّه بعضُهم لم تكن لديه أيُّ مُيُول شعريَّة واضحة. فكان بحكم تفوّقه في مادَّة الرِّياضيِّات يستعدّ لدراسة الهندسة المِعْماريَّة.
  2. كان قد نشر ذلك العامَ "إنجيل الحب" وهو مجموعة قصائد كتبها حتَّى سِنِّ الثَّامنة عَشْرَةَ. بَيْدَ أنَّه اعتبر تلك المجموعة مُراهقةًً شِعريَّة حيث لم تكن شخصيَّته الأدبيَّة والفَّنِّيَّة قد تشكَّلت بَعْدُ، فلم يُعِدْ طباعتها.
  3.  صدرت هذه المسرحيَّة عن المطبعة الكاثوليكيَّة في طبعة فاخرة من الحجم الوسطِ وبلغ عدد صفحاتها السِّتِّين. ولم يُعد نشرها بعد ذلك. وتتألّف هذه المسرحية الشعرية من فَصْلين ومقدِّمة قصيرة من ثماني صفحات تتضمّن جزأين: الأول عرضٌ موجز لمدرستين كلاسيكيّتين، الفرنسيَّة والشَّكسبيريَّة، والثَّاني مجموعة ملاحظات حول المنهجية التي استخدمها الكاتب في إعداد موضوعه. وتروي المسرحيَّة المستوحاة من العهد القديم، حكاية يَفْتاح -  وهو رجل قويّ أنكرته قبيلته لأنَّ أمّه كانت مومسًا مجنونة -  يرحل عن منطقته ويسمِّي نفسه جَلْعاد. يربّي هذا الأخير ابنته راحيل، ومن دون أن يعلمها بحقيقة أمره، على حبّ وطنها وبغض المدعوِّ  يفتاح. وإذ يهدّد العدوّ بني إسرائيل، يستغيث هؤلاء بيَفْتاح الذي يستجيب لطلبهم بعد حَيرة وتردّد. ونظرًا لِخُطورة العدوّ ينذر يفتاح أن يضحّي بأوَّل فَرْد من عائلته يخرج لمُلاقاته في حال عاد منتصرًا. ولِسُوء الحَظَّ تكون ابنته الوحِيدة أوَّل من يخرج: فيمزّق ثيابه حزنًا ويَكْشِف لراحيل عن نَذْره لإل?ه إسرائيل. وتستمهله راحيل شهرين لتعتكفَ فيهما في الجبال، باكيةً على شبابها و خَسارة رفاقها. فيستجيب لطلبها. (أعيد طبع هذه المسرحيَّة سنة 1991 وأصدرتها دار نوبليس في مجموعة آثار لسعيد عقل بعنوان: سَعيد عقل شعره والنَّثر..)
  4.  أعيد نشر هذا الديوان عام 1960 و1971 و1991.
  5. كتبت هذه المسرحية عام 1939 وجرى تنقيحها عام 1944 في طبعتها الرسميَّة. كما أعيد نشرها عام 1961 و 1971 و 1991. وقد وضع لها عقل مقدّمة عرض فيها تصوّره لتاريخ لبنان. وهذه المسرحيَّة المؤلّفة من ثلاثة فصول والمتأثرة بالمدرسة الكلاسيكيَّة الفرنسيَّة تستمدّ موضوعها من الميثولوجيا الإغريقيَّة-الفينيقيَّة. وفيها يطارد قَدْمُوس أخته أوروپ التي اختطفها زويس، ملك الآلهة اليونانية، كي يُعيدها إلى لبنان. ويتمكّن قَدْموس من القضاء على تنّين كان يحرس أوروپ غير أن خبر انتحار هذه الأخيرة يفسد عليه فرحة الانتصار.
  6.  بعد صدور هذا الدِّيوان عام 1950، أعيدت طباعته في الأعوام 1956 و 1960 و 1971 و 1991 (مع بعض التنقيحات والإضافات). وهو يتضمّن ثلاثًا وأربعين قصيدة حبّ نشرت تباعًا بين عامي 1940 و 1948 في مجلة  "الشِّـــراع" الاُسبوعيَّة.
  7.  صدر هذا الدِّيوان عام 1960 وأعيدت طباعته عام 1971. وهو يتضمّن 31 قصيدة. كما طبع سنة 1991.
  8.   يتألّف هذا الدِّيوان الصادر عام 1971 من 49 قصيدة يغلب عليها الإحســـاس بالطَّبيعة.
  9.  يضمّ هذا الدِّيوان الصادر عام 1972 قصائد نثريِّة ويكشِف في مجمله عن نوع من التَّرتيب التعاقبي-السردي ويتألّف من ثلاثة أجزاء: "غصّة الناي" (العاشق)، "هموم الوردة" (العاشقة)، "عهد الوردة الملتفّة على الناي" (حوار بين النَّاي/العاشق والوردة/العاشقة). ويتخفّف الشَّاعر في هذا الدِّيوان من قيود البحور الشعرية.
  10. يحوي هذا الدِّيوان الصَّادر عام 1973 خمسين قصيدة توجّهها العاشقة إلى الشَّاعر-الحبيب.
  11. في قصائد هذا الدِّيوان، والبالغ عددها الستين، يعود الشَّاعر إلى الجماليَّة الشَّعرية الَّتي صنعت نجاح "رِنْدَلى" وشهرة الشَّاعر.
  12. يضمّ هذا الكتاب الصَّادر عام 1954 مجموعة من المقالات الَّتي تناقش مســائل مختلفة.
  13. يحتوي الكتاب على مقالات في النَّقد الأدبيّ، ومحاضرات ومقدّمات كتبها لأِعمال أدباءَ معاصرين. ويَعْرِض فيها عقل تصوُّره الجَماليّ.
  14. ديوان من سبع وثلاثين حكاية نثريَّة مستلهمة من الأساطير الفينيقية. وفيها يحاول عقل أن يبرز خصوصيَّة الحضارة اللُّبنانيَّة-الفينيقيَّة ومجدها ورجالاتها، بالإضافة إلى الأحداث التي أثَّرت في مصير هذا الشَّعب.
  15. بالإضافة إلى عدد من النَّشاطات، يَعْكِف عقل على نقل الرَّوائع العالميَّة إلى "اللغة اللُّبنانية" واضعًا لها مقدّمات باللُّغة اللبنانية نفسها.
  16. أدونيس، ''مقدّمة.لشعر العرب''، دار العودة، بيروت، ١٩٧١ ، ص. ٩٦
  17. أنطوان غطاس كرم، ''الرَّمزية و الأدب العربي الحديث''، إصدار دار الكشاف، بيروت، ١٩٤٩ ، ص. ١٥٣-173
  • محمّد فتّوح أحمد، ''الرَّمز و الرَّمزية في الشعر المعاصر''، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٧٨ ، ص. ٢١٣-٣٦١- ٢٢٨ و ٣٥٦
  • درويش جندي، ''الرمزيّة في الأدب العربي''، نهضة مصر، القاهرة، ١٩٥٨
  • صلاح لبكي، ''لبنان الشاعر''، دار الحضارة، الطبعة الثانية، بيروت، ١٩٦٢ ، ص. ٢٣٦- ٢٤٩
  1. إيليا حاوي، ''الرمزيّة والسرياليّة في الشعر الغربي والعربي''، دار الثقافة، بيروت، ١٩٨٠ ، ص..١٦٥- ١٥٥
  2. Le manifeste de Youssef el-Khal?, cité par Kamal Kheir Beik, Le mouvement moderniste de la poésie arabe contemporaine, publications orientalistes de France, paris, 1978, p. 51.-
  3.  Idem, p. 16-
  4. كمال خير بك، م.س. صفحة ٤٤ و ١٠٣-105
  5. المصدر نفسه ، ص. ٢١-46
  6. ناجي علّوش، ''مقدّمة لأعمال بدر شاكر السيّاب الكاملة''، دار العودة، بيروت، ١٩٧١ ، ص. ووو-ززز .
  7. رندلى، ص. ١٠٧
  8. راجع ناجي علّوش، مصدر سابق، وكمال خير بك، مصدر سابق.
  9. أنظر الجزء الأول من كتابنا ''شعرية سعيد عقل'': ''البنى العروضيّة في شعر سعيد عقل''، دار الفارابي، بيروت، ٢٠١٠
  10. عز الدين اسماعيل، ''الشعر العربي المعاصر''، دار العودة، بيروت، ط ٢-١٩٨١ ،
  11. إيليا حاوي، ''الرمزيّة و السرياليّة في الشعر الغربي والعربي''، دار الثقافة، بيروت ١٩٨٠ ، ص. ١٥٨
  12.  أدونيس، ''مقدّمة...''، س.ذ. ص. ٩٦
  13.  احتلال فلسطين و هزيمة الجيوش العربيّة المفجعة.
  14. هو أوّل منظّر للعروض العربيّة، فقد ابتكر نماذج البحور الخمسة عشر، أمّا البحر السادس عشر ''المتدارك'' فقد أدخله الأخفش.
  15. ناجي علّوش، ''مقدّمة ديوان بدر شاكر السيّاَب''، م.س.. ص. ٩
  16. Voir Kamal Kheir Beik, Le mouvement moderniste, op. cit., p. 56, note no 2
  17. Georges Luckacs,Balzac et le réalisme français, petite Collection maspero,1967,p.14
  18.  أدونيس، م.س.، ص. ٧٨-٩٧-
  19. أدونيس، م.س.، ص. ٧8-٩٧