شاعرُ الشَّرَرِ والضوء
شاعرُ الشَّرَرِ والضوء
يقول أناتول فرانس (Anatole France ): "إن الناقد يستطيع، وهو يطوف رياض روائع الفن، أن يسهّل على الناس ارتيادها بحيث يمكنهم أن يستمتعوا بجمالها الأخّاذ ويمكن للنقد سواء أكان من النوع الهداّم أو من النوع الذي يكون رائده المنطق والعدل، "أن يكون لذاته أدبًا يُقرأ وفنًّا يُستجلى جماله".
إن قول أناتول فرانس (Anatole France ) ينطبق على ما كتبه الدكتور هنري العويط حول ديوانَي الشاعر سعيد عقل: "نحتٌ في الضوء" و "شَرَر". فمقالته تشوّق القارئ لمطالعة الديوانَين وتمهّد له السبيل لفهمها وتذوّقها. النقد مع الدكتور هنري العويط هو لذاته أدبًا وفنًّا. ولن أبالغ إذا قلت بأن محاولته إلقاء "الضوء" على شِعر سعيد عقل تطاير منها "الشرَر"! وكما أن للشاعر إزميله يصقل به الأبيات والألفاظ والقوافي بدقّةٍ فائقةٍ كذلك للناقد إزميله الذي به يفسّر ويحلّل محاولاً تطبيق شروط علم الجمال ومقاييسه.
سعيد عقل شاعرٌ، فنّانٌ، مبدعٌ، أغنى الأدب اللبناني والعربي بروائع خالدة والدكتور هنري العويط ناقدٌ، فنّانٌ، قادرٌ على فكّ رموز هذه الروائع.
اسرة التحرير
كلّ ما في ديوانَي* سعيد عقل الأخيرين يصلحُ، جملةً وتفصيلاً، موضوعاً لمداخلةٍ في نَدوة، بل مادّةً لدراسةٍ مستفيضة.
ولكنّكَ سرعانَ ما تكتشفُ، إن أصختَ الإنصاتَ إلى نبْضِ الديوانَين العميق، وَسبَرتَ غورَ مقاصدِ الشاعر فيهِما، أنَّ في ديوانَيه، على وفرةِ قصائدهما - وهي تربو على المئتين –، وعلى تعدّدِ موضوعاتها وأسئلتها – وهي تكادُ لا تُحصى –، موضوعاً محوريّاً واحداً، يجمع بين الموضوعاتِ ويوحّدُها، وسؤالاً محوريّاً واحداً، يردّده الشاعرُ كلازمةٍ، من أوّلِ بيتٍ إلى البيتِ الأخير، ويطرحه آناً بصراحةٍ فجّةٍ، وآونةً يوحي به تلميحاً، ويختصرُه بإيجازٍ بليغٍ عنوانُ إحدى قصائده: "ما الشِعر؟". فلا يَسعك إلاّ أن تحسُمَ خَيارَك، وتقرّرَ التجاوبَ مع ما يدعوك الشاعرُ بإلحاحٍ لا يُرَدُّ إلى البحثِ في ديوانَيه عن أجوبته، والإبحارِ معه في رحلةِ الغوصِ على جوهره، واستكشافِ آفاقه وأبعاده، والسعيِ الدؤوبِ إلى القبضِ على ماهيّته.
فاسمحوا لي أن أقصرَ كلمتي على موضوعِ الشعرِ في الديوانَين، لأنّي أرى فيه موضوعَهما الطاغي والأثير، وعلامَتهما الفارقة، بل واحدةً من أبرزِ السِماتِ التي تطبعُ فرادةَ شاعرنا.
تكادُ لا تخلو قصيدةٌ من إشارةٍ إلى الشعر – تتفاوتُ حجماً وكثافةً، شكلاً وصيغاً، أهميّةً ودلالةً – ولكنّها تتضافرُ جميعُها على تعزيزِ موضوعِ الديوانَين الجامعِ والمحوريّ، عَنَيْتُ به موضوعَ الشِعر، بأسئلتهِ وإشكاليّاتِه، وعناصرِه المكوّنة، وخصائصهِ المميّزة، ورسالتِه، وأسرارِ الإبداعِ فيه. فلا بدّ من جمعِ هذه المادّة المتفرّقة في رحابِ الديوانَين، وتنسيقها، وإنزالها في أبوابَ تغطّي الجوانبَ الأساسيّةَ مِن ملفِّ الشِعرِ. ومِنَ البداهةِ القولُ إنَّ عملاً بهذا الاتّساع وبهذا الشمول، يتطلّبُ ممّن سيتوفّرُ عليه جُهداً وتفرّغاً، ليست هذه النَدوةُ مجالَهما. فحسْبُنا أن نتوقّف قليلاًَ عندَ ثلاثةٍ من أركانِ حضورِ الشِعرِ الطاغيةِ في الديوانَينِ، وهي : الشعرُ في العناوين، الشاعرُ ورفاقُه الشعراء، وبياناتُ الشاعرِ الشِعريّة.
الشِعرُ في العناوين
أوّلُ ما يَلفِتُ انتباهَنا، في هذا الصَدَد، العناوينُ التي اختارها الشاعِرُ، فإنَّ ما يتّصلُ منها بغرَضنا لا يُستَهانُ بعدده. ولكنّي أنتقي من قائمتها الطويلةِ والغنيّةِ بالدلالات، عيّنةً مُعَبّرةً تفي بالقصدِ. بعضُ هذه العناوين يُسمّي الأداةَ التي يكتب بها الشاعر، ومنها : "ريشةُ شاعر"، أو "لا، ريشتي، لا تغاري"؛ وبَعضُها يُشيرُ إلى الفِلذةِ من القصيدة، ومنها : "يا لَبيتِ قصيد..."، أو "تخُطّني بيتَ شِعر..."، أو يشيرُ إلى القصيدةِ كلِّها، ومِثالُه "لأنّي قصيدتُكَ"؛ وبعضُ هذه العناوين يحدّدُ عِلاقةَ الشاعر بالكلماتِ التي يستخدمها، ومنها : "اللفظةُ ذاتُ الخصْر"، أو "ما مسَّ مِن لفظةٍ إلاّ انبَرَت ذهباً..."؛ وبعضُها يركّزُ على نضارةِ الشِعر وشبابهِ الدائم، ومنها : "غَواكِ صِبا شِعري..."، أو "شِعري صِبا الدنيا"؛ وبعضُها الآخر، وهو بالطبعِ ليس الأخير، يُبرزُ جمعَ الشِعرِ بين ضروبٍ من المغامرةِ، والإثارةِ، والسِحرِ، ومنها : "لَعِباتُ الشِعر"، أو "الشِعرُ رقصٌ على حدِّ السيوف".
لا يتّسعُ المجالُ هنا لدراسةِ هذه العناوين في مستوياتها المختلفة، المعجميّةِ والصرفيّة – التركيبيّةِ والبلاغيّة، على أهميّةِ العناوين في العِمارةِ الشِعريّة، وعلى طرافةِ هذه الدراسة. ولعلّنا لا نحتاجُ إلى مثلِ هذه الدراسة، لنستخلصَ منها البراهينَ على ارتباطِ قصائدِ الديوانَين الوثيقِ والمباشر بموضوعِ الشِعر، لأنَّ عناوينَها ناطقةٌ بذلك جِهاراً وتُغني عن أيّ تأويل.
ولأنّنا نعرفُ العناية الفائقةَ التي يصوغُ بها سعيد عقل عناوينَه، تَرانا ميّالين إلى اعتبارِ عنوانِ كلٍّ مِن ديوانَيه بِطاقةَ تعريفٍ مكثّفة، لا بالديوانِ فحسب، بل بهُويّةِ الشِعر والشاعر. وإنّنا لواجدون في عبارة "نحتٌ في الضوء"، تحديداً شِبهَ كاملٍ للفعلِ الشِعريّ. فهذا العنوانُ يتضمّن، من جهة، تحديداً للمصدر الذي يستخرج الشاعرُ منه العناصرَ التي يبني بها قصائده، أي المادّة التي يعملُ عليها، وهي الضوء بوجهَيه : الإشراق الذي هو نقيض العتمة، والجمال الذي هو نقيض البشاعة؛ ويتضمّنُ هذا العنوان، من جهةٍ ثانية، تعريفاً بطبيعةِ عملِ الشاعر، أي النحت، ومجموعةَ تداعياتِ هذه اللفظة وايحاءاتِها، من الازميلِ وصلابته ودقّته، إلى الجُهدِ المبذولِ في إزالةِ النتوءات والشوائب، وصقلِ الحجر، ونقشِ الصوَر. وفي العنوانِ أيضاً، إشارةٌ إلى الإبداعِ في الفنّ، والفنُّ في جوهرهِ فِعلُ تشكيل، وفِعلُ تحويل، بل فِعلُ خلق.
وأمّا "شرر"، عنوانُ الديوانِ الآخر، فلا تخفى عِلاقتُه العضويّةُ والمتكاملةُ بالعنوانِ الأوّل، وهي عِلاقةُ النتيجةِ بالسبب، والأثرِ بالفعل. فمن النحتِ في الضوء يتطايَرُ الشرر، قصائدَ من نور، وقصائدَ مِن نار.
الشاعرُ ورفاقُه الشعراء
غريبٌ أمرُ شاعرِنا، فهو يتّخذُ من كلِّ مشهدٍ يقعُ طَرْفُهُ عليه، وكلِّ حَدَثٍ يتناهى خبرُهُ إليه، وكلِّ لِقاء يجمعُهُ بصديق، وكلِّ إطراءٍ تهمِسُ به حسناء، مناسبةً يتذرّعُ بها، ويوظّفُها مُنطلَقاً إلى نهرِ الشِعرِ الذي يصُبُّ في مجراهُ كلُّ ما في الكون؛ وفي طليعةِ هذه المناسبات، منابرُ تكريمِ الشعراء.
تُذكّرك قصائدُه في مَنْ يسمّيهم "رفاقيَ الشعراء"، في صياغتها، وهندسةِ بنائها، واسلوبها، ومضامينها، بأخواتٍ لها جمعَها شاعِرُنا في ديوان "كما الأعمدة". وهي، لطولها وغِناها، تعصى على التلخيص. ولكنّها تنتظمُ في بنيةٍ متقاربة، وتخضعُ لمنطقٍ واحدٍ يجمعُ بينها. ففي معرضِ حديثِ الشاعر عن شعرِ أقرانه، بعَين الناقدِ الخبير وبصيرتِه النافذة، يستحضرُ أمجادَ لبنانَ العريقة ودورَه ورسالتَه، ويقتبسُ كلماتِ تقديرٍ قالها فيه الشاعرُ موضوعُ التكريم، ليؤسّسَ عليها، لا دراسةً يحلّلُ من خلالها شِعرَ هذا الزميل ويقيّمُه فحسب، بل كشفاً مفصّلاً عن أبرزِ خصائصِ شِعرِه هو بالذات، وبياناً مكثّفاً بخُلاصةِ تصوّرهِ الشعر. فيصحُّ أن نؤكّدَ أن سعيد عقل يحوّل كلّ إطلالةٍ له على شعرِ الآخرين، مرآةً مكبِّرةً تنعكسُ فيها صورتُه، وصورةُ شعرِه، وصورةُ الشعر.
أوَ لم يرسُم، يومَ احتفَل لبنان بذكرى محمّد مِهدي الجواهري، ملامحَ صداقتهما، وخطوطَ فنّهِما الشِعريّ، في قصيدته "بالمجدِ زانوكَ"، وهو القائلُ فيها :
"عِشنا صَفِيَّين، يُعليني وأُكبِرُه،
حدّا حُسامٍ عُجابٍ، غَيرِ مُنغَمِدِ
نَصيدُها القَولَةَ اكتَتَّت بِمُعجَمِها
خَرْسا، فنَرمي بها غَنّاءَ ذاتَ دَدِ
لها كَخصرِ غَويِّ، يستجيبُ له
زَنْدٌ، ويَحلُمُه جَفْنٌ على سُهُدِ
ونُطْلِعُ الفِلذَةَ العذراءَ مُشْرَبَةً
غَيثاً، ونُنزِلُها حيثُ القَفارُ صَدِ
ورُبَّ حَرْفٍ هَززْنا، أَرجَحَتْهُ رُؤى
حَرْفٍ... فَرَنَّ... وخُذْ باللّمِّ في البَدَدِ...
حتّى إذا خُتِمَتْ بالرَنِّ قافيةٌ
وَجَّ الجمالُ كوجهٍ بالحياءِ نَدِي."
أَوَ لم يحدّد، في قصيدتهِ في نجيب جمالِ الدين "ما مَسَّ من لفظةٍ إلاّ انبَرَتْ ذهباً..." رسالةَ الشِعرِ، بقوله :
"يَرمي بنا الشعرُ في الفَوقِ، الوجودُ هُوَ
الفوقُ، الأُولى تحتُ هم بَعْضُ المياهِ أسَنْ...
وَوَحدَهُ الشِعرُ بَدْعٌ، سِرُّ لعبتِهِ
إنْ يُرتَجى لابتكارِ الكونِ غَيرَ مُعَنْ ؟"
وفي القصائد كلّها، أَوَلم يفاخر بسموّ شعرِه، قائلاً :
"نجيبُ، بي طُرَفُ الآياتِ جُبْنَ ذُرىً
لم تُرْقَ قبلُ، ولَمْ يُفتَحْ لها ويُبَنْ"
أو بصعوبته، وهو المُعلِن :
"فرادتي أنا، أنّي ما انزلقتُ إلى
رِضىً بِسَهْلٍ، حياتي الصَعْبُ ما صُقِعا
كأنّني النسرُ يبني عُشَّهُ كِبَراً
على شفا شاهقٍ باللاهُنا طَمِعا "
أو بمواطِنِ التجديدِ فيه، وهو المشتَرِط :
"ومَنْ يُجدِّدْ عليهِ أنْ يُطِلَّ ولا
إطلالةَ الشمسِ تمحو كُلَّ ما وَضُعا
وأنْ يقوّلَكَ : اشمَخْ بالجمال، هُنا
لا القَبْلُ قال، ولا البَعْدُ ارتجى وسعى"...
ورُبَّ ناقدٍ يرى في هذه القصائد، بل في قصائدِ الديوانَين كلّها، مادّةً خصبةً وحقلاً مميَّزاً لاختباراتِ علماءِ النفس التحليليّين. ولكنْ ماذا يَضيرُ الشِعرَ أنْ يفتحَ الشاعرُ أمامنا، أبوابَ نفسه، ومملكةَ شعرِه، ومملكةَ الشِعرِ معاً، ويضطلعَ، في أغوارها وشِعابِها وخفاياها، بدورِ المرشِدِ والدليل؟ ولماذا لا نُبصر في تماهي الشاعرِ بأقرانِه، وتماهي الشاعِرِ بالناقد، وتماهي الشاعِرِ بشعرِه، بل في تماهي الشاعرِ بالشعر، وجهاً يتجسّدُ فيه همُّ التوحيدِ بينَ الكائناتِ كلّها، في الشِعرِ وبواسطته، وهو الهاجسُ الطاغي والمتجلّي، بأبهى مظاهره وأعمقِها، في كلِّ صفحةٍ من قصائد هذين الديوانَين؟
بيانات سعيد عقل الشعريّة
ولَكَم يستوقفكَ أنّ الشاعرَ تقصَّدَ أنْ يستهلَّ كُلاًّ من ديوانَيهِ الأخيرَين بقصيدةٍ هي بمثابةِ بيانهِ الشعريّ.
فَفي قصيدة "كما على جِبال الألب"، لم يتركْ جانباً من جوانبِ تجربتهِ الشِعريّة إلاّ وعَرَضَهُ. ففيها إشارةٌ إلى الذُرى التي تَسَنَّمَها، وذِكرٌ للّغاتِ التي يَنظِمُ بها، وتركيزٌ على ما يُولي انتقاءَ قوافيهِ مِن عناية، وتباهٍ بامتلاكِهِ سرَّ الرنين؛ وفيها أيضاً إبرازٌ لبراعتهِ في سبْكِ قصائدِ الغَزَل، وتشديدٌ على مجافاةِ شِعرهِ عن الشكوى والنحيبِ والركاكةِ والبشاعةِ، وعلى اعتصامِهِ بنَهجِ النُبلِ وأحكامِ البلاغة، وعلى تعبّدهِ للجمالِ وإشعاعاتِهِ.
أمّا القصيدةُ التي تتصدّرُ ديوانَ "شَرَر"، فقراءتُها لا تتركُ أدنى مجالٍ للشكِّ في نوايا الشاعر. فالعنوانُ الذي اختارَه لها : "حدَّدْتُهُ الشِعرَ..."، واللهجةُ الصارمةُ التي صاغَها بها، وهي تذكِّرُ بإيجازِها وقوّتِها، بالبلاغاتِ العسكريّة، يؤكِّدانِ على أنّهُ حمّلَها جوابَهُ الحاسِمَ والقاطِعَ على السؤال المحوَريّ الذي طَرَحَهُ : "ما الشِعر...؟".
" حَدَّدْتُه الشِعرَ ... أنْ بالكونِ شِلْتُ أنا
أوانَ بالصِيَغِ اغرورَبتُ والكَلِمِ
خَطَّ العظامِ نَهَجتُ : الوَزنُ صالَ معي،
كما القوافي، وشَكِّ الأحرُفِ الرُنم
لِسائلي : " أإلهٌ أنتَ؟ " قلتُ: "بلى...
وريشتي الوَردُ هرَّتْهُ على النُجُمِ
إنْ رُحتُ أسكِرُ؟... هذي النَزْرُ مِن قِيَمي،
فَلْيُروَ أنْ كنتُ هَمَّ السُكْرِ والقِيَمِ "
وتكتَسِبُ هاتانِ القصيدتان، مِن موقِعِهما في مَطلَعِ الديوانَين، ومِنْ أسلوبِهِما، ومِن مضمونِهِما، دلالةً واضحةً على رغبةِ الشاعرِ في البوحِ بما يضيءُ الخطوطَ الرئيسةَ في مسيرتِه الشعريّة، وفي إعلانِ مواقِفِه الأساسيّةِ من اسئلةِ الشِعرِ وقضاياه. ولا يقتصِرُ دورُهُما على الدعوةِ إلى قراءةِ قصائدِ الديوانَين، بل يتجاوزُها إلى تعيينِ الزاويةِ التي يرغبُ الشاعرُ في أن تتمَّ قراءتُها من خِلالِها. فكأنّي به ينتصِبُ أمامَ أبوابِ مملكتِهِ الشعريّة، ويُصِرُّ على أن يقدّمَ للقارىء مفاتيحَها، بل على أن يقودَ بنفسهِ خطاه في أرجائِها وأعماقِها.
ولَئِن امتازَت هاتانِ القصيدتان بكثافةِ تعبيرِهما عن مفهومِ سعيد عقل للشِعر، وقراءتهِ لِنِتاجِه فيه، فإنَّ الديوانَين زاخرانِ بمجموعةٍ كبيرةٍ من القصائد، وقفَ الشاعرُ بعضَها كاملةً لهذَين الغَرَضَين، أو ضَمَّنَ بعضَها الآخرَ إشاراتٍ إلى جوانِبَ متّصلةٍ بهما، وجلُّها قصائدُ غزليّة. فإنّكَ واجدٌ في الديوانَين، اراءَ سعيد عقل في الوزنِ والقافية، ومطالِع القصائد، وألفاظِها وتراكيبِها،وموسيقاها، وصورِها، وقيمها الإنسانيّةِ والأخلاقيّة، ومعاييرِها الفنّيّة، وفي مراحلِ ولادةِ القصيدة من لحظةِ التماعِها كخاطِرة، إلى لحظةِ اكتمالِها، وفي وضوحِها والتباساتِها وأبعادِها الرمزيّة، وتشكّلِها وإشكاليّاتِها، فضلاً عن آرائِه في المذاهبِ الشعريّة، ومواقِفِه من الالتزامِ والتجديد، ووظيفةِ الشِعر ورسالتِهِ وماهيّتِه.
يميّزُ الناسُ في العادَةِ، بينَ الشاعِرِ وقرّائِه، وبينَ الشاعِرِ ونقّادِه. أمّا في هذين الديوانَين، فتسقُطُ الحواجِزُ الفاصِلةُ بينَ الطَرَفين، لأنَّ سعيد عقل يمارسُ الدَورَين معاً، وقد تداخَلا في شِعرِه وتفاعَلا، في توليفٍ غريب، فأنتَ في حضرةِ شاعرٍ لا يرضى بكتابةِ الشِعرِ فحسب، بل ينظِمُ قصائِدَ يقرأُ فيها شِعرَ الآخَرين، وشِعرَهُ هو أيضاً. فكيفَ لا تَعجَبُ من جمعِ الشاعِرِ بينَ النظريّةِ والتطبيق، وكيف لا تَعجَبُ من تماهي الشاعِرِ بالناقِد، وكيف لا تَعجَبُ من قيامِهِ بذلك كُلِّهِ شِعراً؟
لقد أصدَرَ شاعِرُنا ديوانَيه، وهو على مشارفِ التسعين. فيحسنُ بنا أن نستخلصَ منهما عُصارةً معتّقةً ومكثّفة، لمبادئِه الراسخة واقتناعاتِه العميقة، وقد صقلتها اختباراتُه، وبلورتْها تجاربُه، وأثرتها عطاءاتُه.
ويحسُنُ بنا أن نستشفَّ من خَلَلهما، فِعلَ الايمانِ الذي يكرّره، من الدَفَّةِ إلى الدفّة، في الشعرِ وطاقتهِ على الارتقاءِ بالانسان إلى أسمى مراتبِ الإبداعِ، شريكاً للخالقِ في الخلق.
ويحسُنُ بنا أن نقرأ في قصائدِهما كلّها تقريباً، على اختلافِ مناسباتِها وتنوّعِ أغراضِها، اعترافاتِ سعيد عقل وبياناتِهِ الشِعريّة، شُرعَتَهُ ووصيَّتَه، بل سيرةَ شاعرٍ ومسيرَته.
خاتمة
هل عَرَفَتِ العربيّةُ، على امتدادِ حِقَبها وعصورِها، شاعراً خصَّ الشِعرَ في شِعرِه، بمثلِ ما خَصَّهُ به سعيد عقل؟ وهل نَظَمَ شاعِرٌ، في أقرانِهِ من الشعراء، وفي شعرِهِ هو، وفي الشعرِ عموماً، بمثلِ الكثافةِ والمثابرةِ والديمومةِ التي يمتازُ بها سعيد عقل؟ وهل غنّى شاعرٌ، الشعرَ، في مظاهرِهِ وجوانبهِ المختلفة، كما غنّاهُ سعيد عقل، وبمثلِ هذَين الشغفِ والعقلانيّةِ معاً؟
وهل عَرَفَتِ العربيّةُ شاعراً، مارَسَ النقدَ الشِعريَّ، شِعراً، فكانَ الشاعرَ والناقد، المُبدعَ والمحلّل، وكأنّه أوديب وقد نبتت له عينٌ داخليّةٌ ثالثة؟
أقولُ هذا، وأنا مدركٌ أنّ سعيد عقل ليس الوحيدَ الذي تناولَ الشِعرَ والشعراءَ في قصائده، فما أكثرَهُم – قُدامى ومحدَثين.
فمَن منّا لا يتذكّرُ قولَ المتنبّي متباهياً بقوّةِ شعرِه السحريّة:
"الخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعرِفُني
والسيفُ والرُمحُ والقِرطاسُ والقَلَم
أنا الذي نَظَرَ الأعمى إلى أدبي
وأسمعتْ كلماتي مَن بِهِ صَمَمُ "
ولكنّ مواقِفَ هؤلاء غالباً ما اقتصرتْ على شذرات، أو هي شكّلتْ اهتماماتٍ مرحليّة. أمّا عند سعيد عقل، فهي إحدى ثوابتِ شعره، وقد لازمته منذ بواكيرِهِ، وما فتئت، تتعزّزُ وتتوطّد، فغدا الشعرُ، في ديوانَيه الأخيرَين، موضوعَهُ الأثير، وهمَّهُ المقيم، وفَرَحَهُ الدائم.
كثيرون همِ الشعراءُ الذين رَوَوا تجاربَهم أو نَشَروا بياناتِهم الشعريّة، ولكنّهم، بخلافِ شاعرِنا، توسّلوا لذلك، في الغالبِ الأعمّ، المقالاتِ أو الحِوارات، وقلّما قاموا بذلك شِعراً. فسعيد عقل، في هذا الباب، ظاهرةٌ فريدة.
وقد تختلفُ معه، في نظريّاتِهِ اللغويّة، وفي استنطاقِهِ الأرقامَ والإحصائيّات، وفي قراءتِه أحداثَ التاريخ، وفي مواقفِهِ السياسيّة؛ وقد تختلفُ معه في مفهومهِ للشِعر، وفي قراءتِه النقديّة لشِعرِه. ولكنّك لا تستطيع، إنْ كنتَ تتحلّى بالحدِّ الأدنى من النزاهةِ الفكريّة، إلاّ أن تعتَرِفَ بقيمَتهِ وقامتهِ في دنيا الشِعر.
وقد ترى أنَّ الاسئلةَ التي يطرحُها الديوانان الأخيران، ليست اسئلةَ الشِعر كلَّها، ولعلّهما تحاشيا طَرحَ اسئلتِه الصعبة والعميقة. وقد ترى أنّ الاجوبةَ التي يقدّمها الديوانان ما هي إلاّ أجوبةُ سعيد عقل، وأنّها بالطبعِ مَثارُ خِلاف، فضلاً عن أنّها تولّدُ جُملةَ اسئلة. وفي رأسِ ما يُلِحُّ عليك، وأنتَ تطالِعُ الديوانَين، سؤالان. أمّا الأوّلُ فيتعلّقُ بمواقِفِ الشاعِر المتباينة، كما عَبَّر عنها، نثراً، في بيانِه الأوّلِ الشهير، في مقدّمةِ المجدليّة، وكما صاغَها شِعراً، في ديوانَيهِ الأخيريَن، من قضيّة ماهيّةِ الشِعر عموماً، وخصوصاً مِن دورِ الوعيِ واللاوَعي في إبداعِهِ. وأمّا السؤالُ الثاني فيدورُ على قدرةِ الشِعرِ على أن يطوِّرَ نفسَه، ويفجِّرَ طاقاتِ التجديدِ الكامِنةَ فيه، فيستولِدَ مِن رَحِمهِ، أنماطَ جديدةً ولغةً جديدة، ويتبنّى الحداثةَ، بل يبنيها.
وأنا لَعلى يقين بأنَّ سعيد عقل هو من عُمقِ الثقافةِ، ورَحابَةِ الأفقِ، وسِعَةِ الانفتاح، ومِن قوّةِ الايمانِ بالشِعرِ، فلا يدّعي احتكارَ الشِعرِ، أو اختزالَ اسئلتهِ وأجوبتهِ، أو تجميدَ مسيرتِهِ الدافقة.
لقد قيلَ في شِعرِ سعيد عقل الكثير، وسيقالُ فيه، في المُقبِل والآتي من الأيّام، أكثر. ولعلَّ التفرّدَ أحبُّ الألقابِ إليه، وأصدقُها تقييماً له. فخَيرُ ما نُكَرِّمُ به شاعِرَ رِندلى، هو أن نَصرِفَ عنايتَنا إلى دراسةِ شعرِهِ، بما يليقُ به من رصانةٍ وموضوعيّة، وأن نبحَثَ في وجوهِ تفرّدهِ المنوّعةِ وتجلّياتهِ الوافرة، وفي طليعتِها حضورُ الشِعرِ في دواوينهِ، حضوراً طاغياً. ولتكنِ المبادَرَةُ المشكورةُ التي نظّمت هذه النَدوةُ مُنطَلَقاً وحافزاً لدراساتٍ وافية، تعوّضُ عن تقصيرِ إضاءاتي الخاطفة، وخواطِري العَجلى.
سعيد عقل، شاعِرُ الفرح؟ وشاعِرُ القِيم؟ وشاعِرُ الطبيعة؟ وشاعِرُ الجمال؟ وشاعِرُ لبنان؟ بَلى، بَلى!
ولكنّه بامتياز، شاعِرُ القصيدة، وشاعِرُ الشِعر؛ شاعِرُ الضوءِ وشاعِرُ الشَرر!.