كيف أفهم الشِعر
كيف أفهم الشِعر♦
سعيد عقل
أيّنا لم يتّفق له، في حبه الأول، إن ردّد هذه المناجاة:''هل عند الوردة، يا حبيبتي، خبر عن عطرها؟
هل تعي الوردة أنها ذات أريج مسكر؟''
ولا أبلَغ من تشبيه المرأة وجمالها، بالوردة وأريجها، لتعليل ما نسمّيه في الفلسفة ''اللاوعي''.
الوردة لا تحسّ أنها ذات غنى، أنها تعطي البشر متعة، لا تحسّ أنها وردة. والمرأة، في نظر عاشقها لا تحسّ السعادة التي تمنحها البشر بمجرّد وجودها بينهم، لا تحسّ أنها امرأة. وروح المناجاة أنها لو أحسّت ذلك لشاركت الناس عبادة نفسها.
ليس للوردة، وهي من عالم النبات، ما نسمّيه وعيًا، فتحسّ أريجها. أمّا المرأة وهي بشر، فشأنها آخر: المرأة ذات وعي، يمكن جمالها، بعض صفاتها، سرّ وجودها أن يفوت قوى وعيها، لكن يستحيل أن يفوت شيء من ذلك، قوى لا وعيها. واللاوعي في الإنسان، لا يعني عدم الوعي، شأنه في عالَمَي النبات والجماد. واللاوعي هو أرقى درجات الوعي ان الوردة عديمة الوعي، عديمة اللاوعي، أمّا الإنسان فذو وعي ولا وعي.
اللاوعي أرقى درجات الوعي؟. ولا يستغرب قولي الا البعيدون عن الأعمال العقلية. فكل من كتب أو خطب، كل من كان محدثًا يعرف هذه الحقيقة ويقرّها. فهذا شارل بالي ١ وقد درس الكلام دراسة فلسفية، يستنتج أننا نتكلّم بطريقة لا واعية، لا نفكّر بآلاف التصوّرات التي سيسلسلها فكرنا في كل جملة نبدأ بها، وبطريقة لا واعية ننتقي الألفاظ الأكثر فهمًا والأكثر فعلاً في السامع، وبطريقة لا واعية ننحت، بعض الأحيان، ألفاظًا جديدة لا وجود لها في اللغة، ولا ندري أي أصول لغوية سريّة توحيها إلينا في تلك الساعة، بل بطريقة لا واعية يكون عمل الذي يفهمنا، وبقدر ما تكون فكرتنا لا واعية، تكون أسرع إلى فهم السامع، وتكون أكثر دقّة وأكثر عمقًا. وعلى العكس بقدر ما تكون فكرتنا مدروسة تحليلية، تكون متعثّرة دون إفهام السامعين. وكثيرًا ما نرى لفظة انفلتت منّا انفلاتًا، وكان تلفّظنا بها سبب دهشتنا نحن، تدخل أفهام الغير بسهولة لا تعرفها جملة منطقية التركيب واضحة. ويظهر أن الفكرة اللاواعية وحدها تستميل إليها الناس، ولا شكّ أن اللاوعي هو طريقة التفاهم الأفعل.
ودرس جول كومباريو ٢الموسيقى فاستنتج أن الموسيقى، عند الموسيقي الحقيقي، هي أوضح من الكلام، وأن الكلام لا يزيدها إلاّ إبهامًا. وزعم أننا إذ ''نفكر دونما فكرة'' فلكي لا نتخلّى عن الأشياء التي تمثّلها فكرتها، بل العكس، لنلج هذه الأشياء بأعمق.
تلك قوّة اللاوعي العجيبة، سواء في الكلام والفهم. ومن يدرسه بتعمّق يرَ أنّه أكمل طرق الفهم، حتى في المواضيع التي تبدو أكثر استدعاءً للعقل.
وأرى أن اللاوعي، أرقى درجات الوعي، هو الصفة الأولى والأخيرة للشِعر، وان الوعي هو الصفة الأولى والأخيرة للنثر: فأنا حين أبدأ بالنظم، بل حين أنظم، لا أكون واعيًا في نفسي شيئًا واضحًا. ولا نصدّق الشعراء إذا زعموا العكس. وقد ثبت أن لا أثر فكريّاً كبيرًا لأي امرئٍ رياضي ٣ أو سياسي، . موسيقي أو شاعر، تحقق في الضوء٤
لكني أعرف، وأنا أنثر، أني مفكّر بما سأكتبه، عاركه أولا في قواي النفسيّة، حاكه على العقل والمخيّلة والحسّ، وبكلمة: وأعيهِ تمامًا، ثم لاجئ إلى إظهاره إلى الناس بواسطة اللغة.
إن النثر فكر، والفكرة نعيها، هو صور والصورة نعيها، وهو عواطف والعاطفة نعيها، لأنه يستحيل أن نفكّر أو نتصوّر أو نحبّ، إلا ونحن نعي أننا نفكّر أونتصور أو نحب. عناصر النثر كلّها عناصر وعي. فالنثر إذن في طبيعته وعي. أمّا الشِعر فلا.
وأذهب أبعد في ملاحظتي على الشِعر، فأرى أني ما فرضت يومًا على ذاتي فكرة أو صورة أو ''عاطفة واعية'' – والتعبير اصطلاح للاختصار يفيد: ''عاطفة في وعي النفس'' أو ''عاطفة تعيها النفس'' - وعاد قلمي يكتب شعرًا. قلت عاطفة واعية لأن السائد، في العلم، أن العاطفة -كالفكرة - والصورة واعية في طبيعتها. وإذا ثبت أن نمت حالات عاطفية خالصة لا واعية فأقرّ عندئذٍ أن حالتي اللاواعية تكون من عاطفة. وأظلّ الآن أجزم أنني عند النظم، أكون في حالة لا وعي، تنفي حتى العاطفة.
وألاحظ أيضا أن العاطفة كلما قويت، أفسدت الشِعر. ولا أعتقد أن أثرًا شِعريّاً ذا قيمة خلق في حالة اهتياج. فالخير الذي يتركه الشِعر - سواء في الشاعر أو المتذوّق- يقوم على الهدوء الخالص لا تتلاطم فيه عواطف وفكر وصور، على الهدوء يجعل النفس – ولا شيء يفاجئها أو يعكّر صفاءها – منطوية على ذاتها، أعماقها على أعماقها، فتصبح أكثر تآلفًا مع حقائق الكون، بل تصبح وحقائقَ الكون شيئًا واحدًا فإذا هي فوق هذا العالم وأوجاعه ونقائصه، إذًا هي وقد صارت الحقائق نفسها - لا تصطدم، عمياء، بأي نظام تجهله. إن الشاعر الحق لا يكون له أفكار وصور وعواطف قبل النظم وعند النظم، بل يستحيل عليه أن يكتب شِعرًا، إذا توفّر له شيء من ذلك. إن عناصر الوعي – ولا استثني حتى العاطفة - لا تلعب في الشِعر أقلّ دور.
ونستطرد، إلى سفر تكوين عناصر النثر، سفر تكوين الصورة والفكرة والعاطفة، نرى على الأخص قيمة العاطفة، هذا الصنم المعبود، إلى أمس، كعنصر للشِعر أساسي، المنهار اليوم على قدم العميق من الشعراء:
رأينا أن اللاوعي هو أرقى درجات الوعي. ويمكن القول إن الوعي هو نثر اللاوعي، وإن الصورة والفكرة والعاطفة هي نثر الحالة الشِعرية، هي التعبير المنحطّ يقرّب الحالة الشِعرية إلى العاديين من البشر.
نفتح ديوانًا فنقرأ:
وفي ثغرك الرطب لحن يتيم ينوح على وتر هاجع
وفيه احتضار الشتاء الأخير جريحًا على الأخضر الطالع
فذكر الربيع على سمعه حرام وذكر الهوى الراجع
ونقلب الصفحة فإذا شرح الأبيات، إذا معناها، فنقرأ:
تخلع هذه الأبيات علينا حالةً شِعرية، هي على قوانا النفسية عاطفة خاصة مكوّنة من اعجاب وخشوع ولطف، نتصوّر فيها ثغر امرأة جميلة، غير صارخة الجمال، شاحبة، غير بادية الألم الذي يستدعي التعزية.
الأبيات - وقد قرأناها بطريقةٍ شِعرية - غمرت ذواتنا بحالة لا نعرف ما هي، لكننا نعرف أنها تركتنا غير ما كنا وفوق ما كنا، وجعلتنا أكثر تآلفًا مع حقائق في الكون ثبتة.
وشرح الأبيات، معنى الأبيات، زادنا معرفة، أي جعلنا نأخذ علمًا بحالة الشاعر، نأخذ علمًا بالحالة ولا نأخذ الحالة. لا أحد ينكر أن النثر شرح الأبيات، أعطى معناها، ولكن أحدًا لا يسلم أن النثر أعطى القارئ شيئًا مما تعطيه الأبيات.الفرق بينه وبين الأبيات كالفرق بين قراءة القطعة الموسيقية وسماعها.
الأبيات وجدت لطبقة رفيعة مصطفاة، باستطاعتها تذوّق الشِعر. ونثرها وجد لتلامذة – وقد يكونون خارج المدارس - يتعذّر عليهم الارتقاء إلى مستوى الأبيات.
معنى الأبيات هو صورتها الأحط، نثر قصيدتها. وكذلك العاطفة والصورة والفكرة، في نفس الشاعر، فهي جميعًا نثر حالته الشِعرية. إن النفس في لا وعيها تكون في الحالة الشِعرية، في لا وعيها تكون واعية - إذا جاز التعبير – بأدق وأعمق، صميم ذاتها. فإذا اتّفق أن استيقظت قواها الواعية - وكل القوى الواعية في النفس سطحيّة بالنسبة إلى ذات النفس - وأرادت أن تتحسّس شيئًا من الحالة الشِعرية، أرغمت هذه الحالة أن تنزل إلى مستواها، أن تتحول إلى أشكال، أرغمتها أن تكون صورة وفكرة وعاطفة.
النفس، في لا وعيها، هي المتذوّق الرفيع للشِعر. والمخيلة والحس والعقل، هي، في وعيها، التلامذة، يقتضي تنزل الشِعر إلى مستواهم ليتذوقوه.
فالصورة والفكرة والعاطفة إذن، ذاك الصنم المسكين، هي تعبير للحالة منحط، هي نثر الحالة، أو بالأحرى هي الحالة الشِعرية نفسها، تنزلت إلى مستوى السطحيين من قوى وبشر. فإذا كنا نفينا حتى العاطفة من الشِعر فإنما نكون نفينا هذه العاطفة - النثر، وطالبنا بالعاطفة - القصيدة: بالحالة. ولقد صار بوسعنا الآن، معرفة السبب نكتب من أجله حينًا نثرًا وآخر شِعرًا:
إذا تناول أحدنا القلم قصد الكتابة، وكان في داخله شيء بوسع القوى النفسيّة، تلك القوى السطحية، أن تصل إليه، إذا كانت له أفكار وصور وعواطف، فنراه تلقائيًا يملأ بياضه بالنثر. أمّا إذا كان في داخله شيء فوق طاقة القوى النفسية، تلك القوى السطحية أبدًا، إذا كانت نفسه في حالة فوق الوصف، خالصة، لا يشوبها فكرة أو صورة أو عاطفة، حالة تمكّن النفس أن تعي، بأرقى درجات الوعي: باللاوعي، ذاتها الأعمق فنراه، تلقائيّا أيضًا، يملأ بياضه بالشِعر. الشِعر - وارددها لآخر مرة - لا وعي، والنثر وعي.
ونتساءل: ما الفرق بين الشِعر وبقيّة الفنون؟
كلامنا على الشِعر والنثر قبل التعبير عنهما، كلامنا عليهما وهما بعد في ذات المرء، في داخل نفسه، لم يمتزجا بأدوات التعبير.
في هذا الدور يمكن لفظة شِعر أن تشمل الموسيقى والتصوير والعمارة وغيرها من الفنون، لأن لا فنون قبل التعبير.
ثمّة حالة لا وعي واحدة، حالة لا تتغير إلا إذا اتّخذت شكلاً. فالفنون وأنواع الفنون لم تكن لولا التعبير عن الحالة: كانت الموسيقى يوم استعملنا في إظهار الحالة ألحانًا، والتصوير يوم استعملنا ألوانًا، والعمارة يوم استعملنا حجارة. أمّا قبل التعبير فكلمة فنون لا محل لها.
ونحاول الآن التغلغل إلى جوهر الشعر، إلى مادته إذا جاز التعبير. رأينا أن الشاعر إذا ينظم - أو يتذوّق – يكون أبدًا في حالة لا وعي، فلا يسعه - والواقع هذا – أن يعرف شيئًا عن حالته. على أن نظرة على حاله قبل النظم - أوالتذوّق - وبعده، ترسل أشعة كافية على سر ''الحالة'': ''قبل'' النظم و ''بعد''؟ ولكن متى تكون فترة النظم، وكم تطول؟ هل تبدأ مع أوّل كلمة من المطلع ولا تنتهي إلاّ بروي الختام؟ لا، وفترة النظم، فترة اللاوعي هذه، لا تعيش أكثر من مدى أبيات قلائل، بل تعيش غالبًا في مدى بيت، وعادة في مدى فلذة أو لفظة من بيت.
وكالحالات النفسية الخالصة، لا تكاد توجد، حتى تقطعها فكرة أو عاطفة أو صورة، هكذا فترة النظم اللاواعية لا تكادتوجد، في مدى بيت أو بعض البيت، حتى يقطعها الوعي، فإذا الشاعر - ومن هنا العناصر النثرية في القصيدة - أمام عناصر الوعي. فالملهم يظلّ يحور ويبدل - ومن هنا الإصلاح عند أخلص الشعراء - في الفلذة واللفظة إلى أن يكون في فترة جديدة من اللاوعي. والنظّاَم يكمل عمله غير آبه فإذا به يعطينا ما هو وعي، يعطينا صورة وفكرة وعاطفة، وبكلمة: ينظم ما في داخله من نثر.
فقَولي: ''قبل النظم وبعده'' يعني شاطئي هذه الفترة السعيدة من اللاوعي، التي لا تطول عادةً في أكثر من شطر أو لفظة.
يسيطر عليّ قبل النظم ما يسمونه نغم القصيدة، وبقدر ما يكون مسيطرًا تجيء قصيدتي أكثر خلوصًا من العناصر النثرية، ولم يتفق لي أن تركت القلم وانثنيت عن النظم إلاّ في حالة فقدان النغم، أي عندما تطغى عليه الأفكار والصور والعواطف.
وبعد النظم - أو التذوّق - أحس الكون أكثر تآلفًا معي، منه في المعتاد. ومن هنا أعرف أنني كنت، في الحالة الشِعرية، على تآلفٍ تام مع الكون، وعلى اتحاد حميم مع حقائق أزليّة كنت أجهلها.
قبل النظم نغم مسيطر، وبعده بقية اتحاد مع الكون، فهل يعني كل هذا أن الشِعر مادته موسيقى؟ كل شيء يقرّب ذلك، والشعراء مجمعون على أن سيطرة النغم قاعدة لا تخل. والعلم يقرّ أن الاتحاد بالكون، لا يتم إلا بالموسيقى، ونحن نعرف أن الأشياء الأكثر ارتباطًا بالنفس هي الأشياء الموسيقية ''ومظهرها الطبيعي الغناء، وقد قام البرهان أن من الحشرة إلى الكوكب، من أدق الخلايا إلى أرحب الشموس، ارتجافًا دائمًا، موسيقى دائمة. وقد ذهب أحد العلماء إلى أن النفس لحن'' ٥
كل هذه الاعتبارات تقوّي الزعم بان الحالة الشِعرية مادتها الموسيقى.
وبعد فهذه محاولة في تحديد الشِعر:
الشِعر حالة في اللاوعي، فوق الوصف، لا تشرح، جوهرها موسيقى بها يتّحد الشاعر - أو المتذوّق – اتحادًا حميمًا مع حقائق الكون الأزلية.
والآن كيف ننقل هذه الحالة من الشاعر إلى القارئ؟ قلت ننقل، ولم أقل نعبر، أو نترجم أو نصوّر، أو نمثّل، أو نقرّب، أو نعكس أو نخبر، أو ننشر، لأن الشيء لا يمكن غيره أن يكونه. من التحديد نعرف أمرين: أوّلاً أن الشِعر لا يكون إلاّ في لا وعي النفس، ثانيًا: أن جوهره موسيقى. فنقله إذن يقتضي أولاً: أن نعطّل الوعي في القارئ، ثانيًا: أن نخلق فيه هذا الجوهر ونخلقه على الشكل نفسه.
١- كيف نعطّل الوعي؟
إن القارئ بمجرّد تناوله القصيدة، يهيئ وعيه، يصبح بأجمعه وعيًا، بأجمعه حسًّا وعقلاً وتخيّلاً، يصبح مستعدّاً، مقدمًا، لأن يأخذ، من الحالة الشِعرية، ما يقع على القوى السطحيّة، أن يأخذ من الحالة مظهرها، نثرها، أن يحوّل لاوعيها إلى وعي، أن يخرجها عن طبيعتها: أن يقتلها.
فلنستغل، لأجل تعطيل الوعي، هذه الظاهرة الحشرية في الوعي.
الوعي يطلب أبدًا أن يعمل، أن يعي؟ فلنعطه حقلاً يعمل فيه، ولكن حقلاً مركّبًا صعبًا بحيث يجتهد ويتعب وأخيرًا يكل.
هذا الحقل، عرفه النظريون المحدثون باسم الإيحاء (La Suggestion) ولم يخل درسهم الإيحاء من بعض السطحية فقالوا:
إن الأشياء قد قيلت ألف مرّة فيكفي أن نشير إليها ونتمتم بعض الكلمات، ليكتشفها السامع من ذاته فلا تضيع عليه لذّة الاكتشاف هذه. وقالوا: إن القارئ إذا يكتشف، يحس أنه مساهم والشاعر في خلق الحالة، أنه الشاعر نفسه.
على أن الإيحاء، هذا الحقل المركّب الصعب، ينكشف سرّه إذا درسناه في مظهره ''التعدد''. يقوم ''التعدد'' في ) الموسيقى - وهو أرقى أنواعها - بأن نضرب أصواتًا ٦ مختلفة في وقتٍ واحد، فإذا الوعي، ولا صوت واحد يرتاح إليه، ويعيه، يحاول أن يضبط عدّة أصواتٍ معًا، فيجتهد ويكدّ، لكنه، وهو الوعي الضعيف، وهو القوّة النفسية السطحية، وذو الخاصة التي تستدعي الوضوح والبساطة والافراد، عبثًا يجهد وعبثًا يحاول، فيتعب ويقع في الطريق. ويترك الأصوات المتعددة تخاطب اللاوعي، الذي وجدت له ووجد لها.
وهكذا يلجأ الشاعر في القصيدةإلى الإيحاء. وبكلمة: إلى ''تعدد الأصوات'' ليعطّل الوعي. ومن هنا قول برغسون: ''إن غرض الفن أن ينوم القوى العاملة، أو بالأحرى الصامدة من شخصيتنا، ويذهب بنا هكذا إلى حالة انقياد تام...'' هو العمل السلبي ''للتعدد'' أمّا العمل الإيجابي فندرسه في خلق جوهر الحالة.
٢- كيف نخلق في القارئ جوهر الحالة ونخلقه بشكله نفسه؟
ليست الألفاظ، أدوات الشِعر، علامات اصطلاحية. واللغة لم يعملها فرد، فيصطلح اصطلاحًا. اللغة بنت التفاهم الأوّلي، والتفاهم الأوّلي كان بين الناس، شأنه اليوم بين الخرس، أصواتًا، لأنها جوهر المعبر عنه. فإذا يكون طور الكلام، تنشأ اللفظة ''مجموعة أصوات'' أكثر تساويًا مع الشيء المقصود إظهاره.
هو سفر تكوين اللغة لا أكثر ولا أقل، وهو المبدأ الذي ينبغي أن تظل عليه.
فإذا كانت الكتابة، وأغرقت اللغة - بعد تدوينها – في الاصطلاح الذي يستدعي التدخّل العقلي، خصوصًا الذاكرة، وخرجت الألفاظ عن هذا التساوي، مع المقصود، في الجوهرة وشكل الجوهر، أصبحت مهمّة الفن أن ينتقي ويرتّب، من الألفاظ، أصواتًا تتمازج، أو تتنافر تعلو أو تخفت بحيث تؤلّف ''مجموعًا صوتيًا''، يعيد بينه، وبين المقصود إظهاره، رابطة فيزيولوجية كان التدخّل العقلي قد قطعها. وبقدر ما يتوفق الفن إلى ذلك تكون درجة الخلوص في الشِعر.
التساوي، جوهرًا، بين اللفظة والحالة الشِعرية يقضي أن تتكوّن اللفظة من تموجات هي نفسها مكوّنة الحالة الشِعرية. والتساوي شكل جوهر، معناه أنه إذا كانت التموجات، التي تكوّن الحالة الشِعرية، على شكل لولبي أو خط مستقيم مثلاً، وجب أن تكون التموجات، التي تتألف منها أصوات اللّفظة، على هذا الشكل اللولبي نفسه أو المستقيم نفسه.
نأخذ مثلاً بضعة أبيات وترجمتها. قلت: ترجمتها ولم أنس المبدأ القائل أن الشِعر لا يترجم، إذا كان المحك التساوي المعنوي بين لفظ الأصل ولفظ الترجمة، وأنه يترجم، دونما انتقاص، إذا كان المحك مساواة الحالة التي يعطيها الأصل وتعطيها الترجمة. نأخذ هذه الأبيات الفرنسيّة:
Maintenant dans les rales
Et les déchirements
La montagne m'a dit
D’une voix sépulcrale.
وترجمتها:
والآن في حشرجة ملء الأزل
وفي تمزّق وزور
قال الجبل
بصرخة القبور ٧
فنلاحظ أننا لو قرأنا القطعتين الفرنسية والعربية على شخص يجهل اللغتين، لأحس في المرتين بحالة واحدة. ذلك أن هذه الـ rales وال déchirements وال sépulcrale تكاد تساوي في جوهرها مساواة غريبة، تموّجات:''حشرجة'' و ''تمزّق وزور'' و ''صرخة القبور''. ففي اللغتين نسمع الحلق يعمل، وفي اللغتين نسمع الصوت يختنق. الأبيات الفرنسية قصيرة عصبية والأبيات العربية قصيرة عصبية. الفرنسية مختلف بعضها عن بعض في طول الموجة، والعربية - خلافًا للعرف - مختلف بعضها عن بعض في طول الموجة. وهكذا نرى أن الأبيات العربية لم تنقل الحالة التي تعطيها الأبيات الفرنسية إلاّ بعد أن ساوت الأبيات الفرنسية جوهرًا وساوتها شكل جوهر. وهذه لا يمكنها أن تكون ناقلة حالة الشاعر الفرنسي إلاّ إذا كانت مساوية حالة الشاعر الفرنسي، جوهرًا وشكل جوهر. لأن الشيء الذي يساويه أحد شيئين متساويين، يكون مساويًا ثانيهما.
وبعد يمكننا تقديم هذا التحديد لما نسمّيه القصيدة أو أداة نقل الحالة الشِعرية:
القصيدة قطعة توصلت، بتجربات متتالية، إلى فلذ، إلى أبيات، إلى مجموع إيحائي يعطّل، بالتعدد، الوعي، ويتكوّن، في لا وعي القارئ، بأكثر ما يمكن من تساوي جوهر وشكل جوهر مع حالة الشاعر
- Charles Bally: Le langage et la vie
- Jules Combarieu, La musique, ses lois, son évolution
- راجع هنري بوانكاره
- ليونيل لندري
- ده كوزا من القرن الخامس عشر
- ''صوت'' في كل هذا البحث تعريب(note)
- ''الجبل الملهم'' لشارل القرم
♦محاضرة ألقاها الشاعر سعيد عقل. من كتاب ''الفنون الأدبية'': مجموعة محاضرات ألقيت في القسم الثانوي في الجامعة الأميركية في بيروت ١٩٣٧